عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
الدكتور علي أبو عسّاف  

الآراميّون

"تاريخا و لغة وفنا"

الدكتور علي أبو عسّاف


سادساً. مملكة حماة

اسم ينسنها إلى عاصمتها حماه، وجاورتها من الشمال "بيت اجوشي و "بتينا" ومن الجنوب مملكة دمشق.

اما في الغرب فقد وصلت حدودها إلى سلسله جبال سورية الساحلية الشمالية، بينما امتدت حدودها الشرقية عبر البادية، كانت حماه بعد دمشق اقوى الممالك الآرامية.

وقد نزحت اليها جماعات من بلاد الاناضول واستقرت فيها  مع المهاجرين الوفيين من الهنود الاوروبيين.

 وامتزج هؤلاء جميعاً بالسكان الاصليين الكنعانيين وبالآراميين، الذين وصلوا المنطقة في وقت مبكر ايضاً.

 واسسوا جميعاً مملكة قوية كان لها شأن كبير في قواعد الاحداث السياسية التي تتابعت على بلاد الشام خلال النصف الأول من الالف الأول ق.م.

ولم يصلنا من الاخبار ما يكفي للتعرف على تطور مملكة حماه في القرنين الاخيرين من الألف الثانية ق.م.، وليس لدينا وثائق مباشرة تتعلق باحوال البلاد الاجتماعية والاقتصادية وغيرها.

واهم ناحية نجهلها عن تاريخها في العصر الآرامي هي كيف وصل الآراميون إلى السلطة في تلك المنطقة؟

وسنحاول في ضوء المتوفر من اخبار الاجابة على هذا السؤال.

ويروي كتاب العهد القديم (صموئيل الثاني 8: 9 ـ 10) ان "هدد عزر" ملك طصوبا" كان في حالة حرب مع "توعي" ملك حماه.

وعندما انتصر الملك داوود (961 ـ 1000 ق.م.) على "هدد عزر" انحاز توعي إلى جانب داوود، وارسل ابنه يورام ليهنئه على هذا النصر (اخبار الايام الأول 18 : 9 ـ10) . ولم يذكر كتاب العهد القديم اسباب النزاع بين هدد ـ عزر و توعي.

ونطن ان سبب الخلاف بينهما هو رغبة "هدد عزر" في السيطرة على جميع الممالك الآرامية في بلاد الشام وتخوف "توعي" من هذه السيطرة. والجدير بالذكر ان توعي هو أول ملك من ملوك حماه نعرفه من اخبار كتاب العهد القديم فقط. ويطن بعض الباحثين ـ خطاًـ ان اسمه حتي[73] .

والاصح ليس بذلك اذ هو من فعل "تعه" ويعني "شرد وهام على وجهه". او من فعل "وعى" وله عدة معاني.

كان "توعي" اذن معاصراً "داوود".

ولمن ربما اعتلى العرش قبل ان يصبح "داوود" ملكاً على "اسرائيل".

وعندما وقعت الحرب بين هدد عزر و داوود كان "توعي" شيخاً متقدماً في السن، كان ابنه يورام يعاونه في الحكم، فارسله إلى "داوود". وحتى لو صحّ هذا تبقى سنة اعتلائه العرش، وسنة وفائه، ومدة حكمه مجهولة.

هذه كل اخبار توعي. اما عن اخبار ابنه يورام، الذي جلس على العرش بعد وفاء والده، فلم صصلنا منها إلاّ ما ذكر العهد القديم من امر زيارته لـ "داوود".

ومن المرجع ان يورام  (هو ورام في اخبار الايام الأول 18: 10) قد سار على سياسة والده في معاداته لآرامي دمشق لأنه كغيره من الملوك الآراميين لم يستطع ان ينسى نسبه في قبيلته، ويتد مع غيره، فتضيع مكانته ومجده السياسي.

ولا تتوفر اخبار عن وفاة يورام ولا خلفائه، فالظلام يخيم على تاريخ حماه منذ منتصف القرن العاشر حتى منتصف القرن التاسع.

عندما جلس على عرش آشور "شلمانوا شيرد" الثالث (سلمانصر) ( 859 ـ 824 ق.م.) واخذ يشن الغارات على بلاد الشام، فلاقى مقاومة عنيفة في كل مكان، وتحالفت ضده الممالك الشامية التالية[74] برعامة برهدد (ابن هدد الثاني) ملك دمشق حسب رواية الآشوريين:

1-   إرخوليني ملك حماه مع 700 عربة 700 فارس 1000 مقاتل

2-   آحاب ملك اسرئيل 2000 عربة 10000 مقاتل

3-   امير قوية (مملكة صغيرة على شاطىء تركية بين نهري سيحان وجيحان) 500 مقاتل

4-   امير مصري (مملكة مصرى مجهولة) 1000 مقاتل.

5-   امير بلاد ارقاتانه إلى الشمال الشرقي من طرابلس 100 عربة 10000 مقاتل.

6-   ماتينو بعل امير ارواد 200 مقاتل.

7-   امير اشناتو (إلى الشرق من جبلة) 200 مقاتل

8-    ادونو بعل امير سيانو (إلى الشرق من جبلة) 30 عربة 1000 (X) مقاتل.

9-   جندب امير بلاد العرب 1000 هجان

10-                  امير بيت روحني

11-                  باعاسه امير عمان 1000  (X)= مقاتل.

ومما يلفت النظر ان اخبار هذا التحالف قد دوّنت مراراً. ووصلتنا عدة نصوص عنه، بينها اخلاف لا يؤثر على جوهر الحقيقة التاريخية، وهي ان العاهل الآشوري قد اصطدم مع جيوش هذا التحالف في "قرقر" (قرقور إلى الجنوب من جسر الشغور)، عام 853 ق.م.، ولم يهزمهم.

وواضح من تعدد النصوص الآشورية ان الحدث هام. وواضح ايضاً من تصدر اسم "ارخوليني" ملك حماه القائمة، انه كان الملك الأقوى بعد ملك "دمشق".

والأهم من هذا كله ان ارخوليني حليف لملك دمشق، وليس عدواً له كما كان توعي. ولم تكن معركة قرقر هي الأخيرة، بل عاود "سلمانصر" الثالث غزوه لبلاد الشام في الاعوام ( 849 ، 848 ، , 846 و 845 ق.م.) وفي كل مرة كان يتصدى له ملوك التحالف السابق، ولم يذكر الآشوريون انهم احتلوا "حماه" عاصمة المملكة. مثلما لم يذكروا ان حماه قد وقفت إلى جانب "دمشق" عام 841 وعام 838 ق.م.

عندما غزوها. ومرد ذلك على ما نعتقد ان حماه قد آثرت الابتعاد عن مقارعة الآشوريين ورأت نفسها في حل من حلفها مع مملكة "دمشق" بعدما اغتصب عرشها "خزا ايل"، ويجدر الاشارة هنا انه عثر في "حماه" و محردة و قلعة المضيق و الرستن على نصوص مكتوبة بالخط الهيروكليفي اللوفي، وتعود إلى عصر ارخولتني. وفها يقول انه " ابن باراتاس"، وانه بنى معبداً للربة "يخالاتي ـ بعلاتي"[75]

لقد ذكرنا قبل قليل ان توعي وابنه يورام قد ذّكرا في اخبار القرن الععشر.

ومن المرجح ان توعي قد حكم خلال النصف الأول منه، بينما حكم "يورام" خلال النصف الثاني، وقد ذُكر أرخوليني  في اخبار القرن التاسع وعلى وجه التحديد اخبار عام 853 ق.م..

ولابد انه اعتلى العرش قبل هذا التاريخ، او في نفس العام. الهذا يقع حكم والده باراتاس في النصف الأول من القرن التاسع.

واتطلاقاً من هذه الاخبار يصبح تسلسل ملوك حماه المعروفين كالتالي: "توعي" وابنه "يورام" و "باراتاس" وابنه "ارخولتني" الذي تردد اسمه في نقوش اخرى.

وجاء بعد ارخوليني ابنه اوراتاميس الذي خلد ذكره بوساطة بضع نقوش هيروكليفية لوفية وجدت في حماه[76] .

وفيها يفتخر ببناء سور لـ حماه، وباعتراف بلاد النهر: خرياتا (=خرفاتا مجهولة) وسكان مدينة "خلفا" (مجهولة)، وبلاد لاقية (انظر ص 28) و نخاريما (مجهولة) وبلاد النهر "موسنافا" (مجهولة ايضاً) به. وإن كانت هذه العبارات غامضة، فانها على الأقل تعطي فكرة عن علاقات معينة تربط حماه بالممالك الآرامية على الفرات والخابور. وما كان لهذة العلاقات ان تنشأ، لولا حياة الاستقرار التي نعمت بها "حماه" وغيرها، بعد وفاة سلمانصر الثالث حتى اعتلاء تجلات فليصر الثالث عرش آشور.

وخلال حملات هدد نيراري الثالث (811 ـ 781 ق.م.) ضد "دمشق" لم يرد ذكر لـ "حماه".

وكان يحكمها آنذاك ذاكر، الذي وثق بعض الاحداث التاريخة التي وقعت في بلاده بواسطة نص منقوش على نصب كبير من الحجر البازلتي عثر عليه في تل آفس قرب سراقب ( راجح ص 129) يقول فيه:

 ان "هدد" (=برهدد الثالث) ملك دمشق قد تحالف مع ممالك "بيت أجوشي" و "قيوى" و "اونقو" (عمق) و "جرجم" و "سمأل" و "ميليديا" ضده. وقد حاصرته جيوش الحلفاء في مدينة "هتاريكا" (حزرل)، وهي آفس على الارجح، وبعون اسياد السماء (بعل شمين)، الذي دعاهم فاستجابوا، وتراجع الحلفاء كما يدعي.

 ان النص مشوه ويمكن الرجوع اليه في الباب الخاص باللغة الآرامية (ص 131).

وخلافاً للتقليد المتبع عند الآرامين لم يذكر اسم والده، ونطن ان والده لم يكن ملكاً، وان "ذكاكر" قد اغتصب العرش من "اوراتاميس".

واذا كان الأمر كذلك، نرجح ان السلالة الآرامية الأولى التي حكمت "حماه" تتمثل في توعي يورام حسب الوثائق المتوفرة لدينا حتى الآن، ونرجح ان السلالة الأرخرى المتمثلة في "باراتاس" و " ارخوليني" و "اورتامس" قد اغتصبت منها العرش، وحكمت في القرن التاسع ق.م..

وقبيل نهايته ازاحها ذاكر ونصب نفسه ملكاً على حماه و ليش كما يقول.

وفي هذه الكتابة شواهد تاريخية يحسن بنا التوقف عندها. واولها ان التحالف المشار اليه قد حاصر ذاكر في حزرك (= هتاريكا إلى الشمال من حماه)، ولم يحاصره في حماه العاصمة، فلماذا؟

ويصف ذركر نفسه (ملك حماه ولعش؛ ولم يفعل ذلك ملوك حماه السابقون بشهادة النصوص القلية المتوفرة لدينا حتى الآن. فمن المرجح اذن ان "ذاكر" قد ضم هذه المنطقة اليه، وهي التي كانت تعرف في النصف الثاني من الألف الثاني ق.م.

 باسم "نوخشي[77]، وتمتد إلى الشمال والشمال الشرقي من "حماه" وكانت عاصمتها حزرك، التي هي آفس على الارجح. حيث وجد النصب.

 ومن  هذا كله يبدو لنا ان توسع ذاكر ‘لى هذه البلاد، اثار غضب الملوك الآخرين.

هذا من جهة ومن جهة ثانية قد يكون ذاكر من لعش اصلاً فاغتصب عرش حماه، ووحّد المنطقتين فاثار عمله هذا غضبهم ايضاً، فتحالفوا ضده، وحاربوه ولكنهم ارتدوا خائبين.

وإلى جانب ذلك لا نستبعد ان يكون وقوف حماه عاى الحياد اثناء صراع مملكة دمشق مع الآشوريين، قد لعب دوراً في هذا المضمار. وكان ذلك هو الحدث الهام والوحيد الذي نعرفه عن عصر هذا الملك، الذي جعل من "حماه" و "لعش" مملكة واحدة واعاد الحكم فيها للآراميين.

وإن كنا نعرف هذا، فاننا نجهل زمن وفاته واسم من اتى بعده.

ويذكر تجلات فليصر الثالث (745 ـ 727 ق.م.) انه خلال احدى حملات على سورية، دفع "عتني ايلو" الجزية له. وفي عام 839 ق.م. تشكل تحالف آرامي بقيادة "أزيرو" ملك "يادي" (سمأل) ضد تجلات فليصر الثالث، الذي هاجم يادي عام 838 ق.م. وقضى على المتحالفين واحتل ودمر العديد من مدنهم ومنها "هتاريكا" (حزرك) عاصمة "لعش" وغيرها من مدن مملكة "حماه" التي شاركت المتحالفين معركتهم ضد الآشوريين[78] .

وفي هذا الخبر الآشوري لم تُذكر مملكة "حماه"، بل ذكرت "هتاريكا" (جزرك).

وقبل هذا التاريخ وخلال اعوام 772 ـ 765 و755 ق.م. ذكر الآشوريين انهم هاجموا هتاريكا (حزرك) وحدها.

فمن المرجح ان لعش كانت قد انفصلت عن حماه بعد وفاة ذاكر، أي قبل عام 772 ق.م. وانها بقيت جزءاً من المملكة، استهدفه الآشوريين في حملاتهم، حتى يضعفوا مملكة حماه بفصل لعش وغيرها من المدن عنها.

وثارت الممالك الآرامية على الحكم الآشوري بعد وفاة "تجلات فليصر" الثالث، الذي قد حولها إلى ولايات آشورية، واشترك في الثورة "ارفاد" و دمشق و صورا وقادها يوبيدى ملك حماه المغتصب مستغلاً القلاقل التي حدثت في آشور بعد وفاة تجلات فليصر، ومعتمداً على معونه الفراعنة وغيرهم من ممالك للاد الشام، فحدثن المعركة في قرقر عام 720 ق.م.

أي بعد اعتلاء "شروكين" (سرجون الثاني 722 ـ 705 ق.م.) عرش آشور بعامين، فانهزم التحالف وتحولت حماه إلى ولاية آشورية، بعد ترحيل معظم اهلها عنها واحلال آشوريين محلهم[79].

  (يتبع)

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها