عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
الدكتور علي أبو عسّاف  

الآراميّون

"تاريخا و لغة وفنا"

الدكتور علي أبو عسّاف


خامساًـ مملكة يادي: شمأل

كانت مدينة "شمأل" عاصمة هذه المملكة. وهي الأن بلدة "زنشرلي"، قرب منابع نهر الأسود (قراصوه)، وقد سيطرت على جبال الامانوس وحوض نهر الأسود تقريباً.

ويبدو ان الموقع مدينة صغيرة مهملة قبل وصول الآراميين اليها، وحينما اتخذها الآراميين عاصمة لهم، اعادوا تنظيمها من جديد، فحصنوها بسور مزدوج، ةتزينه الابراج والبوابات المزوقة بأحسن اللوحات الحجرية ذات النقوش المتنوعة. وفي داخل السور شيدوا المعابد والقصور. واغلب الظن انهم بدلوا اسمها القديم الذي نجهله إلى "سمأل" أي جهة الشمال كما في العربية . 

 ومثل هذا المعنى الجغرافي يجعلنا نتساءل عن القصد منه بوصف العاصمة بالسمالية، فهل سميت هكذا لأنها نظيرة العاصمة جنوبية؟!

 أو شمالية لأنها تقع في اقصى الشمال؟ الحقيقة ان "سمأل" واقعة في اقصى الشمال من بلاد الشام ونرجح انها سميت بهذا الاسم، لأنها اقصى مدينة آرامية في الشمال[68].

 وعند نهاية القرن الحالي ومطلع هذا القرن قامت بعثة المانية بالكشف على اطلالها.

وما عثرت عليه كان ايضاً كتابات لبعض ملوك "سمأل" نقش على نصب ولوحات حجرية، تحكي لنا احداثاً هامة عن سيرة عدد من ملوك هذه المملكة الصغيرة ومن هذه الكتابات كتابة هامة لـ "كلاموه" احد ملوك "سمأل" تعود العام 825( ق.م.) فيها تعداد لاسلافه وهم: "جبر" و "بَمَه" و "خيَه"، (والد كلاِموه) و "شال" (الأخ الأكبر لكلاموه).

ولا نعرف عن هؤلاء الملوك الاربعة سوى اسماءهم. ولكن من المرجح ان "جبر" هو مؤسس المملكة لأننا نجد في كتابة تعود إلى عصر سلمانصر الثالث (858 ـ 824 ق.م.) ان "خيانو" (خيّه) هو ابن "جَبَر" وهو في الحقيقة ابن "بَمَه" وقد نسبه الآشوريون اليه لأنه مؤسس هذه السلالة.

وفي ضوء الجمل التالية الواردة في نهاية كتابة كلاموه: بعل صمد الذي لجبر اي (بعل صمد رب جبر)، بعل خمون الذي لبمه أي (بعل جمون رب بَمَه) وراكب ايل سيد البيت، استنتج العلماء، ان "جبر" مؤسس الدولة هو من اسرة غير اسرة بَمَه الذي ينتسب إلى اسرة غير اسرة "خيه" و "شال" و "كلاموه".

وهذا يعني ان الحكم قد انتقل إلى اسرة " بَمَه" بعد وفاة "جبر". وبعد وفاة " بَمَه" صار الحكم في اسرة "خيه" والد كلاموه"، فأننا نرى ان التعاقب على حكم "سمأل"، كما اورده كلاموه صحيح، وينقى علينا تحديد زمن حكم اسلاف كلاموه:

"جبر" و " بَمَه" و "خيه" و شال" في ضوء المعطيات التاريخية الآشورية التالية:

لقد قدم "خيه" والد كلاموه الجزية لـ "سلمانصر الثالث (858 ـ 853 ق.م.) واستعان به كىموه على اعدائه بالسنوات الأخيرة لحكمه [69] .

ولهذا يكون كل من طخيه" و "شال" و "كلاموه" قد عاصروا سلمانصر الثالث858 ـ 842 ق.م.).

وبما ان "خيه" قد دفع الجزية عام 858 ق.م.

فلابد ان يكون اعتلى العرش قبل هذا التاريخ وانه توفي بعد عام (853 ق.م.). ومن المرجح انه حكم في النصف الأول من القرن التاسع ق.م.

 بينما يقع حكم سلفيه "جبر" و " بَمَه" في القرن العاشر. اما "شال" و "كلاموه" فقد حكما في النصف الثاني من القرن التاسع ق.م..

ويدعي كلاموه ان اسلافه لم يهتموا بشؤون المملكة، فقد قال:

ملك جبر على يادي، ولم يفعل شيئاً، وكذلك بَمَه ولم يفعل شيئاً، وكذلك أبي (خيه). ولم يفعل شيئاً، وكذلك اخي شال ولم يفعل شيئاً، ( انظر ص 116 ت 117 ).

 ولعل "كلاموه" قد بالغ في التقليل من اهمية دور اسلافه ليظهر شهرته، ولكن ربما كان فيما قاله شيء من الحقيقة، ووصف للأوضاع السابقة.

ومن المرجح ان الآراميين قد نزحوا إلى حوض نهر الأسود عندما كانوا بدواً رحلاً، ثم استقر شيوخهم في "سمأل" ، واختلطوا بالسكان السابقين، واخذوا ينظمون انفسهم سياسياً واجتماعياً، ولما تم لهم ذلك اسسوا المملكة بقيادة "جبر"، الذي كان له الفضل الأول في تثبيت سلطانهم. ومن الطبيعي ان يتصرف خلفاء "جبر"  ـ كما فعل هو نفسه ـ

إلى تثبيت اركان المملكة، وتنظيم امورها وادرتها، فلم يخلفوا لنا شيئاً هاماً خالداً يشهد على اعمالهم.

ولما جاء "كلاموه" وجد الامن والاستقرار مستتبين، فالتفت إلى العمران واعتنى بأسباب النهوض بالدولة إلى مستوى الدول المجاورة، وجعل منها دولة قوية تعرف كيف تحافظ على اراضيها. كانت مملكة الدانون، اقوى خصومهم في الشمال، عاصمتها "ازيتاودا" الآن "قرى تبه" في حوض "سيحان" 60 كيلو متر إلى الجنوب الغربي من "مرعش". وحينما تحرشوا بـ "كلاموه" وحاولوا التوسيع في اراضيه، استعان عليهم بالآشوريين، فصدهم عن بلاده دون حرب على الارجح لأنه لم يذكر اية مجابهة معهم. فاثبت انه كفؤ في مجابهة الاعداء ، وسياسي بارع اقحم الآشوريين ليكتسب رضاهم ويتقي شرهم.

ولم تظهر كفاءة "كلاموه" في تصديه للمخاطر الخارجية فحسب، بل ايضاً في معالجة المشاكل الداخلية، التي كانت على ما يبدو مستعصية، وتتمثل في الخلاف بين الـ "م ش ك ب م" (الموشكابيم) والـ طب ع ر ر م" (البعرريم)، (انظر ص  116 وما بعد) فمن هم هؤلاء الذين شغلوا "كلاموه"، ورفعوا مكانته إلى مصاف عظماء المصلحين في التاريخ بعد ان اصلح بينهم؟:

و ا ل م س ك ب م: اسم مفعول من فعل ش ك ب ويعني: (المستقرون المقيمون... الخ) وقد يشير إلى فئة السكان الاصليين الذين كانوا قبل الآراميين، أو إلى الفلاحين والحرفيين عامة،

و ا ل ب ع ر ر م: من ب ع  ر (بعار) ويعني: غير متحضر، غير اليف، جلف... الخ). وقد تشير إلى طبقة الحكم من الآراميين البدو أو إلى طبقة المشايخ الحكم. ووفق ما ذكره "كلاموه"، كان مجتمع "سمأل" يتألف من هاتين الطبقتين أي طبقة المشايخ والمتنفذين والاغنياء، وطبقة العوام وقوامها فلاحون وحرفيون ورعاة وكان الفارق بينهما كبيراً جداً، اذ كان الـ "موشكابيم" يتصورون جوعاً، حينما اعتلى "كلاموه" العرش.

 فسارع لرفع الضيم والحيف عنهم: ومن منهم لم ير شاة أو بقرة بحياته جعله يمتلك قطيعاً وفضة وذهباً.

ومن منهم لم ير قطعة قماش منذ ولادته كساه بأحسن الثياب فكسب ودهم لما اظع \هره نحوهم من عطف صادق، فاخلصوا له اخلاص الابناء للأمهات كما ذكر في سيرته.

واقام "كلاموه" العدل بين طيقتي المجتمع، وقال انه منع الـ "موشكابيم" من تقديس الـ "بعرريم" من تقديس "موشكابيم"، أي انه ساوى بينهم. ولقيت كلتا الطبقتين من المحاسنة، وحسن المعاملة، والاهتمام الزائد بمصالحهم، مالم يلقاه افراد أي مجتمع آخر معاصر.

ونحن لا نملك ان نصف اقوال "كلاموه" بالمغالاة كما فعل بعض الباحثين، لأننا لم نقع على مناقض لها.

وما نقوله هو ان هذه الكتابة فريدة تصف لنا باختصار شديد الاحوال الاجتماعية في هذه المملكة، والأمور المجحفة بحق طبقات المجتمع.

ولا نعرف سنة وفاة "كلاموه" بالتحديد، ولا نعرف اسم خليفته، ومع ذلك يمكن ان نستنتج هذين الامرين من الأخبار الآشورية.

ومن المحقق ان "كلاموه"، الذي استعان بـ "سلمانصر" عام 825 ق.م.. على الدانونيين، قد توفي بعد هذا التاريخ، ونرجح انه توفي عند مطلع القرن الثامن ق.م. وخلفه على العرش "قَرَل" الذي لم يترك شيئاً يدل على صلته بـ "كلاموه"، بل نعرف انه والد "بناموخ" الأول الذي لم ترك كتابة طويلة نقشت على تمثال الرب هذه، الذي نذرو له عند منتصف القرن الثامن ق.م.، اي حوالي عام 750 ق.م. (راجع ص 117) ودلالة ذلك ان "بناموه" قد اعتلى العرش في هذا الوقت، وان "قرل" قد حكم في النصف الأول من القرن الثامن بعد وفاة "كلاموه" على الارجح.

ودشن "بناموه" الأول عهده باقامة تمثال للرب هدد، ليعبر عن ايمانه به وبالاربا الآخرين الذين وقفوا إلى جانبه وسلموه صولجان المُللك العظيم، ولم يبخلوا عليه بالنعمة والخيرات والبركات، واستجابوا لدعائه على الدوام، كما يقول.

ولقد حصل ايضاً على بركة الآلهة، فحقق لشعبه الرفاه والرجاء، واعاد بناء القرى والمعابد كما يذكر. قبل ان يموت أوصى كل من يجلس على عرش "سمأل"، ويقدم الضحايا والقرابين للرب هدد، ان يذكر اسمه وان يخاطب "هدد" بهذه العبارة عسى ان تأكل وتشرب نفس بناموخ معك، وتوسل "بناموه" إلى "هدد" ان يكون بعون من ينقذ هذه الوصية، وان يدمّر من يخالفها.

وجلس "بره" (ابن الصخر) على عرش طسمأل بعد وفاة "بناموه" الأول، ولم يصلنا شيء من آثاره. بل روى حفيده "بر راكب" (ابن الراكب) نتُفاً عن بعض الاحداث التي وقعت في المملكة خلال عهد جده "برصو" ووالده بناموه الثاني.

اذ عندما تولى الحكم نصب تمثالاً ضخماً لوالده بناموه الثاني، ونقش عليه كتابة تاريخية هامة، تحكي قصة نشوب ثورة في "يادي"، ذهب ضحيتها "برصو" وسبعون من اهل بيته. لم يذكر اسباب الثورة (انظر ص 124 وما بعد).

والربما كان سببها ان اسلاف بناموه الثاني قد دخلوا الحلف الكبير، الذي ضم "ارفاد" و "ميليد" و "جرجيم" و كوموج" الذي كوّنه ساردور الثالث، ملك "اُرَارتوَ" عام 743 ق.م.، ليتصدى للعاهل الآشوري القوي تجلات قليصر الثالث (745 ـ 727 ق.م.).

ومن المحتمل ان يكون هذه الدويلات قد رأت في هذا الحلف سبيلها للخلاص من التبعية الآشورية فانضمت اليه آملة في تحقيق هذا الهدف.

واذا كان الأمر كذلك فمن هو الذي تحالف مع ساردور؟ أكان "برصر" أم "والده"؟ ونرجح ان يكون بناموه الأول هو الطرف المتحالف، ثم دفع "برصر" ابنه الثمن.

وعلى كل حال فقد انقسمت البلاد إلى حزبين، حزب مناوءٍ للآشوريين، وحزب آخر موالٍ لهم ير فائدة في معاداتهم وهم اقوى الدول.

ويبدو ان هذا الحزب الذي على رأسه "يرصر" الثاني قد قويت شوكته بعد ان قضى "تجلات فليصر" على هذا التحالف عام 743 ق.م.

فثار على "بناموه" الأول، وفي خضم الثورة قتل "برصر" واشتد الخلاف بين الحزبين.

ويروي "بر راكب" ان عناية الرب هدد قد خلصت المملكة من الشرور، فاستطاع بناموه الثاني (733 ـ 743 ق.م.)، وبدعم من الآشوريين، ان يخمد نار الثورة، ويعتلي عرش "سمأل".

وبهذا قوي النفوذ الآشوري في شمالي بلاد الشام. ويروي تجلات فليصر الثالث انه هجّر سكان "يادي" إلى "الويا" (جبال طوروس الارمنية) ولعله يقصد من هذا مجموعة السكان المعادية التي قامت بالثورة. وفق ذلك حصلت "يادي" على بعض المدن التي اقتطعت من بلاد "جرجم" (جارة شمال الشمالية) وضمت إلى "يادي" [70].

وحتى يحافظ "بناموه" على الامن والاستقرار، قدم له تجلات فليصر حامية آشورية.

وحينما استتب الامن، والتقطت البلاد انفاسها، وجه بناموه الثاني اهتمامه إلى اعمار البلاد، وترميم الاقتصاد.

وذكر ان البلاد في عهده قد شهدت ازدهاراً اقتصادياً لم تعهده من قبل.

وقد ظل بناموه على الدوام وثيق الصلة بالآشوريين، حافظاً العهدهم، دافعاً الجزية المطلوبة. فكان لما هاجم تجلات فليصر دمشق عام (732/733 ق.م.) ان شارك بناموه الثاني لا لحملة فقتل بدمشق، وبكاه "تجلات فليصر" واخوانه الملوك، ونقل جثمانه إلى آشور، واقيم له نصب على الطريق بموضع نجهله (راجع ص 122 وما بعد).

ونستنتج مما تقدم انب ناموه الثاني قد حكم من عام (732 ـ 742 ق.م.) تقريباً وفي ضوء ذلك يكون من "قرل" و "يناموه" الأول و "برصر" قد حكموا منذ وفاة "كلاموه" عند نهاية القرن التاسع وحتى عام 848 ق.م.. وبعهد وفاة "بناموه" الثاني عام 732/733 ق.م.) نصب تجلات فليصر الثالث "بر راكب بن بناموه" الثاني على عرش "سمأل".

ويبد ان "بر راكب" كان محناً للتوثيق. فعلاوة على الكتابة التي ذكرناها اعلاه توجد كتابة اخرى على لوحة حجرية، نقش عليها صورة "بر راكب" وهو واقف، وبجانبه النص الذي يصفه انه " ابن بناموه"، وان "تجلات فليصر" نصبه على عرش ابيه، لأنه الأحق به ونهج بر راكب نهج ابيه في تحالفه مع الآشوريين والتفت ‘لى العمران، فأعاد بناء قصر والده وجعله اجمل من أي قصر آخر، يقصده الناس لرؤيته كما يقول.

ومما ذكره في هذه الكتابة انه كان لملوك "سمأل" قصر "كلاموه" فقظ فهو قصر صيفي وشتوي، ولما جاء "بر راكب" بنى قصراً جديداً (انظر ص 127 ـ 126).

وكان كلاموه قد قال انه أول من بنى قصراً في شمال، فجاء "بر راكب" ليؤكد هذا القول في كتابته هذه، اذ ينسب القصر الوحيد في سمأل" إلى "كلاموه". ونرى في هذه الواقعة تأييداً لما ذكرناه عن حال اسلاف كلاموه بعيد وصولهم إلى المنطقة (ص 499.

وادخل بر راكب عبادة الرب بعل حران ((+سن اله القمر)) إلى "سمأل"، وهو الذي قدسه الاكّديون والبابليون والآشوريون. ونلمح في هذا التصرف خضوعاً للآشوريين. وتملقاً لهم. ومع اننا لا نعرف فيما اذا كان "بعل حران" قد نافس هدد، فنرج ان هدد بقي المرتبة الأولى.

لقد توصل "بر راكب " إلى الحكم بعون الآشوريين عام (733 / 732 ق.م.) وتحدث في كتاباته عن اعماله، ولا ندري كيف كانت نهايته وكيف كانت صلاته بـ "شلمانوا شيرد" الخامس (سلمانصر) (726 ـ 726 ق.م.)، الذي ضم منطقة كيليكيا إلى آشور حوالي عام 725 ق.م.، حسبما ذكر في وثائق متأخرة (71).

وحسبنا ان نرى في هذه الواقعة اشارة إلى احتمال ان تكون مملكة "سمأل" قد ضمت إلى آشور في هذا الوقت.

واذا كان الأمر كذلك يكون بر راكب، آخر ملك آرامي ، وحكم (725 ـ 733 ق.م.) وما من شل في أن الآشوريين قد استعملوا ولاة آشوريين على هذه البد نعرف منهم "نبو ـ اخو ـ ايرسو" الذي كان والياً عام 718 ق.م.

أي عهد " س ـ اخي ـ رب " (سنحاريب) (681 ـ 705 ق.م.) و اسرحدون (669 ـ 681 ق.م.) الي ترك نصباً ضخماً في "سمأل"، يؤيد نفوذ الآسوريين عليها.

وغالى جانب هذا الوالي نعرف اسم والي آخر هو "بيلي ـ سينو" ولا نعرف متى كحم.(72)

ونستنتج من ذلك كله ان هذه المملكة قد عاشت من حوالي عام 1000 ـ 725 ق.م. وازدهرت الحياة فيها منذ مطلع القرن التاسع وحتى اندثارها.

  (يتبع)

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها