عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
الدكتور علي أبو عسّاف  

الآراميّون

"تاريخا و لغة وفنا"

الدكتور علي أبو عسّاف


 

رابعاًـ الممالك الآرامية في الجزيرة

أصبحت الأبجار الآشورية المتعلقة بالآراميين غامضة بعد وفاة تجلات فليصر الأول (1112 ـ 1074 ق.م.) وحتلا عهد هدد نيراري الثاني (912 ـ 891 ق.م.) فهي لا تعطينا فكرة واضحة عن كيفية توغل الآراميين في الخزيرة الشامية وعن حقيقة وجودهم هناك.

وان كان من الصعب على المرء ان يحدد بدقة بداية العصر الذي اخذ فيه الآراميون بالوصول إلى هناك، فانه من الممكن القول استناداً إلى الأخبار المتوفرة لدينا من بعض الملوك الآشوريين الذين تعاقبوا على الحكم بعد تجلات فليصر الأول، وخصة هدد نيراري الثاني، ان الآراميين قد استقروا في أعالي الخزيرة خلال القرن الثاني عشر ق.م.

 أ ـ الآراميون في منطقة طور عابدين

لقد انتهج هدد نيراري الثاني (912 ـ 891 ق.م.) سياسة توسعية مثل " تجلات فليصر" الأول، فهاجم القبلة الآرامية "تامانيتا" (تيمانيا) في منطقة طور عابدين، وفي ضواحي نصبين حيث كانت هذه القبيلة قد استقرت هناك، وأخذت تنظم نفسها سياسياً واجتماعياً.

ويذكر هدد نيراري الثاني انه واجه الآراميين هناك بقيادة ثلاثة من أمرائهم هم: نور هدد في نصيبين وماملو ملك خوميرينا، التي هي الآن سلطان تبه إلى الشمال من حرّان و موقورو ملك جيدارة الواقعة إلى الجنوب الغربي من ماردين والتي احتلها الآراميون في عصر تجلات فليصر الثاني (964 ـ 933 ق.م.)

وسموها رادماتا. وكان نور هدد اقوى خصوم الآشوريين، ولم يكف لحظة واحدة عن محاولاته القضاء على نفوذهم، واخيراً وبالاعتماد على جيشه وعلى الآراميين الآخرين ثار عليهم، فهاجمه "هدد نيراري" الثاني خلال حملته السادسة على منطقة الخزيرة. بعد معارك عنيفة دامت ست سنوات احتل المقاطعات الآرامية الثلاث:

جيدارة و خوزيرينا و نصيبين، وحوّلها إلى مقاطعات آشورية واسر نورهدد، ونقله مع أفراد عائليه وقبيلته إلى مناطق مجاورة لـ "نينوى" حيث اسكنوا هناك[29].

ب ـ بيت زماني

وإلى المال من طور عابدين، على ضفاف نهر دجلة، افلح الآراميون بتأسيس دولة بيت زماني. ومن مقارنة هذا الأسم مع غيره من أسماء الدويلات الآرامية مثل بيت ياكين و بيت شابايا.. الخ نرجح ان كلمة زماني هي اسم الشخص الذي كان زعيم القبيلة الآرامية حينما وصلت تلك المنطقة، واستقرت فيها:

 ثم تمكنت بقيادته من تأسيس دولة عرفت بالمصادر الآشورية باسم بيت زماني وكانت اميدي، التي هي ديار بكر الحالية، عاصمة المملكة، ومن اهم مدن هذه الدولة تيدو الواقعة بجوار مدينة ماردين. لقد كان العاهل الآشوري "تيكولتي نينوريا" الثاني (891 ـ 884 ق.م.)

اول من ذكر اسم هذه الدولة حينما غزا اراضيها عام 885 ق.م.، واستبدل حاكمها (اسمه غير معروف) بحاكم آرامي آخر هو "عمي بعلي" الذي اعترف بسلطة الآشوريين[30].

 وحين توفي تيكولتي نينوريا الثاني، بقي عمي بعلي خاضعاً للآشوريين، ثم تمرد عليهم واعلن العصيان بالاتفاق مع حليفه بور راماتو امير مدينة سينابو. فجرد الملك آشور ناصر بال الثاني (883 ـ 859 ق.م.)

جيشه ليخمد نار التمرد والعصيان في تلك الديار عام 879 ق.م.

وبعد ان قضى على الثورة كان نصيب بور راماتوا حليف "عمي بلعي" الصلب. أما عمي بلعي فقد خلع عن العرش، ونصب مكانه اخوه "ايلانو". وحتى يضمن العاهل الآشوري سيطرته على تلك الديار، وضع حاميات آشورية في مدينة سينابو وأخرى في مدينة تيدو، التي كان قد جعل منها "سلمانصر بال" الثاني. (1028 ـ 1017 ق.م.)

نقطة انطلاق في حروبه ضد بلاد ناأري. وبعد وفاته، استولى عليها الآراميون، وبقيت بأيديهم حتى عهد آشور "ناصر بال" الثاني. ورغم قسوة الآشوريين، ووضعهم حاميات في دولة بين زماني، تمرد الآراميون عليهم، ولم يكن بمقدور عميلهم ايلانو ان يسيطر عل الموقف، فعاد آشور ناصر بال الثاني لمهاجمة المملكة، وتخليص الحاميات الآشورية من ايدي الآراميين،  فتحقق له ذلك وسبى 1500 رجلاً من رجال عمي بعلي[31].

ويبدو من هذه العبارة ان انصار عمي بعلي هم أصحاب الثورة. ورغم هذه الاجراءات العنيفة، ثار " أيلانو" فيما بعد على سلطة سيده الذي عاود الهجوم على البلاد، فأخضعها، واعاد النفوذ الآشوري قوياً أكثر من ذي قبل.

وبهذا تكون قد تمت سيطرة الآشوريين على تلك الأجزاء، وخضع لهم الحكام المحليون الذين حافظوا على مراكزهم وعلى المصالح الآشورية، وامتنعوا عن التحريض على الثورة ضد الآشوريين.

وهذا استقينا اخبار هاتين القبيلتين من المصادر الآشورية فقط، لأنه لم تجر تنقيبات اثرية عالمية في أي من مدنهم، كان من الممكن ان تأتينا باخبارهم.

وعلى العكس من ذلك، فان معلوماتنا عن مملكة "بيت نحياني"، التي سنعرض لها الآن، قد حصلنا عليها من المصادر الآشورية والبحيانية.

جـ ـ بيت بحياني

وصلت عشرة بخياني الآرامية إلى جوار كنابع الخابور واتخذت من مدينة "جوزن" ، التي هي تل خلف جوار بلدة رأس العين، عاصمة لها، منذ اواخر القرن الثاني عشر.

ورغم أننا لا نستطيع تعيين حدود هذه الدولة فمن المرجح أنها سيطرت على جزء كبير من حوض الخابور الأعلى، وحاورها من الشرق مملكة "نضيبين"، ومن الغرب مملكة "بيت عديني"، حيث كان البليخ الحد بين المملكتين. وأول ذكر يرد لـ بيت نخياني" كان في حوليات الملك الآشوري هدد نيراري الثاني (912 ـ 891 ق.م.)

حينما قاد حملته الخامسة (894) على بلاد (خاني جلبات)، ودخل جوزن عاصمة بيت بخياني دون مقاومة، وارغم حاكمها ابي سلامو على دفع جزية كبيرة.

كان هذا أول واهم خبر عن دولة بيت بخياني في المصادر الآشورية، غير ان التنقيبات الأثرية الي قام بها البارون "فون اوبنهايم" من 1911 ـ1913، وخلال عامي 1927 و 1929، قدمت لنا وثائق اخرى تلقي ضوءاً على تاريخ هذه المملكة[32].

فإلى جانب القصور والمعابد والأوابد المعمارية الأخرى والمنحوتات... الخ، اكتشفت كتابة اللغة الآشورية تخص الملك "كباره" الذي يقول انه ابن "خدياني" ملك بلاد "ختي" (اوبالية).

وبما ان الاسم مشوه اختلف العلماء على قراءته، ولم يتوصلوا إلى حل بعد. ومهما يكن الأمر فالاسم مرادف لاسم بيت بخياني الذي اطلقه الآشوريون  والآراميون انفسهم على هذه المملكة.

ومما يلفت النظر في كتابات كباره العبارة التالية: "ما لم يعمله ابي عملته انا" فهل يمكن ان نستنتج من هذه العبارة حقائق تاريخية تتلق بمراحل استيطان الآراميين لتلك المنطقة؟

 يتبين من هذه العبارة ان "كباره" ليس أول ملك لدولة بيت بخياني، وان والده خدياني، وجده بخياني، لم يهتما بالعمران.

واذا تساءلنا عن السبب نرى انه يكمن في شيء واحد  وهو ان سلفي كباره كانا قد قادا القبيلة الآرامية إلى تلك المنطقة.

فاهتما قبل كل شيء بتوطيد اركان سلطتهما السياسية. ولابد أنها قد قضيا فترة طويلة من الزمن في السعي وراء تحقيق هذا الهدف.

وحينما جاء كباره وجد أن الاستقرار والأمن قد استتبا في أرجاء الدولة، فالتفت إلى العمران. واذا القينا نظرة على نتائج الحفريات الاثرية في تل حلف، نجد أنها تدعم وجهة نظرنا. فقد شيد أسلاف "كباره" القصور والمعابد والأبراج... فهدمها وبناها من جديد. لانها كانت على الأرجح بسيطة عادية لا تليق بالملوك.

ونستفيد من هذه المعطيات ان بحياني هو أول شيخ (امير) ارسى دعائم الأمن والاستقرار في هذه المنطقة، فكان جزاؤه ان سميت المملكة باسمه. ونظن انه قد حقق هذا الأمر بعد وفاء تجلات فليصر الأول (1074) ق.م.)، وتخلي الآشوريين عن محاربة الآراميين.

وان شئنا تحديد عصر حكم "بحياني" بالأرقام لما استطعنا ذلك، على الأرجح انه حكم في القرن الحادي عشر. ولا نعرف خلفية بحياني، وقد  لا نخطيء اذا قلنا ان خليفة كلن خدياني والد "كباره"، لأن استقرار الحوادث التاريخية يدعم هذا القول.

وقد قلنا ا ناول ذكر لمدينة جوزن عاصمة بيت بحياني ورد في حوليات الملك "هدد نيراري" الثاني عام 894 ق.م. وكان يحكمها ابي سلامو. وذكر آشور ناصربال الثاني(883 ـ 859 ق.م.) انه استلم الجزية عام 881 ق.م.

من أمير "بيت بحياني" الذي لم يذكر اسمه. وبعد ذلك بخمس سنوات اتى على ذكر بيت بحياني، ولم يذكر اسم اميرها.

ونظن ان عدم ذكر اسم الامير دليل على عدم أهميته. ,أي كان الأمير لن يكون ذاك الأمير كباره الشهير، ولا ابي سلامو الذي ذكره "هدد نيراري" الثاني. ولابد والحالة هذه من ان يكون كباره قد سبق سلامو في الحكم[33]، وان ابي سلامو قد توفي قبل غزو آشور ناصربال الثاني لـ "جوزن" ومن هنا نستنتج ان التسلسل المفترض لحكم جوزن الأوائل هو كالتالي:

 "بخياني" و "خدياني" و "ابي سلامو" وكلهم منذ القرن الحادي عشر وحتى مطلع القرن التاسع[34].

وعلاوة على هذا الذي ذكرناه، فهناك تمثال، اكتشف عام 1979 في تل الفخيرية جنوبي رأس العين شمال سورية فقش عليه نصان بالخط الآشوري والآرامي زادا معلوماتنا عن هذه المملكة.

هذا التمثال هو للملك  الآرامي "هدد يسعي بن شمش نوري"، نذره للرب هدد، ونصبه في معبده بمدينة سيكاني: ونقرأ في النص ان شمش نوري كان ملك جوزن، وهدد يسعي ملك جوزن وسيكان يوازران.

هذا يعني ان سيكاني (تل الفخيرية)، التي تقع إلى الشرق من جوزن (يل حلف) حوالي 7 كم، و "ازران" التي نجهل موقعها، كانتا غير خاضعتين لـ "شمش نوري" والد "هدد يسعي".

واذا ما أعدنا إلى الأذهان أن آشور ناصربال الثاني (883 ـ 859 ق.م.) قد ذكر انه استلم الجزية من امير بيت بجياني، ومن حاكم سيكاني عام 881 جاز لنا القول ان شمش نوري قد حكم في هذه الفترة التي لم تكن فيها "سيكاني" تابغة لـ "جوزن"، بل مستقلة عنها. ومما يدعم وجهة نظرنا هذا ان قوائم التزامن الآشورية تذكر ان شمش نوري كان يحكم جوزن عام 868، أي في عصر الملك آشور ناصربال الثاني.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان ابي سلامو ملكا ًعلى جوزن في عصر هدد نيراري الثاني (912 ـ 891 ق.م.) جد آشور ناصر بال الثاني.

ومن المرجح ان يكون شمش نوري هو ابن ابي سلامو، وهدد يسعي حفيدة، الذي ضم إلى مملكته مدينتا "سيكان" و "أزران". وقد حكم في النصف الثاني من القرن التاسع ق.م زمن حكم "سلمانضر" الثالث (858 ـ 824 ق.م.)، الذي لم يذكر انه هاجم جوزن، أو استلم منها الجزية مما يدل على استقرار الأوضاع فيها، واعترافها بالسيادة الآشورية[35].

وعلى اثر قيام ثورة ضد سلمانصر الثالث عام 827، بقيادة ابنه اشوردان ابلي، واضطراب الاحوال في المملكة الآشورية، قامت ثورة في جوزن، قاها على الارجح زدنت، طمعا في تخلص بلاده من النفوذ الآشوري. ولكن بعد استقرار الأوضاع في آشور، واعتلاء هدد نيراري الثالث (811 ـ 782 ق.م.)،عرش آشور ، قضى هذا الملك عام 808 على التمرد، والياً آشورياً هو "مانوكي آشور" على هذه المدينة.

وبهذا يكون قد انتهى حكم الآراميين فيها، وحل الولاة الآشوريين محل الأسرة الآرامية، التي حكمت البلاد بضعة قرون، ونعرف من بين أسماء حكامها: "بجياني" و "خدياني" و "كباره" و "ابي سلامو" و "شمش نوري" و "هدد يسعي" و "زدنت".

ومنذ عام 808 اصبحت جوزن ولاية آشورية امتدت حدودها حتى طور عابدين، ‘لى الجنوب من ديار بكر شمالاً، وحتى حدود ولاية نصيبين (جوار القامشلي) شرقاً. أما حدودها الجنوبية والغربية فهي غير معروفة، لأن الأرضي الواسعة الممتدة إلى اليسار من نهري البليخ والفرات كانت مشاعاً لسكان حوض هذين النهرين، وسكان المنطقة الممتدة من "تل ابيض" غرباً، وحتى "راس العين" شرقاً.

وحكم الولاية ولاة آشوريون، خضعوا لمرقبة والي نصيبين، الذي أنيط به امر تنفيذ أوامر الملك. وفي ما عدا ذلك كان الوالي الحكم المطلق، يعود إلى الملك في شؤون الحرب والنزاعات المحلية، ويتصل به بوساطة السعاة، الذين ينقلون البريد بين العاصمة ومقر الوالي.

واستتب الوضع للآشوريين في هذه الولاية من عام 808 وحتى 612 حينما سقطت المملكة الآشورية، وقامت الدولة البابلية الجديدة، التي ورثت الحكم الآشوري في المشرق العربي.

ومع ان جوزن قد خضعت للبابليين، وسكنتها جالية بابلية، إلاّ اننا لا نعرف فيما اذا كانت قد بقيت ولاية مستقلة، ام ألحقت بـ "نصيبين" مثلاً[36].

د ـ أمارات بلاد لاقي

وبعد ان استقبل هدد نبراري الثاني الخزية من ابي سلامو امير بيت بحياني ومن مدينة سيكاني، سار ملازماً مجرى الخابور حتى وصل مدينة "قطني"، عقدة المواصلات الهامة في بلاد الجزيرة.  وتع قطنى بين تل عجاجة الذي كان اسمه القديم شادو كاني، ثم حول إلى عربان بعد الفتح العربي.

 ومنذ مطلع هذا القرن صار يعرف باسم تل عجاجة على بعد 30 كم جنوبي الحسكة، وبلدة الشداد 45 كم جنوبي الحسكة ايضاً. وكان  يحكمها آذاك الأمير يلو هدد الذي رحب بـ "نيراري" الثاني ، ودفع  له الجزية، كما دفعها فيما بعد لـ "آشور ناصر بال" الثاني .

ومن قطني زحف الجيش الآشوري على بلاد لاقي التي كانت تشمل الجزء الجنوبي من حوض الخابور وحوض الفرات الممتد بين بلاد سوحي في الشرق وبيت عديني في الغرب. وعاشت في هذه البلاد بضعة عشائر آرامية منها عشيرة حديفة التي كان أميرها برعتاره بن خالو في أول من خضع للملك الآشوري، وقدم له الجزية دخل عاصمته "سورو" (تل صوار الحالي الذي يقع على بعد 40 كم إلى الشمال من مصب الخابور بالفرات).

بعد ذلك سار العاهل الآشوري نحو ترقة التي هي بلدة العشارة الحالية الواقعة بين  ماري ومصب الخابور بالفرات، فدخلها واستلم له أميرها "مودا دله" وقدم له الجزية. كانت أمارة خنداتو التي تقع ‘إلى الجنوب من ماري على حدود بلاد سوحي نهاية حملة الملك الآشوري على ممالك العشائر الآرامية في بلاد لاقي الذي ذكرت لأول مرة في حوليات هذا الملك [37] .

 وقي دراستنا لحملة هدد نيراري الثاني على ممالك العشائر الآرامية في حوض الخابور والفرات الأوسط استطعنا ان نتعرف ‘إلى مملكة " قطيني" و "سورو" (عاصمة عشيرة حديفة) و "ترقة" و خنداتو". فماذا نجد من جديد في عهد "تيكولتي نينورتا" الثاني (890 ـ 884 ق.م.) خليفة هدد نيراري الثاني؟

لقد اقتدى هذا الملك بوالده، وشن الغارات على الآراميين. وخلال احدى حملاته خرج الأعظم.

ومن هنا اتجه نحو دور كوري كالصو (عكركرف)، فدخلها وسار نحو  "سيبار" فدخلها ايصاً، ثم قفل راجعاً نحو الشمال عبر حوض الفرات حتى وصل بلاد سوحي فأخضعها. وفي عانة اكبر مدن سوحي جمع الجرية من شيوخها، ثم زحف على بلاد خنداتو فاخضع فيها مدينتي ناجياته و "عقربا" حيث وافاه اليها مودا امير ترقة المار ذكره فقدم له الجرية.

 ثم دخل مدينة "سويري" حيث اخذ الجزية من المير حمايتا، وخلف حقول (مزارع) "كاسي" قدم له الجزية ثانية مودادة امير ترقة، وبعدها فتح مدينة عربانا واخذ الجزية من المير حران اللاقي.

وبعد هذا كله اجتاز الملك الآشوري الفرات عند مصب الخابور، وسار نحو "سورو" (حديقة) عاصمة بيت خالوفي، فدخلها واخذ الجزية من "حراني". وبعدها دخل مدينة اوساله و دور كتليمو آخر مدينة شمالية في بلاد "لاقية" وهي تل شيخ حمد على الضفة اليسرى لنهر الخابور بين بلدتي الصور في الجنوب والشدادة في الشمال[38]  .

ان العناصر الجديدة في أخبار تيكولتي نينورتا الثاني هي: ذكره لمدينتي "ناجياتا" و "عقربانا" في بلاد خنداتو ( لايزال موقع كل من هاتين المدينتين مجهولً، ويجب التفتيش عليهما بين عانة والعشارة على الضفة اليمنى لنهر الفرات)، وللأمير خلماتايا اللاقي.

الذي لا نعرف مقره، ولعله امير سورو أي من أمراء بيت خالوف أو لاقي وترجح الباحثة هيلين صادر، أن أصله من حماة[39].

ومن  خلال الأخبار إياها تُذكر مدينتا سوبري و عربانا (لعلهما في منطقة البوكمال).

ويذكر الأمير حراني اللاقي (منطقة نفوذه مجهولة)، وتُذكر أيضاً حقول كاسي المجهولة الموقع والمرجح لنها بين العشارة  و البوكمال.

كما تذكر اوساله الواقعة الى الجنوب من دور كتليمو.

لقد تمكن هدد نيراري الثاني من بسط النفوذ الآشوري على بلاد "لقية" دون مقاومة تذكر. وفي عهد تيكولتي نينورتا الثاني خضعت بلاد لاقي للآشوريين ايضاً، ولكنها قاومت السيطرة الآشورية.

 اذ يستدل من النصب التذكاري الذي عثر عله في تل عشارة (مدينة ترقة القديمة) ان هذه المدينة قد ثارت على العاهل الآشوري واخمد ثورتها، واعاد النفوذ الآشوري عليها.

 وتخليداً لهذا الانتصار الهام، ترك تيكولتي نينورتا الثاني نصباً تذكارياً، نر على احد جوانبه اله الطقس هدد وهو يقتل ثعباناً كبيراً ورأسه مقرن.

ويرمز هذا المشهد إلى تحطيم قوة العدو من قبل الملك بمساعدة الرب هدد.

ويحمل هذا النصب كتابة مؤلفة من عدة سطور. ويبدو ان هذا الحدث قد وقع عام 884 ق./.، قبيل وفاة العاهل الآشوري، وبعد حملته السابقة على تلك البلاد[40].

وفي الواقع كانت سيطرة الآشوريين على بلاد لاقية اسمية، فالحكام آراميو ولا يرتبطون مع الآشوريين بمواثيق أو معاهدات تكفل خضوعهم لهم، ولكنهم يدفعون الجزية فقط، ويحترمون سلطة الملك الآشوري، ويعترفون بنفوذه.

وحدث بعد اعتلاء آشور ناصر بال الثاني (883 ـ 859 ق./.) عرش آشور ان قامت ثورة في سوري عاصمة بيت خالوفة ضد اميرها الآرامي "خاماني" المعين من قبل تيكولتي نيننورتا الثاني، ادت إلى اعدامه، وتنصب حاكم آخر مكانه اسمه آخي ـ

عبابا من آراميي بيت عديني. وعند وقوع الثورة عام 882 سارع العاهل الآشوري لانقاذ الموقف، والتدخل لصالح  الفئات الموالية لآشور، فانتقم من الثوار بضراوة، اذ اعدم المتمردين ونصب حاكماً جديداً هناك اسمه عزي ايلو.

 اما بقية أمراء البلاد فلم يشتركوا بالمقاومة، بل سارعوا لدفع الجزية في سورو اتقاء شر الآشوريين.

 ونعرف ممن دفعوا الجزية جنايي امير "خنداتو". اما ايلو ـ ايني امير سوحي فقد ذهب إلى كلخو (نمرود) عاصمة آشور باصر بال ليقدم الجزية، ويظهر الولاء للآشوريين.

وفيما بعد عاد السوحيون وشقوا عصا الطاعة على العاهل الآشوري اياه، فخرج من كلخو، وعبر الدجلة، وسار باتجاه الغرب نحو الخابور. وتذكر لنا حوليات هذا الملم أسماء المدن والبلدان الآرامية التي قدمت له الجزية قبل وصوله إلى بلاد سوحي.

وهي قطني (مر ذكرها) و شوفايا (تذكر لأول مرة ولعلها بين قطني ودور كتليمو) ودور كتليمو و بيت خالوفة و ترقة وصويري و عقراباني (مر ذكرها على الضفة اليمنى لنهر الفرات بين العشارة وعانة)و خنداتو (مر ذكرها).

وبعد هذا تقول الحوليات ان الملك قد تسلق الجبال المطلة على الفرات وتوجه نحو بيت حشابايا المقابلة المدينة خاريدي والتي تقع بين عانة وخنداتو.

ومن هنا سار إلى سورد حصن شادو حاكم "سوحي" الذي قاوم الآشوريين بمساعدة البابليين، ولكنه انهزم امامهم فيما بعد.

وعاد الملك إلى عاصمته كلخو، فاتته الأخبار بنشوب ثورات من حديد في بلدان لاقية و خنداتو و سوحي، فقفل راجعاً إلى تلك البلاد، لما وصل إلى سوري عاصمة بيت خالوفة أمر ببناء السفن لجيشه، ثم سار حذاء الفرات. فاحتل مدن خنتي ـ ايلو، و عزي ايلو الذي كان قد نصبه على تلك البلاد قبل مدة.

وتقول حوليات هذا الملك انه دمر المدن ونهب خيراتها وسبى سكانها، بينما كان أمراء البلاد يستعدون لخوض المعركة الفاصلة مع الآشوريين عند مدينة خاريدي على الضفة الثانية للفرات.

واحتاز الآشوريون الفرات بواسطة السفن التي كانت قد صنعت لهم في سوري عاصمة بيت خالوفة عند "خاريدي".، وتقابلوا مع جيوش لاقي وخنداتو و سوحي حيث وقعت المعركة الفاصلة التي انتصر فيها الآشوريون، بينما انهزم الحلفاء أمامهم. أما "عري ايلو" الخصم العنيد فقد تنسحب نحو الغرب إلى مدينة كيبنا لينظم صفوفه من حديد، فلحق به الآشوريون، ففر من "كيبنا" والتجأ إلى جبال بشري موطن الاحلاموـ الآراميين[41].

وفي النهاية خضعت هذه البلاد للآشوريين، وأصبحت مقاطعات تابعة لهم يديرها حكتم آشوريون أو محليون تابعين ومخلصين للآشوريين. وفي هذه الأخبار يكشف الملوك الآشوريون عن ثلاثة أقاليم قطنتها قبائل آرامية وهي:

بلاد "لاقي" الممتدة على ضفاف الخابور الأسفل من الشدادة حتى مصب الخابور بالفرات، وعلى صفاف الفرات بين دير الزور و العشارة وبلاد خنداتو على ضفاف الفرات بين العشارة وبلدة  العبيدي في العراق وبلاد سوحي على ضفاف الفرات ومقرها عانة الحالية.

لقد تناولت النبذة السابقة أخبار حروب الآشوريين والآراميين في منطقة الخابور وأواسط الفرات، التي كانت تحت حكم الآشوريين في النصف الأول من الألف الثاني ق.م. وفي عهد الملك الآشوري شمشي هدد الأول (1815 ـ 1782 ق.م.)

كانت مدينة شوبات إبليل (= مثابة أنليل)، التي هي الآن بعد "ليلان" إلى الجنوب الشرقي من مدينة القامشلي، العاصمة الثانية للدولة بعد "آشور"[42] ، وبالتالي المقر الاداري لمنطقة شرقي الخابور، وغربي الدجلة.

وبع قدوم الحوريين ـ الميتانيين للمنطقة، وقيام الدولة الميتانية في الجزيرة، تبعها الجزء الغربي من بلاد آشور، أي مدينة شوبات ـ انليل وتوابعها، مدة قرن من الزمن. وفي القرن الرابع عشر ق.م.

عادت ثانية إلى السيطرة الآشورية، وأصبحت ـ

 اغلب الظن ـ مدينة كتليمو، المار ذكرها أعلاه، عاصمة المنطقة، أو اهم مدنها. ودليلنا على ذلك الوثائق الاقتصادية والادارية والمراسيم التي اكتشفت فيها، وتعود إبلى عصر الملكين الآشوريين "سلمانضر" الأول (1247 ـ 1245 ق.م.)، و تيكولتي نينورتا الأول (1244 ـ 1208 ق.م.).

وتنبئنا هذه الوثائق بأهمية المدينة والمنطقة عند الآشوريين[43]. ولكن بعد خلع تيكولتي نينورتا الأول، ضعفت الدولة الآشورية، وسقطت "دور كتليمو" بايدي الآراميين من قبيلة لاقي الذين كانوا قد هاجروا إلى المنطقة تباعاً قبل هذا التاريخ.

ولم يدم خضوع دور كتليمو للآراميين طويلاً بل أعادها الملك الآشوري آشور ـ بل كالا (1074 ـ 1057 ق.م.) لسلطة آشور لأنها جزء من بلادهم.

وتأسياً على ما تقدم، نرى سبب هذه الحرب التي ذكرت، سياسي ـ اقتصادي. فالآشوريين يشنون ورثوا المنطقة والآراميون رحلوا اليهاً للمرعى والأرض الخصبة.

 وما انفك الآشوريون يشنون الغارات على الآراميين حتى اعترفوا بسيادتهم مقابل الاعتراف بوجودهم.

ويستدل من الوثائق المكتوبة بالخط الآرامي، والمكتشفة في دور كتليمو ان الآراميين قد تمتعوا بالحكم الذاتي، وكتبوا وثائقهم بخطهم وبلغتهم[44].

ونعرف من اجبار الآشوريين ان الحكم المحليين كانو آراميين، ولم يستبدلوا بآشوريين، إلاً في حال تمردهم وعصيانهم.

هـ ـ بيت عديني

يتألف الاسم من "بيت" مضافاً اليه "عديني" "عدن ، عدان" (أي الوقت المحدود كفصل القيظ أو الخريف... الخ)

وسيطرت هذه المملكة على حوض الفرات الممتد من جرجميش وبلاد لاقي. ووصلت حدودها الشرق حتى نهر البليغ، الغربية حتى بلدتي الباب و اخترنن. وكانت عاصمتها مدينة تل برسيب (الآن تل احمر على الضفة الشرقية لنهر الفرات 20 كم جنوبي جرابلس).

واذا حللنا اسمها نجده مركباً من: "تل" و "بر" (=ابن)، و "سيب" أو "ديب" وتعني "تل بن سيب". ويدل هذا بوضوح على ان برسيب اسم شخص نسب اليه التل، أي المدينة المدمرة. وقد كشفت الحفريات الفرنسية في الموقع، والتي جرت في الثلاثينات من هذا القرن، على ان هذه المدينة كانت خربة قبل وصول الآراميين اليها(45).

ومع ذلك حط يرسيب الرحال بها، فعمر التل، واطلق عليه اسه. وهذا كل شيء تنبأنا به عن برسين. وجاء دراسة جديدة أجرياها السيدان "ليمار" و "ودوران" على معاهدة "كتل ـ بيت اجوشي" ان كتل هي تل برسين  (46). واذا صح هذا التحديد، وتأيد من وثائق أخرى، فانه سيكون على جانب كبير من الأهمية.

وعلاوة على ذلك نلاحظ ان اسم العاصمة غير اسم المملكة.

وهذا ما كان مألوفاً عند الآراميين، واستثنائياً عند القبائل التي سبقتهم فالأكاديون نسبة إلى أكد العاصمة، والبابليون نسبة إلى بابل العاصمة والآشوريون نسبة إلى آشور العاصمة... الخ.

لقد وصل الآراميون إلى هذه المنطقة قبل عهد تجلات فلصر الأول وأخذوا في تنظيم انفسهم احتماعياً وسياسياً طيلة القرن الحادي عشر وما ان اشرف هذا القرن على نهايته حتى اصبحوا على درجة من القوة والتنظيم، بحيث تمكنوا من احتلال وطرد الحماميات الآشورية من مدينة بيتر والوقعة عند مصب الساجور بالفرات إلى الجنوب من جرجميش ومن مدينة موتكينو الواقعة على ضفة الفرات اليسرى.

والجدير بالذكر ان الحاميات كان قد وضعها "تجلات فلصر" الأول (1112 _ 1047 ق.م.)

في هاتين المدينتين، بينما وقع الحدث في عهد الملك الآشوري آشور ربي الثاني (1010 _ 970ـ ق.م.)

ودون في عهد "شلمانو أشيرد (= سلمانصر) الثالث (858 _824 ق.م.)

وتمضي الأعوام، ويبقى الآراميون اسياداً في المنطقة، وتتعاظم قوة الآشوريين، ويندأ "هدد نيراري" الثاني (909 _ 889 ق.م.)

التوع نحو الغرب ولكنه لم يصل بفتوحاته بيت عديني ومع  ذلك خافه اميرها (الذي لم يذكر اسمه) حينما وصل بجشه إلى الخابور، فسارع عام 899 إلى ارسال سمكتين فراتيتين نادرتين إلى العاصمة آشور طمعاً في ارضاء الملك .(47)

وبقيت هذه المملكة بعيدة عن السيطرة الآشورية طيلة عهد الملكين "تيكولتي نينورتا" الثاني "888 _ 884 ق.م.)

و "آشور ناصر بل" الثاني (883 _ 859 ق.م.)

الذي اكتفى بأخذ الجزية من آخوني أمير بيت عديني وكما سنى فان آخوني هو ابن عديني كما ورد في حوليات سلمانصر الثالث.

وعثر في تل احمر على كتابة هيروغليفية لوفية ذكر فيها اسم "آخوني" (84)، الذي قاوم الآشوريين بعناد وصلابة، وسد عليهم الطريق نحو بلاد الشام الشمالية.

غير ان مقاومته قد ضعفت مع الزمن امام قوة وبطش الآشوريين الذين شنوا عله حملات عديدة.

ويخبرنا سلمانضر الثالث انه دمر مدن بلاد "آخوني بن عديني" خلال حملته الأولى عام 858 ق.م.

وخلال حملته الثانية عام 857 حاصر مدينة تل برسين ولم يدخلها على ما يبدو، بل اكتفى بسلب المدن الأخرى ونهبها.   وخلال حملته الثالثة عام 856 عاود الهجوم على مدينة يل برسيب فوقفت هذه المرة وحدها في وجهه، بعد لن كان قد خرب المدن الأخرى التابعة لها.

وتروي الوثائق الآشورية ان اخوني بن عديني قد خاف سلاح "سلمانصر" الثالث فترك مدينته هارباً إلى ضفة الفرات اليمنى. لقد دخل الملك العصمة واحتلها دون مقاومة ومعها جميع اراضي ومدن دولة بين عديني الواقعة على ضفة الفرات اليسرى، واكتفى سلمانضر بهذا النصر، يطارد "آخوني" إلا في العام التالي 855 ق.م.، حينما خرج من نينوى بتاريخ 4 أيار متجهاً نحو الغرب.

ولما وصل الفرات اجتازه ليلاحق آخوني عديني الذي كان قد اعتصم بقمة جبل في حوض نهر الفرات على الجهة المقابلة العاصمة ملكه. وصعد "سلمانصر" وجيوشه الجبل وقبض على آخوني وأفراد جيشه واقتادهم اسرى إلى "آشور" . (49)

وبهذا قصى على هذه الدولة، وأحالها إلى مقاطعة آشورية يحكمها والي آشوري ولم يكتف بهذا الأجراء بل اسم عاصمتها من تل برسيب إلى "كورسلمانصر" أي حصن سلمانصر.

وفي عهد تجلات فليصر الثالث اصبحت هذه المقاطعة تابعة لولاية حران. ويبدو ان تل برسيب كان مدنية عامرة في الدور الهلنستي وكان اسمها برسيبا . (50)

لقد كانت نهاية حكم آخوني بن عديني عام 855 ق.م.

ونحن نعلم ان آخزني قد عاصر كلاً من الملك "آشور ناصر بال" الثاني (883 - 859 ق.م.)، و "سلمانصر" الثالث (858-854 ق.م.).

 ولا نستبعد ان يكون "آخوني" قد اعتلى العرش في عهد هدد نيراري الثاني (909-889 ق.م.).

 الذي ذكر اسم بيت عديني دون ان يذكر اسم اميرها. وعلى هذا الأساس يكون آخوني قد حكم في النصف الأول من القرن التاسع ق./. وأن والده عديني قد سبقه في حكم،  حكم في انصف الثاني من اقرن العشر ق.م.

واذا كانت علاقة عديني-آخوني واضحة بالاعتماد على المصادر الآشورية، فان علاقة هذين الأميرين مع برسيب مؤسس الدول عكس ذلك.

وفي هذه الحالة لابد لنا من الرجوع ما قاله يلمانضر من ان الآراميين كانوا قد احتلوا مدينتي بيترو و موتكينو في عهد آشور ربي الثاني (1010-970 ق.م.).

هذا يعني ان الآراميين بقيادة برسيب قد ثبتوا أقدامهم هنا في النصف الأول من القرن العاشر ق.م.، ومن المحتمل ان يكون حكم "برسيب" قد امتد إلى النصف الثاني من القرن العاشر.

واذا كان الأمر كذلك، فيكون "عديني" هو خليفة "برسيب".

 ولا داعي لأن نفترض أن حكماً آخر قد حكم بين فترتي حكمهما. واستناداً إلى ما تقدم نجد ان ملوك بين عديني هم:

"برسيب" و "عديني" , "آخوني"، الذين حكموا حوالي قرن من الزمن. واذا عدنا إلى نتائج الحفريات الاثرية، نجد انها تدعم النظرية، فالحكم الآرامي لم يدم هناك اكثر من قرن.(51)

 لقد تحدثنا عن تاريخ هذه المملكة كما استنتجناه من الوثائق الآشورية فماذا قدمت لنا الوثائق الآرامية؟.

ففي احدث دراسة لنص معاهدة "برجاية" ملك "كتك" مع "متع ايل" ملك "ارفاد"( انظر ص 43):

وبهذا الخصوص افترض "اندريه ليمار" و "جان- مارى دوران" ان كتل هي يل برسيب وبرجاية هو شمشي ايلو(52) ، الذي كان والياً على كارشلمانو آشيرد، (=تل برسيب) خلال النصف الأول من القرن الثامن ق.م.، وسوف نتحدث عن هذا الموضوع حين ننتقل إلى فصل مملكة بيت اجوشي ونتطرق إلى المعاهدة اياها.

ولقد ذاع صيت شمشي ايلو في بلدان آشور والجريرة الشامية والشام لكثرة حروبه مع جيرانه، وغزواته المتكررة لهم.

 وقد وصلنا نقش يحتوي على القابه وأفعاله، وعلى أسماء المناطق التي أخضعها وتمتد من الزاب الأعلى حتى جبال الامانوس، عبر السهول الممتدة إلى الجنوب من طوروس.(53)

 وقد نقش النص على أجسام اسود بازلتية كانت تزين باب تل برسيب. وليس هذا فحسب، بل قام بأعمال أخرى مثل تحسين وتجميل العاصمة وبعض المدن التابعة له.

واهم  من هذا كله انه كان نداً قوياً للملوك الآشوري الذين عاصرهم، فجاراهم في كل شيء، وخاصة في تصوير نفسه على جدران القصر وهو يستقبل الاتباع، أو الأسرى أو الضيوف مع هداياهم. (54)

والحق يقال ان اهم الآثار التي وصلتنا من هذه المدينة تعود إلى عصر هذا الوالي، الذي لم يذكر اسم أي ملك آشوري في كتاباته.

واذا صح ما قاله الاثنان يكون الحكم في بيت عديني قد بقي للآراميين كما بقي لهم في بيت نحياني (انظر ص 25 وما بعد)، ولكن تحت السيادة الآشورية.

وتشير هذه الظاهرة بوضوح إلى احد المعالم الأساسية في السياسة الآشورية وهو:

الإبقاء على الحكم المحليين ملوكاً على رعاياهم يديرون المملكة، كولاة للملك الآشوري.

والحكة في ذلك الإبقاء على النظام القبلي الآرامي المتفكك في ظل السيادة الآشورية، فيأمنون شرهم ويضمنون طاعتهم.

ولقد ذكرنا أعلاه تفاصيل عن تاريخ هذه المملكة مستقاة من الوثائق الآشورية وفي أكثر هذه الوثائق ذكر لمدن، لم تكن في رأينا، إلاّ منازل لأفخاذ من قبيلة بيت عديني، التي  حكمها اميرها وعاونه شيوخ أفخاذها ونقع على أسماء هذه المدن متقاربة أو متباعدة.

ففي المنطقة الممتدة إلى الشمال من جبل "بشري" كانت مدينتي "دوميتي" (تذكرنا بدومة الجندل" أو "عزمو" (=آزمو). أما في اقصى الشمال من بلاد الشام، فكانت "كبرابي" أو "كفر ابي"، إلى الشمال الغربي، أو الشمال الشرقي من تل برسيب، وقد تكون بالقرب من أورفه أو إلى الغرب منها على ضفة الفرات اليسرى شمالي طرابلس . (55)

وبجوارها كانت على الأرجح مدينة "بقرو خبوني" أو "فقرو خبوني".

وفي نفس المنطقة، إلى الشرق والشمال من جرجميش (جرابلس) كانت مدن:

 "لالاتي" و "يورمران" و "بيت اصالي" أو "بيت صلل" إلى الشمال من "ارسلان طاش" .(56)

هذا إلى الشرق من الفرات، أما إلى الغرب منه فكانت سورونو(سارين) على الضفة اليسرى لنهر الساجور، إلى الشمال الشرقي من جازيان تبه حوالي 15 كم، و يارينا أو (فاريفا)(مجهولة)، و تل باشيرا (=تل بشير) إلى الشمال الشرقي من دابق (57 التي كانت هي نفسهاتابعة لـ "بيت عديني"، وتقع إلى الشمال من اخترين في محافظة حلب.

ويبدو في هذا ان افخاذ قبيلة بيت عديني قد انتشروا في حوض الفرات من جبال بشري حتى ما دون جرابلس، التي وقعت بين جناحي بيت عديني:

 الغربي ويتألف من حوض الساجور والنضف الشمالي من حوض قويق، والشرقي ويمتد إلى الشمال من الخط الواصل بين تل برسيب على الفرات  و تل ابيض على البليخ.

ليس هذا وحسب، بل لا نجد في الوثائق الآشورية اياها ذكراً لأي مدينة في حوض الفرات بين تل برسيب ومنطقة جبال بشري. فما هو السبب؟:

 وفي الواقع ان المصادر الآشورية لم تأت على ذكر أية مدينة بين مصبي الساحور والبليخ لأن الطريق التي سلكتها الحملات الآشورية على بلاد السام الشمالية كانت تبدأ من آشور أو كلخو (النمرود) أو نينوى وتمر بـ نصيبين، وجوزن على منابع الخابور، و حران على البليخ، ثم جرجميش على الفرات.

وقد نجم عن ذلك ان بقي هذا الجزء من حوض الفرات بعيداً عن مسرح العمليات افتقدنا إلى معلومات عنه وعن أفخاذ قبيلته عديني التي لابد وان سارعت لنجدة شيخها ضد الآشوريين.

و ـ مملكة بيت اجوشي أو بيت جش

كنا نتمنى ان تكون الوثائق التي نمتلكها اكثر عداً وافضل وضعاً مما هي عليه الآن بين ايدنا، حتى تكون كتابة تاريخ هذه المملكة سهلة ووافية بعرض دورها في الحياة السياسية ببلاد الشام خلال عصر الممالك الآرامية.

والأمر ليس كذلك، لذا نحن ملزمون باستنطاق المكتشف منها في دور محفوظات الملوك الآشوريين، أو كمسلات حجرية ظهرت في تلال محافظة حلب، وحين نستقرىء هذه الاخبار نجد انفسنا امام جمل وعبارات قصيرة، نلمسها في سرد غير متكامل[58].

وسنبدأ بما ذكره آشور ناصر بال (883ـ859 ق.م.) اثناء حملته إلى "جرجميش" و لبنان بين عامي (876ـ866 ق.م.) عن هذه المملكة لانه حتى الساعة اقدم خبر عنها.

 ففي  كونلوا، احدى مدن مملكة بتينا في سهل العمق وحوض عفرين، استلم الخزية من جوشي ياهاني، كانت مغرية منها الذهب والفضة والملابس والفروشات[59].

ونرجح ان جوشي هو نفسه الذي نسبت الية فبما بعد، واصبحت تعرف بيت اجوشي بدلاً من ياهاني.

وياهان هو اسم علم نسب اليه "جوشي".

وهو بالتالي الاسم الاقدم لهذه المملكة الآرامية، التي تأسست في محافظة حلب قبل هذا العصر. ونستعد ان يكون اسم مكان لأن عاصمة المملكة كانت ارفاد، وفي عصر سلمانصر الثالث (858ـ824 ق.م.) خليفة آشور ناصر بال كان الشيخ آرام حاكماً على جوشي[60].

ومعنى ذلك أن آرام هو خليفة جوشي لان من عادة الآشوريين نسب المملكة إلى والد أو جد الملك الذي يقابلونه مع ذكر اسم والده.

ولهذا يبدو ان ياهان قد حكم قبل عصر آشور ناصر بال الثاني وتبعه "جوشي" معاصراً له.

ثم آرام معاصراً لـ سلمانصر الثالث.

اولئك هم ملوك "بيت جوشي" الذين لم يحاربوا الآشوريين ، بل دفعوا لهم الجزية. ولم يشترك "آرام" في التحلف ولا في معركة "قرقر" ضد الآشوريين عام 853، بل دفع الجزية للمك الآشوري.

والجدير بالذكر ان هذا الحلف قد ضم ممالك بلاد الشام الجنوبية والوسطي، ولم تدخله ممالك بلاد الشام الشمالية.

ولم نسمع في الاخبار ان مملكة بيت اجوشي قد ساعدت جارتها الشرقية القوية بيت عديني ضد "سلمانصر". ومع ذلك يذكر سلمانصر انه في عام حكمه العاشر 849 والحادي عشر 858 ق.م.

هاجم وخرب مئة مدينة لـ "آرام"؟ فقد دك اسوارهم وحرق منازلهم[61].

ونقرأ هذه الجملة فلا نجد فيها اسماً لاية مدينة، ولا ذكراً لسبب التدمير والخراب، لأن "سلمناصر" ليس بحاجة إلى ذكر الأسماء لأنها كثيرة، ولأن الخراب والتدمير كانا ديدانه.

وبعد وفاء سلمانصر الثالث شحت الاخبار عن بيت اجوشي. وبعد ما تقرب من عشرين عاماً على وفاة سلمانصر الثالث، يذكر "هدد نيراري" الثالث (810 ـ 783 ق.م.) انه غزا ارفاد عاصمة بيت اجوشي، وكان ملكها "عترسمك"[62].

ولحسن الحظ وفي عام 1903 عثر في قرية أمس بجوار سراقب على نصب لملك حماه اسمه ذاكر يعود لحوالي عام 810 ق.م. تقريباً  (انظر ص 129 وما بعد)، وعليه كتابة منقوشة تحدثنا عن قيام تحالف ضد ذاكر، ضم إلى حانب بر هدد ملك دمشق الملك برجوشي (=ابن جوشي)، الذي نرجح انه ابن جوشي وأخ آرام اللذان مر ذكرهما، او انه ابن آرام.

واذا كان الأمر كذلك يكون برجوشي (=برجش) قد حكم في النصف الثاني من القرن التاسع ق.م.، وانه توفي قبل عصر هدد نيراري الثالث، لأن هذا الأخير قد ذكر اسم "عترسمك بن ادرامو" ملك "ارفاد" حوالي عام (796 ق.م.).

وان كانت اخبار هدد نيراري الثالث و ذاكر ملك حماة كسابقتها في الندرة وعدم الكفاية، نجد في الأولى ذكراً لارفاد عاصمة المملكة، وهو شيء لم نألفه من قبل، وفي الثانية الملك برجش الذي نسبت اليه المملكة فيما بعد لأهميته على ما نعتقد. ويبدو ان هذا الاخير هو ابن آرام، وقد خلفه على العرش ادرامو الذي حكم مدة قصيرة ثم تبعه عترسمك. وكان موت.

سلمانصر الثالث، وما تبعه من اضطرابات داخلية في آشور ايذاناً بضعف الدولة الآشورية، وحينما تُوفي هدد نيراري الثالث ترك المملكة على  عتبة حقبة زمنية اتصفت بالهدوء والسكون، وجنوح الملوك الثلاثة الذين حكموا خلالها من عام (783 ـ 745 ق.م.) نحو السلم والراحة، والابتعاد عن غزو البلاد المجاورة.

ليس هذا وحسب بل ان الوالي الآشوري شمشي ايلو، الذي عاصر هدد نيراري الثالث (810 ـ 783 ق.م.) و سلمانصر الرابع (782 ـ 772 ق.م.) و آشوردان الثالث (772 ـ 755 ق.م.) و آشور نيراري الخامس (754 ـ 745 ق.م.) قد استقل في ولايته التي كانت عاصمتها تل برسيب (كارشلمانو آشيرد) وهيمن على المناطق الشمالية من الشام (انظر ص 37).

ويرجح السيدان "اندريه ليمير". و "جان مارى دوران" انه من اصل آرامي ومن اقليم "بيت صلل"، ويحمل اسمين:

"شمشي ايلو" و "برجاية"، ويلعب "توريان" (والي) كارشلمانو آشيرد  (تل برسيب) فعلام يعتمد الباحثان في هذا التعليل؟:

لقد اتاح الكتشاف  تمثال هدد يسعي (انظر 27 و 92  للباحثين فرصة للتعرف على مكانة الولاة الآشوريين في الممالك الآرامية، إذ يصف "هدد يسعي" نفسه ملك جوزن و سيكانو و ازرانو في النض الآرامي، و شاكن (واللي) "جوزن" و "سيكاني" و ازراني" في النص الآشوري.

فهو ملك آرامي على رعيته الآرامية ووظيفته والياً آشورياً عليها. وقياساً على هذه الحالة كان شمشي ايلو والياً آشورياً وملكاً آرامياً يتمتع بالاستقلالية الخاصة في المملكة الآرامية السابقة التي كانت تعرف باسم بيت عديني (راجع بيت عديني ص 34).

ولكن كيف تسمى باسم برجاية؟ بادىء ذي بدء الاسم شمشي ايلو هو اسم آشوري أو آرامي، وكتابة الاسماء الآشورية بالخط الآرامي غير دقيقة. فمثلاً  "شمش نوري" في الآشورية يكتب "س نوري" في الآرامي. وفي النصوص الاشورية لا يذكر نسب الوالي عادة، اما في الآرامية فيكتب النسب واحياناً يستعاض به عن اسم الشخص فمثلاً برجش (=ابن جش) هواسم السلالة أو الاسرة الحاكمة التي يشار به احياناً إلى الشخص الحاكم، فالحديث عن "برجش" مقصود به شخص حاكم بذاته، و برجاية معناه ( ابن جاية أو ابن الجاه)  قد لا يكون اسم شخص مثل اسم برهدد (ابن هدد= ابن الرب هدد) بل اسم البيت الحاكم مثل برجش.

وعلى هذا الاساس نرجع ان برجاية هو نسب شمشي ايلو ملك "كتك"[63].

ولم تذكر النصوص الآرامية المكتشفة حتى الآن اسم جاية، بل ذكر "سلمانصر" الثالث (858 ـ 824 ق.م.) انه استلم الجزية من جاون. فمن المرجع ان جاية يساوي جاون. حيث ان جاون قد اقترن باسم "سلينا" أو ساروجي فيكون جاون هو ملك بلاد ساروحي.

و ساروحي هو سهل ساروج إلى الشمال والجنوب بلدة عين العرب وفي وسطه الآن "تل حجاب" الذي هو على الارجح ساروج عاصمة المملكة الآرامية ساروج، التي كانت تقع إلى الشمال من بيت عديني، كانت على ما نظن تابعة لها.

وليس من المستبعد ان تكون هذه السلالة المالكة. قد لعبت دوراً في حياة هذه البلاد بعد سقوط سلالة "بيت عديني"، اذ يبدو ان الآشوريين قد فضلوا التعاون معها، وتنصيب أحد افردها والياً على بلاد بدلاًمن حاكم آشوري[64].

لقد عرضنا شيئاً من الرأي القائل ان شمشي ايلو والي برسيب (=ملك كتك) هو برجاية الذي ابرم معاهدة مع "متع ايل بن عترسمك" ملك ارفاد. واوردنا ذلك كتمهيد للتعريف بـ "برجاية" ملك كتك الطرف الاقوى في المعاهدة، ولعلاقته بتاريخ ارفاد (انظر ص 94 وما بعد).

وما من شك في ان هذه المعاهدة قد فرضت على ارفاد لسبب نجهله. ونرجح انه يعود لخلاف بين برجاية ملك كتك، ومتع ايل ملك ارفاد في الهيمنة على بلاد الشام الشمالية.

 فكان انصر لـ "برجاية" الذي قّيد "ارفاد" بمعاهدة اذا نقضتها حل بها الدمار والخراب, هذا من جهة ومن خهة اخرى نرجح ان برجاية (=شمش ايلو) قد استغل مكانته في قومه كوالي آشوري ليجمع كلمة الآراميين علهم يرهبون الآشوريين فيوقفونهم عند حدودهم القديمة.

 فاستجاب له "متع ايل بن عترسمك".

 ان عترسمك هو ابن ادرامو كما ذكر "هدد نيراري الثالث، وقد توفي قبل عصر الملك الآشوري آشورنيراري الخامس، الذي عقد معاهدة مع متع ايل الطرف الثاني في معاهدة برجاية ومتع ايل. ونرجح ان وفاته قد حصلت بعد وفاة هدد نيراري الخامس عام 873 ق.م.، الذي بموته سمحت الفرصة لـ "شمشي ايلو/ برجاية"  ان يستقل في ولايته ويعقد المعاهدة مع "متع ايل" الذي اعتلى العرش في عهد سلمانصر الرابع على ما نعتقد.

لقد رأينا ملوك القرن التاسع في "ارفاد": "ياهان" و "جوشي" و "آرام" و "ادرمو" و "عترسمك" تابعين خاضعين للآشوريين، يدفعون لهم الجزية كلما مروا في بلاد الشام.

واما متع ايل فيستبان من افعاله غير ذلك. لقد اختار التحالف مع شمشي ايلو ليجمع كلمة الآراميين.

ويبدو انهم وفقوا في ذلك فجمعوا حولهم الآراميين الذين ذكروا في نص "الفيرة"، والذين انتشروا في المناطق الممتدة من البليخ شرقاً ختى جبال الامانوس غرباً، ومن اعزاز شمالاً حتى البقاع ويبرود ودمشق جنوياً[65].

ولم يطل الأمر لـ "شمشي ايلو" اذ مات على ما يبدو في عهد طآشور نيراري" الخامس (754 ـ 745 ق.م.) ففقد "متع ايل" حليفه الأقوى، وفرط عقد الحلف مع مملكته ومع الآراميين الآخرين.

 وبقي وحده في الميدان ضد الآشوريين الذين سارعوا للانتقام منه.

 حيث جهز آشور نيراري الخامس حملة قوبة على "متع ايل" كان من نتائجها توقيع معاهدة بين الطرفين، يتعهد فيها متع ايل بالامتناع محاربة الآشوريين.

وبهذا الحدث يكون متع ايل قد جرح في الصميم، فاخذ يفتش عن مخرج من هذا المأزق، فتحالف على ما يبدو مع ساردور الثاني حوالي (765 ـ 733 ق.م.) ملك اورارتو الذي كان خصما قويا للآشوريين، ونقض عهده مع "آشور نيراري" الخامس، ثم جمع حوله آرامي الشمال، وممالك "ميليدو" و "كوموخو" و "جريم" التي كانت تابعة لاورارتو:

لقد حدث ذلك و تجلات فليصر الثالث (745 ـ 727 ق.م.) في بداية عهده بالحكم فدفعه ذلك إلى النظر بجدية إلى عذه الاحداث، وهو الذي كان يرنو إلى اعادة مجد آشور واقتفاء آثار اسلافه في محاربة الآراميين.

وما ان انتهى من تنظيم الجيش حتى سار بحملة قوية عام 743 ق.م. نحو "ارفاد".

وما ان وصل إلى الفرات، حتى هاحمه ساردور الثالث ووقعت المعركة بين الآشوريين والاوراتيين على ضفاف الفرات الشمالي جرجمتش في منطقة "بيرجك" وانتصر الآشوريون وانهزم الاروارتيون، وتابع تجلات فليصر زحفه نحو ارفاد فحاصرها من عام (742 ـ 740 ق.م.) فسقطت بيده، وجعل منها مقاطعة آشورية.

وبهذا خضع آراميو الشمال للآشوريين مثلما خضع قبلهم آرامية الجريرة.

وليس بمقدورنا تعيين حدود ارفاد، بل في وسعنا ذكر اسماء اللالك المجاورة لها. ففي الشرق وصلت إلى الفرات حدود مقاطعة "يل برسيب" (مملكة بيت عديني سابقاً) وفي الجنوب جاورتها مملكة حماة و لعش.

وفي الغرب مملكة أنقي في سهل العقم. واما في الشمال فجاورتها من الغرب إلى الشرق ممالك شمأل ، و كوموخ، و جرجميش وجبيل (جرابلس). ومن المؤكد ان مناطق غفرين و اغزاز والباب و السفيرة وسمعان كانت تابعة لها.

ولسنا بحاجة إلى ان نصف شكل الحكم في هذه المملكة، وحسبنا ان نذكر انه كان مثل الممالك الآرامية الأخرى. وما المدن التي ذكرت في الوثائق الآشورية على انها من املاك مملكة بيت اجوشي، سوى منازل افخاذ عشيرة "اجوشي" أو "جش". ومن المدن التي تردد ذكرها في حوليات الملوك الآشوريي:

عرنه:

 ويحدد موقعها الباحث حرب فرزات وغيره فهي تل عران، حوالي 20 كم إلى الشرق، في الجنوب الشرقي من حلب في منطقة الجبول.

وقد تكون العاصمة الثانية للمملكة[66]. لأن سلمانصر الثالث كان يصفها دوماً يهذه العبارة: اقتربت من مدن آرام، مدينة عرنه، مدينة مملكته[67].

ومعنى هذا ان عرنه كانت بالغة الأهمية، وكان فيها اقوىشيوخ الافخاذ،

والواقع ان سلمانصر أو على الاصح كُتّابه، كانوا يذكرون عرنه، ويضيفون عبارة ((عدا مئه من مدنه)) فما هي هذه المدن واين تقع؟:

نرى بادىء ذي بدئ ان إحجام كُتّاب المذكرات الآشوريين عن ذكر اسماء المئة مدينة، يعود إلى عدة اسياب ليس من بينها عدم الأهمية، بل ضيق المكان، والمبالغة في العدد. ومما يدعم هذه الحقيقة ان تجلات قليصر الثالث قد ذكر في حولياته اسماء المنازل او المدن التابعة لـ ارفاد ولم تكن مئة بل اقل من ذلك بكثير ومن هذه المدن:

حوارته: التي هي على الارجح "حوارة النهر" ، حوالي /14/ كم إلى الشرق الشمال الشرقي من "تل رفعت".

خزازو/ عزازو: وهي بلدة اعزاز الحالية. نيربو: النيرب قرب "حلب" توكو: مجهولة. سارونا: وهي "تل صوران" إلى الشمال الشرقي من حلب. دنيانو:

 وهي "تل ابو ضنة" إلى الشرق من حلب حوالي /25 كم/ إلى يسار الطريق العام بين حلب و "دير حافر"[68] .

واذا كانت هذه المدن قد ذكرت في حوليات تجلات قليصر، فهناك مدن ذكرت في معاهدة المشار اليها اعلاه كانت تتيح لنا التعرف على المناطق التي شملتها المعاهدة، لو كان بمقدورنا تحديد موقعها بدقة، ولو ان اسماءها غير مشوهة.

والحال هكذا نعرض إلى الاسماء التامة غير المختلف عليها. وهي منازل القبائل الآرامية التي تكفل نصوص  المعاهدة، وتمتد من مدينة "سمأل" عاصمة "يأدي" قرب منابع النهر الأسود عبر العمق والغاب والبقاع ودمشق ومنها عبر البادية إلى الراقة و "كتك".

وأول ما نلاحظه عند مطالعتنا لهذه الاسماء انها تخص ممالك آرامية غير مملكتي كتك و ارفاد، فلماذا اذن ذكرت في المعاهدة؟:

ونرى انها ذكرت في المعاهدة لتشهد على نصها، وعلى التزامات طرفي المعاهدة الواحد نحو الآخر. وبظري ليس هذا الأهم، بل هناك امران هامان آخران:

اولهما ان الامكنة التي ذكرت، ليست إلا منازل قبائل آرامية وافخاذها وإلاّ لَما ذكرت، لأن المهم هو دلالتها السكانية وليست دلالتها الجغرافبة.

وثانيهما وإن تفّرق الآراميون إلى قبائل ـ ممالك فقد كانوا يشعرون بالاخوة والتعاضد عند المصائب والشدائد، ويشدون بعضهم بعض في الملمات والمصائب، واذا اتفقت مملكتان على شيء ما شهد الآخرون على ذلك.

وقصدنا من هذا كله ان نشير إلى اهمية الحدث الذي جمع بين "كتك" و "ارفاد"، ومكانة المملكتين عبر عنه هؤلاء الشهود.

  (يتبع)

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها