عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم

تعقيب على مشكلة المطارنة الستة ومشاكل الكنيسة السريانية الارثوذكسية

ستوكهولم / السويد


الجزء السابع

(تعالج سلسلة هذه المقالات مشاكل الكنيسة والكهنة بهدف الإصلاح، وهي مكونة من أجزاء كثيرة)

 الكهنة هم أساس الكنيسة الذي تقوم عليه، لكنهم أيضاً سبب مشاكلها وسبب تخلفها وأمراضها، لهذا سنتحدث في هذا الجزء السابع من المقالة عن ماهية الكهنوت وصفات الكاهن المسيحي الحقيقي، لنرى ان كان كهنتنا اليوم يسيرون حسب التعاليم الكهنوتية الحقيقية، وماذا على المؤمنين ان يفعلوا إن لم يسلك الكهنة بمختلف درجاتهم بالتوافق مع صفات الكاهن الحقيقي وتعاليم الكتاب المقدس.

 قال أحد آباء الكنيسة القدماء: أيها الكاهن! لا تترك أعمالك تكذِّب اقوالكَ.

وقال أحد الآباء السريان: تباً للكاهن الذي لا يستطيع الذهاب الى الجنة.

 تعتبر الكنيسة الكهنوت كواحد من اسرارها، لذلك ينبغي على الشخص الذي يقتبل هذ السر ويمارسه أن يكون متميزاً جداّ في اخلاقه ومعاملته وشخصيته.  لكننا لن نتطرق الى الكهنوت هنا كسرٍ كنسي، انما كوظيفة متميزة مجال عملها هو الانسان والنفس البشرية. وللكهنوت صفات عديدة جميلة ينبغي ان يتحلى بها الكاهن الذي اختار ان يسير في طريق هذا السلك الضيق، حاملاً على اكتافه اثقال الخدمة ومسؤولية الاهتمام بالإنسان، وفي قلبه ووجدانه كل الصفات الإنسانية الجميلة.

الكهنوت فلسفة عميقة تشبه الى حد ما بعض الفلسفات اليونانية القديمة التي ركزت على حسن الاخلاق والسيطرة على الإرادة وكبح جماح الاحاسيس والغرائز.

وتقوم فلسفة الكهنوت على تهذيب الكاهن لنفسه البشرية وترويض جسده والسيطرة على رغباته ومتطلباته، من خلال الاعتدال في الحياة والقناعة بالحد الأدنى من الأمور المعيشية والمادية، بعيدا عن طلب الملذات الحسية والجسدية، وبصفاته هذه يصبح الكاهن أداة صالحة للاهتمام بالناس الآخرين وتهذيب نفوسهم.

 فبالإضافة الى الصلوات وممارسة الخدمات الدينية والكنسية مثل العماد وعقد الاكاليل ودفن الموتى، فان الكاهن فيلسوف صفّى نفسه من الشوائب والعيوب التي تعلق بالنفس البشرية فتدنس جمالها وتعيق حركتها. فبرغم كل الصعوبات التي يلاقيها في الخدمة فان الكاهن الحقيقي لا يغضب ولا يبغض، ولا يتكبر ولا يتعجرف، ولا يحسد ولا يحقد، ولا يكره ولا ينتقم، بل على العكس، فهو يحب البشر كلهم، وهو صبور وغفور ومتواضع ومتسامح وعادل وغير اناني، يعمل في خدمة النفس البشرية ويوصي على ممارسة الصالحات وينهي عن الطالحات، يقف في وجه الطغاة الظالمين مدافعاً عن الضعفاء والمساكين. يعمل بإخلاص لرسالته المبنية على تعاليم الكتاب المقدس، بهمة عالية لا تعرف الكلل أو الملل، معتبراً كل اتباع كنيسته كأفراد عائلته فيعاملهم بالمساواة والمحبة الصادقة والتواضع.

فهو سفير ناجح للأخلاق الحميدة وللأعمال المجيدة والضمير الحي، يكرز دائما بالحق والتقوى على رجاء الحياة الابدية، ويقول كلمة الحق دائماً دون اية اعتبارات حتى وإن كلفته حياته.

والكاهن هو دائم الصوم والصلاة وممارسة أعمال الصلاح وخدمة الانسان بمنتهى المحبة والتواضع والإخلاص. فهو بوق جهوري الصوت ينبّه الشارد ليعود الى طريق الصواب، ويوقظ الضمير النائم ليعود الى رشده وانسانيته، يحث جميع الناس على الخير، ويشجع أبناء الكنيسة على تبني الاخلاق الحميدة واتباع الاستقامة في الحياة فكراً وقولاً وفعلاً والسير في الطرق المستقيمة.

 الكتاب المقدس والصلاة والصوم والأخلاق الحسنة هم أصدقاء الكاهن، ينبغي ان يرافقوه طوال حياته لأنهم مصدر قوته ونجاحه في رسالته. فالكتاب المقدس يجب ان يكون معه في كل لحظة ولا يفارقه ابدأ، يقوم بتطبيق تعاليمه بالتمام على نفسه أولا، وثم يعلِّمها للناس ويشجعهم لاتباعها.

 وينبغي على الكاهن التمسك بجميع أيام الاصوام المختلفة بمحبة وقناعة كاملة بقوة الصوم ومفاعيله، فيكون قدوة للمؤمنين ومثلا حياً في الحياة المسيحية لجميع أبناء رعيته. لقد اختصرت الكنيسة أيام الصوم الأربعيني والاصوام الأخرى تمشياً مع الحاجة الزمنية ومراعاة للمؤمنين، لكن الكنيسة لم تختصر هذه الاصوام للكهنة، أي على الكاهن ممارسة الصوم دون اختصار او تنقيص، وبالإضافة الى الصوم بمعناه الحرفي ينبغي على الكاهن ان يصوم عن كل أمر سلبي وسيء في الحياة فكراً وقولاً وفعلاً، وأن يمتنع الكاهن المتزوج عن معاشرة زوجته في كل الاصوام.  والكاهن الذي لا يصوم الاصوام كلها كما ينبغي فكراً وقولاً وفعلاً دون اختصار، فهذا كاهن مزيَّف وفاشل لا يستطيع ان يرشد أحداً ولا يصلح للكهنوت لأنه يفضِّل شهواته على تعاليم الكنيسة، ويفضِّل معدته الفاسدة على رسالته السامية، ويقول بحقه يوحنا الذهبي الفم (347-407): "من لم يستطيع أن يرشد أولاده لا يستطيع أن يكون معلماً للآخرين"، لذلك يجب اتخاذ الاجراءات التأديبية الإصلاحية بحقه ليعود الى رشده.

وكل ما يعظ به الكاهن ويقوله للناس يجب ان يؤمن به هو أولاً، ويعمله ويطبقه في حياته اليومية. فلا يجب ان يكون هناك أي تناقض بين ما يقول وبين ما يفعل.  بل يتطابق كلامه مع فعله بالتمام. لكن إذا وعظ الكاهن شيئاً وفعل شيئاً مخالفاً فلن يحترمه المؤمن ولن يسير بمقولته، بل سيخف احترامه في عيون الناس ولن يؤثر كلامه بأحد.

قال أحد الآباء القدماء: "أيها الكاهن! لا تجعل أعمالك تكذّب أقوالك، تذكر ان جميع المؤمنين يشاهدوك، وسيهمسون بقلوبهم قائلين لكَ: لماذا لا تطبق بنفسك ما تصرِّح أنت به؟ إنك تتلو عظة عن الصوم وضرورة الصيام والابتعاد عن الشراهة وعن كل عيوب النفس، وانت غير صائم عن الشهوات وعيوب النفس. لا بل معدتك مليئة بشهوات العالم وعيوب البشر".

 والكاهن الناجح هو معلم ناجح، يعلم المؤمنين اتباع تعاليم الانجيل وتطبيقها في حياتهم. ويتم ذلك من خلال الوعظ الذي يمارسه بالكنيسة باستمرار. فاذا كان الوعظ وسيلته للتعليم لذلك ينبغي عليه ان يتمكن من فن الوعظ واساليبه بطريقة تعليمية وتربوية (بداغوغية) جيدة يعرف فيها كيف يعالج موضوع وعظته فتعطي أحسن النتائج. ولهذا نرى بعض الوعاظ  والكهنة يسحرون الناس  بوعظاتهم الرائعة لانهم يتمكنون من هذه الفن بشكل ممتاز. ولا يولد أحد وهو واعظ ناجح، لكن الدرس المنهجي والتدريب المستمر ودرس الكتاب المقدس بعمق يعلم الكاهن فن الوعظ ويجعل الواعظ ناجحاً في كرازته، فيصغي اليه الناس بشوق واندماج وهم يرغبون المزيد.

لذلك يجب على الكاهن بمختلف درجاته ان يتدرب على الوعظ باستمرار وذلك من خلال درسه لفن الموعظة وسماعه باستمرار لمواعظ غيره من الكهنة وخطب السياسيين ومحاضرات الباحثين من مختلف الثقافات في العالم. فيتعلم منها تكنيك الوعظ بطريقة منهجية وكيفية التعامل مع موضوعه ومع الناس المستمعين اليه ضمن الزمن المحدد المتاح لموعظته.

ويجب على الكاهن ان يكتب موعظته معتمدا على الكتاب المقدس وبقية المراجع والمصادر لإغناء موضوعه، ويتدرب على تلاوتها في البيت كي ينجح في تقديمها في الكنيسة. وعليه ان يقيس الوقت الذي تستغرقه الموعظة لئلا تطول فيمل السامع. ولا يجب قراءة الموعظة في الكنيسة بشكل سريع او بطيء كي لا يتعب السامع فيشرد. ولا ينبغي ان يردد الكاهن نفس الفكرة عدة مرات أو استعماله كلمات مترادفة في نفس الجملة كقوله مثلاً "كبير، وضخم، وعظيم،" فهذا الأسلوب الوصفي الذي نسميه في العلوم اللغوية "طاوطولوجيا" tautology فهو مرفوض لأنه يستغرق الكثير من الوقت، ويتعب السامع كثيراً، وهو أسلوب القرون الوسطى. ان كهنتنا الذين أسعفنا الحظ لسماع مواعظهم كانت أغلب مواعظهم محشية بتكرار الفكرة والالفاظ "طاوطولوجيا" وكان بإلإمكان اختصارها الى النصف فقط. لذلك يجب على الموعظة ان تكون مختصرة ومركزة جداً لأن البلاغة في الإيجاز، بعيدا عن الاطالة والتكرار لئلا يمل الناس فيشردون ويتمنون انتهاء الموعظة بسرعة. لذلك على الكهنة التدرب الحقيقي على كتابة الموعظة وعلى القائها الصحيح.

وكل موعظة في الكنيسة يقدمها الكاهن بمختلف درجاته، يجب ان يقرأها قراءة من النص الذي أعده. وليس من ظهر قلبه.  فاذا اخرج الكاهن موعظته المكتوبة وقرأها فان الناس سيحترمونه أكثر لأنه حضّر الموعظة مسبقا وتدرب عليها. أما الكاهن المستهتر الذي لا يحضِّر موعظته ولا يكتبها فيقف خلف الميكروفون ويقول ما يخطر بباله فيقع في كثير من الأخطاء، فلا نستطيع ان نحترمه.

الكاهن الناجح إذاً هو الذي يطبق في حياته الشخصية كل ما ينص عليه الكهنوت ويعد نفسه بشكل جيد في كل الأمور التي يتعاطى بها كي ينجح في حياته الكهنوتية. وباختصار الكلام يجب أن يكون معلماً ناجحاً وعالماً اجتماعياً مجتهداً وطبيباً نفسياً بارعاً لخدمة الانسان.

 

بعد ان قدمنا نبذة عن تعريف الكهنوت وصفات الكاهن الناجح ووظيفته وواجبه وطريقة تقديمه المواعظ، يحق لنا ان نسأل المؤمنين الأسئلة التالية:

 - هل تتطابق صفات الكاهن الحقيقي على كاهن كنيستك؟

 - هل تتوفر مزايا الكهنوت السامية وخصائل الكاهن الناجح كما شرحناها هنا في مطران ابرشيتك؟

 - فإذا كان الجواب بالإيجاب فهذا ممتاز، أما إذا كان بالنفي، فما هو دورك أنت أيها الإنسان المؤمن في إجبار كاهنك ومطرانك لاتباع مسلك الكهنوت الصحيح، بهدف إصلاحهم وتقويم اخطائهم، فتستقيم مسيرة كنيستك وتزدهر؟

- هل نصحتَ كاهنك ومطرانك ليتحلى بصفات الكاهن الحقيقي؟ فإن نصحته واستهتر بكَ وبنصحك فماذا عليك العمل؟

- هل تدير له ظهرك وتستسلم؟ أم فكرت في الزعل ومقاطعة الكنيسة، أو تركها والانتماء لغيرها كما كانت العادة السيئة قديماً لدى كل من يزعل من كنيسته أو كاهنه؟  أم انك قررتَ الاتصال ببعض إخوتك المؤمنين في الكنيسة لتنظيم حركة إصلاحية محلية في كنيستك، لردع القس والمطران، وإجبارهما للسير في طريق مستقيمة لاتباع رسالة الكاهن الحقيقي القائمة على الكتاب المقدس وتعاليم آباء الكنيسة؟

الخيار خيارك والقرار قرارك أيها السرياني المؤمن، لكنني شخصياً أفضل الخيار الأخير.

انتهى المقال ويتبع قريبا الجزء الثامن

من يرغب قراءة الأجزاء السابقة من هذا المقال عليه فتح هذا الرابط

Syriac_Orthodox_Church/5.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها