عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم

تعقيب على مشكلة المطارنة الستة ومشاكل الكنيسة السريانية الارثوذكسية

ستوكهولم / السويد


الجزء الخامس

تعقيب على توقيف بعض المطارنة وتهديد آخرين:

وبينما كنا ننتظر مع الكثيرين من المثقفين السريان المهتمين بالصلح والسلم الكنسي، ونترقب معهم ان تتم المصالحة بين المتخاصمين من الاكليروس على أساس المحبة الانجيلية والتسامح والتواضع ونكران الذات لأن الصلح سيد الاحكام، وإذ بنا نتفاجأ بصدور قرار "تعسفي" يخالف تماماً توقعات المهتمين بالكنيسة وتطلعاتهم. لأنه بدل الصلح والمصالحة والمسامحة التي يجب ان تسود في ايام الصوم الأربعيني، قُضي بتوقيف مطرانين عن الخدمة وتهديد اربعة آخرين للحاق بركابهم. فامتلكنا العجب من هذا التصرف المتسارع hasty action الذي تنقصه الحكمة والمحبة المسيحية والتواضع والخبرة العملية في حل المشاكل ومراعاة مشاعر أبناء الكنيسة، لأن هناك ألف طريقة وطريقة لحل المشاكل. وبهذا الاجراء المرفوض جملة وتفصيلاً، كشفت الكنيسة عن وضع اكليروسها التعيس وعن فشلها في تجاوز هذه الازمة التي رغم صغرها إلا أنها تحمل في خباياها بذور فتنةٍ قد لا يمكن التحكم بما ستتمخضه من انفلات وانقسامات مرتقبة، لأنه هكذا كانت بداية كل الانقسامات التي ضربت الكنيسة عبر تاريخها.

لقد اثبت لنا الاكليروس عن نفسه بانه لا زال يتخبط في نفق مظلم ولا يريد الخروج الى النور ليتنفس نسمات انجيلية جديدة تمنحه قوة المسامحة والمحبة والخروج من مستنقع المشاكل. يبدو ان رغبة السلام والمصالحة لدى أبناء الكنيسة الذين ليسوا طرفاً في الصراعات، لا قيمة لها لدى هذا الاكليروس الفاشل الذي التأم مؤخراً لدراسة الموضوع فاختار الحرب بدل السلم، وفضل الشخصية على الكنيسة، والانقسام المتوقع على الوحدة المنشودة. للأسف ان هذا الاكليروس يثبت لنا يومياً بانه يسير من فشل الى فشل لان كل واحد منهم يفضل مصالح شخصيته ورغبته في كسر الآخر. يبدو ان زيت الاكليروس قد أوشك على الانتهاء أو انتهى كلياً، وان قنديلهم لم يعد يضيء كما ينبغي ولا تجتمع عليه الفراشات بل الذباب. وبفشل المطارنة وعدم قدرتهم في حل هذه المشكلة الصغيرة بطريقة حضارية، ضربوا لنا خير مثل عن عدم مقدرتهم في حل مشاكلهم ومشاكل الكنسية لأنهم ابتعدوا عن الله والانجيل والكنيسة، واثبتوا جميعاً بان البطريرك المرحوم زكا كان مخطئاً عندما رسمهم مطارنة.

ان التوقيف عن الخدمة والطرد سلاح بيد الضعفاء والفاشلين الذين لا مقدرة لهم على الحوار، لكن تغيير مطارنة ونزع ابرشياتهم أو نقلهم الى ابرشيات أخرى موضوع هام وأمر عادي جداً يجب ان يحصل ويستمر ليشمل الكثير من الابرشيات، لأن غالبية الابرشيات مريضة بسبب مرض اكليروسها وهي وبحاجة الى التجدد والإصلاح وتغيير مطارنتها. لكن توقيف مطارنة ورهبان وقساوسة لأسباب ضعيفة وسخيفة (وربما شخصية)، ودون التفكير بوحدة الكنيسة واحتياجاتها ومستقبلها، فهذا خطأ كبير لا تستطيع الكنيسة أن تتحمله وتحمل نتائجه، وخاصة ان الكنيسة بحاجة للجميع ليشاركوا في إصلاحها من علمانيين واكليروس. كما ان التوقيف والطرد بحد ذاته عقوبة فاشلة هي من مخلفات قرون الظلمة والتخلف ويجب استبدالها بطرق حضارية وروحية لإصلاح الانسان قائمة على الصوم والصلاة والعبادة والتنسك في الدير والصومعة والمحبسة. لذلك يجب إعادة الموقوفين والمطرودين الى حضن الكنيسة حالاً قبل ان تتعقد الأمور أكثر، ومناقشة الموضوع بروح مسيحية متجددة وبعقلية حضارية جديدة منفتحة وبأسلوب مدني معاصر.

 الصلح سيد الاحكام:

لقد سمعنا ان قضية المطارنة والبطريرك تتعلق بالاعتذارات، مَن سيعتذر لمن وكيف، شفهياً أم خطياً، ولماذا التوقيع على صيغة اعتذارية انتقامية فاشلة تتضمن بعض الملامح الانتحارية؟ ألهذا الحد من الانحدار وصل الامر ورَدَّة الفعل حباً بالانتقام والتكسير بدل التسامح ولم الشمل؟ ألم يقل ربكم في انجيله "من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر" (يوحنا 7:8)؟ ܐܝܢܐ ܡܢܟܘܢ ܕܐܝܬܘܗܝ ܕܠܐ ܚܛܗ: ܩܕܡܝܐ ܢܫܕܐ ܥܠܝܗ̇ ܟܐܦܐ فخجل منفذو الحكم من كلام الرب ورموا حجارتهم جانباً وانسحبوا لانهم خطأة، أما اكليروسنا فهو في عالم آخر.

وطالما انتهى اجتماع المطارنة "الفاشل" ولم يتصالحوا فالكل دون استثناء أخطأوا أمام الله وأجرموا بحق الكنيسة وابنائها. فأي حكم عادل يجب على الشعب ان يطلق عليهم؟ ان هذا الموقف المعيب سيدونه تاريخ الكنيسة الحديث في صفحاته السوداء بحق جميعهم، لأنهم يكتبون قراراتهم بقلم حبره الحقد والغضب والانتقام والانانية والابتعاد عن الله. ومن يكتب بهكذا قلم مليء بهكذا حبر يجب ان يعلم بأن هذا قد يؤدي الى ما لا تحمد عقباه كما حذّرنا في أحد أجزاء مقالنا هذا. وهذا يذكرنا ببعض ابيات شعرية سريانية هامة لفيلسوفنا السرياني ابن العبري محذراً من ان المشاكل الصغيرة قد تقود الى فتن وانقسامات إن لم تعالج بحكمة كما في هكذا مواقف بقوله:

ܗܐ ܚܙܐ ܐܢܐ                    ܬܚܝܬ ܬܥܪܝܬܐ                   ܒܠܨܘܨܝܬܐ

ܘܕܠܐ ܦܘܪܣܐ                     ܥܬܝܕܐ ܠܡܗܘܐ      ܫܠܗܒܝܬܐ

ܘܐܢ ܠܐ ܡܕܥܟܝܢ     ܠܗ̇ ܚܟܝ̈ܡܐ                        ܒܡܗܝܪܘܬܐ

ܡܠܘܐܗ̇ ܢܗܘܘܢ      ܫܠܕ̈ܐ ܘܖ̈ܝܫܐ                      ܕܟܠ ܐܢܫܘܬܐ

ترجمتها: "انني أرى شرارة جمر الفتنة راكدة تحت الرماد، وهي تتحين الفرصة لتلتهب وتتحول الى نار عظيمة؛ فان لم يتصرف العقلاء بحكمة ويخمدوها حالاً، فإنها ستلتهب بسرعة وستحرق الأخضر واليابس".

نرجو ان يكون ابن العبري مخطئاً في حَدْسه هذا، وان لا يكون كلامه نبوءة تتحقق في عصرنا ونحن شهود لها وعليها.

 لكن ان استطاع الاكليروس إطفاء شرارة الفتنة والانقسام الذي عمت رائحة بارود سلاحه أجواء السريان وسماء الكنيسة، فسيرضى عنهم الفيلسوف القديس ابن العبري وسيباركهم، وإلا سينطبق عليهم قول الشاعر السرياني القس ܝܫܘܥ ܣܒܝܪܝܢܝܐ يشوع السبريني (توفي عام 1425) بوصفه إدارة الرعاة في زمانه بقوله: ܕܘܒܪܐ ܕܪ̈ܥܘܬܐ: ܣܪܐ ܡܢ ܙܒܠܐ ܕܩܩ̈ܠܬܐ "ان إدارة الرعاة تفوح منها رائحة المزابل القذرة".

 انشقاق كنسي مؤلم لا نريد ان يتكرر:

عام 1364 حصل خلاف بين البطريرك السرياني إسماعيل والمطران باسيليوس سابا مطران صالح فتصرف البطريرك بحماقة وأوقف/حرم المطران. ولما كان المطران بريئاً ولم تفلح وساطات المصالحة التي قام بها الكهنة وزعماء الشعب السرياني بسبب عناد البطريرك، ولما قطعوا الامل بالمصالحة ووصلوا الى طريق مسدود، قطعوا اخيراً علاقتهم مع البطريرك، وقاموا بإعلان المطران سابا المذكور بطريركاً عليهم وهم يهتفون ثلاث مرات "اكسيوس يليق ويستحق مار باسيليوس". فاجتمع بعض المطارنة الذين ايدوا هذه الخطوة ورسموا المطران سابا بطريركاً على منطقة طورعابدين وجوارها وأسموه البطريرك مار اغناطيوس سابا، واصبحت له خمس ابرشيات معتبرة.

 بعد رسامة البطريرك اغناطيوس سابا لمنطقة طورعابدين وملحقاتها وتكرس انقسام الكنيسة، استفاق البطريرك إسماعيل من غفوته، وندم ندماً شديداً على تعنته في عدم قبول المصالحة مما أدى الى انقسام الكنيسة، فحاول جاهدا مستخدماً الوساطات لإعادة توحيد الكنيسة والغاء البطريركية الجديدة التي نشأت، لكن كل محاولاته باءت بالفشل، لأن القسمة التي استمرت في الكنيسة لعدة قرون بدأت أولا في القلوب والعقول قبل الابرشيات، ورأب صدع القلوب يصعب كثيراً عندما تعتق المشاكل ويستمر انكسار القلوب دون مداواة. واستمر هذا الانشقاق الكنسي لمدة 475 سنة، أي من سنة 1364 لغاية عام 1839. وجلس على كرسي "بطريركية طور عابدين" المستقلة حوالي العشرين بطريركاً، وكان مقرها بلدة صالح (وهي القرية التي ينحدر منها وزير الطاقة في السويد السيد ابراهام بيلان السرياني الأصل).

 لا نريد ان يعيد التاريخ نفسه لأننا لم نعد نتحمل المآسي والنكبات. لذلك دعوة اخوية نوجهها لأحبائنا قداسة البطريرك والمطارنة للمصالحة على أساس التسامح والمحبة الانجيلية. نصيحتنا لجميعهم ان يتصرفوا بحكمة قسطنطين الملك الظافر ܡܠܟܐ ܙܟܝܐ الذي اعتنق المسيحية وحضر افتتاح "مجمع نيقية الكنسي عام 325 م" حيث جمع كل رسائل الشكاوى والدعاوى التي رفعها الاكليروس الى الملك ضد بعضهم البعض، فالقاها في النار امام أعين المطارنة المجتمعين في السنودس، وطلب من كل المجتمعين ان يتصالحوا ويسامحوا بعضهم، وشجعهم ونصحهم بكلمات ودية قائلاً بانه "إذا وجد كاهناً او رئيس كهنة واقعاً في الخطيئة فانه سيغطيه بجبته الملوكية" حفاظاً على ايمان الناس وثقتهم بالكنيسة. (تاريخ ميخائيل الكبير السرياني، صفحة 124-125). وهكذا حصل، حيث تصالح الاكليروس وسامحوا بعضهم، فنجح السنودس المذكور وأصبح أول وأهم مجمع مسكوني في تاريخ الكنيسة، حيث كُتب فيه الجزء الأول من قانون الايمان.

هذه هي الحكمة، فافعلوا أيها الآباء الاحباء كما فعل وقال قسطنطين الملك، ولا تفضحوا بعضكم امام الناس، بل سامحوا بعضكم وتصالحوا، وغطوا أخطاء بعضكم بجباتكم فتنحل كل الأمور.

 لذلك نطلب من قداسة البطريرك افرام أخذ زمام المبادرة الابوية وذلك من خلال الاتصال بالمطارنة والرهبان الموقوفين والمطرودين والمهددين، اليوم قبل الغد، ودعوتهم الى حضنه الابوي الواسع للمصالحة الأخوية دون اية اعتبارات أخرى شخصية أو سلطوية مهما كانت. فالبطريرك بطريرك أي "أب الآباء" والأب غفور ورحوم ومحب لجميع أبنائه ويعطي دون مقابل، ويسامح جميع الأبناء ان اخطأوا؛ ومن قلوب جميع الابناء تصدر محبة وجدانية صادقة له، ومن قلوب الاكليروس تصدر الطاعة البنوية المجبولة بالمحبة والاحترام الكامل له والالتزام التام بالكنيسة وتقاليدها. ولأجل تطبيق المبدأ القائل اطلب المستطاع لكي تطاع، نطلب من البطريرك عدم التمسك بحرفية "بيان الاعتذار" لأن الحرف يقتل والروح يحيي ܟܬܒܐ ܓܝܪ ܩܛܠ: ܪܘܚܐ ܕܝܢ ܡܚܝܐ ونقترح إما إلغاء وثيقة الاعتذار كلياً لأن بعض محتواها بعيد عن روح المسيحية والتسامح، أو تعديلها وذلك بحذف الفقرة الأخيرة منها ونحن على ثقة بان المطارنة سيركضون الى ابيهم الروحي لقبولها والتوقيع عليها. لكن الإصرار على هكذا وثيقة اعتذار اعتباطية سيقود حتما الى فتنة حذّرنا منها ابن العبري بقصيدته أعلاه.

 الجزء السادس  

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها