عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم

تعقيب على مشكلة المطارنة الستة ومشاكل الكنيسة السريانية الارثوذكسية

ستوكهولم / السويد


الجزء الثامن

المسامحة دون توقيع بيان الاعتذار

وأخيرا، وبعد جولة من المداولات، أصدر قداسة البطريرك أفرام الثاني للسريان الارثوذكس "منشوراً" بطريركياً يسامح فيه أربعة من المطارنة (من أصل ستة) ممن ثاروا عليه وحاولوا عزله متهمين إياه ببعض التهم منها ايمانية ومنها إدارية، ثم تراجعوا عن محاولتهم آسفين بعد ان وضّح البطريرك موقفه الإيماني تجاه القرآن حسب قولهم. وقد صدر منشور المسامحة دون ان يوقّع هؤلاء المطارنة على بيان "الاعتذار والندامة" الذي كان قد اشترطه عليهم البطريرك سابقاً للمسامحة ومن أهم بنوده انه كان يخول البطريرك سلطة لمعاقبتهم. وقد تمت عملية المسامحة بهدوء نسبي وسلام سطحي طغى على المعمعة التي حصلت.

وبمسامحته للمطارنة، ومن خلالها الحفاظ ولو اسمياً على وحدة الكنيسة، يشبه تصرف البطريرك لقبطان حاول انقاذ سفينته العتيقة والمليئة بالثقوب في بحر متلاطم الأمواج اثناء عاصفة قوية، حيث تمكن من إخراجها من جو العاصفة، ومن هناك يجب الاهتمام بها لإقلاعها الى ميناء الأمان.

مجاملة مع المسلمين:

إن عملية معانقة البطريرك أفرام الثاني للقرآن ووضعه على رأسه لم تكن حدثاً جديداً وفريداً في تاريخ الكنيسة الحديث، بل كانت عادة يمارسها السريان الأرثوذكس تملقاً ومجاملة مع المسلمين قبل مائة سنة حسبما يخبرنا شاهدٌ على ذلك وهو إسرائيل أودو الذي كان مطران الكلدان في ماردين عام 1915، بقوله "ان السريان الأرثوذكس في ماردين يعلقون آيات من القرآن على جدران بيوتهم من الداخل، كما ان أحبارهم الكبار يرفعون القرآن على رؤوسهم بمناسبة وغير مناسبة ويستشهدون بآياته ويعظمون الإسلام" (انظر كتابه السرياني الهام عن مجازر "سيفو" كما عاشها والمعنون ܪ̈ܕܘܦܝܐ ܕܟܪ̈ܣܛܝܢܐ ܐܪ̈ܡܢܝܐ ܘܐܪ̈ܡܝܐ..."اضطهادات الأرمن والآراميين المسيحيين في ماردين ودياربكر وسعرت والجزيرة ونصيبين" حيث قمتُ شخصياً بإعداد نسخة نقدية critical edition لنصه السرياني وتحقيقه معتمداً على اربع مخطوطات كلدانية، كما قمتُ بترجمته الى السويدية وطباعة النص والترجمة في ستوكهولم عام 2015).

إذاً، ان قضية قيام البطريرك أفرام بتقبيل القرآن ومجاملته مع المسلمين ليست حدثا جديداً أو فريداً في تاريخ الكنيسة السريانية الارثوذكسية لنطبل ونزمر به، رغم ان المؤمنين تلقفوا الخبر بصدمة كبيرة جداً واعتبروا القضية هرطقة وأحسوا بجرح في إيمانهم، ورغم ان المطارنة الستة استعملوا الموضوع كورقة ضاغطة في محاولتهم لعزل البطريرك. بل ان هكذا مجاملات كانت تقليداً دارجاً مارسه كل من الكهنة والعلمانيين أمام مواطنيهم المسلمين تملقاً معهم وتجنباً لغضبهم بهدف ان يقبلوهم كأصدقاء، وان لا يعتبروهم أعداء دينهم. إلا ان المتدينين من المسيحيين في كل الاجيال يرفضون بحدة هذه التصرفات التي تقوم على حساب ايمانهم ومعتبرين من يتملق ويجامل لهذه الدرجة هرطوقياً (أي خرج عن تعاليم دينه). لذا سمعنا كلاماً قاسياً من احدى الفضائيات العربية المسيحية موجهاً للبطريرك أفرام بهذا الخصوص.

وكان على البطريرك ان يقدم اعتذاراً صريحاً للمؤمنين الذين خدشهم مشهده وهو يعانق القرآن لتطمين نفوسهم وتهدئة قلقهم، لكنه استصغر الأمر واكتفى بتعليق على الموضوع في احدى مواعظه شارحاً الوضع بقوله ان ما فعله كان مجاملة وليس ايماناً. ورغم ان المتدينين شعروا بطعنة في ايمانهم اتتهم من "حامي ايمانهم وعقائدهم" وانهم لا زالوا يشعرون بمرارة كبيرة تجاه الموضوع كما نسمع باستمرار، إلا ان المطارنة الستة قبلوا شرح البطريرك واعتبروه أساساً لتراجعهم عن محاولة عزله كما قالوا.

كان على البطريرك ان يكون حذراً جداً من هكذا مواضيع بسبب درجة حساسيتها لدى المؤمنين ولأنها ستُستعمل يوماً ضده من قبل معارضيه، رغم انني على يقين بان معظم المطارنة كانوا سيتصرفون مثل البطريرك لو تعرضوا الى موقف مشابه.

يقول المدافعون عن المطارنة الستة بان المطارنة اتخذوا موقفاً نبيلاً عندما سامحوا البطريرك بخصوص هذه القضية الحساسة، بينما يقول المدافعون عن موقف البطريرك بانه سجل موقفاً نبيلاً للغاية بمسامحته للمطارنة دون ان يوقعوا تعهد الاعتذار والندامة. ونحن نقول اذا كان المطارنة الستة قد تعرضوا لموقف مشابه ولم يجاملوا المسلمين، فان مسامحتهم للبطريرك هي فعلاً موقف نبيل منهم، أما إذا كانوا سيجاملون كما جامل البطريرك فان مسامحتهم هي فقط دعاية لهم لا اكثر أو تصفية حسابات. ونقول أيضا إذا كان منشور البطريرك للمسامحة قد صدر من القلب والوجدان بمنتهى المحبة والايمان بالمسامحة فهذا فعلاً موقف نبيل جداً، أما اذا كان قد اضطر الى اصداره فان ذلك أيضا هو من باب الدعاية وتسجيل موقف على الجميع. ولما لم نكن نعلم بنوايا الفريقين فان ربهم فاحص القلوب والكلى هو الذي سيكافئهم أو يحاسبهم على نواياهم، لكن يجب احترام الناس ومشاعرهم وخاصة في المواضيع الساخنة، لأن التاريخ حاضر يدون كل حركة في سجل كل شخص، وخاصة في سجل المسؤولين.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا لم يجتمع المطارنة الستة مع البطريرك لمفاتحته بموضوع مجاملته مع المسلمين والسماع الى حجته، بدل من ان يصدروا بياناً وينشروا الغسيل امام الناس؟

ولماذا لم يباشر البطريرك بعملية مصالحة حقيقية بعد بيان المسامحة من خلال اجتماعات تفاوضية لدراسة الخلافات وإزالة العقبات من اجل تحقيق سلام حقيقي في الكنيسة؟

منشور المسامحة يحافظ على وحدة الكنيسة والاكليروس:

في آخر يوم من المهلة dead line المعطاة للمطارنة للتوقيع على بيان الاعتذار، أصدر البطريرك منشور "المسامحة"، وهو عبارة عن رسالة تتضمن عظة جميلة عن وظيفة البطريرك ودوره الأبوي في الكنيسة. شرح فيها موقفه بانه "اختار الصمت اثناء المهلة ولم يهتم بالتجريح والتشهير الذي حصل بحقه لأنه اختار السلام الكنسي قبل أي اعتبار آخر"، وحسناً فعل. واننا ننتظر ان تلي المسامحة خطوات أخرى عملية وجريئة لمصالحة عامة بين الاكليروس وثم البدء بإجراء إصلاح شامل في الكنيسة، لأن المسامحة خطوة أساسية هامة لكنها ليست كافية لحل المشاكل.

لكن لماذا قبل البطريرك مسامحة المطارنة دون أن يوقعوا وثيقة الاعتذار التي قدمها لهم؟ ولماذا تريّث في اصدار بيان المسامحة لغاية اليوم الأخير من المهلة المعطاة لهم؟

كان المجتمع السرياني الأرثوذكسي طوال مدة المهلة المحددة (حوالي الشهرين) في حالة انتظار وقلق وغليان؛ وفكرة تقسيم الكنيسة لدى البعض تتبلور كل يوم أكثر فأكثر خلالها؛ وانصار كل فريق في عراك غير منظور مع الفريق الآخر وهم يحاولون تعزيز موقفهم ويستعدون للمعركة القادمة، بينما التنافر بين الفريقين في ازدياد يومي والاتهامات والاخبار الملفقة لم تتوقف.

ان مشكلة الكنيسة باختصار، قسمت الاكليروس والمؤمنين الى كتلتين وأقامت بينهما الحواجز. لذلك نقول بانه لو صدر "بيان المسامحة" في بداية الاحداث، لكان من الممكن ان يفعل فعله الإيجابي الكبير في الكنيسة وبين مؤمنيها، أما انه جاء متأخراً بعد ان انتصبت الحواجز في نفوس الناس من الطرفين ودقت طبول الحرب، فان فعله كان قليل التأثير على قلوب الناس، ولم يفلح في إزالة الحواجز كلها رغم انه أزال سبب الانقسام.

إذا كان منشور المسامحة قد أزاح خطر التقسيم بإزالة السبب الكامن للتقسيم، فكيف ستتوحَّد العقول والقلوب المنقسمة لدى شطري الكنيسة المتمثلين بين أنصار البطريرك وأنصار المطارنة الستة؟ كيف ستكون علاقة البطريرك مع هؤلاء المطارنة من الان فصاعداً بعد انعدام الثقة؟ وكيف ستكون علاقة انصار الطرفين ببعضهما البعض بعد الاتهامات والمهاترات؟ لان المشكلة الكنسية ولَّدَت انشطاراً في قلوب وعقول الأخوة من الفريقين، وكل فرد من أبناء هذه الكنيسة من اكليروس وعلمانيين اصطف لدعم هذا الفريق او ذاك. بينما الجهة المحايدة صغيرة للغاية. لكن كيف سيتوحد الطرفان ويتبادلا المحبة الأخوية بدل التهم واثنان من المطارنة الستة لا زالا تحت عقوبة التوقيف؟

ان قيام المطارنة الستة بمحاولة لعزل البطريرك ثم تراجعهم كانت سابقة كنسية جديدة، وحدثاً فريداً في تاريخ الكنيسة السريانية الارثوذكسية الحديث. فلم تسعفنا ذاكرة التاريخ الكنسي بان سمعنا أو قرأنا عن حدث مشابه سوى المحاولة الناجحة لعزل البطريرك عبدالمسيح الثاني (1903-1895). (في الجزء القادم من المقالة سنتحدث باختصار عن موضوع عزل البطريرك عبدالمسيح، لأن مشكلة الكنيسة اليوم فيها بعض أوجه الشبه مع وضع الكنيسة انذاك).

أسباب مسامحة البطريرك أفرام الثاني للمطارنة الاربعة:

بعد ان باءت محاولة المطارنة الستة لعزل البطريرك أفرام الثاني بالفشل بسبب تراجعهم كما قالوا، وقيام البطريرك بمسامحة أربعة مطارنة منهم دون ان يوقعوا على وثيقة الاعتذار والندم التي كانت تشكل أرضية لمعاقبتهم، راح البعض يجتهدون ويسرحون في خيالهم وتحليلهم لسبب قبول البطريرك مسامحة المطارنة دون ان يوقعوا على وثيقة الاعتذار. وقد سمعنا بعض الآراء المتباينة في هذا الموضوع، لكننا شخصياً نعتقد بان مسامحة البطريرك تعود للأسباب التالية:

1- ان البطريرك أفرام الثاني هو رئيس الكنيسة والكهنة والأب الروحي لجميع السريان الأرثوذكس، وهو يعي دوره والمسؤولية الجسيمة التي تتطلب هذه الوظيفة. لذلك تصرف من موقع المسؤولية وحرصه الشديد على وحدة الكنيسة ووحدة الاكليروس وسلامه، حيث فضَّل قبوله النقد والتشهير الشخصي بحقه ومسامحة معارضيه على المطالبة بالانتقام والقصاص.

2- البطريرك هو كاهن قبل أي وظيفة كنسية ادارية، والكهنوت يحتم المسامحة والمغفرة دون مقابل. فبمجرد طلب العقوبة والانتقام لن يعد الكاهن كاهناً. لذلك طبيعي جداً للبطريرك ان يغفر للذين يخطأوا اليه دون ان يطلب معاقبتهم.

3- استجابة البطريرك الى النداءات الموجهة من عدد من الكهنة بشأن السلم والمصالحة. فلو لم يستجب لنداءات الكهنة المطالِبة بالمصالحة والسلام لكان قد خسرهم وتحولوا الى معارضين له.

4- استجابة البطريرك لنداءات بعض أبناء الكنيسة الذين كتبوا وشاركوا في النقاش مطالبين الصلح والسلام بين الاكليروس. ولو لم يستجب لهذا المطلب لأظهر على نفسه بانه لا يحترم أبناء الكنيسة ويثمّن آرائهم.

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: من هو الرابح ومن هو الخاسر من بيان المسامحة؟ لا شك ان الرابح الأول والاخير هو الكنيسة. والخاسر الأكبر هو تلك القوى الخفية التي كانت تشجع الاكليروس من الطرفين على الانتقام والتقسيم.

نتيجة وعبرة:

ان خطر الانقسام الكنسي زال على ما يبدو، لكن الانقسام بين صفوف الاكليروس أخذ مكانه في العقول والقلوب، فكيف سيتمكن البطريرك من ان يوحد العقول ويجبر القلوب المنكسرة؟ ان هذا الموضوع بحاجة الى كثير من المحبة الصادقة، وصدق في النقاشات الاخوية، والمساواة الحقيقية في المعاملة، واللقاءات والزيارات الأخوية للبعض.

نأمل بان الجميع قد تعلموا شيئا من هذه الازمة الكنسية، لكن ينبغي تفعيل المصالحة بين الاكليروس مباشرة، لأن المسامحة ضرورية جداً لكنها غير كافية. ويجب لم الشمل وإعادة كل الموقوفين والمطرودين، وتضافر كل الجهود للبدء بمشروع اصلاح الكنيسة برمتها من القمة والى القاعدة.

(ملاحظة: توقفنا فترة شهر عن نشر المقالات لنرى ماذا سيجري على الساحة الكنسية بعد منشور المصالحة، فلم نجد أي تغيير يستحق الذكر)

 الجزء التاسع

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها