عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم

تعقيب على مشكلة المطارنة الستة ومشاكل الكنيسة السريانية الارثوذكسية

ستوكهولم / السويد


الجزء السادس عشر

(سنعالج في هذا الجزء موضوع زواج المطارنة وهل من مانع لذلك، وايهما أفضل للكنيسة المطران الاعزب أم المطران المتزوج؟ ولأن هذا الموضوع حديث الساعة على ألسنة الجميع بسبب فضائح الاكليروس الأعزب، لذلك خصصنا له هذا الجزء، لكننا سنعالجه باختصار.

ان هذه المقالات التي نشرناها وننشرها عن مشاكل الكنيسة والاكليروس هدفها الإصلاح الكنسي. وبالرغم من انها تنتقد بعض الأمور السلبية المتداولة في الكنيسة السريانية الأرثوذكسية وبين اكليروسها، إلا ان هدفها الابعد هو الاكليروس المسيحي قاطبة من كل الكنائس الارثوذكسية والكاثوليكية، لأن هذه السلبيات موجودة في كل هذه الكنائس وفي غالبية اكليروسها.)

 زواج البابا والبطريرك والمطران:

درجت العادة في الكنائس الارثوذكسية والكاثوليكية أن يكون الاسقف (البابا والبطريرك والمطران) أعزبا دون زوجة وأطفال، وذلك تيمناً بحياة السيد المسيح وتكريساً لمبادىء الرهبانية في البتولية. أما اكليروس الكنائس الانجيلية فكله متزوج بما فيه المطران ورئيس الأساقفة (البطريرك) وذلك تماشياً مع آيات من الكتاب المقدس.

  لكن أيهما أفضل للكنيسة اليوم، الاسقف المتزوج أم الاسقف الأعزب؟ وهل هناك أمور لاهوتية تمنع البابا والبطريرك والمطران من ان يكون متزوجاً؟

أعتقد، ويعتقد معي كل الذين استطلعتُ رأيهم، ان المطران المتزوج أفضل للكنيسة من المطران الأعزب في الكثير من الأمور الكنسية. ان المطران المتزوج نظيف السمعة ويثق به أكثر الناس، وعلاقته مع الناس طبيعية لأنه اكتسب تجربة هامة في الحياة العائلية من خلال علاقة الزواج والحب والابوة الطبيعية كزوج وأبٍ ضمن عائلته. وهذا يؤهله ليفهم الناس والآخرين بشكل أفضل، فيتعامل معهم بشكل صحيح دون أي عقد نفسية واجتماعية. وعلى خلاف المطران الاعزب لا تضايقه اية شهوة، ولا تقلقه الأفكار عند مشاهدة نساء غير محتشمات في مظهرهن، بل يعرف كي يتصرف ويداري الأمور بنظافة فكره وضميره، لذلك ينجح في إدارة كنيسته كأب روحي للجميع. كما ان الاكليروس المتزوج لا نسمع عنه اخباراً سيئة بخصوص التحرش الجنسي إلا ما ندر.

 أما الاكليروس الاعزب في الكنيسة الارثوذكسية والكاثوليكية، فنسمع بين الحين والآخر عن بعضهم اخبار فضائح جنسية مخجلة ومقرفة. ورغم اننا لا نستطيع تصديق أو رفض كل الاقاويل، إلا انها تبعد الناس عن الايمان والكنيسة. فعلى سبيل المثال سمعنا قبل اسبوعين خبرا مزعجاً من التلفزيون السويدي مفاده ان أكثر من 500 كاهن أعزب في المانيا كانوا متورطين في قصص قديمة من التحرش الجنسي. وكذلك سمعنا قبل شهر ان أسقف استراليا (وهو ثالث شخصية هامة في الفاتيكان) متهم ايضاً بقضايا قديمة من التحرش الجنسي. فاذا كانت هذه الاخبار صحيحة أو كاذبة فإنها تخدش الايمان، وتزعزع صورة الكنيسة في أعين المؤمنين، وتفقد الاكليروس احترامه في المجتمع.

ورغم الطلب الكبير والضغط الهائل على الفاتيكان لأجل تزويج الاكليروس الكاثوليكي، الى انه لم يتجرأ لغاية الآن لاتخاذ أي قرار إيجابي بهذا الخصوص، رغم شجاعة البابا فرانسيسكوس والتغيرات الإيجابية الكثيرة التي أحدثها في الفاتيكان. لذلك تعتبر مشكلة عزوبية الاكليروس في الكنيسة الكاثوليكية عظيمة للغاية وهي أكبر بكثير من ذات المشكلة في الكنيسة الأرثوذكسية، لان الاكليروس الكاثوليكي كله غير متزوج، بينما غالبية الاكليروس (القساوسة والخوارنة) في الكنيسة الارثوذكسية يتزوجون.

 والسؤال الهام الذي يطرح نفسه: هل هناك أي عائق من أن يكون البابا والبطريرك أو المطران متزوجاً؟ يخبرنا الكتاب المقدس انه حسب التقليد الرسولي لا يمنع من ان يكون للمطران زوجة وعائلة. ففي رسالة بولس الرسول إلى تيموثاوس يصرح فيها قائلاً: "ليكن الأسقف زوج امرأة واحدة". أي يحق ان يكون متزوجاً. والمطران والبطريرك والبابا كلهم أساقفة، والقابهم المختلفة تسميات لذات الرتبة (وقد شرحنا هذا الموضوع في الجزء الخامس عشر)، أي كلهم أساقفة وتشملهم هذه الآية المذكورة، فيحق لكل واحد منهم ان يكون متزوجاً، لأنه على حد قول بولس الرسول " الزواج أفضل من التحرق".

 وهناك آية في الكتاب المقدس (الرسالة الى أهل كورنثوس الاولى) يتمسك بها من هو ضد زواج المطران، تقول الآية "ان غير المتزوج يهتم في ما للرب وكيف يرضي الرب، أما المتزوج فيهتم في ما للعالم وكيف يرضي امرأته". اليوم كل اكليروس الكنائس الانجيلية بمختلف درجاته متزوج، وكذلك كل القساوسة والخوارنة في الكنائس الارثوذكسية، فكيف يفعل هؤلاء، هل فعلاً يحاولون إرضاء نسائهم على حساب الكنيسة وعلى حساب الكتاب المقدس والرب؟ ربما نجد بعضاً منهم يقوم بذلك، لكن من المؤكد ليست غالبيتهم.

وهناك أيضا آية أخرى تقول: "من يتزوج يفعل حسناً، ومن لا يتزوج يفعل أحسن". ان عدم الزواج هو الاقتداء بالسيد المسيح لأنه عاش بتولاً، لكن المسيح لدى المسيحيين هو الله، لذلك من الطبيعي ان يكون الله منزهاً عن الخطأ والخطيئة ولا يقع فيها ابداً. لكن الكهنة أناس، والناس ضعفاء، ويقعون في الخطيئة عدة مرات في كل يوم. لذلك ان زواج الكاهن بكل درجاته أفضل بكثير من عدم زواجه. وبزواجه يبتعد الكاهن عن أحد مسببات الخطأ والخطيئة في حياته، وهذا أفضل له وللكنيسة؟

 أما الكاهن الذي يريد ان يعيش اعزباً، خاصة الراهب والمطران، فينبغي ان يعيش في الدير فقط، وليس بين الناس ومعهم.

إن القوانين القديمة حرمت على الأسقف أو القس أن يتزوج بعد سيامته، لكنها لم تحرم ذلك قبل سيامته. ولعل السبب في ذلك يعود الى منع دخول الكاهن بيوت الناس لأجل البحث عن زوجة له، لأن كل النساء أصبحن بناته الروحيات بعد سيامته كاهناً. وان المطران أو القس أب روحي للجميع، فلا يحق له ان يتزوج بعد أن نال الأبوة الروحية. لذلك لو توفت زوجة القس مثلاً فلا يحق له ان يتزوج غيرها. وربما لهذا السبب يحجم البعض من دخول سلك الكهنوت خشية من ان تموت الزوجة فيحرم من الزواج ثانية.

 لكن متى ظهر مفهوم بتولية الاكليروس؟

 ظهر مفهوم البتولية في المجتمع الكنسي لدى البعض من المدنيين والاكليروس السرياني في القرون المسيحية الأولى، ضمن نظام سرياني سبق الرهبنة ويعرف باسم "أبناء العهد" ܒܢ̈ܝ ܩܝܡܐ "بناي قيومو" للرجال، و "بنات العهد" ܒܢ̈ܬ ܩܝܡܐ للنساء. وإذا كان المنتمون الى هذا النظام غير متزوجين سابقاً فيُسمون "المتبتلين والعذارى" ܒܬܘ̈ܠܐ/ ܒܬܘ̈ܠܬܐ، أما إذا كانوا متزوجين وقرر الزوجان ان يكرسا حياتهما للرب وان يستمرا في العيش معاً في منزلهما لكن دون علاقة زوجية (دون ممارسة الجنس) فيُسمون حينها ܩܕܝܫ̈ܐ/ ܩܕܝܫ̈ܬܐ "قاديشه" أي "المكرسين والمكرسات".

(ملاحظة لغوية هامة للمهتمين باللغة السريانية، أما غير المهتم بالسريانية فبإمكانه القفز على هذه الفقرة لمتابعة قراءة المقال: ان المعني الاساسي لكلمة "قاديشو" السريانية هو "المكرَّس" كقولنا ܡܠܐܟ̈ܐ ܩܕܝܫ̈ܐ "مالاخه قاديشه" (الملائكة المكرسون لخدمة الرب)، وكذلك في اسم الأسبوع الأول من التقويم الكنسي عندما نقول ܚܕ ܒܫܒܐ ܕܩܘܕܫ ܥܕܬܐ فيجب ترجمتها الى "أحد/أسبوع تكريس الكنيسة" وليس "تقديس الكنيسة*" كما يعتقد البسطاء من الاكليروس والمؤمنين). كما ان كلمة ܩܕܝܫܘܬܐ "قاديشوثو"  qadishutho في معناها الأصلي تعني التكريس والعفة (أي الامتناع عن ممارسة الجنس) كما استعملها مار افرام السرياني في شرحه للفيضان وسفينة نوح في سفر التكوين حيث يقول:

 ܐܠܗܐ ܐܥܠ ܐܢܘܢ ܝܚܝܕܐܝܬ: ܠܡܛܪ ܩܕܝܫܘܬܐ ܒܓܘ ܩܒܘܬܐ.

ܐܦܩ ܐܢܘܢ ܡܙܘܓܐܝܬ: ܕܢܦܪܘܢ ܘܢܣܓܘܢ ܒܓܘ ܒܪܝܬܐ܀

 (أي: ان الله ادخل نوح ومن معه الى السفينة افراداً ليحفظوا العفة، عاد واخرجهم منها ازواجاً ليزيدوا ويكثروا...). وقال ايضاً انه حتى الحيوانات حافظت على "العفة" داخل السفينة ܐܦ ܚܝܘܬܐ ܢܛܪܬ ܩܕܝܫܘܬܐ ܒܓܘ ܩܒܘܬܐ. لذلك ان كلمة "قاديشو"، بالإضافة الى كونها تعني "قديس"، إلا انها تعني أيضاً "المكرَّس والعفيف الذي يمتنع عن الجنس"، ولهذا يجب اضافة هذه المعاني الاصيلة الى هذه الكلمة في القواميس السريانية. انتهت الملاحظة).

 ورغم ان مار افرام نفسه لم يكن كاهناً بل شماساً، إلا انه كان "بتولاً" من افراد ܒܢ̈ܝ ܩܝܡܐ "بناي قيومو" (أبناء العهد).

 وبعد مرحلة "أبناء وبنات العهد" الغير متزوجين، تطور مفهوم عزوبية الاكليروس كمؤسسة كنسية منتظمة هي "الرهبانية" المعروفة في الاديرة. وتكرست الرهبانية في القرن الخامس وما بعده وأصبحت المثل الأعلى الذي يجب اتباعه للتشبه بحياة السيد المسيح في البتولية. فبدأ الناس ينخرطون في سلك الرهبنة أفراداً وافواجاً، فامتلأت السهول والبراري والجبال في المنطقة السريانية كلها بالأديرة والرهبان وصوامعهم ومحابسهم. ينتسب اليها الشباب والرجال للتنسك والعبادة في نظام نسكي محكم يسوده التقشف الحياة كلها.

وكان معظم المطارنة والبطاركة أيضا يعيشون حياة بسيطة يسودها التقشف الرهباني، ليكونوا مثلا يُحتذى بهم وينالوا ثقة الناس، لئلا يصبح هناك أي تناقض بين تعاليم الانجيل وكيفية حياتهم المعيشية.

 لكن تفضيل الزواج على البتولية في عصرنا ومجتمعاتنا ضرورة ملحة تفرضها الطبيعة البشرية وسنة الحياة وأحوال المجتمعات. فاليوم كثرت مباهج الحياة ومغرياتها ومسببات الوقوع في الخطيئة. فأينما التفتَ الراهب والمطران والبطريرك يجد حوله الكثير من المغريات ومسببات الوقوع في الخطيئة. لذلك الأفضل لهم ان يعيشوا في الاديرة بعيدين عن المؤثرات وعن كل ما يمكن ان يوقعهم بالخطيئة. لكن حتى لو عاشوا في الاديرة فان امكان الوقوع في الخطيئة موجود إن لم يعرفوا كيف يحصِّنون أنفسهم. لذلك أفضل حل لعصمة المطران كي لا يقع في الخطيئة هو ان يكون متزوجاً طالما لا يوجد أي مانع لاهوتي في الكتاب المقدس يمنع ذلك.

 للأسف ان غالبية رهباننا يعيشون اليوم خارج الاديرة. فتراهم مشتتين في مختلف البلدان شرقاً وغرباً دون حسيب أو رقيب، ودون ان يهتم بهم أحد كما يجب، لا بل دون أي مرشد روحي يوجههم أو يتوجهون اليه اثناء حاجتهم وأزماتهم. ان البعض من رهباننا يعيشون في الغرب (أوروبا أمريكا)، وحياتهم لا تختلف كثيراً عن حياة المدنيين، ولا اعلم ماذا يفعلون في الغرب، في بحر المغريات ومسببات السقوط. ان الصلاة والذهاب الى الكنيسة في أوروبا هو على الاغلب يوم واحد في الأسبوع فقط، يوم الاحد، أما في بقية أيام الأسبوع فالراهب عاطل عن العمل، لذلك يقع فريسة سهلة في شِباك الخطيئة بسبب الوحدة والفراغ وغياب الموجه والمرشد. لذلك ان أفضل طريقة للحفاظ على عفة الرهبان هي ان يعيشوا في الاديرة فقط. ان مكان الرهبان الطبيعي هو الاديرة، الاديرة فقط. ان كلمة راهب بالسريانية هي ܕܝܪܝܐ (ديرويو) وهي مشتقة من ܕܝܪܐ (ديرو) وتعني حرفياً (ساكن الدير)، لذا مكان الراهب هو الدير. هذه رغبة ملحة نرفعها الى البطريرك لأنه والد الرهبان جميعاً والمسؤول عنهم.

 أما المطارنة فان الكثيرين منهم يعيشون اليوم حياة هنيئة متناولين اطيب المأكولات ومستعملين وسائل الراحة الجسدية والنفسية، ويقضون أغلب أوقات فراغهم بالقضايا الاجتماعية، لذلك تسيطر عليهم الشهوات والغرائز باستمرار، وقد فشلوا منذ زمان في مداراتها. لذلك ان الزواج هو إنقاذ الاكليروس من السقوط في الشهوة، وإنقاذ للكنيسة من شرور الاشاعات والفضائح.

 وإلى ان نصل الى ذلك اليوم الذي نرى فيه كل الاكليروس المسيحي متزوجاً، يجب ابتعاد المطارنة عن الجنس اللطيف كلياً. لأنه سمعنا عن وجود نساء يعملن في بيوت بعض المطارنة ومكاتبهم ومطابخهم، ورغم اننا لا نستطيع تأكيد الخبر أو رفضه إلا ان هذا الموضوع في غاية الخطورة. فاذا كان الموضوع صحيحاً فماذا تفعل امرأة في بيت المطران الاعزب ومكتبه ومطبخه؟ هل له علاقة سرية معها، هل هي زوجته غير الشرعية؟

لذلك يجب عدم تشغيل نساء في بيوت المطارنة ومكاتبهم ومطابخهم، ولا مبرر لذلك مهما كانت الضرورة. فاذا كان هناك حاجة فيجب تشغيل رجال فقط. والسبب واضح للجميع ولا نريد ان نصدق كلام الدعايات المقرفة التي نسمعها باستمرار، واللبيب من الإشارة يفهم.

 وقد سن الآباء القدماء بعض القوانين الهامة حول هذا الموضوع، ومنها قوانين البطريرك ميخائيل الكبير التي سنها في السنودس عام 1169 ومنها "يمنع منعاً باتاً أن تقوم النساء على خدمة المطارنة وحتى لو كانت المرأة أخت المطران أو والدته، ويمنع ان يتحدث المطران مع أية امرأة منفرداً إلا بواسطة قسيس شيخ، وان لا يستقبل الراهب ابداً امرأة في غرفته صبية كانت أم عجوز". كل هذا حفاظاً على الكليروس وتجنباً للأقاويل والدعايات.

فإذا كانت هكذا قوانين وقائية قد سنها الآباء في القرون الوسطى ليصونوا أنفسهم من الوقوع في الخطيئة حيث كانت المجتمعات بسيطة وليس فيها اي وجود من الاغراءات الكثيرة السائدة اليوم والتي تكمن للكهنة في كل زاوية، فكيف الحال اليوم في المجتمعات الحديثة والمليئة بمسببات الاغراءات وسقوط الكاهن الأعزب؟ فكيف يصون الكهنة أنفسهم اليوم، وهل لديهم تعليمات يتبعونها في هذا المجال؟ هل كهنة اليوم أفضل من كهنة الماضي في هذا الموضوع؟ وهل عزيمتهم اقوى في ضبط أنفسهم؟ وهل ارادتهم اصلب في تحديهم للخطيئة كي لا يقعوا في شركها؟

لذلك إذا كان هناك نساء يعملن لدى أي مطران أو يقمن على خدمته، فيجب على المسؤولين هناك التصرف حالاً لاستبدال النسوة برجال.

ونطلب من البطريرك شخصياً ان يقوم بالتفتيش عن هذا الموضوع في كل ابرشية ولدى كل مطران، وثم يقوم بتطبيق هذه القوانين القديمة التي سُنت لخير الكنيسة وللحفاظ على عفة الاكليروس من السقوط في حمأة الرذيلة.

 لقد كان المطارنة والبطاركة والرهبان سابقاً صائمين حياتهم كلها، لا يأكلون اللحوم بل البقول والخضروات فقط كي يميتوا شهواتهم ويسيطروا على غرائزهم، فكانوا ينجحون على الاغلب. أما الاكليروس الاعزب اليوم فالفشل حليفه لأنه ليس صائماً والمغريات كثيرة ومنتشرة في كل مكان وزاوية يتحرك بها. فان التفت يمينا أو شمالا فالمغريات واقفة له بالمرصاد وتنتظر سقوطه.

 وبينما الكنيسة الارثوذكسية والكاثوليكية تشجع على الرهبنة والعزوبية وتمنع زواج الراهب والمطران، فيعيش حياته كلها في حرب مع ذاته فيفشل حيناً وينجح احياناً، نرى الإسلام على نقيض من ذلك تماماً. ان مقارنة بسيطة بين رجل الدين في الإسلام وبين الاكليروس المسيحي الاعزب، نجد ان رجل الدين في الإسلام يعيش حياة واقعية كبقية الناس في دينه ولا يتميز عنهم. وعلى غرار مؤسس الإسلام ونبيه، فهو متزوج وربما له أكثر من زوجة ويساهم في ازدياد عدد المسلمين ايضاً. بينما الاكليروس المسيحي الاعزب يعيش حياته كلها هارباً من الواقع ومن الطبيعة البشرية، وبعضه يشتاق أحياناً لتكون له زوجة وأطفال، لكنه محروم من هذا الحق الطبيعي المتوفر لكل انسان. كما انه بعدم زواجه وإنجاب أطفال يساهم بعدم زيادة المسيحيين.

 لكن هل أوصى الله الانسان بالزواج والانجاب أم أوصاه بالرهبنة؟

ان الله خلق الانسان واعطاه مهمة لينمو ويزداد، كقول الكتاب المقدس في سفر التكوين "خلق الله الانسان... ذكراً وانثى، وباركهم وقال لهم: أثمروا واكثُروا واملأوا الأرض..". وان الانسان مستمر لغاية اليوم في تحقيق هذه المهمة التي سُلِّمت له. ولأجل تحقيقها تفرض عليه الطبيعة البشرية التي وضعها الله في الانسان، ان يشتاق للعودة دائماً الى المكان الذي خرج منه الى الحياة. لذلك تشتاق المرأة حياتها كلها الى الرجل، وتشتاق الى الاتحاد بقلبه وصدره لأنها خرجت من ضلع صدره الذي يحمي قلبه. ويشتاق الرجل حياته كلها الى المرأة لأنه ولد منها، ويشتاق للاتحاد بجسدها من المكان الذي خرج منه الى الحياة والعودة اليه دائماً.

فلماذا محاربة هذا الشوق الطبيعي الى الطرف الاخر طالما ان سنة الخلق والحياة فرضته على الانسان؟ ولماذا مقاطعته طالما هو جزء من حياة الانسان ويسود حياته كلها منذ الولادة والى الموت؟ ان رفض هذا الشوق الطبيعي ومقاطعته هو حتماً اجراء غير طبيعي، بل هو ضد الطبيعة البشرية كما خلقها الله، وتمرد على المهمة التي أعطاه أيَّاها الله.

 ذكر بعض القدماء عن قصة آدم وحواء في الفردوس بان شجرة معرفة الخير والشر التي منعهما الرب من اكلها كانت رمزية ترمز الى اتصالهم الجنسي. وإذا كان هذا التفسير صحيحاً فانهما تنازلا عن الفردوس لأجل الشوق الذي خلقه فيهما، وفضَّلا الاتصال الجنسي الذي سيقودهم الى الحياة بشقاوة على الارض، من البقاء في الفردوس والحياة الهانئة فيه. هذا شأن آدم الذي سقط امام اول تجربة، فماذا بشأن الكاهن الاعزب؟

لذلك ان عزوبية الكهنة التي فرضتها الكنيسة، هي اجراء غير صحيح أبداً، لأنها ضد الطبيعة البشرية، لكن من أراد العزوبية فمكانه التنسك في الاديرة فقط.

 أما الاسقف السرياني العلامة ابن العبري (1286-1226) فيشرح لنا الفردوس بطريقته فيقول: "ان الفردوس هو جسد الانسان، وآدم الذي حل فيه هو العقل في هذا الجسد، وشجرة الحياة هي الفعل الروحي، وشجرة معرفة الخير والشر هي الامور الجسدية التي سحرت فكر حواء وجذبتها اليها. أما الانهار الاربعة فهي القوى الأربع الموجودة في الانسان: القوة الحيوية الكامنة في القلب، والقوة العقلية والنفسية في الدماغ، وقوة الطبيعة البشرية في الكبد، والقوة الجنسية في جهاز التناسل". وهذا يعني ان الرب خلق قوة الطبيعة البشرية والجنسية في الانسان، وبواسطتها يكثر الانسان وتستمر الحياة، فلماذا تحاول الكنيسة التركيز على العزوبية.

 لذلك حان الوقت لتغيير الكثير من الأمور في الكنيسة المسيحية، منها تمس نظرتها غير الواقعية للحياة، ومنها تخص ممارساتها كعزوبية الكهنة.

 كان أحد أبناء العائلات الغنية في روسيا قد تنسك وعاش في صومعة منعزلة حياة صارمة من التقشف المعيشي والصوم والصلاة دون انقطاع، فأحبه الرب ورفعه الى مصاف القديسين فاخذ يجترح العجائب، وطارت شهرته في الافاق. لكن أبناء السوء كانوا له بالمرصاد وقرروا ايقاعه بالخطيئة. ففي احدى الليالي الشتوية والبرد القارس لا يطاق والثلج لا يتوقف، أرسلوا اليه شابة عاهرة لتوقعه في شِباك الخطيئة. فطرقت باب قلايته مدعية انها امرأة عجوز قد اضاعت طريقها في هذا البرد والثلج، وانها تريد ان تبيت عنده لغاية نور الصباح. فلم يفتح لها الباب وشرح لها عن الطريق، فألحت عليه لكنه امتنع. فأخذت تصر وتصر دون نتيجة، ثم قالت له ما هذه الانانية انت راهب تريد ان تخلص نفسك ولا تهتم بامرأة عجوز ضلت طريقها في هذا الطقس البارد. فاحتار في امرها. وأخيرا فتح لها الباب. وفي نفس الوقت كان أبناء السوء يراقبون عن بعد ويشترطون بانه سيقع في الفخ. وعندما ادخلها الى قلايته قدم لها خبزا جافاً وشيئاً ساخنا لتأكل، وبينما هو منشغل في اعداد الطعام خلعت الزانية ثيابها كلها وعندما التفت فوجدها عارية تماما وانها صبية وليست عجوز، وكي لا يتمكن منه الشيطان فيسقط، نهض للحال ووضع اصبعه على السنديان وضربها بالفأس وقطعها كما يقطع الحطب، فسقطت الاصبع وبدأ الدم ينساب، واعتقدت المرأة العاهرة انه قطع حطباً عند سماعها صوت الفأس، وعندما شاهدت ان الدم ينزل من يده دون توقف، وشاهدت الاصبع المقطوعة على الأرض، ففهمت للحال بانه قطع اصبعه بسببها كي لا يقع في الخطيئة. فصعقت المرأة، وبكت حالا بحرقة وصوت عال، وتناولت ثيابها مخبأة جسدها، وارتمت على اقدامه وهي تطلب السماح والمغفرة منه، وصرحت له عن مقصدها الخبيث وأبناء السوء الذين يراقبون الوضع من النافذة. وندمت ندما شديدا، وخرجت من عنده باكية، ومصدومة، ومتأثرة، وتابت من خطاياها، والتجأت الى أحد الاديرة وانضمت الى صفوف الراهبات العفيفات وعاشت بقية حياتها.

 كم من المطارنة يفضلون اليوم ان يقطعوا اصبعهم كي لا يقعوا في الخطيئة؟ بل هل هناك من سيتصرف مثل هذا الراهب الروسي في هكذا موقف مطبقاً قول الانجيل انه اذا اغوتك عينك فاقلعها؟

أنا متأكد بأنه ولا واحد من مطارنتنا سيقطع اصبعه أو عينه إذا تعرض لهكذا موقف. لذلك ان زواج المطران والبطريرك هو الحل الأنسب لأنهم لا يستطيعون مقاومة التجارب الصعبة.

لقد سردنا هذه القصة للاتعاظ منها، لأن زواج الاكليروس بمختلف درجاته ضرورة ملحة للجميع دون استثناء، ويحتاج الموضوع الى اتخاذ قرار شجاع وجريء للغاية. بل يحتاج الى اكليروس واقعي وشجاع للبت في الموضوع.

لذلك حان الوقت للإقرار على ان يكون الجيل القادم من المطارنة والبطاركة متزوجاً، فيكون حينها نظيف الفكر والفعل والقلب واللسان، وسينجح حتماً في خدمته الكهنوتية. أما من يختار الرهبنة فليعيش في الاديرة.

انتهى المقال

 الجزء السابع عشر

من يرغب قراءة الأجزاء السابقة من هذا المقال عليه فتح هذا الرابط

http://nesrosuryoyo.com/forums/viewforum.php?f=300

او على هذا الرابط

Syriac_Orthodox_Church/5.

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها