الجزء السابع العاشر
البطريرك "المعزول" عبدالمسيح الثاني
(1895-1905)
من كان البطريرك الشرعي عبدالمسيح أم عبدالله؟
(ملاحظة تمهيدية: كنا قد
نوهنا في الجزء الثامن من مقالنا باننا سنكتب عن قصة عزل
البطريرك السرياني الارثوذكسي عبدالمسيح الثاني، لكننا أجلنا
الموضوع حينها. واليوم، أي في 31 آب، تحل ذكرى وفاته بمرور 102
سنتين عليها، لذلك نستغل الفرصة لننشر قصة عزله باختصار،
معرجين قليلاً على بعض جوانب حياته المتعلقة بالموضوع ووضع
الكنيسة حينها، وذلك لوجود بعض أوجه الشبه بين وضع الكنيسة
آنذاك ووضعها اليوم. وقد اعتمدتُ في اعداد هذه المقالة على بعض
المصادر المكتوبة عن البطريرك وأغلبها سريانية، لكن أيضا على
معلومات شفهية هامة كنتُ قد نقلتُها عن والدي داويد أسعد
(1978-1909) الذي بدوره كان قد نقلها عن والده (جدي اسعد، توفي
1936) الذي عاصر البطريرك عبدالمسيح وعرفه جيداً. ورغم طول
المقالة الى حد ما، الا انها موجزة وتقدم فقط الخطوط العريضة
عن الموضوع).
2-مقدمة:
عام 1904 حدثت فتنة كبيرة في الكنيسة السريانية الارثوذكسية
قادها نفر من المطارنة قاموا بعزل البطريرك عبدالمسيح الثاني.
فخلقوا بلبلة عظيمة في الطائفة ساهمت في اضعافها حينما انقسم
الناس فيها بين مؤيد لعزل البطريرك ومعارض لفكرة عزله. وتشبه
تلك العملية الى حد ما محاولة عزل البطريرك افرام الثاني
مؤخراً.
وكانت عملية عزل البطريرك عبدالمسيح ضربة قاصمة للطائفة في تلك
الحقبة الصعبة التي كانت تعاني فيها الكنيسة من الاضطهاد
الديني والاجتماعي، والصراع المذهبي الكاثوليكي الأرثوذكسي
الحاد، وسيطرة العقلية العشائرية، وتفشي الفقر والجهل والتخلف
بين غالبية السريان، وانتشار الخوف والقلق الفكري لدى
المثقفين، رغم ظهور تلاميح فجر جديد يحمل في طياته بعض الأفكار
الجديدة تبشر ببداية عصر نهضةٍ سريانية ثقافية قومية في
الطائفة بدأت اشعته تظهر في دياربكر وماردين ومديات والرها
والموصل وحمص والقدس. وكان خير تجسيد لها تأسيس جمعية
"الانتباه" السريانية (بمعنى اليقظة السريانية) في دياربكر.
لكن سرعان ما ضعفت هذه الأشعة بسبب هذه المشكلة التي حلت في
الطائفة، وثم انطفأت بسبب الضربة القاضية التي حلت على السريان
بسبب مجازر
ܣܝܦܐ
"سيفو
Sayfo"
التي دفعت السريان الى الوراء، للعودة الى مرحلة ما قبل الصفر.
لكن قبل ان نتكلم عن موضوع عزل البطريرك عبدالمسيح لا بد ان
نشرح العهد الذي نشأ به هذا البطريرك كخلفية للموضوع.
3-
ما قبل البطريرك المعزول عبدالمسيح الثاني:
عام 1874 سافر البطريرك
السرياني الأرثوذكسي بطرس الثالث الموصلي الى لندن، وأقام فيها
سبعة أشهر، وكان برفقته المطران (البطريرك بعدئذ) عبد الله
الصدي. ورغم ان حقيبة البطريرك اثناء سفره كانت مليئة بالأفكار
الكنسية البسيطة في الإدارة، والنظرة التقليدية المتخلفة الى
الطائفة والكنيسة والسريان، إلا انها كانت مليئة بالآمال
والاحلام...
واثناء اقامته في لندن التقى البطريرك مع الكثيرين من رجال
السياسة وبعض الوزراء والامراء الإنكليز ورئيس اساقفة كنتربري
وبعض مطارنته، كما انه التقى مرتين بالملكة فكتوريا
(1901-1837) التي شهد عهدها تضاعف حجم الإمبراطورية الإنكليزية
وبينها الهند التي سميت "جوهرة التاج" البريطاني.
وتعرف البطريرك هناك على الحياة الكنسية والثقافية والاجتماعية
والإدارية والسياسية السائدة في بريطانيا آنذاك، والتي كانت
تختلف جداً عن الحياة البسيطة التي تعيشها جميع شعوب الشرق
الأوسط. فانبهر بمظاهر المجتمع البريطاني، وأحب ما شاهده وأعجب
بما رأى وسمع. وأخذت بعض مظاهر المجتمع الأوروبي والأفكار
الجديدة المتداولة فيه تدغدغ مخيلة البطريرك المتقد البصيرة،
لأنه من شأنها ان تخلق عملية إصلاحية في الكنيسة والملة.
عاد البطريرك من لندن وحقيبته مليئة بأفكار جديدة ونظرة
مختلفة الى الطائفة والكنيسة والإدارة والسياسة والسريان،
فأراد ان يطبق شيئاً منها لتجديد الطائفة والكنيسة.
وكان قد اشترى مطبعة لطباعة المطبوعات السريانية والكنسية
وأرسلها عن طريق حلب الى الوجيه السرياني أنطونيوس عازار. وكان
مرافقه المطران عبد الله سطوف يغلي شوقاً لاقتناء المطبعة وان
يتعلم على تركيبها وتشغيلها. لذلك عاد بعدها الى لندن ثانية
لاقتناء مطبعة أخرى. وقد طبعت البطريركية عدة كتب ومطبوعات
كنسية فيها، مسجلة بذلك بداية مرحلة جديدة في التعامل مع
المطبوعات.
وفي
عهد البطريرك بطرس الثالث المذكور تأسست في مدينة دياربكر
"جمعية الشركة الأخوية للسريان القدماء" (أي السريان
الأرثوذكس) لفتح المدارس وطباعة النشرات الثقافية. ففُتحت بعض
المدارس السريانية الابتدائية والمتوسطة والثانوية الرسمية،
لتعليم اللغات والعلوم الحديثة، وخاصة المدرسة الثانوية
السريانية الهامة في دياربكر لتخريج المعلمين بإدارة المربي
السرياني الكبير الملفونو حنا سري جقي، الذي كانت له اليد
الطولى والكثير من الفضل في خلق حركة نهضة ثقافية وقومية
سريانية صغيرة بين طلابه في دياربكر وماردين. وبالإضافة الى
مهامه الإدارية كان الملفونو حنا جقي يعلِّم ايضاً اللغات
السريانية والعربية والتركية والفارسية، حيث علمها لمدة تقرب
الخمسة عشر عاماً بصورة متقطعة، فتخرجت على يديه مجموعة مثقفة
من الشباب السريان ممن أصبحوا بدورهم معلمين في المدارس
السريانية، ومنهم من أصبحوا كهنة متعلمين. وكان أحد طلابه
النجباء الملفونو "نعوم فائق" الذي عمل بدوره معلماً في
المدارس السريانية بعد تخرجه، وثم أصبح مع غيره من الخريجين من
روّاد القومية السريانية. ان بعض ملامح النهضة السريانية التي
انطلقت من دياربكر في بداية قرن العشرين كانت مباشرة من نتائج
عمل الملفونو حنا جقي، وما تأسيس جمعية "الانتباه" السريانية
في دياربكر وضمها نخبة من المثقفين والمتعلمين السريان، إلا
احدى ثمار عمله اليانعة.
وقد استطاع البطريرك بطرس بعد عودته من لندن تطبيق بعض
الأفكار الجديدة الجيدة في الكنيسة السريانية الارثوذكسية في
الهند. فنظم الكنيسة السريانية في الهند مقسماً أياها الى
ابرشيات ومناطق إدارية، بعد ان كانت الفوضى منتشرة فيها والضعف
ينخرها من الداخل.
لكنه لم يتمكن من اجراء أي تغيير ملحوظ في الكنيسة في الشرق
الأوسط، لأن الوضع كان صعباً للغاية. وبالرغم من ان السريان
الأرثوذكس كانوا حينها واحدة من أكبر الطوائف المسيحية، لكنهم
كانوا منتشرين على رقعة جغرافية كبيرة للغاية، يعيشون مثل
واحات بين اغلبية مسلمة تنظر إليهم على انهم كفّار، وخاصة في
جنوب وشرق تركيا حيث تحول الاكراد هناك مع الزمن الى اغلبية
بين السريان. وكانت العشائر الكردية المقيمة في المنطقة
السريانية ضاربة في التخلف وممارسة العنف والانتقام والغزوات
وسرقة مواشي جيرانهم السريان بين الحين والآخر. لكن احدى
المصاعب الكبرى التي سادت في عهده وما بعده كانت الصراع
المذهبي الكاثوليكي-الارثوذكسي الحاد الذي مزق الطائفة
السريانية وأضعفها وهدر مواردها، واستنزف طاقاتها وافكار
النخبة السريانية التي لم تتمكن من الخروج من الخندق الآسن
التي وقعت فيه، فضيّعت الفرصة وقضت على آمال الشعب السرياني
وأحلامه بالاستقلال وانشاء دولة سريانية لهم، في عصر التحضير
لتشكيل الدول في الشرق الاوسط. كما ان نفس الصراع المذهبي كان
قد حصل في الطوائف الأخرى التي ضيعت بدورها فرصتها التاريخية.
ورغم
هذا فإننا نعتبر عهد البطرك بطرس الثالث المذكور حداً فاصلاً
في تاريخ الكنيسة السريانية الارثوذكسية الحديث، يفصل بين ما
قبله حيث تسود النظرة الكنسية التقليدية المتخلفة الى الكنيسة
والثقافة والسريان، وبين ما بعده حيث تسعى الكنيسة نحو
التجديد. ان عهده وما بعده يمثل بداية لنهاية عصر الظلام
الكنسي لدى السريان الأرثوذكس، لأن عهده تميز بوجود بعض
الأفكار الجديدة والثقافة وانتشار المدارس السريانية وطباعة
الكتب والنظرة المغايرة الى الكنيسة والسريان كأقلية قومية.
لذلك نستطيع ان نقول بان العصور الوسطى لدى السريان الأرثوذكس
تنتهي في عهد بطريركية بطرس الثالث.
الجزء الثامن عشر
|