عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم

تعقيب على مشكلة المطارنة الستة ومشاكل الكنيسة السريانية الارثوذكسية

ستوكهولم / السويد


الجزء الخامس عشر

 (لقد تراكمت على صدر الكنيسة السريانية الارثوذكسية مجموعة هائلة من السلبيات الصغيرة المرئية وغير المرئية فأصبحت كالكابوس الذي يخنقها. ورغم ان كل واحدة من هذه السلبيات منفردة قد لا تشكل خطرا كبيراً عليها، إلا ان كل هذه الأمور الصغيرة مجتمعة، أصبحت كالجبل الهائل الجاثم على صدر الكنيسة، يعيق تنفسها الطبيعي، بل يهددها بالموت البطيء.

اننا في هذه المقالات نشخص هذه السلبيات المتراكمة التي تشابكت خيوطها الغريبة الدخيلة مع خيوط النسيج الكنسي، ورغم كونها قديمة ومعروفة للغالبية من المهتمين بالشأن الكنسي، إلا اننا نسلط عليها الضوء مجدداً وننتقدها بشدة بهدف التخلص منها ومن نتائجها. ورغم اننا لسنا ضد أي فرد من افراد احبائنا الاكليروس كأشخاص، إلا ان غالبية الاكليروس متهم بالمشاركة في صناعة هذه السلبيات وانتاجها وتسويقها وتحويلها الى عادات راسخة يمارسها الكاهن والمؤمن، وبذلك تحولت الى جزء لا يتجزأ من حياتنا الكنسية، نمارسها دون وعي ومعرفة، وأحياناً بمعرفة. كما ان هذه السلبيات جردت الكنيسة السريانية البعض من اصالتها والكثير من روحانيتها. لذلك نحث الاكليروس التأمل العميق بالأخطاء والسلبيات التي ننتقدها في هذه المقالات، للقضاء عليها حتى وان كان قد ورث منها من اسلافه،

لقد تعبت أعين الناس من رؤية هذه السلبيات، وسئمت أنوفهم من رائحتها المقرفة، وصمت آذانهم من نشازات أصواتها، فلم تعد تطاق.

اننا نحافظ على عنوان هذه المقالات بصيغته "تعقيب على مشكلة المطارنة الستة ومشاكل الكنيسة السريانية الارثوذكسية" لغاية تسوية وضع المطرانين الموقوفين و"المنسيين" ومعهم بقية الكهنة)

أولاً: المطران "مطران" وليس رئيس أساقفة:

من المعيب جداً ان كل مطران في الكنيسة السريانية يطلق على نفسه في اللغات الأوروبية لقب "رئيس أساقفة" archbishop وهو لقب كاذب يضحك فيه المطران على نفسه ويعتقد بانه ينجح في خداع الاخرين، لكن هيهات، لأن المطران "مطران" bishop وليس رئيس أساقفة archbishop، أما رئيس الأساقفة فهو البطريرك نفسه. لذلك يجب إيقاف هذه الالقاب الوهمية المعيبة وغير الصحيحة.

 ان "رئيس أساقفة" أية كنيسة هو رئيسها. فرئيس أساقفة الكنيسة السريانية الارثوذكسية هو رئيسها، أي البطريرك. لذلك ان تسميات "رئيس أساقفة" و "بابا" و "بطريرك" هي ألقاب وظائف كنسية متساوية، تدل على رئاسة الكنيسة وان حاملها هو رئيس كنيسته الاعلى. فرئيس أساقفة الكنيسة السويدية arkebiskop مثلاً هو رئيس الكنيسة السويدية الوطنية الأعلى ورئيس مطارنتها وجميع اكليروسه، ولا يحق لاحد غيره في كنيسته ان يستعمل هذا اللقب. فلقبه هذا هو تماماً كلقب "بطريرك" و "بابا".

فكيف يتجرأ مطارنتنا ان يطلق كل واحد منهم على نفسه لقبا كاذباً "رئيس أساقفة" ومن خلاله يجعل نفسه بمستوى "رئيس أساقفة الكنيسة السويدية" وهو فقط مطران مرؤوس، وليس رئيس هذه الكنيسة؟ أهو الجهل، أم مرض الغرور الذي يدفعهم ليسموا أنفسهم بهذا اللقب، أم حب العظمة القاتلة التي تؤدي الى السقوط؟ ان رئيس أساقفة الكنيسة السريانية الارثوذكسية هو البطريرك أفرام الثاني، وليس أي مطران. فكيف يقبل البطريرك من المطارنة ان يسرقوا ويستعملوا لقباً يجردوه فيه من محتوى وظيفته؟

 ان الكنائس الارثوذكسية (والكاثوليكية الشرقية) تستعمل لقب "بطريرك" لرئيسها، بينما تستعمل الكنائس الانجيلية والانكليكانية لقب "رئيس أساقفة" لرئيسها، لذلك ان لقب "بطريرك" ولقب "رئيس أساقفة" هو نفسه.

 أما لقب "مطران" ولقب "أسقف" فلا فرق بينهما. ففي القرون الأولى للمسيحة كان لقب الاسقف هو الدارج في الكنيسة، وحتى البطريرك والبابا كان يسمى اسقفاً، "اسقف انطاكيا"، "اسقف روما"، الخ. لكن مع مرور الزمن وانتشار المسيحية الواسع تطورت الكنيسة كمؤسسة، وتطورت هيراركية الكهنوت لتنظيم العمل، فظهرت عدة القاب تدل على رئاسة الكهنوت.

 وفي كل مرحلة من تاريخ الكنيسة كانت الألقاب تدل على حالة كانت دارجة حينها، وتغيرت الألقاب بتغير الأحوال. فمثلاً، كان بطريرك السريان الارثوذكس في بداية القرن الماضي وما قبله يُسمى "غبطة البطريرك" ثم أصبح "قداسة البطريرك"، كما ان اللقب "نيافة المطران" الدارج اليوم لم يكن موجودا حينها بل كان يقال "السيد المطران".

 ان لقب "أسقف" معرب من السريانية من كلمة ܐܦܣܩܘܦܐ "افسقوفو" والتي بدورها مأخوذة من اليونانية وتعني "الناظر" أي المسؤول. كما أن لقب "مطران" (متروبوليت) ايضاً يوناني ويعني مسؤول الكنيسة في "المدينة الرئيسية" أو المدينة الكبرى، وقد سَرْيَنَ السريان لفظة متروبوليت الى ܡܛܪܘܦܘܠܝܛܐ واستعملت الصيغة السريانية قديماً حتى باللغة العربية فكان يقال "مطروفوليط" ثم تحولت الى "مطران".

وكل واحدة من اللفظتين اليونانيتين "اسقف" و "مطران" تترجم الى السريانية بكلمة ܚܣܝܐ "حسيو"، وتترجم الى الإنكليزية بكلمة Bishop وتعني "مطران". كما ان كلمة "بطريرك" هي ايضاً يونانية وتعني "رئيس الآباء".

 أما في العصر الإنجيلي فان لقب المسؤول الكنسي "الاسقف/المطران" المذكور في الكتاب المقدس فهو باليونانية ἐπίσκοπος  وتلفظ الكلمة ("ابيسكوبوس" Episkopos) وتعني الناظر والمسؤول. أما في الكتاب المقدس بالسريانية فهي ܩܫܝܫܐ "قاشيشو/قشّيشا" qashisho/qashshisha وكانت الكلمة السريانية لغوياً تعني "الشيخ" أي "المتقدم في العمر" وكذلك "المتقدم في المرتبة بين الناس"، أي انه كان مسؤول الجماعة الكنسية. وقد وردت لفظة ܩܫܝܫܐ/ اسقف/ ἐπίσκοπος  في رسالة بولس الرسول الى تيطس كما في قوله: ܚܝܒ ܗܘ ܓܝܪ ܩܫܝܫܐ ܕܢܗܘܐ ܕܠܐ ܪܫܝܢ ܐܝܟ ܪܒܒܝܬܐ ܕܐܠܗܐ (يجب ان يكون الاسقف بلا لوم كوكيل الله،...) (تيطس الاصاح الأول، عدد 7).

وكذلك في الرسالة الى طيمثاوس بقوله: ܕܐܢ ܐܢܫ ܪܐܓ ܩܫܝܫܘܬܐ: ܥܒܕܐ ܫܦܝܪܐ ܪܐܓ. ܘܠܐ ܕܝܢ ܕܢܗܘܐ ܩܫܝܫܐ ܐܝܢܐ ܕܡܘܡܐ ܠܐ ܡܫܬܟܚ ܒܗ. (ان ابتغى أحد الأسقفية فيشتهي عملا صالحاً. فيجب ان يكون الاسقف بلا عيب)( الاصحاح الثالث، عدد 1-2).

ففي الترجمات الإنكليزية الشهيرة للكتاب المقدس King James  والترجمة الامريكية الرسمية American Standard Version تستعمل كلمة bishop لكلمة "اسقف" الواردة في الآيات المذكورة أعلاه.

 لذا، ان الكلمات المستعملة في الانجيل، باليونانية ἐπίσκοπος "ابيسكوبوس"، والسريانية ܩܫܝܫܐ "قاشيشو"، والانكليزية bishop ، تدل على ذات الشخص صاحب المسؤولية الروحية عن الجماعة الكنسية حينها.

 ولما كبرت الكنيسة وانتشرت اقتضت الحاجة الى ان تنظم شؤونها وطقوسها واكليروسها وكراسيها. فأصبح أحد الأساقفة رئيساً للكنيسة وبقية اساقفتها في حدود كرسيه، ثم أصبح يطلق عليه لقب "بطريرك" و "بابا" و "رئيس أساقفة".

 وقد علمنا ان أحد المطارنة يدّعي قائلاً: "أنا رئيس أساقفة Archbishop لوجود عدة خوارنة في ابرشيتي، والخوري هو أسقف"، فنقول لهذا الشاطر ان الخوارنة ليسوا من درجة الأساقفة أبداً، بل هم من درجة القساوسة. ان كلمة "خوري" يونانية ومشتقة من كلمة قرية (قروي) باليونانية، وهي مستمدة من الشطر الأول من الكلمة اليونانية المركبة "خورإفسقوفوس" التي تعني "اسقف القرية". وكان الخورافسقوفوس في العهود السالفة أسقفاً للقرية على عكس المتروبوليت الذي كان "اسقف المدينة".

 وكانت الكنيسة السريانية الارثوذكسية حينها كبيرة للغاية، والابرشيات واسعة والشعب السرياني كثير العدد. فكنتَ تجد أحياناً في أبرشية واحدة كبيرة عدة مطارنة. وكان أحدهم مطران الأبرشية وبقية المطارنة مساعدين له ويقيمون في مختلف مدن الابرشية، ومنهم من يقيموا في القرى فكانوا "خورافسقوفوس". فكان مطران الأبرشية في هذه الحالة يسمى "مطروفوليط". وبسبب نقص عدد السريان مع الزمن وتقلص الكنيسة وصغرها زالت درجة المطروفوليط الإدارية من الكنيسة السريانية الارثوذكسية منذ عهود قديمة، فلا يوجد اليوم مطران فيها يحكم على مطارنة آخرين ليصبح "مطروفوليط/متروبوليت". لكن هذه الدرجة لا زالت محفوظة بأحد اشكالها القديمة والصحيحة لغاية اليوم في الكنيسة الاشورية الشقيقة، حيث هناك بعض المطارنة بدرجة "مطروفوليط" يحكم كل واحد منهم على عدة ابرشيات ومطارنتها، والبطريرك يحكم الكنيسة بأجمعها.

 إذاً، ومع مرور الزمن، وبسبب التغيير الكبير الذي حصل في الخارطة السياسية والديموغرافية والكنسية، ونقص عدد السريان، وتغيير الابرشيات والوظائف الكنسية والألقاب، زالت وظيفة "المطروفوليط" ووظيفة "اسقف القرية" من الكنيسة السريانية الارثوذكسية. فليس فيها اليوم من هو مطران ويحكم على مطارنة آخرين، ولم يعد هناك من هو "خوري أسقف" بالمعنى الحرفي القديم أي "اسقف خاص للقرية"، وليس هناك من هو مطران مساعد لمطران في أي ابرشية. لقد تغير محتوى الوظائف وتغير معنى التسميات.

 وبموجب التغيير تحول الخورافسقوفوس من درجة "الاسقفية" الى درجة "القسوسية"، أي تغيرت وظيفة الخورافسقوفوس من مطران الى قس متزوج. فلم يعد الخورافسقوفوس يعتبر اسقفاً/مطراناً بل قساً رغم استمرارية التسمية فقط.  وكذلك تغيَّر محتوى بعض الألقاب الكنسية الأخرى مثل ألقاب "ساعور" و "ارخدياقون".

وفي بداية قرن العشرين، عصر الكبرياء والتعظيم وتقليد الكنائس الأخرى، دخلت بعض الأمور غير الاصيلة الى الكنيسة منها كلمة "قداسة" المستعملة في تعابير "قداسة البطريرك" و "المجمع المقدس" وغيرها مما لم يكن يستعملها السريان قديماً.

 وبسبب هذا التغيير الكبير الذي حصل في تسمية "الخوري اسقف" ووظيفتها وما تمثله، أراد البطريرك المرحوم يعقوب الثالث ان يوقف هذه الفوضى ويصحح ويحدد محتواها، فحاول إلغاء لقب ܟܘܪܐܦܣܩܘܦܐ "خورافسقوفوس" من الكنيسة لأن هذه الوظيفة كانت عمليا منتهية، ولأن هذا اللقب كان قد فقد محتواه ومعناه ولم يعد له لزوم، فاستبدله بلقب ܟܘܪܝܐ "خوري" المعروف اليوم. ثم صدر قرار مجمعي كنسي بان لا يلبس الخوري اللون البنفسجي، وأن لا يرتدي الصليب إلا في المناسبات والاعياد. (واليوم يكسر كل الخوارنة بالإجماع قرارات ذلك المجمع الكنسي).

وكان البطريرك يعقوب الثالث، رغم علمه الواسع جداً بالتاريخ الكنسي ومعرفته بحقيقة الألقاب الكهنوتية، كان معروفاً بحبه للبهرجة والتعظيم، وحرصه على استعمال الألقاب الكبيرة، مقلداً فيها البابا والكنيسة الكاثوليكية، فرسخت بعض الألقاب الدالة على التعظيم.

 وكان "الخوري"، حسب وظيفته، هو المتقدم بين قساوسة المدينة، لذلك كان يوجد في المدينة الواحدة "خوري" واحد فقط الى جانب القساوسة، وله بعض المهام منها انه كان يعمل وكأنه "نائب المطران" في القضايا الكنسية في مدينته، وربما لديه نسخة من "ختم المطرانية" ليختم المعاملات والوثائق ليوفر على المؤمنين مصروف وجهد التنقل والسفر الى المدينة التي يقيم فيها المطران ليختم الاوراق.

 لكن بمرور الزمن تغيرت الأحوال، وسادت الفوضى العارمة في الكنيسة وبين الاكليروس، واليوم لا يوجد أي فرق عملي بين القس والخوري إلا من حيث المظاهر، فنرى في مدينة واحدة عدة خوارنة.

 ففي السويد مثلاً ان غالبية الكهنة السريان الأرثوذكس هم خوارنة. وكان مطارنة السريان الأرثوذكس في السويد بسبب الخلاف والتنافس بينهما قد دخلا في سباق عنيف حول من يرسم خوارنة أكثر، فرسم كل مطران غالبية قساوسته خوارنة. أما القساوسة فأصبحوا قطعة نادرة لقلتهم، فترى في مدينة سودرتاليا مثلا أربعة خوارنة دون وجود أي قس. (رغم القرار المجمعي القاضي بوجود خوري واحد فقط في كل ابرشية).

لذلك ان "الخوري" اليوم هو "قس"، وقس فقط، وليس اسقفاً ابداً، ويخطأ من يعتقد ذلك جهلاً، لأن الاسقف هو مطران، والخوري هو قس.

 فالمطران إذاً ليس "رئيس أساقفة"، لأنه لا وجود لأي أساقفة في ابرشيته غيره، فهو الاسقف الوحيد فيها، وان الكلمة الأوروبية archbishop "رئيس الأساقفة" تدل على رئيس الكنيسة، ولا يجوز ابداً ان تطلق على المطران، بل على البطريرك فقط. فرئيس أساقفة الكنيسة السريانية الارثوذكسية هو البطريرك أفرام الثاني فقط وليس أي مطران آخر. فاذا كان مطارنتنا يطلقون على أنفسهم لقب "رئيس أساقفة" جهلاً، فيجب ان يصححوا أنفسهم ليتقيدوا بالتعابير والالقاب الصحيحة، لكن ان استعملوها عن قصد فيجب على البطريرك والشعب تقريعهم ومنعهم.

لذلك حان الوقت ليقوم البطريرك بتصحيح الألقاب الكاذبة في الكنيسة.

  ثانياً: هل البطريرك هو رئيس السريان؟

يعتقد بعض السريان ان البطريرك هو رئيس السريان، ولذلك يجب عليه أن يتحدث باسمهم ويمثلهم وأن يحل مشاكل كل فرد سرياني أينما كان ومساعدته. ان هذه النظرة الى وظيفة البطريرك كانت هي الدارجة والسائدة سابقاً. وكان معمولاً بموجبها في عهود الدول الدينية والخلافة الإسلامية حيث كانت تعتبر رؤساء الأديان والطوائف مسؤولين عن جماعاتهم. ولا زالت النظرة مستمرة بشكل غير مباشر في الدول الإسلامية لغاية اليوم.

لكن اليوم فالوضع مختلف تماماً، لان القرون الوسطى انتهت، وعصر الدول الدينية زال، وليس هناك خلافة إسلامية إلا لدى داعش وأمثالها، وان الشعوب تحكمها اليوم مؤسساتها المختلفة وخاصة في العالم الغربي. لذلك ان رئاسة الكنيسة (البطريرك والمطران) على الشعب في الغرب انتهت كلياً، وأصبحت ظاهرة غير مستحبة من التاريخ.

وإذا أراد السريان في الغرب ان يبقوا كما كانوا سابقاً "جماعة دينية" حسب نظام الملل العثماني الاسلامي، فمن الطبيعي ان يكون البطريرك والمطارنة رؤساء الشعب كما كانوا في القرون الوسطى (لكن هذا لا يصح الآن في أوروبا). وإن أراد السريان ان يركزوا على فكرة كونهم "شعباً مدنياً" فعليهم التحرر من مفاهيم القرون الوسطى المتخلفة ومفاهيم السلطنة العثمانية البالية والعمل في مؤسسات مدنية.

لكن للفكرتين انصارهما بين السريان، أي هناك أنصار فكرة "المجتمع الديني" الذين يعيشون في أفكار الماضي ويفضّلون رئاسة البطريرك والمطران عليهم كما كان الوضع قديماً. وهناك أنصار "المجتمع السرياني المدني" في أوروبا، يقبلون فقط رئاسة المؤسسات السريانية المدنية عليهم، ولا يقبلون رئاسة البطريرك والمطران إلا على الكنيسة فقط، لكنهم يقدّرون خدمتهم ودورهم في القضايا الروحية.

أما أنصار المجتمع الديني الذين يفضلون رئاسة البطريرك والمطران عليهم في "كل الأمور" أكانوا في الشرق أم في الغرب، فان أغلبهم لا زال يستعمل أفكار القرون الوسطى وعاداتها ويقبل بعقليتها الذمية الموروثة من العصور الإسلامية العربية والعثمانية. أما الذين يعيشون منهم في أوروبا كمهاجرين، فأغلبهم إما من المهاجرين الجدد الذين لا زالت حقائبهم مليئة بالأفكار المتداولة في المجتمعات الاسلامية العربية والتركية، أو من المهاجرين القدماء الذين للأسف يعيشون كغرباء على هامش المجتمع الأوروبي.

لكن أولادهم الذين نشأوا في الغرب لا يوافقون آبائهم بفكرهم، لأن نظرتهم مختلفة عنهم تماماً. لذلك يحصل التصادم الثقافي، أي ما يسمى  clash of cultures بين أنصار "المجتمع الديني القديم" الذي يرغب ان تقوده الكنيسة، وبين انصار "المجتمع المدني الحديث" الذي يرغب ان تديره المؤسسات السريانية المدنية.

ان سنة الحياة والتطور تقتضي بانه عاجلاً ام آجلاً سيختفي الجيل القديم، ولن يقبل الجيل الجديد أفكار العصور الوسطى. ورغم ان المستقبل هو للأجيال الجديدة، فان موضوع الأجيال الناشئة في غاية الأهمية يجب على الجميع الوقوف عنده كثيراً لكونه يمس مستقبل السريان ومستقبل الكنيسة. لأنه ماذا سيكون وضع السريان ووضع الكنيسة بعد خمسين سنة مثلاً؟ فالشيء الذي نزرعه الآن سيحصده ابناؤنا غداً. لذلك علينا ان نكون حذرين ونزرع لهم زرعاً صالحاً، ونسلمهم مؤسسات سريانية جيدة، ليستفيد منها الأبناء في مسيرة حياتهم المستقبلية، وتكون لهم قوتاً وضمانة في سريانيتهم بعد عدة عقود من الزمن.

(هناك قول مأثور في كافة قطعات المجتمع السويدي، يقول: "علينا أن نورث للأجيال القادمة مؤسسات متطورة فيها قوة الاستمرار لسنوات طويلة، لئلا تلعننا الأجيال القادمة ان سلمناها لها فاسدة يدب فيها الخراب").

 فإذا كان المطران السرياني في أوروبا يعتبر نفسه زعيماً ورئيسا للسريان على طريقة القرون الوسطى، فهذا الرجل إما جاهل وإما مصاب بمرض حب العظمة وإما الاثنين معاً. لأن المطران السرياني في أوروبا موظف في الكنيسة حسب قوانين البلاد.

ففي السويد مثلاً، ان أبسط شخص في أي مجلس كنسي (ملي) هو قانونياً رب العمل في الكنيسة، وسلطته على "كنيسته التي يمثلها" أكبر من سلطة البطريرك والمطران (عدا الأمور الروحية). لأن المجلس الكنسي (الملي) قانونياً، هو الذي يملك الكنيسة وحق ادارتها، ولا يوجد اي سلطة قانونية للبطريرك أو لمطران الأبرشية على الكنيسة. فمثلاً ان أراد أي مجلس ملي ان يبيع كنيسته بالاتفاق مع شعب كنيسته فلا يستطيع البطريرك أو مطران الابرشية ان يمنعه أو يوقف بيعها. لذلك إذا كانت سلطة البطريرك والمطران على الكنائس السريانية في السويد قانونياً غير موجودة إلا في الأمور الروحية، فكيف يطلب المطران زعامة على السريان وهو ليس له سلطة قانونية على كنائس ابرشيته؟

لذا إذا كان البطريرك أو المطران يعتبر نفسه رئيساً للسريان في الشرق كما كان الوضع في العصور الوسطى، وتدعمه الحكومات هناك في مسعاه، فان هذا لا يصح أبداً في الغرب، لأن الرئاسة في الغرب هي للمؤسسات المدنية، وحكومات الغرب تدعمها في عملها، وتنظر الى كل الكنائس ورجال الدين من هذا المنظار.  

فهل يحق مثلا لرئيس أساقفة الكنيسة السويدية أو أحد مطارنتها ان يدعي بانه "رئيس السويديين"؟ الجواب طبعاً لا. وليس هذا فحسب، بل هناك مجلس من المدنيين هو الذي يحكم الإطار العام في الكنيسة السويدية، ورئيس الأساقفة والمطران السويدي يتقيد بذلك.

وبطريقة مشابهة يحق لمؤسساتنا السريانية المدنية، ان تمارس دوراً مشابهاً للإشتراك مع المجالس الكنسية (الملية) واتحاداتها، في الإقرار حول الإطار العام لكنيستنا، طالما ان معظم الكنائس والمؤسسات الكنسية ساهم العاملون في المؤسسات السريانية المدنية ببنائها وانشائها بشكل فعال، مادياً ومعنوياً وإدارياً.

وليس هذا فحسب، بل اننا نرى مثلا ان رئيس النادي السرياني في المنطقة الفلانية هو نفسه رئيس المجلس الكنسي (الملي) في مدينته، وانه هو وأعضاء إدارة النادي هم الذين قاموا ببناء الكنيسة وتمويلها وادارتها. وان الأندية السريانية والكنائس ملتصقة ببناء واحد. كما نرى ان البعض ممن كانوا مسؤولين في الأندية قد أصبحوا كهنة، لكنهم لازالوا يعملون في الأندية، ومنهم بشكل فعال. لذلك ان موضوع المؤسسات السريانية المدنية وعلاقتها بإدارة الكنائس موضوع متداخل، لأن نفس الأشخاص هم اعضاء المؤسسة المدنية واعضاء الكنيسة، وأحياناً هم الذين يديرون النادي السرياني والكنيسة معاً.

وبسبب الدور التمثيلي الهام للمؤسسات السريانية المدنية في المجتمع الغربي، فان بعض جمعيات شباب الكنائس هي أعضاء في الاتحادات السريانية، ولا غرابة في ذلك.

 ولما كانت لإدارات وأعضاء المؤسسات السريانية المدنية في أوروبا هذه المساهمات الكبيرة في بناء الكنائس وتمويلها، فلها الحق ان يكون لها بعض الدور الاشرافي في الكنيسة وخاصة في تحديد إطارها العام في الغرب.

ومهما يكن، فان السريان يحبون بطاركتهم ومطارنتهم ويحترمونهم بغض النظر إن كانوا رؤساء أو مرؤوسين، لأن البطريرك هو الأب الروحي لجميع اتباع الكنيسة في الشرق والغرب، وله مكانة خاصة في قلوب الجميع.

ان الكنيسة في أوروبا يجب ان تمارس دورها بين السريان بمنتهى الشفافية والمحبة والاخلاص في المجال الديني والاخلاقي وحتى الثقافي واللغوي، لكن دون حشر انفها في الامور المادية والمواضيع غير الكنسية، ودون طلب الزعامة والسيادة على الشعب لأن ذلك لا علاقة له بالكنيسة والمسيحية، وبمجرد سعيها للحصول على سلطة مدنية، فانها تخرج من تعاليم الانجيل، وتصطدم بالمؤسسات المدنية، وتدفع بعض السريان الطيبين الى الوراء، وتضعهم في دهاليز القرون الوسطى ليعيشوا بحسب مفاهيمها البالية.

وعلى المؤسسات السريانية المدنية ان تمارس دورها أيضا بمنتهى الشفافية والمحبة والإخلاص للسريان وقضاياهم، وخاصة في المجالات الاجتماعية والثقافية واللغوية والقومية، وحقوق الانسان، والدفاع عن السريان وتمثيلهم في المحافل المختلفة والبحث عن مستقبل لهم.

ويمكن للكنيسة والمؤسسات المدنية التعاون للعمل معاً حول الأمور السريانية المشتركة كالقضايا الثقافية واللغوية.

 ان دمج الدين بالسياسة هو من خواص الإسلام، ومن يحاول في الإسلام فصل الدين عن الدولة، يعتبَروه "كافراً" لأنه خرج عن تعاليم الإسلام. أما في المسيحية فالعكس هو الصحيح، اي من أراد دمج الدين بالسياسة فيعتبروه "هرطوقياً" لأنه خرج عن تعاليم المسيحية.

 الجزء السادس عشر

من يرغب قراءة الأجزاء السابقة من هذا المقال عليه فتح هذا الرابط

http://nesrosuryoyo.com/forums/viewforum.php?f=300

او على هذا الرابط

Syriac_Orthodox_Church/5.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها