عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
  

الممالك الآرامية في سوريا

في نهاية النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، ظهرت جماعات الأخلامو والآراميين ، متجهةً نحو الشمال إلى سورية وبلاد ما بين النهرين. ثم أخذت تدريجياً تستقر وتمارس الزراعة وغيرها. وتحدث الآشوريون عن انتصاراتهم على الآراميين، كما شعر الحثيون بخطر الآراميين عليهم، فأرسل ملك الحثيين «حتوشيل الثالث» إلى الملك البابلي، «كادش مان الثالث» في نحو عام 1275ق.م رسالة بشرح له فيها خطر استقرار هؤلاء الآراميين على سلامة الطرق التجارية في حوض الفرات. كل ذلك جعل الملك الآشوري «تبكولتي نينورتا» (1255ق.م-1218ق.م)، يقود حملة حربية ضد الآراميين في منطقة جبل البشري، كما شعر الملك الآشوري «آشور بل كالا»، بقوة الآراميين المتزايدة، مما جعله يتحالف مع ملك بابل «مردوخ شابيك زرماتي» لصد الآراميين. ولكن هذا الملك البابلي نفسه، قد أُبعد عن العرش وحل محله الآرامي «حدد ابان دين» (1083-1062ق.م)؛ فوجد الملك الآشوري من مصلحته الاعتراف به والتقرب منه، فتزوج ابنته لأسباب سياسية. وخاض الملك الآشوري «تغلات فلاسر الأول» (1116ق.م-1090ق.م) حرباً ضد الآراميين، الذين كانوا قد وصلوا إلى منطقة كركميش (جرابلس)، وخلد حملاته الحربية ضدهم. وكان الآراميون في بلاد بابل يدعمون البابليين، الذين كانت لهم معهم صلات قومية وثيقة، حتى أنه ورد في إحدى وثائق تل العمارنة في عهد الملك أخناتون (1370ق.م-1349ق.م) والملك البابلي «كاردونياش»، نبأ استيلائهم على المدن برضى حكامها المحليين، مما يفسر صلة الآراميين بالسكان المحليين. يعتبر القرن الحادي عشر قبل الميلاد بمثابة ذروة انتشار الآراميين في مناطق شمال بلاد ما بين النهرين. وكان انتشارهم في المقاطعات العديدة، مطابقاً لتقسيماتهم وتنظيماتهم القبلية، وقد تحولت هذه المقاطعات إلى ممالك آرامية ومختلفة من حيث الأهمية والنفوذ. وقد شكلت طوق حصار حول الآشوريين، الذي أصبحوا محرومين من منفذ لهم، كما دفعت الكنعانيين من المناطق الداخلية إلى جهات الساحل؛ فاتخذ الكنعانيون بدورهم من أنفسهم عائقاً دو توسع الآراميين إلى مناطق الساحل. أقام الآراميون إلى جانب السكان المحليين العموريين في حوض العاصي، الذي أسموه «أورونت»، ولم يلاقوا أية صعوبات في مناطق سورية الجنوبية، التي كان يسكنها العموريون والكنعانيون. وكان الآراميون يتحالفون مع العمونيين الذين كانت عمان عاصمتهم. وكانت تدمر كمركز لتجمع الآراميين.وفي مناطق غرب الفرات. اصطدم الآراميون ببقايا الحثيين ولاسيما في كركميش جرابلس وتمكن الآراميون من انتزاع بعض المدن (مثل بيترو جنوب جرابلس، وموتكينو على ضفة الفرات اليسرى)، والانتشار في مناطق واسعة خصبة، تحدها أرمينيا شمالاً وجبال طوروس والأمانوس وحوض العاصي وفلسطين غرباً، والصحراء العربية جنوباً وبلاد بابل وآشور شرقاً.

 وأسسوا ممالكهم التي من أشهرها:

 ـ مملكة فدان آرام: عاصمتها حران التي يفيد اسمها معنى طريق. وكانت من أعظم مراكز الحضارة الآرامية.

ـ مملكة صوبا في سهل البقاع.

ـ مملكة آرام نهرين (أي نهري الفرات والخابور).

ـ مملكة بيت باحياني في حوض الخابور: عاصمتها «غوزانا تل حلف» قرب رأس العين. وكان من أشهر ملوكها كابارا.

ـ مملكة بيت عديني: عاصمتها تل برسيب، واتسعت هذه المملكة حتى نهر البليخ، وكان من أشهر ملوكها آخوني.

ـ مملكة بيت آجوشي: عاصمتها «أروباد تل رفعت»، كانت تشمل أراضي منطقة حلب.

ـ مملكة شمأل عند سفوح جبال الأمانوس وفي حوض قره صو.

ـ مملكة حماة: كان من أشهر ملوكها أرخوليني، وزاكر.

ـ مملكة بيت رحوب: عند مجرى نهر الليطاني الأوسط.

ـ مملكة آرام ماعاكا: في الجولان: وتضم منطقة دان/ تل القاضي

ـ مملكة جشور بين دمشق ونهر اليرموك.

ـ مملكة دمشق الآرامية، التي كانت أمل الممالك الآرامية وعقلها المفكر وقلب مقاومتها وصمودها.

 اتبع الآشوريون سياسة قتال الآراميين وإخضاعهم والقضاء عليهم، مما جعل الملك الآشوري، آشور دان الثاني (932-912ق.م) يقاتل الآراميين المقيمين في المنطقة الشمالية الغربية. كما قاد ابنه «حدد ميراري الثاني» (911-890ق.م) حملاته الحربية ضدهم. فهاجم مملكة «غوزانا» قرب رأس العين ومملكة قطنة/المشرفة. كما قاتل الملك الآشوري آشور بانيبال الثاني (883-859ق.م) الآراميين. ومع ذلك فقد استطاعت مملكة بيت عدين الآرامية أن تحافظ على كيانها. وبعدما كانت مملكة صوبا أقوى الممالك، دب الضعف فيها، مما جعل القائد الآرامي «رزون بن اليدع»، ينفصل عن ملك صوبا «حدد عزر بن رحوب»، ويجمع حوله رجاله ويؤسس مملكة آرامية جديدة في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد. كان في انتظارها أمور جسام وأحداث كبرى. فقد قادت الممالك الآرامية في مواجهة الجيوش الآشورية في معركة «قرقر» على نهر العاصي في منتصف القرن التاسع قبل الميلاد ومعارك عام 849ق.م و848ق.م و845ق.م و838ق.م. ففي عام 838ق.م، توجه «شلمنصر الثالث» من جديد بجيشه لقتال ملك دمشق «حزائيل»، الذي كان يتمتع بمواهب عسكرية وعزيمة قوية، جعلته من أعظم المحاربين الآراميين. فقد صمد وأجبر الملك الآشوري أن يعود من حيث أتى. بلغ من شدة سيطرة «حزائيل» على الممالك المجاورة، درجة، جعلته يجد من تسلحهم. ووصفت شدة ضغطه عليهم بأنه جعلهم «كالتراب المتصاعد على الأرجل». ووصفه بعض المؤرخين بأنه «أعظم محارب في التاريخ الآرامي». في عهد آخر ملوك دمشق الآراميين «رصين» (732ق.م) سقطت دمشق في أيدي الآشوريين؛ فدخلها الملك الآشوري «تغلات فلاسر الثالث»؛ فقتل ملكها «رصين» ونفى كثيراً من سكانها، وقضى على استقلالها وازدهارها وجعلها إحدى المقاطعات الآشورية. بسقوط دمشق عام 732ق.م، زالت دعامة كبرى من دعائم مقاومة الآراميين وانتهى عز سيادتهم فيما استمر نشاطهم الاقتصادي ونفوذهم الثقافي، وغدت لغتهم لغة الأدب والتخاطب، بل واللغة الرسمية في الولايات الفارسية في عهد «دارا الكبير» (521ق.م-486ق.م). وكان الآشوريون يعتمدون الكتّاب الآراميين في كتابة وثائقهم. وقد عثر على منحوتة آشورية من عهد تغلات فلاسر الثالث، تمثل كاتباً آرامياً يسجل الغنائم بقلمه على ملفات البردي، في حين أن زميله الكاتب الآشوري كان يكتب على رُقيم طيني النص بالكتابة المسمارية.

تل حلف

يقع تل حلف (جوزانا القديمة) الأثري على الضفة الغربية لنهر الخابور، بالقرب من الحدود السورية-التركية، وعلى بعد 3 كيلومتر جنوب غربي منطقة رأس العين السورية.

تم اكتشاف الموقع من قبل العالم الألماني ماكس فون أوبنهايم M.Von.Oppenheim من خلال أسبار أجراها عام 1899، بعد إبلاغ بعض المواطنين له بوجود تماثيل في منطقة تل حلف، وحفريات أخرى قام بها بين الأعوام 1911 و1913 و1927 و1929. وقد دلت التنقيبات الأثرية أن الاستيطان ابتدأ في الموقع منذ الألف السادس قبل الميلاد، ثم أصبح مستوطنة مزدهرة في الألف الخامس قبل الميلاد، قبل أن يغدو في مطلع الألف الأول قبل الميلاد، عاصمة لمملكة بيت بحياني الآرامية والتي تعد الأقوى بين ممالك الشمال الآرامية، وكان اسم المدينة عندها (جوزانا).  وأظهرت الحفريات مدينة تعود إلى العصر الحديدي، لها مخطط مستطيل مساحته (600×300 متر) محاطة بنظام دفاعي من الأسوار المتضمنة أبراجاً ذات مسافات منتظمة. تحيط المدينة الخارجية بالمدينة الداخلية ذات المساحة (150×200 متر)، والموجودة في الجهة الشمالية المركزية، والتي تقوم فيها الأبنية الهامة كالقصر والقلعة.  وقد أمكن حصر فترتين رئيسيتين من استيطان الموقع، الأولى هي فترة تمتد من أواخر الألف السادس قبل الميلاد، وحتى منتصف الألف الخامس قبل الميلاد، وقد وجدت فيها مساكن مستديرة وآنية فخارية جميلة دقيقة ومتعددة الألوان، بينها مجموعة كبيرة مزخرفة بطلاء جميل لامع أقرب إلى التزجيج، مصقولة أو مزينة بأشكال هندسية ونباتية وحيوانية وإنسانية، وهناك أيضاً مجموعة مميزة من الأواني الحجرية والنحاسية والصوانية، وتماثيل مصنوعة باليد. ولتميز المجموعة الفخارية فقد أطلق اسم الموقع على الفخار المشابه أينما وجد، وأصبح يعرف باسم فخار تل حلف، والذي وجد مثيله في مواقع عديدة منتشرة في شمال سورية والعراق وبحيرة وان حتى في قلب القفقاس. ومن أشهر هذه المواقع السوية الرابعة في رأس شمرة، وتل عربجية وتل ياريم تبة في العراق. وقد عثر على هذه الطبقة على عمق 22 متر شمالي سفح التل.  ويبدو أن الموقع قد تم هجره حتى الفترة الثانية من بداية الألف الأولى قبل الميلاد، عندما أصبح تل حلف أحد الممالك الآرامية في شمالي سورية، وعرف في السجلات الآشورية باسم جوزانا، والتي هي مركز منطقة بيت بحياني الآرامية، وفي القرن الثامن قبل الميلاد أصبحت جوزانا مقاطعة آشورية.

ومن أهم المكتشفات العائدة لهذا العصر بالإضافة إلى المساكن والبيوت، القصر الذي كشف فيه عن نقوش ومنحوتات تعود إلى الملك الآرامي كابارا بن قاديانو، وقد شيد هذا القصر وفق المخطط المعروف بـ"بيت هيلاني" أي البيت العالي، وتألف من قاعة مستطيلة أولى تليها قاعة مستطيلة ثانية هي قاعة العرش، أمامها باحة مكشوفة مسوّرة، لها مدخل ضخم يليه درج كبير من الحجر المنحوت، وتم تزيين المدخل بمنحوتات حجرية ضخمة، ونقوش بارزة، وتتضمن هذه المنحوتات والنقوش جنوداً واقفين بأسلحتهم أو في وضع مبارزة أو صيد حيوانات مختلفة، بالإضافة إلى مخلوقات متمازجة تتضمن شكل الإنسان العقرب، الإنسان السمكة، الرجال الثيران، الأسود المجنحة، وشكل آدمي برأس أسد وغيرها، وتضم النقوش مشاهد الحرب والصيد والطيور، وصراع الوحوش وبعض الكائنات الخرافية، كما تضم مشاهد دينية ومشاهد قرابين، وقد وجد أيضاً مدفن ملكي يحتوي العديد من الأواني والتحف.  لقد نُقلت معظم هذه المنحوتات إلى متحف البرغامون في برلين، وعرضت في جناح خاص "متحف حلف" ورغم تدمير المتحف في الحرب العالمية الثانية، فقد بوشر في السنوات الأخيرة بإعادة ترميم ما تبقى من هذا الجناح، أما المنحوتات الأخرى فهي موجودة في متحف حلب.  تظهر هذه المكتشفات تميز صناعة المنحوتات في تل حلف وشمال سورية، عن فنون باقي المنطقة، وتمتعها بخصوصية لافتة، مما دفع إلى الاعتقاد باختلاف الموروث الحضاري لهؤلاء الفنانين، في فترة ازدهار مملكة بيت بحياني وعاصمتها جوزانا، التي كانت أكبر وأقوى الممالك الآرامية في الجزيرة السورية.

يتبع...

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها