دمشق في العصر الآرامي
الذي قال: دمشق أقدم مدينة في التاريخ، أراد، ضمناً، دمشق
مدينة قديمة في مشرقنا، مثل حلب و يبرود، وجبلا
(بيبلوس) و أريحا. وعلى هذا النحو نفهم عنوان هذه الندوة،
وحقيقته. وللحقيقة نستنطق التاريخ، وقد فعلت هذا، في محاضرة
ألقيتها قبل عام، بدعوة من جمعية أصدقاء دمشق بالمركز الثقافي
العربي بدمشق، وكان عنوانها: «المصادر القديمة في تاريخ دمشق»،
وعن لسان الوثائق نقلت أن أقدم ذكر لدمشق يعود إلى القرن
الخامس عشر ق.م. وأن اللقى الأثرية عامة والآثار الفنية خاصة،
الأوغل قِدَماً، لم نعثر عليها في دمشق حتى نبرهن على عكس ذلك.
لست في صدد عرض تاريخ دمشق المدينة، لذلك أكتفي بهذه الإشارة
وأعود إلى عنوان محاضرتي:
دمشق في العصر الآرامي. بدأت حركة
القبائل الآرامية في بلاد الشام، عند منتصف الألف الثاني ق.م.
وجاءت أول إشارة إلى وجودهم في بلاد الشام الجنوبية من ثبت
أسماء الأمكنة الذي يعود إلى عهد الفرعون أمانوفس الثالث
«1403-1205ق.م» ذُكِر أنه كانت لهذا الفرعون مدينة في بلاد
آرام، ونحن لا نستبعد أن يكون المقصود من بلاد آرام مملكة دمشق
الآرامية لأن نفوذ الفرعون مرنبتح لم يتعدَّ منطقة دمشق
شمالاً، ولأن ملوك دمشق الآراميين كانوا قد لقبوا أنفسهم بلقب
ملك آرام. وفي نظرنا أنَّ هذه الإشارات إلى الآراميين، والتي
تشابه تلك الإشارات إليهم في الكتابات الأكادية والبابلية
والحثية من الألف الثاني ق.م. ما هي إلاّ شواهد على استقرار
الآراميين في بلاد الشام الجنوبية، وانتشارهم في ربوعها، في
النصف الثاني من الألف الثاني ق.م.
استقرت القبائل الآرامية في سهل الحولة و الجولان وعلى ضفاف
اليرموك وبينه وبين نهر الزرقاء، وفي حوران وجبها، وفي البقاع
وسلسلة جبال لبنان الشرقية، ومناطق القلمون ودمشق وغوطتها،
وأسست ممالك وإمارات ومشيخات أبرزها:
ـ بيت رحوب: التي امتدت ربوعها بين نهري الزرقاء في الجنوب
واليرموك في الشمال.
ـ قبيلة طوبة: وانتشرت منازلها إلى الشرق من بيت رحوب، وعلى
الأرجح في المناطق المجاورة لمدينة الزرقاء الأردنية.
ـ قبيلة جيشور: في الحولة وعلى جانبي نهر الأردن والجولان.
ـ قبيلة معكة: على سفوح جبل الشيخ الجنوبية والغربية وفي
البقاع الجنوبي.
ـ قبيلة صوبة: كانت أقوى قبائل الجنوب، وانتشرت في البقاع
وسلسلة جبال لبنان الشرقية وغوطة دمشق وحوران. وكانت لها
السيادة على قبائل الجنوب، وقد جاء في سفر صموئيل الأول 14: 47
أنّ ملوك صوبة قد دخلوا في نزاع مع صموئيل، وتدل عبارة «ملوك
صوبة» أنَّ هذه البلاد كانت منقسمة إلى ممالك عديدة، كانت
أقواها مملكة صوبة التي دخلت في صراع مع داوود، وكان ملكها هدد
عزر بن رحوب (صموئيل الثاني 8: 3). يبدو أنَّ هدد عزر هو من
بيت رحوب وأن رحوب ليس بالضرورة هو والد هدد عزر، بل هو شيخ
قبيلة بيت رحوب، التي ينتسب أفرادها إلى هذا البيت، فهدد عزر
ظهر في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، أمّا رحوب فقد عاش قبل
ذلك بعشرات السنين. والواقع أنَّ كتاب العهد القديم قد اعتبر
بيت رحوب وصوبة قبيلة واحدة هَبّتا معاً لنصرة بني عمّون على
داوود، وناصرهم آراميو طوبة ومعكة. ونحن لا نشك أنَّ هدد عزر
الذي كان الملك الأقوى في الجنوب في القرن الحادي عشر قبل
الميلاد، كان قد عمل على لمّ الآراميين وجمع شملهم حسب ما
نستنتجه من إشارة وردت في حوليات الملك الآشوري شلمانوا شيرد
(سلمانصر الثالث 858-824ق.م)، ففي معرض وصفه للأحداث التي وقعت
في عهود أسلافه ذكر أن مدينة بيترو، على الضفة اليمنى لنهر
الفرات، قرب مصب نهر الساجور، كانت قد سقطت في أيدي ملك آرام
إبّان عهد الملك الآشوري آشور ربي الثاني 1012-972ق.م. وبما
أنّ هدد عزر قد عاش في هذه الحقبة، وهو الوحيد الذي لقّب نفسه
ملك آرام لا نستبعد أن يكون هو المشار إليه في حوليات سلمانصر.
وإذا صحّ ذلك لابدّ أنه وصل إلى هناك لتوحيد الآراميين
وتخليصهم من السيطرة الآشورية. ومما يعزز وجهة نظرنا هذه أنَّ
برهدد الأول هذا قد أوعز بإقامة نصب للرب مقلرت عثر عليه في
قرية البريج بجوار حلب. ولهذا النصب أهمية خاصة، فقد ورد بالنص
المنقوش في النصب تحت صورة الرب جملة هدد عزر ملك آرام ويتضح
من هذه الجملة أنَّ نفوذ برهدد قد وصل إلى هناك. والواقع أنَّ
ملقرت هو رب المدن الساحلية صيدا وصور وهو على الأرجح اسم للرب
هدد كاسم بعل. وقد يكون غرض برهدد من هذا تمتين أواصر الصداقة
مع صيدا وصور. وفي عهد هذا الملك كانت دمشق تابعة له ولم تكن
عاصمة ملكه. ويجب ألاّ نندهش من ذلك، فالآراميون لم يتخذوا من
المدن الكنعانية الرئيسية عواصم لهم، بل جعلوا من مدن أخرى ذات
مواقع استراتيجية هامة عواصم لهم مثل جوزن قرب رأس العين، وتل
برسيب على ضفة الفرات اليسرى.. إلخ، وحينما تمرد قائد هدد عزر:
رزون بن إيل يدع على سيده واغتصب السلطة منه اتَّخذ من دمشق
عاصمة له، وأصبحت دمشق حاضرة آراميي الجنوب. وفي عهده، أي في
الربع الأخير من القرن العاشر ق.م، استتب الأمن وقويت المملكة
وأصبحت سيدة بلاد الشام الجنوبية بلا منافس، وسارت في ركابها
الممالك الأخرى.
والواقع أننا لا نعرف شيئاً عن رزون بن إيل يدع إلا تلك
العبارة الغامضة التي وردت في (سفر الملوك الأول 11:23-25) حيث
قيل أن رزون قد أقامه الله خصماً لسليمان بعد أن فعل الشر في
عيون الرب.
ونرجح أن إيل يدع كان من أفراد الأسرة الحاكمة في دمشق، وكان
تابعاً لهدد عزر ملك صوبة، ثم حل محله وقاد الآراميين بدلاً
عنه، ونعتبره مؤسس ملكة دمشق الآرامية القوية، وريثة مملكة
صوبة، وقد حكم في النصف الثاني من القرن العاشر قبل الميلاد.
جاء بعد رزون الملك طبرمان، الذي لا نعرف عنه شيئاً، وقد خلفه
على عرش دمشق ولده هدد عزر الثاني، الذي عاصر سلمانصر الثالث
ملك آشور. سار سلمانصر الثالث على نهج أسلافه في محاربة
الآراميين. فقضى على مملكة بيت عديني، التي امتدت أراضيها على
ضفاف الفرات من مصب نهر الساجور وحتى دير الزور، وكانت عاصمتها
تل برسيب، وهي تل أحمر الآن، على الضفة اليسرى لنهر الفرات،
وقد حولها سلمانصر إلى حصن له أسماه «كارشلمانو اشيرد أي حصن
سلمانصر»، انطلق منه إلى محاربة الممالك الآرامية في بلاد
الشام. ففي عام 853ق.م، زحف بجيشه على بلاد الشام، بعد أن
اجتاز الفرات غرباً، وكان له بالمرصاد هدد عزر الثاني، الذي
جمع حوله ممالك بلاد الشام الجنوبية، وبَدْوها بقيادة جندب
العربي، وممالك الساحل الشامي من صور في الجنوب وحتى سيانو
شرقي مدينة جبلة في الشمال ومملكة حماه وأمير قوية في كيليكية
وأمير مصر في منطقة الروج. زحف الجمع كله لملاقاة الجيش
الآشوري. والتقى المتحاربان في قرقور جنوبي جسر الشغور، وحدثت
المعركة التي وصلتنا أخبارها من الطرف الآشوري فقط. وحسب
الرواية الآشورية كان جيش سلمانصر هو المنتصر، والتحالف
الآرامي هو المنهزم ولو أخذنا بعين الاعتبار كثرة الوثائق
الآشورية التي تحدثت عن المعركة، لأدركنا أهميتها بالنسبة إلى
الآشوريين، وصدقنا أنَّ هذا التحالف الكبير هو الذي اندحر.
والواقع أنَّ الأحداث التي وقعت بعد انتهاء المعركة تدعونا أن
نرجح بأن القتال بين الطرفين قد توقف من غير أن يكون هناك طرف
غالب وآخر مغلوب. فسلمانصر عاد إلى آشور بعد توقف القتال، ولم
يطارد الآراميين المهزومين، حسب عادته، ولم يأسر ملكاًَ أو
قائداً منهم، ولم يذكر شيئاً عن الغنائم. فلو كان منتصراً
للاحقهم، وشتت شملهم، واستولى على ممالكهم واستراح من
محاربتهم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنّ سلمانصر عاد
لمحاربة الآراميين وذلك في عام 849 ق.م، حينما قصد حماه، وقبل
أن يصلها، تصدى له التحالف السابق، بقيادة هدد عزر الثاني ملك
دمشق، وأرخوليني ملك حماه، وفي هذه المرة ادعى الآشوريون
النصر. وبعد فترة عاود سلمانصر الهجوم مرتين الأولى عام /848
ق.م/ والثانية عام /845 ق.م/، وفي كلتا المرتين تلقته الجيوش
الآرامية بقيادة هدد عزر وأرخوليني ولكنها انهزمت أمامه، حسب
الرواية الآشورية.
وكما في المرّات السابقة، لم يطارد الجيش الآشوري الجيوش
الآرامية المهزومة، ولم يحتل أية مدينة من مدن الآراميين، ولم
يخلع أي ملك منهم، وينصّب آخر موالٍ له مكانه، جرياً على عادة
الآشوريين في مثل هذه الأحوال. وهذا ما يشير إلى قوة التحالف
وصموده أمام الآشوريين.
لقد تميز عهد برهدد الذي وقع في النصف الأول من القرن التاسع
ق.م بمقاومته العنيفة للآشوريين وبتضامن جيرانه معه. فالمناطق
التي اتحدت معه امتدت من كيليكية في الشمال وحتى عمّون/عمّان
في الجنوب، ولم يخل عهده، مثلما لم يخل عهد أقرانه الملوك من
حركات سياسية معادية، فتمرد عليه رجل يدعى خزه إيل، اغتاله وهو
مريض على فراش الموت حسب رواية (سفر الملوك الثاني 8:7-15)،
وجلس مكانه على عرش آرام في دمشق حوالي عام 843ق.م وسلمانصر
الثالث كان لا يزال ملكاً على آشور حاقداً على آراميي بلاد
الشام يتحين الفرص للانقضاض عليهم. كان لهذا الحدث الذي نتج
عنه وصول خزه إيل إلى الحكم أن انفرط عقد الآراميين وتفككت
ممالكهم وأصبحت كل مملكة تقاتل الآشوريين بمفردها. استغل
سلمانصر هذه الفرصة، فزحف نحو دمشق من غير أن يعترضه أحد وهو
في طريقه إليها من الفرات وحتى دمشق، حيث جمع خزه إيل قواته
وتصدى للآشوريين خارج المدينة. وتروي الوثائق الآشورية أن خزه
إيل قد فر من أرض المعركة ونجا بنفسه مع ما تبقى من قواته
وتحصن في جبل سانيرو أي جبل حرمون. لم تدخل القوات الآشورية
المدينة، بل زحفت نحو جبل حوران فدمرت وأحرقت العديد من المدن
ثم اتجهت صوب فلسطين فعبرتها حتى بعلي رأشي أي رأس الناقورة.
ولزحف الجيش الآشوري نحو حوران وتدميره المدن فيها له مغزاه
كما سنرى فيما بعد. ومما سبق يمكننا القول أن الآشوريين لم
يحققوا في عهد سلمانصر الثالث ولا طيلة القرن التاسع ق.م أية
مكاسب في بلاد الشام على الرغم من الحملات القوية المتكررة
التي جردها وقادها سلمانصر ضدهم. ويعود الفضل في ذلك إلى حنكة
ملكي دمشق هدد عزر الثاني وخزه إيل وقدرتهما على جمع الآراميين
حولهما. علماً أن خزه إيل كان مغتصباً للعرش وكان له أعداء بلا
شك.
وإذا كان خزه إيل مغتصباً للعرش، فمن حقنا أن نتساءل عن نسبه،
لقد وصفه النص الآشوري الذي كتب بمناسبة حملة سلمانصر الثالث
على دمشق عام 831ق.م بالجملة التالية: «خزه إيل بن لامَنْ»
وتعني خزه إيل بن لا أحد أو لا رجل. ويطيب لي هنا، وقبل أن
أستفرد في عرض نسب هذا الملك، أن أعقد مقارنة بسيطة بين (مَنْ
الأكادية ومَنْ العربية) نقول نحن في العربية (مررت بمَنْ معجب
لك) وهذا كما لو قلت مررت برجل معجب لك فكأن هناك علاقة في
المعنى بين الاسمين.
إذاً خزه إيل وبعرف الآشوريين ابن لا أحد، والمقصود أنه ليس من
الأسرة المالكة، بل هو مغتصب للعرش، فمن أين أتى؟ في عام 1984
اكتشفت بعثة أثرية ألمانية، وأثناء التنقيب في جزيرة ساموس
اليونانية قطعة برونزية من لجام حصان تركب عادة فوق العينين
على جبهته، وقد نقش فيها نص يقول (هذا/هذه ما قدمه هدد لسيدنا
خزه إيل من عمق باشان، غره لسيدنا الجليل).
ليس هذا وحسب، بل عثر في معبد للرب أبولون بجزيرة أويبو
اليونانية على قطعتين برونزيتين تركبان عادة على سيور اللجام
جانبي العينين، وقد نقش فيهما نص مطابق للنص الذي ذكرته أعلاه،
وهذه القطع، فيما نرى من لجام واحد، أو على الأقل لعدة حصان
للسيد خزه إيل، وقد وجدتا في مكانين متباعدتين ببلاد اليونان.
وبها نستطيع التعرف على خزه إيل.
لا تثبت هذه الكتابة، وبشكل قاطع، أنَّ خزه إيل ملك دمشق، هو
نفسه خزه إيل المذكور بالنص المنقوش في هاتين القطعتين. إذ لم
تذكر الكتابة أنَّ خزه إيل هو ملك دمشق، وبذلك نفتقر إلى وسيلة
قاطعة تمكننا من إثبات أن خزه إيل ملك دمشق هو المعني بالنص
المنقوش على القطع البرونزية. ومع ذلك، وفي ضوء الصفة التي
اقترنت باسم خزه إيل نرجّح أنه هو ملك دمشق.
ومن الملاحظ أنّ الذي نقش النص لم يذكر اسم والد خزه إيل ولا
لقبه بل وصفه بكلمة «سيدنا». وهذا الذاتية نجدها في كل النصوص
التي تخص خزه إيل ملك دمشق وهي «نقش» في قطعة عاجية من موقع
أرسلان طاش يفيد أنَّ القطعة قد صنعت لسيدنا خزه إيل. ونقش آخر
في قطعة عاجية أيضاً عثر عليها في مدينة كلخو (النمرود) في
العراق نقرأ عليها لسيدنا خزه إيل يبدو أنَّ هاتين القطعتين
كانتا من زخارف الأثاث الدمشقي الذي كان في قصر خزه إيل والذي
غنمه تجلات فلصر الثالث كما سنرى ونقل إلى أرسلان طاش)/خداتو
إلى النمرود/كلخو.
وإلى جانب هذه الصفة التي تنفرد بها كتابات خزه إيل هناك ظاهرة
وردت في وثائق سلمانصر وهي أن هذا الملك قد هاجم خزه إيل في
دمشق (كما ذكر أعلاه) ولكنه لم يدخلها، بل زحف إلى حوران
وجبلها حيث دمر وأحرق مدناً لا تحصى. فلماذا اختار حوران
وجبلها وترك دمشق والقرى المحيطة بها؟ يوجد تفسيران لذلك،
الأول أن مرد اختيار حوران هو رغبة سلمانصر في القضاء على
منازل عشيرة خزه إيل في باشان وبالتالي إضعافه، وتجريده من
عزوته، والثاني أن خزه إيل كان قد هرب من دمشق وتوجه إلى حوران
على الأرجح حيث أهله وعشيرته ليلوذ بهم. ويبدو من هذا الدليل
أن خزه إيل كان من باشان التي أصبحت تعرف فيما بعد بالنقرة،
وتمتد من بلدتي الصنمين و نوى في الشمال وحتى اليرموك في
الجنوب، ومن وادي العلان في الغرب إلى أطراف الجبل في الشرق.
ولإثبات أن خزه إيل هو من باشان أو على الأقل من حوران لابد أن
نستشهد بنص نقش في حبة عقد من المرمر عثر عليها في مدينة آشور.
يقول النص «غنيمة من بيت الرب شرى في مدينة ملح، مدينة في
مملكة خزه إيل من بلاد حميرشو (سنعود إلى هذه العبارة بعد
قليل)، الذي سلمانصر بن آشور ناصر بال ملك آشور حشره في قلب
الدوري في قلب المدينة».
يتحدث سلمانصر في هذا النص القصير، عن لجوء خزه إيل إلى بيوت
مدينة ملح التي فيها معبد للرب شرى. وفي هذا إشارة واضحة إلى
أن ملح ما كانت مدينة عادية، بل هامة فيها معبد. فأين تقع هذه
المدينة؟
توجد في الغوطة قرية المليحة، ونستبعد أن تكون هي المدينة
المعنية بسبب عدم وجود آثار فيها تعود إلى ذاك العصر، وفي
محافظة درعا وإلى الشرق من بلدة إزرع تقع قرية مليحة العطش،
عثر فيها على كتابة بيزنطية تشير إلى أن الاسم القديم لمليحة
العطش هو مَلَحْ، ومع ذلك قد لا تكون هي مَلَحْ ذاتها التي
ذكرت في النص المشار إليه أعلاه، إذ ليس فيها ما يدل على قدمها
ويدل على أنه كان فيها معبد للرب شرى.
وتبقى بلدة ملح في محافظة السويداء إلى الشرق من مدينة صلخد
على أطراف الجبل والبادية ونرجح أنها هي مدينة مَلَحْ المعنية
في كتابة سلمانصر، إذ كان فيها معبد للرب شرى في العصر النبطي،
وكانت لها أهمية في العصر الروماني أيضاً. وربما أقيم المعبد
النبطي على أنقاض المعبد الآرامي أو أن الأنباط قد حافظوا على
المعبد الآرامي.
بعد وفاة خزه إيل حوالي عام 803ق.م خلفه ولده برهدد الثالث على
عرش دمشق. وعنه تحدث كتاب العهد القديم في سفر الملوك الثاني
وتحدثت بعض الوثائق الآشورية في عهد هدد نيراري الثالث
(809-782ق.م) ونصب ذكير ملك حماه، يخبرنا النص المنقوش في نصب
ذكير ملك حماه الذي عثر عليه عام 1903 في قرية آفس شمالي سراقب
عن حدث هام جداً كان الفاعل فيه برهدد الثالث.
النصب محفوظ في متحف اللوفر في باريس، وقد نذره ذكير ملك حماه
ولعش للرب الويّر حامي مدينة لعش، ويفيد النص أن برهدد وجيوشه
وستة عشر ملكاً أو سبعة عشر تحالفوا معه نعرف منهم برجوس/برجش
ملك بيت آحوش وجيشه، ملك قوية في كيليكية وجيشه. وملك عَمْق
(في سهل العَمْق) وجيشه، ملك جرجم وجيشه، جرجم عاصمتها مرعش)،
ملك شمال وجيشه (كانت مملكة شمال في حوض نهر الأسود وعلى
السفوح الشرقية لجبال الأمانوس) وملك ميلز أي ملاطية وغيرهم قد
حاصروا مدينة خزرك عاصمة لعش حصاراً شديداً ثم ما لبثوا أن
تراجعوا عنها وذلك بعون بعل شمين سيد السماوات الذي هو الرب
هدد، وبذلك يكون ذكير قد انتصر على هذا التحالف بعون الرب. في
الواقع لا نجد في النص المشوه ما يشير إلى سبب الخلاف بين
برهدد وذكير، وقبل أن ندخل في التفاصيل نشير إلى أن هذا
التحالف كان على غرار تحالف برهدد الثاني مع ملوك بلاد الشام
ضد الآشوريين، والفرق بين التحالفين أن هذا التحالف قد وجه ضد
ملك حماه ولعش وليس ضد الآشوريين.
وحتى نتعرف على السبب نشير إلى أن أحداً من ملوك حماه لم يلقب
نفسه بلقب ملك حماه ولعش، فقط ذكير كان صاحب هذا اللقب، وربما
أن ذكير كان من لعش وكانت لعش تابعة لحماه فاغتصب عرش حماه،
واتخذ لنفسه هذا اللقب المزدوج ليشير إلى أصله، وهو بذلك يكون
قد فعل ما فعله رزون وخزه إيل في دمشق. وإذا كان هذا هو الواقع
فمن المرجّح أن اغتصاب عرش حماه من قبل ذكير قد أثار برهدد ملك
دمشق الذي سارع لمحاربة ذكير وحشد له ممالك حثية وآرامية، ومما
يلفت النظر أن الممالك الحثية والممالك الآرامية إلى الشمال من
حماه قد ذكرت بالاسم بينما لم تذكر ممالك بلاد الشام الجنوبية
بالاسم بل اكتفى النص بإجمالهم سوية تحت الرقم 7 ومرد ذلك على
ما نعتقد أن ثلث الممالك كانت تابعة لبرهدد أو تنضوي تحت
لوائه، زد على ذلك أن برهدد قد لُقب بملك آرام وهو اللقب الذي
احتفظ به ملوك دمشق الآراميون جميعهم. بعد وفاة برهدد الثالث
تبعه خديانو الذي نعرف اسمه فقط ويبدو أنه قد حكم في السنوات
التي سبقت عام 745ق.م أي العام الذي اعتلى فيه الملك تجلات
فلصر الثالث عرش آشور واستمر حكمه حتى عام 727ق.م. كان تجلات
فلصر أقسى ملوك آشور محباً للحروب وخراب الديار، فقد قصد دمشق
عام 832ق.م وكان ملكها رضيان فحاصرها حتى سقطت بيده وجعل منها
ولاية آشورية
هكذا زالت مملكة دمشق الآرامية التي نستطيع تحديد رقعتها ونظام
الحكم فيها على ضوء ما ذكرناه من أخبار بحيث نستفيد من أسماء
الأمكنة الذي ذكرت في حوليات الملوك الآشوريين وهي: جبل سايزو
الذي هو جبل الشيخ.
بعض المدن الهامة التي دمرها سلمانصر في حوران وجبلها مثل
الدينبة/الذينبة بجوار إزرع وملح إلى الشرق من صلخد، إن هذه
المناطق كانت تابعة لمملكة دمشق الآرامية.
ويستفاد أيضاً من الإجراءات التي اتخذها تجلات فلصر عام 732ق.م
حيث قسم مملكة دمشق الآرامية إلى ست عشرة ولاية نعرف منها
صوفيني/صوبيني أي صوبا في سلسلة جبال لبنان الشرقية، منصوتا
وشملت البقاع بأكمله، قرنيم ومركزها قرنيم وهي الآن قرية الشيخ
سعد جنوب مدينة نوى في حوران وتضم أراضي محافظتي السويداء
وحوران وذكرت فيها المتونة على أطراف اللجاة الشرقية شمالي
شهبا وكذلك البثينة إلى الشرق من المتونة حيث الجولان المعروف
لدينا جميعاً.
ويستفاد من كل هذا أن مملكة دمشق قد ضمت البقاع وسلسلة جبال
لبنان إلى الشرق منه وامتدت شرقاً إلى البادية وجنوباً إلى
حوران وغرباً إلى الجولان.
في هذه الرقعة انتشرت قبائل آرامية ذكرت بعضاً منها في مستهل
هذه المحاضرة وإذا أضفنا إلى ذلك أن ملوك دمشق ما كانوا من
دمشق ذاتها بل كان هدد عزر من رحوب وخزه إيل من باشان، جاز لنا
أن نفترض أن مملكة دمشق الآرامية كانت مملكة اتحادية تضم قبائل
يحكمها شيوخ يتبعون الملك ونأمل أن نستطيع يوماً التنقيب في
دمشق ذاتها أو في التلال الهامة المحيطة بها والتي كانت مدناً
رئيسة في مملكة دمشق علَّنا نغني معرفتنا عن دمشق و سورية
الجنوبية.
وفي الختام يطيب لي أن أشير إلى أن اسم المنطقة المحيطة بدمشق
كان في العصور الكنعانية، أي في الألف الثاني ق.م آفو/أفو
وتعني هذه الكلمةب الأكادية والبابلية والآشورية نبات القصب
ويرجح الباحث أولبرايت وغيره أن آفو كانت وصفاً لبيئة دمشق
النباتية وخاصة القصب الذي كان ينمو على ضفاف بحيرتي العتيبة
والهيجانة بكثرة. وهناك معنى آخر لهذه الكلمة وهو التربة
الغضارية المتوفرة في محيط دمشق.
ومهما يكن من أمر فإن اسم آفو قد اختفى باختفاء الكنعانيين
وحلت محله عبارة: «مات شاحميرشو» أي بلاد الحمير بينما بقي اسم
دمشق كمدينة.
لقد جاء اختفاء اسم آفو مع ظهور الآراميين والآشوريين على مسرح
الأحداث في بلاد الهلال الخصيب إذ أن النصوص الآشورية من
القرنين التاسع والثامن ق.م كانت قد وصفت منطقة دمشق بالعبارة
التالية: «مات حمير شو»، أو «مات شاحمير شو» أي بلاد الحمير.
نالت هذه الظاهرة ما تستحقه من دراسة وتحليل وأدلى عدد لابأس
به من الباحثين برأيه حولها وانطلق بعضهم من فرضية وجود علاقة
بين «مات حمير شو»، ودمشق أي أن دمشق كانت عاصمة بلاد «مات
شاحمير شو» كما نستنتج من النصوص الآشورية، إذ نرى أن الملك
الآشوري سلمانصر الثالث قد نسب خزه إيل مرة إلى بلاد الحمير،
وأخرى إلى دمشق عاصمة ملكه، أما في عصر هدد نيراري الثالث
811-781ق.م فنجد العبارة التالية: «لقد ذهبت إلى بلاد الحمير
ومرئي ملك بلاد الحمير حاصرته في دمشق عاصمة ملكه» ويتضح من
هذا أن بلاد الحمير كانت في منطقة دمشق وعلينا أن نتحرى سبب
هذه التسمية.
افترض
بعض الباحثين أن جملة شاحمير شو ما هي إلا الترجمة الآشورية
المغلوطة لاسم دمشق. فحرف «د» من دمشق هو اسم الإشارة ذو
ويقابل شا الأكادية، وهذا صحيح إنما المشكلة هي في التطابق بين
مشق وحمير شو، ولحل هذا اللغز قال الباحث الشهير شبايسر ما
يلي: أن مسق هي من الفعل سقى وأن الحمير كانت تستخدم في تحريك
غرافات المياه للسقاية، ولما سمعه الآشوريون فهموا المعنى
غلطاً واستخدموا كلمة حمير للدلالة على السقاية.
إن
مثل هذا الرأي لا يأخذ بعين الاعتبار القرابة بين الآشورية
والآرامية لذا تعرض لنقد شديد وبالتالي للرفض.
إلى
جانب هذا الرأي يوجد رأي آخر يعتمد في تحليله لهذه الجملة (مات
شاحمير شو) على ترتيب مقاطع الكلمة. لجملة شاحمير شو كانت
تُكتب مقطعياً شا-ح-ما-ري-شو. وقد أراد الآشوريون بها كتابة
بلاد آرام فأخطؤوا بترتيب المقاطع. لم يكن هذا الرأي مقبولاً
أيضاً، فالغلط هنا فاحش والتحوير جذري يُفترض ألا يقوم به
آشوري لهجته ابنة عم اللهجة الآرامية التي عرفها الآشوريون عن
كثب باختلاطهم الكثيف بالآراميين وتعلمهم للكتابة الآرامية.
والرأي
المقبول في هذا الصدد هو الذي يرى في هذه الجملة صورة عن حياة
السكان في مملكة دمشق الذين كانوا يستخدمون نوعاً من الحمير
الجيدة «حسب الروايات القديمة» في القوافل. فالحمار قبل الجمل
كان واسطة النقل الوحيدة والفعّالة في بلادنا، يتسابق لاقتنائه
التجار وغيرهم ويُعْرض في الأسواق لهذه الغاية.
والحق يقال أن دمشق كانت ملتقى طريقين تجاريين هامين يربطانها
بفلسطين وشرقي الأردن ومصر والبحر الأحمر، ومنها يذهب طريق إلى
تدمر ثم إلى الجزيرة، وآخر إلى قادش وحماه وحلب ثم الأناضول.
والقوافل التي كانت تستخدم هذه الطرق اتخذت الحمير وسائطاً لها
وربما أراد الآشوريون أن يكنَّوا في هذه العبارة أو شبه الجملة
عن كثرة قوافل الحمير التي كانت تحط بدمشق أو تمرّ بها أو تذهب
منها.
يتبع...
|