عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
  
     
http://www.walidphares.com

English

مقالات سابقة

وليد فارس:

 بروفِسور في العلوم السياسية

كتاب "التعددية في لبنان"

تأليف د. وليد فارس

   بيروت في 12 كانون الأول 1978


القسم الرابع:

الصليبيون

شهدت نهاية القرن الاول من الالف الثاني للمسيح، حركة انسانية عظيمة بين الغرب والشرق، أثرت على تطور العالم القديم و طبعت العالم كله بوجهها فكان لها وقع، في كل مدينة وقرية وبيت و عائلة من بلاد مابين النهرين و الصحارى العربية و السورية حتى اقاصي شمال اوروبا المسيحية. فالحضارات التي تلاقت و الجيوش التي التحمت على اراضي فلسطين المقدسة، أتت من كل ناحية و صوب، فالتقى الاسمر بالاشقر و العربي بالاوروبي و المسلم باللاتيني و البيزنطي و الافريقي الشمالي. و أضحت فلسطين، برج بابل جديد، التقى على ارضها قوم اتوا من جميع انحاء المعمورة القديمة. الحركة هذه، هي الحملات الصليبية.

و قد رأينا سابقا ان الحملة الصليبية الاولى قد وقفت مع البيزنطيين في القرن العاشر على الشرق. الا ان تسمية الحملات الصليبية لم تطلق الا على تلك التي اتت من اوروبا في نهاية القرن الحادي عشر.

اختلف بعض المؤرخين على أسباب الحملات الصليبية الاوروبية كما اختلفوا على أسباب الفتح العربي. بينما أكد فريق على الاسباب الاقتصادية التي دفعت اوروبا الى "غزو الشرق"، وهي اسباب كان لها وجود، و شدد فريق آخر على التحتيات السياسية التي فرضت تدخل اوروبا في شؤون الشرق. و لكنه بنظرنا، و حسب الاكثرية من المحللين، أن الاسباب الاساسية والمحركة، هي أبسط من ذلك و واضحة للعين المجردة. فالمسيحية في اوروبا، استفاقت على قضايا ثلاث:

1-        عدم تمكن رعاياها من الوصول الى فلسطين و الاراضي المقدسة، و كانت الصلات و الامور الدينية في تلك الايام، الحجر الاساسي في الحياة العامة لا بل اليومية لمسيحيي اوروبا المتدينين.

2-        التنكيل بالمسيحيين الشرقيين و تهديم الكنائس و المعابد. و مما لا شك فيه، أن روح التضامن وجد بقوة في تلك العصور حيث لم يواز العاطفة والشعور، اي عامل مادي او اقتصادي. و قد كلفت الحملات الصليبية اوروبا اكثر مما يتصور انصار "الاسباب الاقتصادية". و البعث الاقتصادي لاوروبا لم يأت نتجة الحملات بل نتجة انتقال العلوم من اليونان عبر ايطاليا الى اوروبا النهضة. و الجدير بالذكر ان اوروبا لم تحافظ على اية مكاسب في الشرق، بل خسرت كل ما كان تحت سيطرتها كما سنرى فيما بعد.

3-        الخطر العربي الاسلامي الذي أحدق باوروبا المسيحية.

فالعرب على ابواب القسطنطينية، و العرب في شمال افريقيا يهددون ايطاليا الجنوبية، و العرب في جميع انحاء البحر الابيض المتوسط، يسيطرون على خطوط المواصلات الحيوية، و العرب في اسبانيا يهددون قلب اوروبا. فالكماشة العربية كادت أن تجهز على اوروبا المسيحية، خاصة و أن الجناح الشرقي للمسيحية قد سقط مرّتين، مرة مع الفتح العربي، حيث كرّس العرب دخولهم للمنطقة، و اخرى مع فشل البيزنطيين باسترجاع الشرق، فكرّس العرب عروبة ما فتحوه من مناطق.

و في هذا الجو، و بعد نداءات ملوك بيزنطية، و استغاثات مسيحيي الشرق الذين اوفدوا الى اوروبا رسلا اعلموهم بالمجازر التي تحصل هناك، تحرك الغرب تحت اشراف البابوات اللاتين و عبأ قدراته لينجد اخوانه في الشرق، و ليكسر الطوق الذي يحكم من حوله.

و لا شك ان المعطيات الجغرافية و الاقتصادية و الاجتماعية قد لعبت دورا في الحملات. و لكن هذه المعطيات، و دون الدخول في التفاصيل هي عناصر تلزم أية حرب و أية حملة. و لا يمكن تحليل اي تحرك جماعي لشعب في العالم دون تحليل هذه المعطيات. فلا يمكن اذا القول بأن المعطيات هذه التي ترافق كل تطور للشعوب، هي التي تميز تحركا عن آخر. فالتمييز يكمن دائما في عنوان هذا التحرك. فاذا كان التحرك يستهدف تحرير الاراضي المقدسة المسيحية، فالتحرك هو لذلك. واذا كان التحرك يستهدف فتح مناطق لاجل الاسلام، فالتحرك هو لذلك. اما المعطليات الاقتصادية والسوسيولوجية التي فرضت او ساعدت بإقامة هذه التحركات فهي البيئة التي هيأت هذه التحركات و ليست السبب المباشر لها.

فالمقاتل العربي المسلم الذي يضرب بسيفه عنق الجندي البيزنطي في القرن السابع، لا يضربه لان المعطيات الاقتصادية والبيولوجية والسوسيولوجية فرضت ذلك عليه مباشرة بل لأن احساسه العربي الاسلامي دفعه الى مقاتلة عدوه و فتح ارضه. و كذلك الجندي الصليبي الذي يقتحم مدينته المقدسة، فهو يقاتل لأجل الصليب و لاسترجاع الاراضي المقدسة و ليس لاطماع اوروبية اقتصادية و لاسباب هيولانية لا يدرك منها شيئا.

كيف بدأت؟

  • حرقت كنيسة القيامة و نهبت سنة 936
  • دمرت آلاف الكنائس و حطم القبر المقدس سنة 1009
  • منع النصارى من رفع اصواتهم للصلاة ثم منع الزائرون من دخول القدس سنة 1076
  • هوجم الحجاج بكثرة سنة 1074
  • نكل بالمسيحيين الشرقيين و بالحجاج الاوروبيين طيلة القن الحادي عشر.

بعد هذ السلسلة من الاعتداءات، و على أثر نداءات بطاركة الشرق و ملك بيزنطية و الكهنة و رجال الاكليروس اللاتيني الذين عادوا من فلسطين، عقد البابا اوربانوس الثاني مجمعا في كلير مون فران في فرنسا في 26 تشرين الثاني من سنة 1095، حضره الشعب و الامراء، و الاقطاعيون و الملوك. و القى البابا خطابا تاريخيا فيهم، و دعاهم لقيام حملة تحرر فلسطين من "حكم المغتصبين". وعلى أثر هذا المجمع دار أنصار الحملة الصليبية في اوروبا، و تنادى الامراء و الملوك و تباحثوا في كيفية تنظيم الحملة و الخطة التي يجب اعتمادها. تعددت الحملات الصليبية و تتالت مع الافواج التي تركت اوروبا. و انطلقت كل حملة على اثر تجمع مسبق في الغرب، و خطة مشتركة. و أتى الصليبيون مئات الالوف برا عن طريق الاناضول، و بحرا على متن السفن النرمندية و البندقية و الجنوية.

و سبق الحملات الصليبية، الحملة الشعبية، و هي تجمع لجماهير غادرت قراها و مدنها عفويا، دون تنظيم، تحت قيادة الراهب بطرس الناسك. و هلك معظم المشاركين في هذه الحملة التي بلغت حوالي 300 الف شخص، قبل ان يقطعوا حدود الاناضول نحو سوريا.

اما الحملة الاولى الرسمية، فقد انطلقت سنة 1096 من اوروبا، و تجمع القادة الصليبيون في القسطنطينية في السنة نفسها.

و من عاصمة بيزنطية، زحفت الجيوش المسيحية الاوروبية الى الشرق الرازح تحت الحكم العربي، فقطعت جبال تركيا، و دخلت سوريا شمالا من منطقة انطاكية. فحاصر الصليبيون المدينة سنة 1097 و سقطت بأيديهم 1098. و من انطاكية، تقدم الجيش الصليبي جنوبا نحو سهول سوريا و لبنان.

و سقطت الرها في الشمال بين ايدي الزاحفين بعد معركة تراجع على إثرها الجيش الاسلامي شرقا و جنوبا، و أسس الصليبيون امارة الرها، و هي اول دولة صليبية في الشرق. و واصلت القوات سيرها جنوبا فدخلت عرقا، عاصمة عكار اللبناني سنة 1099. وبدخولها الارضي اللبنانية، اتصلت بالمسيحيين عامة و بالموارنة خاصة. و على حد قول المؤرخين جاك فيتري Jacques de Vitry و اسقف صور اللاتيني غليوم، فالتحالف بين الموارنة المردة و الصليبين سرعان ماتحول الى التحام عضوي بين الفريقين و امتزجت دماء مسيحيي الشرق بدماء مسيحيي الغرب في معاركهم المشتركة لاسترجاع أراضيهم و حقوقهم.

و قد ساهم مسيحيو لبنان وسوريا، و الموارنة خاصة بدعم الحملات الصليبية عسكريا و سياسيا، فشكلوا فرقة مستقلة للرماة تقدمت الفرق الصليبية، و لعبت دور الكشاف لها، ففتحت لها الطرق، و سارت امامها في ممرات الجبال اللبنانية و المناطق الشرقية، التي تعرفها جيدا حيث انها قاتلت فيها منذ الفتح العربي. كما انخرط كثير من الشبان السريان في صفوف القوات الاوروبية، و برعوا في المعارك، حتى قيل أن أفضل مقاتلين في الحملات الصليبية لم يكونوا اوروبيين، بل مشرقيين، مقهورين منذ عدة قرون.. و لم يكتف الموارنة بالمشاركة العسكرية، بل تعدوها الى المشاركة السياسية، فحكموا بلادهم مع الامراء و القيادات الصليبية، و كان لهم رأي في ادارة شؤون المناطق المفتوحة.

انطلاقا من هذه الارضية، زحفت الجيوش الصليبية تُعاونها القوات المحلية، جنوبا، فسيطرت في عدة مراحل، على مدن الجليل الاعلى في فلسطين و دخلوا القدس في 14 تموز 1099، و ارتدوا فيما بعد الى باقي المدن كعسقلان و غزة. أضحت كل المنطقة الواقعة من الرها على حدود الاناضول شمالا، حتى صحراء النقب في اسرائيل جنوبا، تحت السيطرة الصليبية.

و لكن الهجوم المعاكس العربي لم يتأخر، و قامت القوات الاسلامية بمعارك ضارية مع الصليبين في عدة مواقع من فلسطين و سوريا لاسترجاع ارضها.

و لم تكن الحملات الصليبية الاخرى التي تلاحقت على الشرق الا لتوطد الحكم المسيحي الجديد الذي اعطى صورة جديدة لجغرافية هذه المنطقة. فلم يعد الشرق وجها لامة واحدا و لا لحضارة واحدة تفرض سيطرتها التامة و الوحيدة، بل اصبح توازنا بين حضارتين و تواجدا لثقافتين و مسرحا لتعددية لغوية اثنية صارخة.

فالحضارة الاسلامية العربية تتواجد في شرق سوريا و في شرق نهر الاردن و تعبر عنها الانظمة السياسية القائمة كالأيوبيين و الفاطميين و السلجوقيين الذين توافدوا على الحكم العربي في المنطقة الواحد بعد الآخر. و الحضارة المسيحية بجناحيها الغربي والشرقي تتواجد على اراض تمتد من الاناضول حتى سيناء. فشهد الشرق طيلة فترة الحملات الصليبية نوعية اخرى من التعددية، و هي تعددية بين المسيحية والاسلام، بجميع مللهما و طوائفها و اضحى الشرق صورة للعالم أجمع، حيث وجدت في اسواقة و مدنه كل ما انتجه العالم القديم و ابتكره.

كيف حكم الصليبيون؟

توزع الصليبيون في المناطق المحررة و حصنوها وبنوا القلاع الشهيرة فيها و قسموها الى اجزاء عدة كما يلي:

-        مملكة القدس بين سنة 1099 و 1187

-        كونتينة طرابلس 1102- 1289

-        امارة انطاكية 1098- 1268

-        كونتينة الرها 1098- 1146

-        مملكة قبرص 1192- 1489

-         مملكة ارمينيا الصغرى 1081- 1375

و حكم الصليبيون الامارات و الممالك حسب نظم جديدةِ اقتبسوها من الغرب و اعطوها طابعا شرقيا. فوجد في العالم القديم آنذاك نظام يرتكز على مزيج من عقليتين و بيئتين، غربية و شرقية، وحدتها الحضارة المسيحية على اراضي فلسطين وسوريا ولبنان.

لبنان

 اما بالنسبة للبنان، فقد تعاون سكانه من خلال سلطاتهم الزمنية والدينية مع الصليبين و حكموا معهم المناطق المسترجعة، كمدن السواحل و السهول و اختلطوا معهم، و تزاوجوا و تقاربوا و تبادلوا في جميع ميادين الحياة كالثقافة و التجارة و الاقتصاد و الامور المجتمعية.

فكانت للمسيحيين الشرقيين فرصة في ان يجددوا الاتصال الروحي و الحضاري مع اخوانهم الغربيين بعد ان طال الانقطاع عنهم عدة قرون جراء الحصار العربي الذي فرض على جبال الامة اللبنانية المسيحية، سمحت فيما بعد للشرقيين منهم، أن يصمدوا أكثر امام محاولات الافناء التي تعرضوا لها لقرون عديدة بعد انسحاب الصليبين بفضل عملية اعادة اللحمة بين الشرق و الغرب داخل العالم المسيحي.

 

فالالتقاء بالصليبين كان آخر لقاء لهم كشعب مستقل سيد حتى القرن العشرين لأنه بعد انكفاء الاوروبيين، خسر المسيحيون استقلالهم كما سنرى فيما بعد، و تعرضوا لأشد انواع التنكيل و التعذيب. "و الحياة ايام الصليبين" "كانت ثغرة" رأى المسيحيون الشرقيون من خلالها نور الشمس في قطعة من سماء زرقاء، في اجواء الشرق الملبدة بالسحاب الاسود، منذ أن عصفت الريح الخمسينية الجنوبية في القرن السابع. و الظاهرة الصليبية أثرت ايجابيا ايضا على مسيحي الشرق في ناحية سنبحثها فيما بعد.

كيف جُزىء لبنان؟

تجزأ لبنان الى إثنين، شمالي، بما فيه موطن المردة، حتى نهر ابراهيم، تابع لكونتيية طرابلس، و جنوبي تابع لمملكة القدس.

و بينما التحم المردة مع الصليبين، حاربهم عرب لبنان او القبائل العربية المستوطنة، و تحالفوا طبيعيا مع الحكم العربي في الشام و في مصر. فبينما تآخى اللبنانيون مع الصليبين، معتبرين انهم من حضارة واحدة، و انهم قدموا ليساعدوهم على استرجاع الشرق و الحفاظ عليه، ارتبط الارسلانيون و القبائل الاخرى بالحكم العربي الاسلامي، و تعاونوا ليطردوا العدو الصليبي الغربي الدخيل ليؤدبوا مسيحي الشرق لتعاملهم مع العدو و لمشاركتهم اياه في "احتلال" اراض عربية، كرّسها لهم الفتح منذ قرون، و وصفها بأنها عربية.. هنا ايضا نرى أن كل فريق على أرض لبنان يتمسك بحق طبيعي و يقاتل لاجله، و تستمر حرب الطرشان حرب حقيقتين بين شرعيتين لا تعترف واحدة بالاخرى...

انسحاب الصليبين

على أثر عدة عوامل، بدأت الهزيمة تلحق بالصليبين بعد مئات السنين من الحكم على ارض الشرق. و بين هذه العوامل اختلاف الصليبين فيما بينهم، مع البيزنطيين و اختلاف حلفائهم ببعضهم.

اختلف الامراء الصليبيون فيما بينهم على ادارة شؤون البلاد و على امتداد مقاطعاتهم، فشنوا حروبا على بعضهم البعض، و اضعفوا قدراتهم على مواجهة العرب.

اختلف الامراء و الملوك الصليبيون مع بيزنطية، فهاجموا القسطنطينية... و احتلوها و انشاؤا فيها المملكة اللاتينية الشرقية. و ضعفت ايضا القدرات الشرقية الغربية المشتركة.

اختلف حلفاء الصلييبين فيما بينهم، و نعني هنا الموارنة خاصة. و قد لا يكون صحيحا القول بأنهم اختلفوا. بل الحقيقة هي ان البعض منهم قد خان الموارنة اولا و المسيحيين الشرقيين ثانيا و الصليبيين ثالثا. و الخلاف هذا، أم الخيانة هذه، ظاهرة مستمرة في تاريخ الشعوب، و لا يخلص منها الموارنة:

دسّ الحكام العرب بعض العملاء في صفوف الموارنة، و اكثرهم من "الكهنة"، فزرعوا بذور الانشقاق في صفوف الامة المارونية، فبشر "رجال الكهنوت" هؤلاء بالعداء للغرب، و قد أثر ذلك على وحدة الصف الماروني. و من النكسات التي ادت اليها، دخول الحاكم العربي بزواش من بعلبك الى طرابلس الصليبية و تسهيل الموارنة الخونة في جبهة بشرّي المرور لهما.

و لكن سرعان ما رئب الصدع سنة 1182 و ازيل الانشقاق و طهرت الصفوف من الشوائب، و تمّ ذلك على يد البطريرك الماروني. و لكن الازمة لم تنطفىء فاستغلها الحكام العرب و أرسلوا مزيد من المندسين الذين توافدوا الى وادي قنوبين، و هو قلب الشمال الماروني، تحت غطاء الرهبنة فزرعوا بذور الفتنة من جديد، متسترين بالكرم و العطاء و السخاء. و لكن شعب جبهة بشري ثار عليهم وعين مقدما، تتبعهم و طهر المنطقة مجددا منهم. و بعد ان توفي المقدم، خلفه ابنه سالم، و كان قد  باع نفسه لأعداء المسيحيين، فاستدعى أعدادا من الأغراب و الهراطقة و العملاء و فك الارتباط مع سائر المقدمين الموارنة الذين كانوا يحاربون العرب و يحمون ظهر الصليبين.

و في سنة 1283، اجتاح بيبرس قائد المماليك، الذين فشلوا لعدة مرات محاولاتهم اقتحام طرابلس الصليبية، جبة بشري و فتك بأهلها، و أحرق قراها و مزارعها. و دخوله هذا كان على أثر حيلة للخائن سالم الذي سهل لهم المرور من البقاع الى الجبة عبر ممرات، وزع عليها انصاره و العملاء. و بعد أن داهمت قوات المماليك الشمال الماروني و اخضعته و اضعفته، هبطت نحو طرابلس.

و لكن المردة حاولوا أن يمنعوا تقدم المماليك، انما فشلوا لتضعضعهم، و لفقدانهم جبة بشري. و في سنة 1287 استعادت قوات المردة منطقة الشمال، و انقضت بدفعات متتالية على جيوش المماليك المتواجدة حول طرابلس، فحطمت الطوق، و افنت منهم الكثير.

و لكن المعركة الكبرى التي سجلت للمردة في التاريخ كانت سنة 1293، عندما اراد المللك محمد بن الناصر ابن قلاوون المملوكي، أن يصفي الموارنة في لبنان لتعاملهم مع الصليبين.

فجمع نائب الشام و نائب طرابلس و امراء العرب التنوخيين و الارسلانيين ( عرب لبنان) و أمرهم بجمع الجيوش و سحق كسروان و الجبال اللبنانية كلها و اطمعهم "في ان من نهب امرأة كانت له جارية، و كل من احتل ارضا او قرية، اقتطعها".

فتوجهت الجيوش العربية الاسلامية على طريق الساحل صوب جبيل. لم يكد يصل الخبر الى المدينة حتى انسحب سكانها في زوارق من البحر و اخلوها. و استنفر المقدمون و هم قادة المردة في السلم و الحرب، و عددهم ثلاثون (دون المقدم سالم الخائن) و جمعوا رجالهم الثلاثين الف. و وضع المردة كميناَ على نهر الفيدار وآخر في وادي المدفون.

و عندما دخل الجند العربي جبيل وجدها فارغة. و انقض المقدمون بقوة كالبرق على العرب، و شقوا صفوفهم الى اثنين، فبعثروهم و قتلوا منهم عددا كبيرا. و وثب مقدم مشمش على قائد الجيش العربي و ارداه قتيلا، فدب الرعب في قلوب العرب و استسلم عدد كبير منهم، و هرب الباقي و لكنهم لم ينجوا من الكمينين المرابطين على الفيدار و المدفون. و أتت نجدة عربية من طرابلس، فتلقتها قوة المدفون و سحقتها..

و المعركة هذه من اعظم انتصارات اللبنانيين في تاريخهم، حيث لقنوا المعتدين درسا قاسيا جدا، مع أن المردة قاتلوا من دون مساعدة البيزنطيين و لا الصليبين أو اية قوة خارجية، و من دون جبة بشري التي ضللها المقدم سالم الخائن.

و على أثر هذه المعركة استعاد المسيحيون اللبنانيون استقلالهم و طهروا صفوفهم، فأبعدوا سالم عن الشمال، و ركزوا دعائم دفاعهم. و لكن الانتصار هذا كان آخر معركة حامية خاضها اللبنانيون في ظل الاستقلال القومي في الجبال اللبنانية...

إن اهم نتائج يمكن الادلاء هنا هي:

1-        الارتباط العضوي بين المسيحيين في الشرق عامة و لبنان خاصة بالصليبين الذين يمثلون المسيحية الغربية.

2-        ترجمة هذا الارتباط الى افعال عندما قاتل المردة في لبنان دفاعا عن الصليبين و شنوا الغارات على العرب نصرة لمسيحيي الغرب المهددين في اواخر عهدهم الشرقي. و الجدير بالذكر هنا، أن المسيحيين السوريين واللبنانيين بمن فيهم الموارنة، قد دفعوا غاليا ثمن مساندتهم للصليبيبن.

فالمردة كانوا مرتبطين بمعاهدات، اعترف الحكم العربي من جرائها بوجودهم المستقل. و قد سقطت هذه المعاهدات بنظر العرب بتعاون الموارنة والمسيحيين عامة مع الصليبين، فلم يعد يعترف العرب بأي وجود غير عربي على أرض الشرق، و قد حطموا استقلال لبنان كما سنرى فيما بعد. و لكن المواثيق بدأت تسقط بالنسبة للبنانيين منذ أن قام العباسيون باعتدائهم على الجبال اللبنانية، و خاصة عندما أطلقوا الحملة الاستيطانية العربية و شجعوها و دعموها.

و اعتبر مسيحيو لبنان أن مجرد اقتطاع الخليفة العباسي اراضي لبنان و تقدمتها الى القبائل المستوطنة، هو خرق للمعاهدات السابقة و عدم اعتراف العرب بالاستقلال و الهوية اللبنانية.

3- أن مئات السنين التي قضاها الصليبيون في الشرق قد أعادت لفترة من التاريخ وجهاً مسيحياً لقسم من الشرق جاعلة من المنطقة هذه ارضاً لكل الحضارات و ليس حكراً على وجه و حضارة و ثقافة و قومية واحدة...

يتبع

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها