عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
  
     
http://www.walidphares.com

English

مقالات سابقة

وليد فارس:

بروفِسور في العلوم السياسية

كتاب "التعددية في لبنان"

تأليف د. وليد فارس

   بيروت في 12 كانون الأول 1978


القسم الثالث:

 العباسيون

كما تمليه العادات عند العرب، استولى العباسيون على الحكم على إثر مذبحة فتكوا من خلالها بالعائلة الأموية و لم يبقى منها الا واحد، أصبح حاكما لأمويي الأندلس فيما بعد. العباسيون انتقلوا الى بغداد و ركزوا دعائم الدولة العربية على أسس قوية، فأتوا بالعلم والفلسفة والتقدم، و شجعوا التجارة و الصناعة و التعليم، حتى أصبح أحد عصورهم، العصر الذهبي للعرب. و غدوا في ذلك الزمن قوة أشد من الأمريكيين والسوفيات في هذا القرن. و لكن العهد العباسي أيضا شهد في أخر أطواره تفرق العرب وأنقسامهم و دخول العناصر الغريبة عليهم. و ضعفت القوة العسكرية الجبارة التي تجزأت مع بزوغ الدويلات و الأمارات العربية هنا وهنالك. أما بالنسبة للبنان، فلم يتردد العباسيون بخرق الإتفاقيات المبرمة بين الأمويين و بين المسيحيين في الشرق. و قد فتحوا باعتلائهم الخلافة، عهداً من العدوان المستمر على الجبل اللبناني و الدولة المسيحية الساكنة فيه ـ وقد ساعد العباسيين كون الرقعة اللبنانية قد انكمشت الى الجبال اللبنانية فقط، بعد أن اتسعت أيام الأمويين حتى شملت شمال فلسطين و شمال غرب سوريا بالإضافة الى لبنان. و قد زاد من قوة الحكم العربي، ضعف البيزنطيين و تراجعهم و رداءة الحكم و فساده في القسطنطينية.

و لكن تكتيك العباسيين لم يكن مماثلاً لأسلافهم، فلم يقاتلوا الموارنة المردة مباشرة بل أتوا "بمردة" خاصة بهم، ناقلين استراتيجية الروم في عهد الأمويين. بالفعل قام الخليفة أبو جعفر المنصور باستحضار قبائل عديدة قدرت بالألف من الجزيرة و أسكنها في المناطق المتاخمة للحدود اللبنانية، التي كانت منكمشة في ذلك الوقت. فلكي لا تستعيد حدودها السابقة التاريخية، كثف المنصور استيطان القبائل العربية الإسلامية الأصيلة في البقاع و وادي التيم و بيروت و ضواحيها. و قد جمع شيوخ القبائل و أمرائهم في دمشق و خطب بهم مجاهدا و اقتطع لهم إمارات و قرى و جبالاً و سهولاً في لبنان و كأنها فارغة من السكان. و بعد أن سلمهم منشورات ملكية، قال لهم أنه توجد في بلدهم الجديد، جماعات تريد لهم شراً و تريد احتلال أراضيهم فأوعز لهم أن يردوا ضربات المعتدين و يخرجوهم من مناطقهم و يبيدوهم.

فتوجهت هذه القبائل المعبأة بالعاطفة الدينية و الحماس القتالي و بدأوا استيطان هذه الأراضي الجديدة. ولعل هذه الظاهرة هي أخطر ما حصل في الشرق بالنسبة لمسيحيي لبنان.  فاذا وجدت الأمة اللبنانية المسيحية منذ الفتح العربي و نتيجة للتعددية الحضارية، و اذا تركز الإستقلال منذ الثورة الثانية، فالمشكلة اللبنانية، لم تبدأ الا منذ أن استوطنت قبائل عربية أسلامية أراضي لبنان سنة 758 . المشكلة كانت قبل التاريخ، عربية ــ لبنانية، بمعنى أنها كانت بين دولتين قوميتين لكل واحدة منها أراض معينة و حدود معروفة و تربط بينها مواثيق و معاهدات عديدة. و لم تكن عملية الإستيطان العربية في عهد العباسيين الا خرقا واضحا: الإستيلاء على الجبال اللبنانية موطن المردة بقوة القبائل التي استقدمها لهذا الغرض.

فجيوشه النظامية لم تستطع اختراق "السد النحاسي" الذي بناه المردة حول وطنهم، على حد قول المؤرخين. لذلك اعتمد على مواجهة شعب بشعب آخر. فمقاتلوا القبائل العربية التي استوطنت في أراضي لبنان، كانوا أشد بسالة و قوة من جنود الجيوش النظامية، لأنهم كانوا يدافعون عن أرض يريدونها و يعتبرونها أرضاً عربية لهم.   

و لم يكن هذا المد العربي الجديد الا ليفجر حربا جديدة لاتزال تدور رحاها حتى اليوم. و قد أصبح للبنان مشكلتان، مشكلة مع الدولة العربية الخارجية و هي الخلافة العباسية، و مشكلة مع عرب الداخل، أو القبائل المستوطنة التي أرادت اخراج اللبنانيين من معاقلهم و رميهم في البحر، كما رمى آباؤهم الروم وراء جبال الأناضول... و المشكلتان متلازمتان. فعرب الخارج متضامنون مع القبائل التي أرسلوها الى لبنان و اعتبروها سكاناً شرعيين له، كما اعتبروا أن الأرض اللبنانية أصبحت أرضاً عربية، بعكس ما فعله الأمويون من قبلهم. و بما أن الأرض عربية، فالأرض ملك للعرب الذين يقطنون على سطحها. و كل من ليس عربيا، يصبح محتلاً ودخيلاً، أو عميلاً. أهمية هذه الصورة بالغة الخطورة، فهي ترشدنا الى تطور النية العربية في المنطقة. عندما دخل العرب منذ الفتح و حتى نهاية عهد الأمويين، اعتبروا المسيحيين المستقلين في الشرق، أو في لبنان و قسم من سوريا، أنهم أهل أرضهم و أنهم من المنطقة و لهم سيادة و هوية خاصة بهم. و الإثبات على ذلك هو المعاهدة المبرمة معهم، و الإعتراف المعلن بالسيادة على أرضهم. فإذا اعتبر العرب  المردة اللبنانيين و السوريين أعداء لفترة من الوقت، فإنهم لم ينظروا اليهم كدخلاء أو أجانب، أتوا و احتلوا أرضا عربية. فقد اعترفوا بأن أرض اللبنانيين أو السوريين المسيحيين هي أرض لبنانية، و هم أهلها الشرعيين.

 

و لكن هذا التصور تبدل مع العباسيين. فالعباسيون أعتبروا أن الأرض عربية حتى و لو كان سكانها قوم غير عرب، لأنه بالنهاية ستتم السيطرة العربية عليها. و التبدل بالموقف خطر، لأنه يسمح باسم الشرعية العربية لهذه الأرض، أن يهجر المسيحيين من جبالهم و يستبدلوا بسكان عرب مسلمون. و يبرر هذا الموقف الخطير أي اعتداء في أي وقت ضد المسيحيين، لأنهم محتلون. و قد ترجم الحكم العربي موقفه الى أعمال سجلها التاريخ و احتفظ بها.

و ليست الحملة الإستيطانية العربية التي قام بها المنصور، إلا تطبيقا للموقف الجديد من مسيحيي الشرق المستقلين في لبنان. و بالفعل، قدم الأمير منذر سنة 759 من المغيثة في بلاد المعرة وأخوه الأمير أرسلان، فجابا البلاد المتاخمة للحدود الإستقلالية اللبنانية المنكمشة، و فرقا عشائرها في عدة مناطق "فاستوطن الأمير المنذر بن مالك في حصن سلحمور، و أخوه الأمير أرسلان في سن الفيل، و الأمير حسان بن مالك في طردلا و الأمير عبد الله بن نعمان في كفرا (قرب المنصورية) و الأمير فوارس بن عبد الملك بن مالك في عبية، و تفرق الباقون في سائر أنحاء البلاد. و خذوا يغزون المردة و يحافظون على أبناء السبيل". من هنا يمكن القول أن تاريخ الإسلام على الأراضي اللبنانية يبدأ من سنة 758 مع حملة المنصور الإستيطانية و من هذه المرحلة التاريخية، يمكن أن نتفهم عمق التناقض السياسي بين المسلمين والمسيحيين في لبنان:

فعندما يشكك بعض المسيحيين بلبنانية المسلمين و عندما يتصورون بأنهم أكثر لبنانية منهم، فذلك لأن المسيحيين، يعتبرون أن أرض لبنان لهم  و أن على كل جماعة تريد الإنتساب الى المواطنية اللبنانية  أن يكون ولاؤها لهذه الأرض، أي للبنان و ليس لغيره.

فالأرض الشرقية التي دافع عنها المردة و ماتوا لأجلها تمتد من حلب حتى شمال فلسطين، فلا يعقل أن يستوطنها أحد، و يغير ملامحها اللبنانية التاريخية وينادي بولاء لغير لبنان... و للمسيحيين هنا الحق...

و لكن المسلمين، و هم أبناء القبائل التي أتى بها المنصور، يعتبرون أن الأراضي التي يعيشون عليها، هي أراض عربية، و أن الولاء لا يكون الا للعروبة، ويبرزون "مناشير الخليفة" التي اقتطعت لهم هذه الأراضي. و يعتبر المسلمون أيضا أن كل الأراضي اللبنانية عربية، و كل من يعيش على هذه الأراضي يجب أن يكون عربيا. و من لا ينادي بعروبته. فهو عميل أو دخيل، أو على الأقل أجنبي... و للمسلمين أيضا الحق....

التاريخ أعطى المسيحيين الحق، و الشرعية الأسلامية أعطت المسلمين حقهم... وبما أن المسيحيين مقتنعون بتاريخهم و حقهم، و المسلمين لا يجادلون أقوال ممثلي السلطة الشرعية (الخليفة).. فالمواجهة أصبحت حتمية و طويلة.... و يدخل تاريخ لبنان من هذه المرحلة في حقبة حرب متواصلة، حرب طرشان، يؤكد كل طرف حقه و لا يدرك موقف الطرف المقابل....

و بقدوم الأرسلانيين اذاً و استيطانهم في أحراج بيروت، انكمشت رقعة لبنان من جراء المعارك العسكرية و أصبحت حدوده الجنوبية عند خط انطلياس ـ بحرصاف مع الحفاظ على محور بحرصاف بيت مري. و استمرت المعارك بين عرب لبنان و اللبنانيين على عدة جبهات. فبينما كان المردة ينشطون في الغارات على حماة و جوارها و على البقاع، استقرت الجبهة الجنوبية في منطقة سن الفيل. و قد أستعاد المردة المنطقة حتى الشويفات حيث تحصن الأرسلانيون. و أستمرت المعارك بين الطرفين على هذه الحال سنين عديدة بين غارة للمردة و غزو للعرب. و ظلت هذه الحدود ثابتة نسبيا حتى القرن الرابع عشر. و قد حصلت حروب عدة في القرن التاسع استعان الأرسلانيون و من بعدهم اللمعيون بالعباسيون و شنوا سوية معارك ضارية ضد المردة.

و لكن انكماش الحدود اللبنانية الى هذا الحد لم يعن انكفاء المارونية، بل استمر كثير من الموارنة بشكل جاليات في الجبل كالمتن والشوف و في سوريا، و كذلك ظل المسيحيون السريان الروم في السواحل و السهول السورية. و لكن الإستقلال المسيحي لم يوجد الا ضمن وطن المردة. 

القرن التاسع 

شهد القرن التاسع تطورات هامة بالنسبة للوضع السياسي العسكري للوطن القومي المسيحي في الشرق. فحدود لبنان الجنوبية انتقلت من انطلياس الى نهر الكلب على الساحل و ظلت كما هي بالنسبة للجبل أي خط بحرصاف ـ ترشيش.

أما العلاقات الخارجية فكانت متواصلة و بكثافة مع البيزنطيين من جهة و مع أوربا الغربية من جهة أخرى.

العلاقة مع البيزنطيين كانت سياسية و عسكرية معا. فكانت سياسية من حيث التحالف الطبيعي القائم بين مسيحيي لبنان وسوريا من خلال كيانهم المستقل في الجبال اللبنانية، و بيزنطية، و هي أقوى دولة مسيحية في ذلك الحين. و قد تكرس هذا التحالف السياسي بين الدولتين الوفود المارونية السريانية التي تتالت على القسطنطينة لطلب التعاون بين الشعوب المسيحية في الشرق و تقديم الولاء لملك أو امبراطور بيزنطيا، و هو السلطة الأعلى للعالم السيحي القديم. و قد تكللت الزيارات اللبنانية السورية للقسطنطينية بذهاب كسرى أمير العاصية (أو كسروان حاليا) و هي الإمارة الجنوبية للبنان الى الأمبراطور البيزنطي، و تثبيت هذا الأخير له أميراً للعاصمة و ممثلا له فيها.

و العلاقات العسكرية كانت النتيجة الطبيعية للعلاقات السياسية الدينية الحضارية. فالبيزنطيون دعموا اللبنانيين و السوريين المسيحيين دوما في دفاعهم عن أراضيهم و عن وطنهم. و قد ساند الأسطول البييزنطي المردة في معاركهم مع العرب في أغلب الأحيان. فمنذ الثورات الأولى و الثانية للمردة في القرن السابع و مرورا بحرب المنيطرة، التي وقعت بين موارنة المنيطرة و والي بعلبك العربي، و انتهاء بنزول القوات البيزنطية سنة 801 على شواطىء الأوزاعي الغربية من بيروت، و مساندتهم قوات المردة في معاركها مع الأرسلانيين العرب، ظلت الجيوش البيزنطية تكوّن الدعامة المسيحية الخارجية للأمة اللبنانية المستقلة في الشرق. و لعل التوازن العسكري البيزنطي ـ العربي في العالم قد لعب دورا في صمود الوطن المسيحي. فالجيوش العربية البريّة كانت أقوى من القوات البيزنطية. و لكن أساطيل الروم سيطرت على البحر الأبيض المتوسط و على خطوط التنقل فيه، بشكل سمح للبيزنطيين في ضرب أي تجمع أو مدينة على الشواطىء العربية المديترانية. و قد أثرت قوة الأسطول البيزنطي على مجرى المعارك في لبنان. فقد فرغت السواحل الممتدة من سوريا الى مصر من التواجد العربي المسلم الكثيف خوفا من "الإنزال البحري البيزنطي" مما حمى ظهر المردة، و وفرّ لهم خطوط إمدادات عن طريق البحر، خاصة و أنه كان للمردة سوحل يسيطرون عليها تمتد من طرابس الى بيروت.

و بعد أن ضعفت القوة البحرية الرومية منذ سنة 825، وسيطرت الأساطيل العربية الأسلامية على البحر الأبيض المتوسط، ضعفت قوة المردة تلقائيا في لبنان و انكمشت رقعة التواجد المستقل للمسيحيين في الشرق.

و لم تقتصر علاقة اللبنانيين ببزنطية بل تعدتها الى قيام روابط مع أوربا اللاتينية عن طريق انشاء علاقات مع أقوى دولة فيها الا وهي دولة شارلمان امبراطور الغرب انذاك. و قد ترك لنا التاريخ وثائق عدة، عن قيام العلاقات الطبيعية بين شارلمان و هارون الرشيد، تشير بوضوح الى اهتمام الإمبراطور الكارولنجي بمسيحي الشرق من خلال اهتمامه بالأراضي المقدسة و حمايتها، و اهتمامه بمسيحيي سوريا بمن فيهم المستقلون في لبنان.

و تجدر الإشارة الى أن العلاقات بين الموارنة أو السريان عامة في الشرق لم تنقطع مع روما، و لا سيما أن الرهبان الموارنة قد أنشأوا في روما مراكز عدة ثقافية و تربوية و سياسية تحت رعاية البابا، و ساهموا في إقامة علاقات خاصة بين رأس العالم المسيحي و مسيحيي الشرق عامة و لبنان خاصة، مما سمح للشعب المسيحي في سوريا و لبنان المستقل، أن يستمر في التفاعل مع جناح المسيحية العالمية الغربية، بعد أن كاد الجناح الشرقي يضمحل تحت ضربات الخلفاء العرب.

أما بالنسبة للوضع داخل المنطقة اللبنانية فقد تطور بتوسيع العرب نشاطهم العسكري و السياسي ضد الوطن القومي المسيحي. فبعد أن أطلق الخلفاء العباسيون حملتهم الأستيطانية الأولى على الحدود الجنوبية للأمة اللبنانية، مع استقدام القبائل العربية و على رأسها عشيرة أرسلان، قام العرب باستقدام قبائل أخرى، فيما استمرت هذه الحملةعدة قرون، و قد يحلل بعض المفكرين السياسيين فيما بعد ان هذه الحملة لم تنته بعد حتى في القرن العشرين...

و قد أتى الحكم العباسي بالتنوخين من العراق الجنوبي و أسكنهم في مناطق لبنانية، مستهدفين من هذا الإنتقال، مزيداً من المواجهة ضد المردة و مزيدا من الضغط عليهم. و توالت القبائل العربية الى السهول و سفوح الجبال اللبنانية، "لتحرر" هذه "الأرض العربية"، من محتليها "المردة الأغراب".. و نشبت معارك متواصلة بين القادمين الجدد و قوات المردة التي قاتلت وحدها دون أي مساعدة من 825، بعد أن انكفأ الأسطول البيزنطي عن شواطىء سوريا و لبنان بعد أن تغلبت عليه السفن العربية.

و قد أستعان عرب لبنان بالعباسيين البغداديين، و تعاونوا سوية لإحكام الطوق على الوطن المسيحي. فبنى العباسيون قلاعاً على السواحل لفك ارتباط المردة بالبيزنطيين، و استبدلوا أهل المدن المسيحيين كما حصل في طرابلس، بعرب مسلمين و أتراك، و قاموا بحملات عسكرية من ناحية البقاع قادها ولاة الشام و بعلبك. و هاجم عرب لبنان المردة من الجنوب على محاور بيروت ـ أنطلياس و سن الفيل ـ المتن. و دارت معارك عنيفة و متواصلة على طول الحدود من أقصى الجنوب الى أقصى شمال الدولة اللبنانية. فتراجعت الحدود أحيانا و تقدمت حسب المواجهات العسكرية. و تقدم الأرسلانيون و حلفائهم في منطقة بيروت و احتلوها، و اشتبكوا مع قوات المردة على نهر بيروت سنة 875 ، فوقعت في صفوف العرب خسائر كبيرة، و لكن المواقع لم تتزحزح كثيرا. و في أواخر القرن التاسع، أصبحت حدود لبنان كما يلي:

حدود عكار شمالي النهر الشمالي الكبير شرقاً، خطاً يمتد من أقصى جبال الهرمل حتى قب الياس، مروراً بجزء من سهل البقاع، سيطر عليها الموارنة و قسم من الروم. أما جنوباً، فكانت الحالة أدق، اذ أنه من جراء معركة جرت بين المردة و العرب الأرسلانيين و حلفائهم في المناطق الواقعة بين بيروت و أنطلياس، تراجع كلا الفريقين الى مواقع أكثر تحصنا. فتراجع العرب الى الشويفات و حصنوها، و تراجع المسيحيون الى نهر الكلب، حيث تمركزوا فوق الجبل الذي يعلوا النهر لجهة الجنوب، فبنوا قلعة عليه و حصنوا مواقعهم هناك محافظين على خط أنطلياس ـ بحرصاف ـ ترشيش كحدود آمنة لهم . و جرت المعارك بعدئذ في المنطقة المجردة من التواجد العسكري الدائم بين المردة و الأرسلانيين.

القرن العاشر

القرن العاشر في المناطق اللبنانية تأثر مباشرة بالتطور الذي شهده الحكم العباسي في بغداد. أما الحكم العباسي فقد بدأ بالإتجاه نحو الضعف و الإنحلال لعدة أسباب.

1 ـ الأنحلال الخلقي

الطبقات الإجتماعية و تناقضاتها

الإنهيار الأقتصادي و انتشار البؤس

و قد أثر هذا الأنحلال الأجتماعي طبعا على قوة الخليفة السياسية و العسكرية، فبدأت مناطق عدة من الأمبراطورية العربية بالأنشقاق و  الأستقلال عن السلطة المركزية، خاصة في بلاد فارس و الأندلس و أفريقيا، أي المناطق البعيدة عن الحكم في بغداد. و قبض أمراء بني بويه على زمام الحكم الفعلي من سنة 945 الى سنة 1055، فتلاشت سلطة الخليفة، و تزعزت أركان الدولة الأسلامية الموحدة، و طمع بها أعداؤها القدامى والجدد، فهاجموها و هي متفككة الأوصال، مريضة لا تستطيع الوثوب. و لعلّ الحالة هذه تعود، حسب أغلب المؤرخين الى دخول العنصر الغريب، من غير عربي، و غير أسلامي، الى قلب وأعضاء المجتمع العباسي العربي الإسلامي. و لا شك أن توسيع مناطق الإحتلال العربي، قد أدى الى توسع للعناصر الإنسانية التي دخلت دوائر الدولة الأسلامية. فلم تستطع هذه الأخيرة أن تهضم كل هذه المتناقضات و الظواهر المتعددة و الغير متجانسة، خاصة و أن الخلافات الداخلية العربية قد شلت قدرة الدولة المركزية فتداعت قواها و انقسمت على بعضها البعض.

و في سنة 927 ، ابتدأ الزحف البيزنطي على المناطق العربية لاسترجاعها و لدحر محتليها نحو الجنوب. فبدأت حرب شرسة بين الجيوش الرومية، التي استرجعت قواها و رصت صفوفها، و استعانت بشعوب مسيحية أخرى، و بين إمارات و ممالك عربية منقسمة على نفسها و في عراك و تناقض متواصل بين بعضهما. و قاد الجيوش البيزنطية قواد أرمن و روم تحت إرشادات امبراطورهم كيفقور فوقاس و جان تزيميس من بعده.

و تولى الحمدانيون، وعاصمتهم حلب المقاومة عند العرب في شمال سوريا، و تولاها الفاطميون على سواحل لبنان و في فلسطين ومصر.

و قد بدأت الحروب بدخول البيزنطيين الى شمال سوريا من عدة محاور، فاستولوا على قرى عدة و مدن كارطاه قرب أنطاكية (سنة 966) و طرطوس سنة 965. و دخول الروم العراق حتى نصيبين سنة 966. وواصلوا تقدمهم سنة 968 فدخلوا معرة النعمان و حماة و حمص. و وقعت أنطاكية، كرسي الرسل و البطاركة و مدينة القديسين سنة 969. أما حلب و هي قلب المقاومة العربية أنذاك، فاستسلمت و أضحت تحت الوصاية البيزنطية سنة 969 أيضاً. و في نفس السنة، انضم الى الروم، 12 ألف فارس عربي اعتنقوا المسيحية و ارتدوا الى المناطق العربية، فقاموا بالغارات المتلاحقة عليها و أرهبوا المدن و القرى و أفرغوها. و في سنة 974، و في عهد الأمبراطور جان تميزيسس، انضم 10 آلاف مقاتل أرمني الى الصفوف البيزنطية  دعماً من الشعب الأرمني للحملة التي أعدت "لاسترجاع الأراضي المغتصبة" حسب قول بعض المؤرخين. و استمر الروم في حملاتهم، حتى سهل البقاع في لبنان، حيث كان جنبهم الأيمن آمناً، بوجود المردة منتشرين على طول القمم البنانية. فواصل  البيزنطيون تقدمهم و احتلوا بعلبك، فوصلوا الى الجليل في فلسطين و كادوا أن يحرروا القدس. أما على محور السواحل اللبنانية، فقد قاومت الحاميات الفاطمية، بقوة عنيفة، و سقطت بعد قتال ضاري. أما طرابلس فلم تسقط بأيدي البيزنطيين.

و بقي البيزنطيون في هذه المناطق و حاصروا أسوارها حتى سنة 999 حيث تراجع الروم من الشرق مجددا، ولم يستطيعوا الحفاظ عليها طويلا، وانكمشت رقعة تواجدهم في أنطاكية، و أبرمت معاهدة بين الملك باسيل الثاني و الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر اللّه وتكرّس هذا الوضع.

و يمكن القول أن حملة البيزنطيين هذه قد أخذت طابعا أهم مما وصفته كتب ومراجع التاريخ. فنحن نعتبر أن الحرب التي شنتها بيزنطيا و حلفائها على العرب في الشرق، هي حملة صليبية بكل معنى الكلمة. لأن نية بيزنطيا كانت استرجاع الأراضي المسيحية الشرقية المحتلة، و خاصة في فلسطين و على رأسها القدس.

و لا شك أن الشعوب التي شاركت مباشرة أم بطرق آخرى في هذه الحملة قد ساهمت في ايجاد الإطار المسيحي الحضاري الذي منه انطلقت هذه الحملة الصليبية. و هي بنظرنا الاولى، بما أن الحملات الصليبية الأوربية لم تتحرك فعلا الا على أثر مجمع كلرمونت فران وفي فرنسا سنة 1095. و يمكن القول بأن الشرق المسيحي قد قام بحملته الصليبية لتحرير أراضيه من الأحتلال العربي الذي دام عدة قرون. و لكن عدم نجاح المسيحيين الشرقيين، و على رأسهم بيزنطية، أدى فيما بعد الى انطلاق الحملات الصليبية الأوربية.

الحملة هذه، إضافة الى الثورات المسيحية المتتالية في الشرق، تصور لنا لوحة لوضع المسيحيين بعد الفتح العربي. فالعرب لم يعتبروا أنفسهم محتلين لمنطقة كان عليهم أن يحترموا خصائصها و سيادة شعوبها كمجموعات بشرية تتمتع بثقافات و لغات وطنية وتعيش ضمن تصورات تمتد جذورها الى تاريخ طويل. اعتبر العرب أن الأراضي التي يفتحونها، تصبح أراض عربية، وهي مقدمة لهم، لأنهم استطاعوا احتلالها بالقوة...

و من هنا نقّيم النية العربية من جديد من خلال المرحلة التاريخية التي نستطلعها، فنتأكد أنها لاتقل توسعية عن غيرها من نيات الاستعمار القديم، بل تفوق أحيانا حدود النيات الاخرى. فالحكم العربي لا يعترف بالشعوب التي يحتلها كشعوب، "يتسامح" مع الذين لا يدخلون دار العروبة او الاسلام، و يرعاهم ضمن شروط محددة رأيناها سابقا. لذا فالتعددية الاسلامية- المسيحية في الشرق كانت سلبية لدرجة استحال معها التعايش المتبادل الاحترام و اتخذ  تاريخ هذه المنطقة للاسف، لونا قاتما، تميزت به نساء المسيحيين عندما ارتدت لفترات طويلة الثوب الاسود، معلنة الحداد العام الذي عاشت فيه النصرانية في الشرق منذ الف سنة.

و للسبب هذا، تجمع احرار المسيحيين في وطن حافظوا على استقلالهم فيه، ودفعوا ثمن هذا الاستقلال غاليا، فمنعوا عن انفسهم حياة الرخاء و الرفاه المادي كي يحافظوا على حياتهم و على شخصيتهم.

من هنا ايضا يمكن ان نفهم تعاون مسيحيي الشرق، الذميين منهم، اي سكان المناطق الواقعة ضمن الاحتلال العربي، و المستقلين منهم، اي الساكنين في الجبال اللبنانية، مع الشعوب و الدولة المسيحية الاخرى، الشرقية اولا، و الغربية من بعدها، كي يستمروا في الحياة الحرة في منطقة اراد الحكم فيها العداء لهم، منذ أن دخلها. و يمكن أن ندرك ايضا ابعاد الارتباط بين مسيحيي الشرق عامة و مسيحيي سوريا و لبنان خاصة، بالشعوب المسيحية الاخرى، سياسيا و عسكريا و حضاريا. فالارتباط ليس ارتباط مصلحة معينة، بل ارتباطا عضويا لشعوب حضارة واحدة متضامنة، و ارتباطا مصيريا لعناصر تيار عالمي واحد... و تعاون الشعوب المسيحيية واجب ضروري، خاصة اذا كان احد هذه الشعوب في خطر ابادة جماعية. و التاريخ برهن أن "الارتماء"  "المزعوم" في حضن الغرب  ليس الا تضامنا مسيحيا بين شعوب الحضارة الواحدة تماما كتضامن الشعوب الاسلامية و تضامن الشعوب الافريقية و غيرها.

و نرى هذه الظاهرة منذ القرن السابع، حيث تضامن الموارنة و المردة و مسيحيو الشرق مع بيزنطية في حربها ضد الغازي العربي. و في القرن الثامن و التاسع، تضامنت بيزنطية مع الثوار المردة و السريان و سوريا و لبنان و دعمتهم. اما في القرن العاشر، اي عند دخول الجيوش الرومية الى سوريا و لبنان و العراق في اطار الحملة الصليبية الشرقية الاولى، التفت الشعوب المسيحية الشرقية حول بيزنطية، فجند الارمن اكثر من 10 آلاف محارب مع القوات النظامية الرومية ، و حمى الموارنة المردة ظهر الروم عند اجتيازهم سهل البقاع، و انضمت القبائل العربية التي دخلت المسيحية الى البيزنطيين ايضا واغارت على المدن العربية الاسلامية...

و الظاهرة هذه ليست عجيبة. فعندما يدخل العرب المسلمون الى منطقة، يساندها السكان المسلمون الى اية قومية انتموا... والظاهرة نفسها مبدئيا موجودة عند المسيحيين، و خاصة الشرقيين منهم.

و ابان الحملة البيزنطية الصليبية الشرقية الاولى،  وقف اللبنانيون السوريون المسيحيون اذا مع القوات الرومية و دعموها.

اما القبائل الارسلانية و حلفاؤها العرب المسلمون الذين استوطنوا المناطق اللبنانية، تحالفوا طبيعيا مع الدولة العربية الاسلامية التي ارسلتهم و اقتطعت لهم اجزاء من اراضي الامة البنانية. لهذا لا نتعجب ابدا اليوم أن يتضامن الفريق المسلم مع شعوب عربية مسلمة في قضاياها المصيرية، و يفوق تضامنه هذا، ارتباطه التعاقدي مع الفريق المسيحي. فالارتباط العضوي العربي، لعرب لبنان بإخوانهم العرب خارج لبنان، ارتباط لا يؤثر عليه اي عقد و أي ميثاق و اية دولة اجنبية.... و الارتباط القومي الحضاري، كما سنراه في الفصل الثاني، اسمى نوعية للارتباط بين الشعوب. كذلك تضامن "الفريق المسيحي" قي لبنان مع شعوب مسيحية اخرى في العالم، لا يجب ان يبدو غريبا اليوم، اذ رأينا أن التاريخ فرض هذا التضامن منذ دخول العرب الى الشرق...

و لكن القرن العاشر، لم يشهد مواجهة عسكرية فعلية بين الامة اللبنانية المسيحية و عرب لبنان. فالارسلانيون و حلفاؤهم، ادركوا أنه لا فائدة من المعارك المتواصلة مع المردة، لان توازن القوى و المعادلات العسكرية السياسية لا تسمح ببسط السيطرة العربية الى "كل لبنان". فاذا دعم الحكم العربي عرب لبنان، فالحكم البيزيطي يدعم مردة لبنان.

لذلك جمدّت القبائل العربية المستوطنة نشاطها العسكري المتواصل، و انكفأت الى تعريب المناطق التي سيطرت عليها الى اعطاء وجه لبناني للعروبة القادمة من الجزيرة. فبدأوا منذ القرنين العاشر و الحادي عشر، بخلق بيئة اقليمية جديدة لدنيا العرب: و هي البيئة العربية اللبنانية التي تأصلت على الارض اللبنانية، واصبحت من "اهل البلد"، ولكن البلد اصبح عربياً..

يتبع

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها