عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
  
     
http://www.walidphares.com

English

مقالات سابقة

وليد فارس:

 بروفِسور في العلوم السياسية

كتاب "التعددية في لبنان"

تأليف د. وليد فارس

   بيروت في 12 كانون الأول 1978


القسم الثاني:

 الأمويون     

 ظهر الأمويون على الساحة السياسية العربية مع الخليفة عثمان ابن عفان الذي واصل التقدم الإسلامي نحو برقا في ليبيا وشمال إفريقيا. وكان ابن عمه معاوية والياً على الشام. تحيز الخليفة الى العائلة الأموية أي الى بني أمية، فاغتيل و أصبح مركز الخلافة شاغرا. فوقعت حرب الخلافة بين الأمام علي، نسيب الرسول، ومعاوية حاكم الشام، وعدد من المرشحين للخلافة. وقعت المعارك بينهم أهمها في واقعة الجمل و صفين، و كانت حصيلتها أن انتصر معاوية على الجميع و أصبح خليفة، فاتحا العهد الأموي، و مركزه الشام.

مما لاشك فيه، أن وجود مركز الخلافة العربية في الشام قد أعطى طابعا جديدا للمواجهة اللبنانية ـ العربية. فالمقاومة للحكم العربي في جبال بعيدة في أطراف الأمبراطورية، ليست "كخنجر يهدد قلب العروبة". فقوات المردة رابطت على مرمى حجر من عاصمة أقوى دولة في ذلك الحين، و هددت رأسها مباشرة. فلم يكن على الخلفاء الا أن يجهزوا جندهم لكي يحتل الجبل العاصي، و يعربه نهائيا. فما أن جلس الأمويون على كرسي الخلافة العربية حتى اندلعت الحرب في سوريا الغربية بين اللبنانيين المسيحيين و الخلافة العربية. وخاصة هذه الحرب كانت باتخاذها الطابع الكلاسيكي، و تخللتها معاهدات سلام و اتفاقيات و مواثيق ربطت الأطراف بموجبات مختلفة. والجدير بالذكر أن تركيز استقلال الوجود اللبناني المسيحي في المنطقة العربية تمتد جذوره الى تلك الأيام، لأنه لم يكن في العهود السابقة سببا لقيام دولة مسيحية مستقلة في سوريا الغربية تضم جميع الأقليات اللاجئة الى لبنان اضافة الى الأمة المارونية. فالمنطقة كانت مسيحية، و لم يكن هنالك حكم عربي جديد. اذا بدأ تواجد الأمة البنانية مع الفتح العربي كنتيجة للتعددية التي فرضها هذا الفتح.

فاستقلال هذه الأمة يعود تاريخه الى قيام أول دولة سيدة للبنانيين أرتبطت بمعاهدات، فرضت أغلبها مع الحكم القائم على حدودها من كل صوب. و قيام هذه الدولة بدأ بالثورة اللبنانية الثانية التي انطلقت سنة 677 أيام معاوية من جراء فرض الضرائب القاسية على أهل الجبل. فكان أن نظم المردة اللبنانيون والسوريون سوية حملة عسكرية بمساندة الدولة البيزنطية  سيطروا من خلالها على جميع الأراضي الواقعة بين جبال اللكام في سورية المسيحية المشتركة بمعارك متواصلة وعنيفة ركزت من ورائها أوسع حدود للدولة المسيحية اللبنانية الشرقية، ولم تبلغ حدود الدولة المسيحية في أي عصرهذا الأمتداد منذ الفتح العربي حتى اليوم. و انطلاقا من هذه الدولة التي حكمها الموارنة اللبنانيون و السوريون و دعمها البيزنطيون الروم انطلقت قوات المردة، في غارات صاعقة على الحاميات العسكرية العربية في سوريا وفلسطين. فأدى هذا الوضع، الذي هزّ كيان أكبر و أقوى و أعظم دولة في ذلك العصر، و هي الأمبراطورية العربية التي حكمت العالم القديم من الهند الى الأندلس، الى توقيع معاهدة نظمت العلاقات بين الدول العربية وعلى رأسها معاوية من جهة و الدولة البيزنطية و على رأسها قسطنطين الرابع و الدولة البنانية و على رأسها الأمراء الموارنة والمردة من جهة ثانية. بموجب هذه المعاهدة يؤدي العرب للروم كل سنة ثلاثة آلاف ذهبية وثمانية آلاف أسير وخمسين جوادا. وتعهد العرب أن يؤدوا الى المردة مالا وأن يحترموا سيادتهم على دولتهم. هذه هي المعاهدة الأولى. ولكن حربا أخرى نشبت بين اللبنانيين و الخلافة العربية، نتجت عنها معاهدات عدة.

حوالي سنة 680، تجدد القتال، و أغارت قوات المردة من جديد على المناطق العربية الحدودية و تكررت بشدة، فطالب عبد الملك خليفة الشام، تجديد معاهدة الصلح الأولى و التزم بموجبها بشروط جديدة للأمبراطورية البيزنطية وللامراء المردة.

و في سنة 685 و على أثر تعاظم قوة الدولة البنانية، طلب الخليفة عبد الملك بن مروان من امبراطور بيزنطيا يوستنيانس الأخرم أن يبرم اتفاقية جديدة هذه أهم بنودها:

1ـ يؤدي  الخليفة في كل يوم ألف ذهبية للأمبراطور البيزنطي و حصانا و أسيرا.

2ـ يقتسم العاهلان خراج قبرص و أرمينيا و أيباريا.

3 ـ تتوقف غارات المردة في لبنان.

و كان للامبراطور البيزنطي في الدولة البنانية فرقة مردة تابعة له، سميت بالمردة البيزنطية لتفريقها عن المردة الجراجمة، و هم مردة لبنان وسوريا. و على أثر حيلة ومناورات عدة توصل الأمبراطور أن يسحب فرقته من الدولة البنانية ـ السورية المسيحية التي اتسعت رقعتها كثيرا، فوجه بذلك الضربة الثانية و القاضية لتواجد المسيحية في الشرق، بعد أن انسحب الروم من المنطقة أول مرة بعد معركة اليرموك.

و يجتمع الؤرخون على ما قاله توافانس بشأن أبعاد 12 ألف جندي من المردة البيزنطيين الى حدود بيزنطيا بالقرب من أرمينيا  ان عملية السحب هذه قد أدت الى خسارة جميع المناطق السهلية السورية الواقعة بين سهل عكار شمال لبنان حتى حدود الجبال الفاصلة بين الأناضول و سهل حلب... و قد خلت هذه المنطقة و مدنها من العرب بسبب غارات المردة عليها. (خارطة ص 43).

و كانت تحت السيطرة اللبنانية السورية المسيحية مبدئيا، الى أن سحبت بيزنطية فرقتها المرابطة على حدودها، فدخلت القوات العربية وأحكمت احتلالها فيها بأنشاء قلاع و مراكز تجمع لجيوشها. و أهم نتيجة عسكرية كانت بأن فصلت القوات العربية الألتحام بين المردة المتواجدين في سوريا الشمالية و بيزنطية. والأنشقاق هذا أدى الى نتيجتين هامتين. الأولى إبرام معاهدة بين الخليفة و اللبنانيين مكان المعاهدة السابقة، و الثانية الى اضعاف القوة العسكرية اللبنانية السورية المسيحية، و قوة الأمبراطورية البيزنطية نفسها (خ، ص: 45) أما المعاهدة الأخيرة بين العرب واللبنانين أو بين الخلافة الأسلامية و المسيحيين في لبنان فقد كرست السيادة للطرف الثاني و مساواته بالدولة العربية بعكس المسيحيين الذين لزموا مدنهم الواقعة تحت الحكم الأسلامي، كمسيحيي الشام و العراق و مصر.

و يؤكد المؤرخون هنا أن للمواثيق التي عقدة بين الأسلام العربي و لبنان المسيحي في القرنين الخامس والسادس قيمة قانونية كبيرة من حيث الأستشهاد بها طيلة قرون حتى قدوم العثمانيين و تجديدها باتفاقيات بين فرانسوا الأول ملك فرنسا و السلطان العثماني. و المعاهدات العربية ـ اللبنانية المسيحية هي المرتكز الذي أقيمت عليه صيغة التعايش في الشرق. فالواقع التعددي الذي فرضه العرب بدخولهم، و المسيحيون في عدم ذوبانهم التام، من خلال تواجدهم في لبنان، أوجب "خلق" هذه المعاهدات لقيام تعايش سلمي.

 فالعرب لم يسطيعوا مواصلة المعارك دائما، خاصة وأن حروبهم الداخلية قد استوعبت جزءاً كبيرا من قدرتهم العسكرية. فطلبوا من الروم أولاً ومن لبنانيين ثانياً أن يبرموا معاهدات كي يؤمنوا ظهورهم عند مواجهتهم الثورات الناشبة ضد الحكم في أجزاء كبيرة من الإمبراطورية العربية. و لكن المسيحيين في لبنان لم يقبلوا للأسباب نفسها، بل تكريسا لإرادتهم بالعيش في سلام ومنعا للحرب. و قد كلفتهم غاليا، حيث أن لا عمق أستيراجي عندهم، خاصة و أن بيزنطيا قد سحبت قواتها العسكرية من جيوش نظامية و قوات مردة تابعة لها. فالمعاهدات كانت حاجة ملحة نسبيا للمسيحيين، مع أن الخلفاء، هم الذين طلبوها على حد قول جميع المؤرخين والشاهدين. ولكن غارات المردة الصاعقة والخاطفة والمدمرة على المراكز والمدن العربية استهدفت استسلام الحكام العرب أمام الخراب  و طلبهم إبرام معاهدة، وهي ما كان يريده اللبنانيون. و قد تلخصت استيراتيجية المسيحيين الشرقيين منذ الفتح العربي كما يلي:

ـ انشاء قوة عسكرية ذاتية سريعة التحرك و فعالة تستنفر و تعبأ بسرعة، من ردّ العدوان و توجيه ضربة خاطفة الى المعتدي بحيث تشل قواه بسرعة فائقة. و الإستيراتيجيية العسكرية هذه اعتمدتها و لاتزال، جميع الأقليات أينما وجدت، أكانت دولا أو ضمن الدول. فوضع الأقليات الأنساني و الجغرافي، و السياسي أحيانا، لا يسمح لها بخوض حروب طويلة الأمد، لأن هذه الحروب هي من صالح الطرف المقابل الذي يستطيع الصمود، لكثرة عدده وعمقه الأستيراتيجي. و لا شك أن مبدأ إنشاء القوة العسكرية الذاتية، قد أصبح من مقدسات المسيحيين في الشرق و خاصة لبنان. و أثبت التاريخ القديم و المتوسط و يثبت التاريخ الحديث اليوم، بعدم النظر الى المعطيات السياسية و بدون تقييم إيديولوجي، أن الحياة الجماعية للمسيحيين ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بوجود هذه القوة و بدرجة تنظيمها.

العهد الأموي اذا، شهد استقلالا تاماً و سيادة تامة للأمة اللبنانية التي اتسعت رقعة تواجدها أكبر اتساع. و لكن نهاية هذا العهد شهدت انكماشاً للوطن المسيحي الى بلاد الشوف جنوباً و عكار شمالاً. و لكن انكماش حدود الوطن المسيحي اللبناني لم يعن انحسار المسيحيين فيه. ( خ، ص، 47 )

فالحدود اللبنانبة لم تكن حدود تواجد المسيحيين اللبنانيين و السوريين، بل حدود الأستقلال السياسي و السيادة للأمة اللبنانية.

يتبع

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها