عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
  
     
http://www.walidphares.com

English

مقالات سابقة

وليد فارس:

بروفِسور في العلوم السياسية

كتاب "التعددية في لبنان"

تأليف د. وليد فارس

   بيروت في 12 كانون الأول 1978


الفصل الثالث

التعددية ومرحلة الحكم العربي

اذا كان الفتح العربي هو المحرك الذي غير ملامح المنطقة وهويتها، فالحكم العربي فيما بعد، وعلاقته بالامة اللبنانية، كرّس هذه الملامح وهذه الهوية.

القسم الاول: الخلفاء الراشدون

وهم الحكم السياسي الاول للاسلام بعد النبي محمد. اهتموا باحتلال المناطق الشرقية والافريقية والسيطرة عليها بعد معارك كبيرة وشرسة ضد الجيوش البيزنطية التي أحتلت هذه المناطق بسرعة غير معقولة نظرا لقوة الامبراطورية البيزنطية المفترضة. فبعد ان وحد ابو بكر، خليفة النبي، القبائل العربية، توجه خلفه عمر، "أمير المؤمنين" الى سوريا والعراق واخضعها. وكان الساحل اللبناني مع المناطق التي سقطت.

هذا الحكم الذي امتد من سنة 632 الى سنة 661 تميز بالنسبة للاسلام بالتدين والطهارة النفيسة والتقشف. فالاندفاع الذي اعطاه الاسلام للعرب في الجزيزة، جعلهم أقوياء دون ان يعطتهم حب الظهور والثراء المادي. ويعطي المؤرخون مثلا على ذلك عندما يذكرون قصة خليفة ينام على الارض تحت ظل النخيل، بينما جيوشه تحتل أعظم مدن العالم القديم وتدخل افخم واروع القصور الملكية. وينسب المؤرخون هذه "الطهارة" السياسية عند العرب ومثاليتهم في هذه الحقبة الى "طهارة عرقهم وعقيدتهم". فعرب القبائل في السنين الاولى للاجتياح لم يكونوا الا عربا في النسل. كما ان الدين الاسلامي لم يكن قد اتصل بالديانات والحضارات الاخرى في العمق...

لعل هذه النظرية صحيحة، وتطبق على كل التيارات في انطلاقتها أو في تجديد انطلاقتها. ونلاحظ ايضا ان المد العربي ايام الخلفاء الراشدين كان الاقوى وفيه سجلت المعارك الفاصلة مع الدول المحيطة اكانت البيزنطية ام الفارسية. اما التقدم بعدهم، فقد كان اسهل لعدم وجود قوة عسكرية تضاهي العرب.

بالنسبة لمسيحيي الشرق، فالمعلوم عن الراشدين لم يقسوا كما فعل من بعدهم. ولكن العلاقة لم تكن بالطبع، علاقة مساواة بين العرب والشعوب المحلية. فالانظمة المدنية ميزت بين العنصر الاول والثاني وفرضت كما رأيناه سابقا شروطا وشرعت قوانين خاصة للعنصر الثاني.

اما في لبنان، فالوضع لم يكن راكزا بل كان متمّوجا حسب التطورات الكبيرة التي غيرت ملامح المنطقة. فالجبل في لبنان لم يكن مسكونا من قبل بكثافة تذكر، بل كانت المدن الساحلية تستقطب الناس بتجارتها وحيويتها على الصعيدين السياسي والثقافي.

عندما دخلت الجيوش العربية من البقاع ومن الساحل الفلسطيني، تراجعت الحاميات البيزنطية، وسقطت المدن في ايدي القوات العربية. في مرحلة اولى هرب قسم من السكان الى الجبال القريبة ملتجئين الى شبه المصايف التي احاطت بالمدن الساحلية. فبدأ الجبل يستقبل مزيدا من المهاجرين واللاجيئين والمهجرين اضافة الى سكانه.

اما سكانه الاصليون فكانوا قلائل في الجنوب والوسط ، وكانوا بعدد لا بأس به في الشمال. وكانت اغلبية الجبليين الساحقة من الموارنة اللبنانيين، اي الموارنة الذين "تمورنوا" على يد الرهبان الموارنة الذين هربوا من سهول سوريا الشمالية (افاميا)، هاربين من الطغيان البيزنطي، حوالي قرنين قبل الفتح العربي.

 

وعند اشتداد وطاة الاحتلال العربي في الساحل والسهل الداخلي اي البقاع، لجأت اعداد كبيرة من مسيحيي لبنان وسوريا وفلسطين الى الجبال واستوطنوها نهائيا، مشكلين فيها امة معلقة على الصخور فوق الوديان. وتشكلت هذه الامة من موزاييك (Mosaique) دينية، على حد تعبير احد المؤرخين، تضم جميع الطوائف والقوميات والاثنيات المسيحية ( خريطة39) السورية والعراقية والفلسطينية واللبنانية السابقة للفتح. وهنا يمكن القول بأن " سوريا الكبرى" او "الهلال الخصيب" الذي جمع في شبه وحدة جغرافية هذه الشعوب العريقة، قد انتهى مع دخول الجيوش العربية. فثقافات الهلال التي انتمت الى حضارة واحدة، قد تراجعت الى جبل لبنان واضعة على جروده ما تبقى من هذه المنطقة ومن حضارتها. والجدير بالذكر، هنا، ان المفكرين الذين دعوا الى وعي قومي يمتد في جميع انحاء هذا الهلال، هم من جبال لبنان... والتفسير التاريخي الوحيد لهذة الظاهرة، هو ان قسما كبيرا من المسيحيين في لبنان لم ينس السهول الفسيحة التي حرثها، ولا المدن المشرقية الكبرى التي بناها، ولا الحضارة العظيمة التي ساهم في اقامتها على اراض ملكها لقرون عدة بل لآلاف السنين قبل ان يغادرها ليلجأ الى جبل لبنان. فالمفكرون هؤلاء، بعدم النظر الى صحة أم خطأ الايديولوجية التي افرزوها، يعبرون صراحة عن احلام شعوب متعددة طردت من ديارها على اثر الفتح، ولا تزال تحن، وذلك في احساسها اللاواعي، الى اقامة دولة تضم جميع المناطق التي شكلت تاريخيا "الهلال الخصيب".

وتلاقي هذه النظرية اقبالا عند فريق من الروم الارثوذكس الذين حكموا الشرق قبل العرب لمئات السنين، وعند البعض الآخر من الاقليات المسيحية. ولكن الحاجز الاساسي الذي يعرض نظريا وعمليا هذا التيار يتلخص بنقطتين محركتين:

اولا:

أن أنصار هذا التيار يصرّون على عروبة سوريا الكبرى وهذا ما يتناقض مع التاريخ، إذ ان العروبة هي التي قضت على سوريا الكبرى وحولتها الى لبنان الكبير. فالشعوب السورية المسيحية التي نزحت من مناطقها السهلية، سحبت بنزوحها من تلك الاراضي، فلم تعد سورية بل اصبحت عربية. ويمكن تشبيه هذه الحالة بما حصل في اميركا عندما دحر الانكلو – سكسون الهنود الحمر طيلة قرون ونيف، وجمعوهم في شبه مخيمات معزولة. فلا يمكن القول منا ان اميركا هندية حمراء، لان التاريخ فرض الانكلو- ساكسون في هذه المننطقة، ولم يبق للهنود الحمر، الا ذكريات تاريخية عن مجدهم السابق فوق سهول اميركا.

ثانيا:

ان موقف انصار هذا التيار معاد دائما للوجود اللبناني، مع انهم من اساس تركيبته. فاذا كانت معاداة الكيان اللبناني موقف معقول بالنسبة للنظرية الوحدوية، التي ترفض الكيانات الاقليمية داخل سوريا الكبرى، فمعاداة هوية اللبنانيين الحضارية، موقف غير معقول ويتناقض تماما مع الحقيقة. لان معاداة هوية المسيحيين الحضارية، ورفضها، هو، اذا رجعنا الى التاريخ، معاداة ورفض الهوية السورية الهلالية السابقة للفتح العربي. فهوية الميسحيين اللبنانيين هي هوية سوريا الكبرى التاريخية. وعندما يدافع المسيحييون عن هويتهم الحضارية فهم يدافعون عن هوية سوريا الكبرى، مع علمهم بأنهم لن يستطيعوا ان يستعيدوها، كما لا يستطيع الهنود الحمر ان يسترجعوا اميركا. فالمحافظة على الهوية الحضارية المسيحية في لبنان، هي النتيجة التاريخية للمحافظة على هوية سوريا الهلالية القديمة... ومعاداة الهوية المسيحية في لبنان، هو معاداة الهوية السورية القديمة وطعن بقيمتها التاريخية.

فالامة السورية القديمة هي ام لبنان التي أزالها الفتح العربي نهائيا، فلا تستطيع هذه الامة ان تحيي نفسها وهويتها الا من خلال قيام الامة اللبنانية الفتاة واستمرارها في طريق الرقي والحضارة والتقدم.

والامة اللبنانية المسيحية هذه ركزت دعائمها حول الجبال اللبنانية وشكل الموارنة فيها الجسم الاساسي وكوّن المردة جهازها الدفاعي العسكري.

من هم الموارنة؟

المهم أن نعلم أنهم شعب مسيحي من شعوب سوريا، ذو الأصل الآرامي، بدأ ظهوره كاتباع لعقيدة راهب في جبال قورش اسمه مارون وآخر في سهول سوريا ( أفاميا ) اسمه يوحنا مارون فيما بعد. وتحول الأتباع من رعية الى كنيسة مستقلة عن صراعات الغرب والشرق الدينية في القرون السابقة للفتح العربي. وتمحور الموارنة حول كنيستهم وأديارهم في منطقة حلب حتى أصبحوا شبه أمة، وقد امتدوا فيما بعد الى شمال لبنان واستوطنوا الجبال فيه، ناقلين المارونية الى قممها ووديانها الصخرية. وقد أدت التحولات السياسية والدينية في الشرق الى هجرتين للموارنة. الأولى، بعد مضايقات الحكم البيزنطي الذي لم يقبل باستقلالية كنيسسة الموارنة عن كرسي القسطنطينية، فالتجأعدد كبير من الرهبان ورجال الكهنوت الى الشمال ووسط لبنان وعمموا المارونية فيه. و الهجرة الثانية و الأهم حصلت من جراء الفتح العربي حيث انتقل الثقل السياسي والسكاني للموارنة الى الجبل، بانتقال بطريركيتهم وقسم كبير من الشعب. ويعتبر الموارنة تاريخيا العمود الفقري للأمة اللبنانية المسيحية لكثرة عددهم وقوتهم العسكرية وتراص صفوفهم و وحدتها. و كثيرا ما يخلط البعض من المؤرخين و المفكرين السياسيين بين الأمة اللبنانية و الأمة المارونية. الحقيقة أنه اختلاف نظري بين الأثنين. فالأمة اللبنانية التاريخية جسدت مقاومة الكتلة المسيحية في لبنان للزحف الخارجي و العربي خاصة. و الكتلة المسيحية لم تكن تتشكل من الموارنة فحسب بل من الروم الأورثوذكس الرافضين لسياسة بيزنطيا الأنهزامية والروم الكاثوليك فيما بعد، و الآشوريين و السريان و عدة طوائف صغيرة. و لكن العدد الأكبر من هذه الكتلة كان مارونيا.

أما الأمة المارونية فلم تتواجد في لبنان فقط بل في أنحاء من سوريا وفلسطين وقبرص. ولكن تواجد الأمتين على أرض واحدة في لبنان و التاريخ الواحد لهما جعل منهما جسما واحدا بصورتين و نشبه هذه الظاهرة بالظاهرة الأمريكية. فالولايات المتحدة أمة أمريكية، ولكنها أمة أنكلو ــ ساكسونية بالوقت نفسه. فالانكلوساكسون هم العنصر الأكبر والأقوى فيها ولكن ذلك لا يمنع أن يوجد غير أنكلوساكسون في الأمة ألأمريكية.

من هم المردة ؟      

حسب استنتاجات المؤرخين نستطيع القول بأن أصل المردة متعدد، فارسي وسامي، و انتشارهم متعدد أيضا، فهنالك مردة فارس، و مردة سوريا و مردة الأناضول. والذي يعطيهم خصائص موحدة، هو قوتهم الحربية و انتفاضتهم ضد الغزاة.

و قد تحول مردة سوريا الى موارنة مع انتشار المارونية و مع قدومهم الى جبال لبنان حيث أن اللقاءات المشتركة المصيرية التي فرضها التاريخ على الشعبين الماروني و المردة، جعلت منهم شعبا واحدا، فاكتسب المردة من الموارنة الدين واكتسب الموارنة من المردة القوة العسكرية الحربية. وأصبح دفاع الشعب الماروني والمسيحي عامة في لبنان والمناطق المحيطة به يعتمد على قوات المردة وأصبح العمق الإستيراتيجي و البيئة الطبيعية للمردة، امتدادا مارونيا في جبال لبنان و جزءا من سهول سوريا. و سميت مردة سوريا الموارنة، الجراجمة.

وقد قاوم اللبنانيون في جبالهم المد العربي منذ فجر دخول الجيوش العربية الى لبنان، و قد استفادوا من عدم قدرة العرب على تسلق الجبال وعدم إمكانيتهم فتح الجبل. و يمكن القول، في هذا الصدد، أن الهجمات العربية لم تستهدف الدخول الى الجبل بقدر فصل الجبل عن البيزنطيين. و قد ترك العرب فعلا الجبل وراءهم و أكملوا تقدمهم نحو سوريا الشمالية والأناضول. و لكن ذلك لم يمنع الموارنة في لبنان، حين تحالفوا مع البيزنطيين، أن يثوروا ضد الحكم العربي الجديد للمنطقة، حاملين لواء الثورة العامة للشرق ضد العرب. وبين سنتي 644 و 650 (إبان خلافة عمر وعثمان) انطلقت قوات الثوار و كانت من الموارنة و المردة اللبنانيين يعاونهم فريق من الروم المحليين ضد معسكرات الجيوش العربية. و قد استرجعت الثورة اللبنانية المارونية قسما كبيرا من السواحل اللبنانية و السورية وجزءا من سهل البقاع و سهول شمال فلسطين. فالأندفاع الذي انطلقت به الثورة يبرره نكسة المسيحية الشرقية وانكسارها بعد معركة اليرموك. و أمنت الأساطيل البيزنطية الدعم البحري و مدت الثوار بالمساعدات، فكادت تلك الثورة أن تستعيد الشرق كله و تعيد وجهه الحضاري الغريكو ـ لاتيني له. و لكن العدد الماروني اللبناني لم يكف لمواصلة التقدم، فانكفأت الكتائب الثورية الى حدود لبنان بعد انسحاب الأسطول الرومي. وقادة هذه الثورة يوسف أمير جبيل و كسرى امير كسروان و أيوب أمير بانياس و الأمير الياس. و الثورة هذه هي أول أنتفاضة للأمة اللبنانية المسيحية، و أول معركة من الحرب اللبنانية ـ العربية التي لا تزال تهز الشرق حتى القرن العشرين.

يتبع 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها