عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
  
     
http://www.walidphares.com

English

مقالات سابقة

وليد فارس:

 بروفِسور في العلوم السياسية

كتاب "التعددية في لبنان"

تأليف د. وليد فارس

   بيروت في 12 كانون الأول 1978


 الفصل الثاني:

الفتح العربي

لم تبق المسيحية وحيدة في الشرق. فالقرن السادس غيّر ملامح هذه المنطقة جذريا مع قدوم الجيوش الإسلامية من شبه الجزيرة العربية .

القسم الأول : الوضع في الجزيرة قبل الإسلام

ان الامر الذي يلفت الانتباه قبل كل شيء في تاريخ الجزيرة العربية هو عدم دخول أي غاز منظم الى جميع أنحاء هذه المنطقة الصحراوية. فالمصريون القدامى لم يدخلوها، و لا شعوب مابين النهرين، و لا الفرس و لا اليونان و لا الرومان ايضا. و قد ظلت هذه الظاهرة حتى ما بعد الإسلام، اذ لم يدخلها غير حكم إسلامي. فالجزيرة كانت تتناقل من حكم الى آخر في ظل عهد الخلافة العربي. و لم يسيطر العثمانيون الا على المنطقة الغربية الممتدة من سيناء حتى اليمن بما فيها مكة المكرمة و المدينة.

و لعل هذه الظاهرة تكمن في طبيعة المنطقة الصحراوية. فالامتداد الشاسع للاراضي القاحلة لم يغر اي طامع لا في الشرق و لا في الغرب و لم يشجع التبادل الحضاري الكثيف بين سكان الجزيرة والخارج.

أثر هذا الطابع "الإنعزالي" الذي فرضته الطبيعة على التحول السوسيولوجي لسكان الجزيرة و كوّن لديهم عاملاً أساسيا و قد أصبح هذا العامل الأساسي محرك التغيير الاول و الدافع الأقوى لحركة الخروج من الجزيرة عند مجيء الاسلام.

و لكن من هم سكان الجزيرة ؟

بالطبع، يتفق جميع علماء التاريخ على العنصر السامي كونه الساكن الاول و الاكثف للجزيرة.

الحقيقة أن الساميين سكنوا جميع المناطق الواقعة بين الاناضول شمالا و شواطىء الجزيرة جنوبا شاملين البلاد السورية و بلاد ما بين النهرين. و على حد قول أحد العلماء "فالانسان الذي سكن هذه المناطق كان له شكل معين يميزه عن جاره الآري الذي احاط به من الشرق في بلاد فارس، و من الغرب في اليونان. إنه أسمر البشرة، متوسط القامة، اسمه العنصر السامي.

ارتكازا على هذه الصورة التاريخية العرقية حاول بعض المفكرين طرح نظرية وحدوية للمنطقة و قد ذهبوا في القول أن لمنطقة الشرق-أوسطية هيكلية وحدوية ترتكز على العنصر السامي الذي سكن كل هذه المنطقة..

من الطبيعي رفض هذه النظرية الرجعية اللاعلمية. إن وحدة أية منطقة، لا ترتكز على وحدة العرق حسب علم التاريخ و العلوم السياسية الحديثة، و لكن العرق هو عنصرمن عناصر القومية عند وجود باقي العناصر.

على كل حال، فإن الجزيرة العربية لم تعط للعالم القديم قبل الأسلام أية حضارة أو تيار حضاري هام.

و كانت العوامل الجغرافية تتراكم فوق العوامل السوسيولوجية لتكوّن بيئة مستعدة تماما لتقبل الإسلام الديني و الإجتماعي و الإنطلاق به.

الطبيعة الصحراوية في الجزيرة و طبيعة المنطقة المحيطة في الشمال الخضراء ولدّت عنصر التناقض الطبيعي.

الكثافة الحضارية في المناطق السورية في الشمال و الركود الحضاري في الجزيرة ولّدا التناقض الحضاري. أما الواقع الديني المتقدم في المناطق السورية الذي يقابل فراغا دينيا في الجزيرة، فقد ولّدا التناقض الديني الذي منه انطلاق الأسلام في الجزيرة أولا، ومنها الى الخارج ثانيا.

القسم الثاني : الاسلام

أتى الأسلام في الجزيرة محررا و موحدا .

التحرير كان من التخلف و القوقعة الإجتماعية، فكان منظما للعلاقات الإجتماعية عامة و العائلية خاصة.

التوحيد كان للقبائل العديدة المتصارعة فيما بينها. لم يكن الإسلام مجرد دين كديانات الشعوب القديمة. بل أتى من خلال رؤيا شاملة و كلية.

لذلك فالإسلام فجر من الصحراء حضارة انتشرت فيما بعد في القارات الخمس وتعد اليوم أكثر من 600 مليون نسمة.

و بمجرد نشوء الإسلام في الجزيرة العربية كان للعروبة معنى وجودي يعطيها اشارة الوثوب و الأنطلاق. العروبة قبل الأسلام لم تكن إحساسا قوميا مميزا. فالقبائل التي تكلمت اللغة العربية لم تكن تشعر بانتمائها الى قومية عربية مستقلة واحدة. العكس كان الاصح. كان هناك قبائل قريبة من الفرس و كانت موالية للحكم الفارسي و مجندة له و كان ولاؤها هذا، انتمائها القومي الوحيد كقبيلة بني المنذر. بالمقابل كانت هنالك قبائل مسيحية موالية للبيزنطيين و تقاتل من أجلهم، و كان انتمائها البيزنطي ولاءها القومي الوحيد كالغساسنة. أما القبائل الباقية المنتشرة في بقع أخرى من الجزيرة فلم يكن عندها أي حس لانتماء قومي معين . الإنتماء الوحيد، كان الإنتماء القبلي .

عندما أتى الإسلام، أحدث ثورة على الواقع في الجزيرة. فالدين الجديد اعطى رؤيا جديدة موحدة للعالم، أعطى الإسلام للعروبة الروح فوجدت، و اعطت العروبة للأسلام الجسد فنهض.

من هذه الحقيقة الاساسية، أبصرت القومية العربية النور، فكان لها هدف أوسع من أهداف القوميات الباقية.

إن همّ القوميات الأخرى كان الاستقلال و الدفاع عن هذا الاستقلال. أما هدف القومية العربية فيندمج مع هدف الإسلام : "الإنتشار في المعمورة لتحرير الأنسان و فرض ارادة الله ".

و انطلاقا من هذه الأرضية، خرجت الجيوش الإسلامية العربية من الجزيرة بعد أن خاضت حرب توحيدها الى "العالم الخارجي" .

إن هدف الأسلام المعلن، أي الإنتشار بالقوة، لا يميز الإسلام عملياً عن الديانات الأخرى. فاذا لم تعلن الديانات الأخرى رسميا هدفا مماثلا للإسلام، فقد عملت على الإنتشار، و بالقوة احيانا. ان انطلاق الأسلام من الجزيرة العربية ليس ظاهرة مميزة في العالم، و تقييم هذه الظاهرة يرتبط بتقييم شامل لظاهرة التنقل و التصادم الأنساني في العالم. فاذا لم نستطع، هنا، تقييم خروج الإسلام من الجزيرة و ارادته في بلوغ كل أنحاء الارض، نجد دراستنا بمراقبة هذا الخروج و تفاعله مع الخارج .

القسم الثالث : ظاهرة المد العربي الإسلامي.

و بدخول الجيوش العربية الإسلامية منطقة "الهلال الخصيب" أو مناطق الشرق المسيحية الواقعة تحت الحكم البيزنطي، انفجرت الحقيقة التاريخية القاسية: المنطقة ستبقى في يد الأقوى! و العامل الرئيسي الذي عجل في  تطبيق هذه الحقيقة هو طبيعة التيارين المتواجهين. فالإسلام والمسيحية ديانتان، و لكنهما حضارتان  أيضا و رؤيتان  شاملتان مختلفتان. لا يستطيع تيار استيعاب الآخر دون تذويبه: فكانت المواجها مفروضة عليهما. تقدمت الجيوش الإسلامية العربية داخل المناطق البيزنطية المسيحية في سوريا و فلسطين و مصر، و سحقت قوات الروم سحقا. و منذ معركة اليرموك تأكد النصر للعرب، و سقطت المنطقة بكاملها بأحضان المد العربي. تراجعت الجيوش البيزنطية المسيحية شمالا الى حدود تركيا الحالية تقريبا و تمركزت في الجبال المنيعة تاركة الشرق المسيحي للفتح العربي ... و لكن القوات العربية التي دخلت الشام و فلسطين حوالي سنة 635 لم يتجاوز عددها المئتي الف  رجل، ولا تستطيع أن تسكن منطقة واسعة كالتي احتلتها .

و هنا يطرح السؤال: ماذا حل بسكان سوريا وفلسطين؟ إن تقدم الفتح العربي داخل المناطق الختلفة اصطدم بتواجد مئات الألوف، لا بل ملايين من الرجال والنساء والأطفال، وهم ينتمون كليا الى الحضارة الغريكو- لاتينية مسيحية. فلم يكن على الفاتحين الا أن يعمدوا  الى "تعريب " الاهالي ليتمكنوا من احتلال المناطق الواسعة التي سقطت لانه ليس باستطاعة أي جيش مهما كان قويا أن يحتل بالقوة بلادا و يستمر في الأحتلال أبديا، ما لم يتحول الشعب المحتل الى شعب الجيش الإحتلالي أو أن يفنى..

انطلاقا من هذا المنطق، ذهبت السلطات العربية المتتالية الى تعريب المناطق المحتلة حسب عدة خطط ومن خلال أعمال متنوعة .

لقد بدأ العرب، و ذلك منذ فتوحاتهم الأولى بتعريب الأهالي و شن الحملات على الرافضين منهم..  

  

       طبعاً يجب الإنتباه الى وقائع حيث "تسامح " بعض الوجهاء مع الأهلين. و لكن تناقل هذه الوقائع و تضخيمها في كتب التاريخ جعل منها و كأنها الصورة الحقيقية لما حصل. أما الوقائع الحقيقية، فكانت أبشع و أكثر فظاعة مما يكتب في بضعة سطور من التاريخ العربي ..

و استمر العرب بحملاتهم "التعريبية" من خلال فرض الدين بالقوه على السكان. مما لا شك فيه أن هذه الظاهرة كانت طبيعية في تلك العصور، حيث يفرض القوي الغازي دينه وحضارته على المغلوب على أمره.

بهذه الوسائل و يضاف اليها أخرى يعددها التاريخ، استطاع العرب أن يفرضوا عروبة المناطق السورية و الفلسطينية و العراقية المسيحية سابقا فرضا.

و لكن تعريب الشرق المسيحي لم يتم في لمحت بصر بل استمر عدة قرون حتى قدوم العثمانيين. و اليوم يستمر التعريب التاريخي للمنطقة بعد انبعاث القومية العربية من جديد سياسيا وثقافيا .

إن تغيير وجه المنطقة لم يكن سهلا أيضا، بل واجه مقاومات عنيفة على جميع الأصعدة، السياسية الدينية والثقافية. الحكم العربي حاول فرض عروبته على جميع مظاهر الحياة المدنية و السياسية طبعا، فلجأ الى تشريعات قاسية اختلف تطبيقها حسب العهود الإسلامية التي تتالت على الحكم. العهود الأولى أي صدر الإسلام و العهد الأموي شهدوا نظاما قاسياً و متشدداً يدير شؤون الشعوب المحتلة، خاصة اذا لم تتعرب (أو بالمعنى القديم تأتي الى الأسلام)  أما في العهد العباسي، فقد حدث إنفلات لهذه الأنظمة في بضعة اطوار منه. و لكن العهد العباسي ككل العهود العربية الإسلامية التي حكمت الشرق أو نواحا منه، لم يخرج عن منطق الشروط العمرية .

الشروط العمرية، دون الدخول الى معناها  الديني البحت، وسيلة أدت الى استعجال عملية تعريب المسيحيين. هذه الشروط، هي أحكام من الشريعة الأسلامية في أهل الذمة. وأهل الذمة، هم أهل الكتاب، أي الذين سمح لهم بالبقاء في دار الأسلام، ضمن شروط، عرفت بالعمرية، شرط أن يدفعوا جزية. و الأنظمة هذه كانت بغالبيتها الساحقة مانعة الحقوق. فالحقوق السياسية ملغاة طبعا، و لكن الحقوق المدنية و الإجتماعية قيدّت بشكل يصعب فيه على المسيحيين أو اليهود، أن يعيشوا في مجموعات حرة داخل المجتمع العربي. و هذا ما أزال الوجود غير العربي و محاه. فالملايين التي كانت في المنطقة قبل الفتح، لم تختف كلها، بل استمرت في العيش، ضمن رؤيا مختلفة، و على أسس حياتية أخرى، و هي أسس عربية أسلامية. فالفتح العربي حقق نصرين، النصر الأول حققه بالمعركة العسكرية حيث احتل مناطق شاسعة، و النصر الثاني حققه بحملات التعريب حيث ابتلع قوة بشرية جبارة و عددية، و حولها الى عربية، تسانده وترد عنه الضربات .

القسم الرابع : ظاهرة مقاومة المد

و لكن المقاومة للمد العربي لم تقتصر على المحافظة على بضعة حقوق داخل المجتمع العربي، بل تعدته الى مرحلة أخرى .

فإن رضخت أغلبية المسيحين السوريين و الفلسطينيين و العراقيين و المصريين الى الواقع الذمي، نتيجة للإنكسار العسكري البيزنطي و حملات التعريب، فلم يكن هذا شأن ألوف منهم تمردوا على هذا الواقع و وقفوا بوجهه. هذه الحركة برزت منذ دخول الجيوش العربية الى بادية الشام، نتيجة لردات الفعل التي اختلفت حسب الفئات المسيحية. هنالك فئة قاومت ببسالة ولكنها انكسرت، و هي الحكم البيزنطي الرومي وعامة السكان في المدن و الأرياف. و هنالك فئة استقبلت الفاتحين وهللت لهم، لأنها كانت تعاني الاضطهاد من الحكم البيزنطي لأسباب دينية و سياسية. و تجدر الأشارة هنا الى أن هذه الظاهرة قد صورتها كتب التاريخ العربي و ضخمتها أيضا بغية إظهار السكان و كأنهم يتحررون مع قدوم الخيالة العرب! ولكن هذه الفئة، وعلى ضوء ما تركته الوثائق التاريخية في أديرة اليعقوبيين أنفسهم، و هم أهم من تعامل مع الفاتحين، لم تشكل نسبة تتعدى الواحد و النصف بالمئة من مجموع السكان..

أما الفئة الثالثة فهي التي لم ترضخ لحكم منطق أهل الذمة و الشروط العمرية، و هي التي لم ترد الإنسحاب مع الجيوش الرومية، و ليست بالطبع هي التي هللت للفاتحين. إنها الفئة التي تمردّت و لجأت الى المعاقل الطبيعية لتواصل الحياة في مجتمع حر سيد مستقل، سياسيا و ثقافيا و دينيا. ليست لهذه الفئة "اسم رسمي" في كتب التاريخ، لأن وجودها ليسى "رسميا" بالفعل. فالسكان المسيحيون الذين رفضوا تبديل هويتهم الحقيقية، لجؤوا الى جبال لبنان في فترات متتالية من الفتح العربي و ما بعده. لم يكن لجبال لبنان قبل الفتح العربي أية أهمية تاريخية أو استراتيجية تذكر، لأن المنطقة كلها كانت داخل دائرة الحضارة الغريكو-لاتينية، المسيحية الشرقية الواحدة. و الحكم للمسيحيين أنفسهم، أي البيزنطيين فلم يكن الأهالي بحاجة الى معاقل يحتمون بها من حكم حضاري أجنبي و كانت معارضتهم السياسية و الفئوية تحصل داخل المدن والأرياف، لأنه لم يكن هنالك خطر خارجي يهدد الهوية و الكيان الحضاري للمجموعات البشرية التي سكنت هذه المنطقة .

أما قدوم العرب من الجنوب و فرضهم تعريب الحياة، أجبر الألوف من شعوب سوريا و العراق و فلسطين الى الإلتجاء الى جبال لبنان و تحصينها. إن هذه الحركة الكبرى نحو لبنان أيام الفتح قد ولدّت ظاهرتين أساسيتين في الشرق طبعتا المنطقة بطابع خاص لا يزال يميزها حتى اليوم، و يتحكم بتحولاتها و مستقبلها .

الظاهرة الأولى : 

هي انبثاق شعور خاص لدى اللذين قطنوا هذه الجبال، و هو شعور جماعي للتضامن من أجل الوجود أولا، و الوجود الحر ثانيا. هذا الشعور الجماعي بتفاعله مع البيئة العربية المحيطة به و باختياراته المتعددة عبر التاريخ، ولد قومية، اقترنت باسم البقعة التي أوتها أي لبنان. فكانت القومية اللبنانية و كانت الأمة اللبنانية، و هي حتى القرن العشرين الأمة الوحيدة المستقلة حضاريا في منطقة تنازلت شعوبها الأصلية عن حقوقها الحضارية و القومية للفتح العربي .

الظاهرة الثانية :

و هي أشمل و أعقد تعممت في نتائجها ليس فقط في لبنان بل في جميع أنحاء منطقة الشرق، إنها مشكلة الهوية. قبل الفتح العربي كانت هوية المنطقة مسيحية داخلة ضمن دائرة الحضارة الغريكو-لاتينية و كانت لجميع الشعوب الساكنة فيها طبائع خاصة بها (تقاليد، لغة) و لكنها ارتبطت جميعها فيما بينها ضمن تيار أنساني واحد هو تيار الحضارة المسيحية العالمي . 

عند وقوع الفتح العربي ، زحفت الجيوش العربية من الجزيرة، فدخلت الشرق نوعية أخرى من المجموعات البشرية. دخل تيار جديد له رؤيا خاصة به هويته أسلامية و حضارته عربية. فأصبح عندنا في الشرق نوعيتان مختلفتان من السكان. مسيحيون شرقيون و هم سكان ما قبل الفتح العربي و مسلمون عرب و هم أبناء القبائل التي أتت من الجزيرة وراء الجيوش، يضاف اليهم المسيحيون الذين تعربوا و أسلموا .

الإختلاف ليس فقط من الناحية العرقية، و قد لا يكون خلاف في العرق، لأن كثير من المسيحيين تحولوا الى مسلمين عرب.

الإختلاف أعمق وأساسي.

 إنه الأختلاف الحضاري وهو التمايز الأعلى بين البشر. Summa Divisio)) فمن الناحية السوسيولوجية، نرى في تحليلنا لوضع الطرفين كمجموعات، أن للمسيحيين ثقافة و حضارة تبلورتا و تطورتا مئات السنين قبل الفتح العربي، فلا يمكن أن تختفي من جراء دخول العرب. و نرى كذلك أن للمسلمين العرب ثقافة و حضارة انطلقتا مع الإسلام، فلا يمكن الا أن توجد و أن تحيا أينما وجد مسلمون و عرب .

و من الناحية البسيكولوجية نرى فرقا مهما بين نفسية الفرد في المجموعة المسيحية الشرقية و بين نفسية الفرد في المجموعة الإسلامية العربية. ينتمي العقل و القلب والتصور الى نفس المجموعة و الى تاريخها. و يمكن القول أن الفرق النفساني هو نتيجة حتمية للفرق الجماعي الحضاري، وهذا ما يجمع عليه العلماء و مفكرو الكرة الأرضية.

و لكن الإختلاف الحضاري ليس بالضرورة في درجات الرقي الأنساني، كما يعتقد الكثير. الفارق الحضاري ليس بين شعوب مثقفة "حضارية " و أخرى أمية "بربرية ". هذه المعادلة بين الإدراك و الجهل لا ترتبط الا بالتطورات الأنسانية العالمية من جهة و بالتاريخ من جهة أخرى .

الفرق هو بين نوعيتين متمايزتين، بين رؤيتين للعالم الماورائي و العالم الأجتماعي، بين طريقتين للحياة .

الهوية اذا في المنطقة هويتان مختلفتان. هوية للحضارة المسيحية في الشرق و هوية للمسلمين العرب.

من هنا يمكن القول بأن وجود مجموعتين حضاريتين في الشرق هو وجود متعدد و ليس وجودا واحدا. فالحساب البسيط يثبت ذلك: إن وجود مجموعتين مختلفتين في منطقة يدل على الرقم أثنين. والرقم إثنان هو عدد. فالمنطقة تحتوي على تعددية في المجموعات ...

لذلك لا يمكن النظر الى شؤون هذه المنطقة من منظار هوية واحدة و مجموعة واحدة بل من منظار التعددية. و اخفاء هذه الحقيقة هو اخفاء قسم من التاريخ، بل القسم الأكبر من تاريخ هذه المنطقة. هذه الظاهرة اذا تتلخص بالواقع التالي:

ان التعددية القومية و الحضارية في الشرق هي وليدة التاريخ. الإلتقاء بين الحضارة الأسلامية و الحضارة المسيحية و تواجد الإثنتين معا على بقعة جغرافية واحدة، يفرض على أية هيكلية تريد أن تنظم الحياة على هذه البقعة، أن تقوم من خلال أحترام مبدأ التعددية وتطبيقه .

بالنسبة للشرق، الأكثرية التعددية التي أصبحت عبر القرون للعرب والمعّربين لم تمنع من أن يعيش الشرق تعددية، بحيث أن وجد في آن واحد على أراضيه مسلمون عرب ومسيحيون شرقيون. أما القول بأن الحكم لم يكن الا للعرب منذ الفتح فذلك لا يمنع أن يكون الواقع تعدديا و الحقيقة تعددية. بالعكس فالإنفراد بالحكم لصالح مجموعة واحدة، حتى لو كثر عددها، لا يقف بوجهه إلا مبدأ التعددية. بالنسبة للبنان، فالحال لم تكن كما في سائر أنحاء سوريا و العراق و فلسطين. فالتيارالمسيحي الذي لجأ اليه و استقل فيه لم يسمح للأكثرية في أي عهد أن تزيل ملامح الواقع الشرقي... كيف حصل ذلك إبان الفتح ؟.

عند دخول الحيوش العربية الى الشام و القدس، و مع تراجع قوات البيزنطية، لم تستطع حاميات المدن المسيحية الشرقية في سوريا و فلسطين أن تصمد أمام الإجتياح القوي. فقاتلت ببسالة، و تراجعت من بلدة الى أخرى محاولة صد الفتح في البلدة التالية. و لكن الحكم البيزنطي الفاسد في القسطنطينية و الإنقسامات الثانوية بين الطوائف و الملل المسيحية عجّل في نكسة المسيحية السياسية و العسكرية في الشرق، فتقدمت الجيوش العربية في السهول السورية، مستفيدة من حسمها العسكري مع الروم في معركة اليرموك. و تقدمت أيضا في سهول فلسطين مستفيدة من تسليمها مدينة القدس . و لم يتوقف الزحف الا على أبواب تركية حيث تجمعت القوات البيزنطية من عند جبال قيليقيا (Cilice)  من جديد تدعمها المليشيات الأرمنية الشعبية .

و مع انتهاء الحملة العسكرية شمالا ضد بيزنطيا و شرقا ضد الفرس و جنوبا ضد البيزنطيين في مصر ، ارتد الحكم العربي لتصفية الجيوب المقاومة داخل المناطق التي فتحتها و كان

في مصر الأقباط، وسوريا السريان،Pax Arabica)) "السلام العربي"  و فلسطين المقدسة، سهلاً لأن الطبيعة الجغرافية ساعدت بامتداد السهول و الواقع الأجتماعي المتململ ضد الحكم البيزنطي أعطى الفرصة الذهبية .

أما في لبنان، فالمدن الساحلية قاومت بعنف وعناد، لم تذكر كتب التاريخ الرسمية اللبنانية شيئاً عنه. و دخل العرب الى صور و صيدا وبيروت و طرابلس و لكنهم لم يستطيعوا تعريب هذه المدن الا مع مرور الزمن و مع اخماد ثورات عدة اشتعلت ضدهم .

على إثر هذه الموجة التي غمرت الشرق، استفاق الآلاف من السكان الذين لم يتحملوا الحكم الجديد و قرروا التوجه الى الجبل. فأمت الجبال اللبنانية قوافل من المهجرين الأرثوذكس و السريان و الآشوريين و سائر الطوائف المشرقية من جميع أنحاء "سوريا الكبرى القديمة". و لكن العدد و الكثافة الأكبر كانا للموارنة الذين جاءوا من سهول سوريا الشمالية و التحموا بالموارنة الذين سكنوا لبنان قبل الفتح العربي منذ القرن الرابع. و قررت هذه الأمة المقهورة الحرة أن تحيا في جو استقلالي تام على جميع الأصعدة. الفتح العربي الإسلامي اذا، أفرز واقعين في الشرق:

- تعددية حضارية قومية هي ناتجة عن تواجد إسلام عربي و مسيحية شرقية معا على أرض واحدة .

- أمة لبنانية مستقلة في جبال لبنان، و هي وعاء يحتوي على وطن قومي مسيحي اتسعت رقعته و انكمشت حسب التقدم و التراجع العربي .

هذه العناصر كانت ولم تزل الأساسية في التركيبة الشرقية بغض النطر عن التناقضات الإسلامية-الأسلامية و المسيحية- المسيحية، الثانوية .

هنا تطرح الأسئلة ..

ما  كانت علاقة الأمة اللبنانية بتركيبة الشرق؟

ما هو أثر واقع الشرق التعددي على الأمة اللبنانية المسيحية؟

كيف تحولت الأمة اللبنانية المسيحية الى دولة لبنانية تعددية؟

القسم  الخامس : التعددية منذ الفتح العربي 

كثير من الأسئلة طرحت حول المرحلة التاريخية التي تبعت الفتح العربي الإسلامي للمنطقة و للبنان . و لكن الأجوبة لم تكن بالعدد نفسه بل أقل بكثير. أما كتب التاريخ المدرسية و حتى الجامعية، فلم يشأ لها أن تفصل ما حصل أيام الفتح العربي و لا ما تبعته من أحداث و تحولات على الصعيد السياسي و العسكري و الثقافي ..

مما لاشك فيه أن الفتح العربي طرح مشكلت التعددية بكل جوانبها في الشرق عامة وفي لبنان خاصة. فاذا كان تاريخ لبنان يبدأ منذ ستة آلاف سنة، كما يؤكده المدافعون عن لبنابية لبنان، فالحقيقة هي أن تاريخ لبنان، كشعب وعى نفسه و اراد السيادة و الحرية في الجبال، يبدأ منذ الفتح العربي. لم يكن للوعي القومي وجود قبل هذه الفترة في ناحية اسمها لبنان. لأن لبنان المسيحي قبل الفتح العربي، كان مرتبطا بسوريا المسيحية و فلسطين المسيحية و سائر الشرق و الغرب داخل دائرة الحضارة الواحدة. و لم يكن هنالك مجال لسكان لبنان أن تكون لهم قومية مميزة لهم تفرقهم عن باقي سكان المنطقة. و لكن تغيير ملامح المنطقة المحيطة بلبنان و فرض العروبة عليها، فك الإرتباط العضوي بين سكان لبنان المسيحي و سائر المنطقة المعربة، بحيث أصبح للمنطقة هوية حضارية معينة و للبنان هوية حضارية معينة. فالقومية اللبنانية لم تبرز الا مع ظهور عنصرين تاريخيين.

العنصر الأول ، هو الفرق الحضاري بين المسيحيين اللاجئين الى جبل لبنان، وبين العرب المسلمين الذين سيطروا على السهول و السواحل. هذا العنصر يشكل التحضير البيئوي، أي الأرضية التناقضية التي ينطلق منها التمايز بين (Element    Preparatoire ) المجموعتين .

العنصر الثاني هو الشعور التضامني لدى المسيحيين اللاجئين الذي انطلق من حالة الدفاع المستمر ضد الهجمات العربية المتواصلة على الجبل- الأمة.

فاذا نظرنا الى تركيبة الشرق موضوعيا، رأينا أن المجموعات التي تؤلفه متمايزة حضاريا فالمراقبة العلمية و الشاملة تؤدي الى التأكد على الطبيعة التعددية للمنطقة. أي أن الوعاء الشرقي يحتوي على عنصرين أساسيين لا يمكن تجاهل أحدهما. و اذا نظرنا الى هذه التركيبة من الناحية الواقعية، نرى أن المنطقة شهدت تناقضا، لا بل مواجهة بين قوميتين، عربية أسلامية و مسيحية شرقية استوطنت في لبنان و اصبحت لبنانية.

لذلك و انطلاقا من هذه الأرضية، يختلف تحليل التاريخ اللبناني الحقيقي عنه في الدوائر التربوية و السياسية الناشطة حاليا في الشرق الأوسط و في لبنان. الإختلاف أساسي. الإختلاف يقع على النظرة الى الموضوع. فالنطرة الكلاسيكية التي رأى من خلالها المفكرون السياسيون الهيكلية الشرقية هي التي أوجدت أخطاء تحاليلهم، الى أية جهة انتمت و بأي تيار التحمت.

إن عدم الأخذ بأهمية الفتح العربي التاريخي و حقيقته و آثاره على الساحتين الشرق أوسطية و اللبنانية، يؤدي الى الضياع وسط أطروحات كثيرة تحاول تفسير المشاكل الإقليمية التي أصبحت عالمية. والضياع هذا يرتكز على خطأ في الأساس، خطأ علمي في النظر الى الظواهر التاريخية . فكما لم يفهم المحللون الفتح العربي إنسانيا و سياسيا، لم يدركوا أيضا طبيعة التركيبة اللبنانية من خلال تاريخها ...

الصورة التي استنتجناها من خلال المرحلة حتى أواخر الفتح، أوضحت لنا عمق المشكلة الشرقية و اللبنانية خاصة.

المسلمون العرب المتواجدون في المناطق السورية و العراقية و الفلسطينية، شكلوا عنصرا له نظرته الخاصة و رؤياه التاريخية، انتقل تاريخيا في خط تقدم من الجزيرة العربية الى المناطق الشرقية و شمال أفريقيا، و انتقل في مرحلة أخرى في اتجاهين: افريقيا السوداء، و جنوب شرق آسيا. المسيحيون الشرقيون المتواجدون بشكل أقليات على نفس ألأراضي و شكل مجموعة متراصة في الجبال اللبنانية والمناطق المحيطة بها .

هذا الواقع الذي أفرزه التاريخ: تعددية حضارية تجسدها تواجد قوميات مختلفة. تاريخ لبنان، بعد الفتح العربي أبرز هذه التركيبة خلال مئات السنين حتى العثمانين. لذلك يجب دراسة حقبة ما بعد الفتح العربي من خلال مرحلتين متميزتين. مرحلة الحكم العربي للشرق ومرحلة الحكم العثماني. فالمعادلات ليست نفسها حسب مراحل الحكم، و لعناصر لم تكن نفسها.

يتبع

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها