الفصل الرابع
الحكم العربي والوضع الثقافي
الخلاصة الأخيرة التي توصلنا اليها كانت بالنسبة للحقبة التاريخية العربية
سياسياً وجغرافيا وعسكرياً. أما بالنسبة للناحية الثقافية فلا يمكننا الا
أن نستنتج نفس الاوليات، من خلال تحليل وضع المنطقة بما فيه وضع لبنان
المميز. و بالفعل فإن التطور الذي شهدته الساحة الشرقية عامة واللبنانية
خاصة، على الصعيد السياسي، هو نفسه في مجال الثقافة:
-
وجدت حضارة مسيحية مشرقية متشعبة الى عدة ثقافات تعددت حسب القوميات أو
الإثنيات التي عاشت في المنطقة.
-
دخلت الحضارة و الثقافة العربية مع دخول الجيوش الاسلامية و أضحت الوجه
الوحيد لأغلبية سكان المنطقة.
-
ثقافة المسيحيين لم تُزل طالما وجدت الأمة اللبنانية وهي رمز لصمود
حضارتهم.
-
حاول العرب ازالة الملامح الحضارية الثقافية للشعب المسيحي في لبنان
والشرق لاجئين الى عدة أساليب.
الصورة الثقافية اذاً، نتيجة حتمية للصورة القومية، والتغيرات السياسية
التي طرأت على الصعيد القومي أثرت مباشرة على الصعيد الثقافي.
و لكن ما هي هذه الأساليب التي استعملها العرب كي ينفذوا على الصعيد
الثقافي ما باشروا واستمروا به على الصعيد القومي؟
لكي نستطيع ادراك الحقيقة بوضوح، يجب علينا أن نستعرض أهم نقاط التحولات
الثقافية التي شهدتها البلاد بموازاة التحولات السياسية العامة. ولا شك
أننا لا نستطيع عرض كل ما أنتجه الشرق لعدة قرون كي نبرز الأوليات، انما
سنكتفي بإبراز الخطوط العريضة التي رافقت التطور القومي في مراحله حسب
تسلسلها التاريخي الهام.
القسم الأول: الوضع الثقافي قبل الفتح
العربي
لم تأخذ المنطقة طابعاً خاصاً واحداً الا بمرور العهود اليونانية
والرومانية وبانتشار المسيحية. فالكتائب اليونانية دخلت شرقاً، قد تقدمت
شعوبه وتميزت بدرجة عالية من الرقي. الآشوريون والبابليون و شعوب ما بين
النهرين أنجزوا أعمالاً حضارية هائلة من بنيان واكتشافات وتنظيم للحياة
الاجتمعاعية والاقتصادية.
الفينيقيون أهدوا العالم الأبجدية وأذهلوه بانتشارهم التجاري على شواطىء
المعمورة القديمة، و اتصالاتهم بكل الشعوب و تنظيمهم علائقهم الحضارية بهم.
العبرانيون اعطوا كتاباً مقدساً على أساسه الديانات السماوية الثلاث و
الفكر الانساني لأهم وأكثر شعوب الأرض.
من هنا نرى أن منطقتنا مع وادي النيل الفرعوني، قد مونت فعلاً وعاء شهد
نشوء الحضارات الكبرى في العالم و غليانها.
و دخول العقل الاغريقي اليها، وحدّ متناقضاتها على أسس جديدة هي أسس
المنطق. فالمنعدم الأول في عالم الشرق الراقي هو المنطق.
و لعل هذا المنعدم هو من الأسباب الرئيسية لتطاحن الشعوب الشرقية وتصارعها
رغم رقيها وتقدمها. و بقدوم الفكر الاغريقي اليها، وجد العامل الأول
لتوحيدها ضمن نظرة واحدة شاملة للوجود، تنظم المعلوم وتضع حدوداً آمنة
للمجهول التي أعدت الانسان العالمي الواحد لاكتشافه وجهزته بسلاحها الخارق:
المنطق.
شاركت شعوب المنطقة الآرامية (بالمعنى الواسع أي شعوب سوريا الكبرى) بمن
فيها الفينيقيون و شعوب الداخل السوري بالابداع في الحضارة الهلينية التي
أفرزت جناحا ًشرقياً من جراء احتكاكها بالشعوب المشرقية ومرافقتها لهم في
امورهم الفكرية. و أضحت صورة جديدة للمنطقة تطل بها على العالم بوجه انساني
جديد: ثقافات محلية تعبر عن القوميات أو الاثنيات المختلفة وعن احساسها
الوطني، وتيار حضاري اغريقي انتمت اليه جميع هذه الشعوب مشكلة فيه الجناح
الشرقي. و اذ دخل الفكر اليوناني عن طريق جنود الاسكندر، فقد استوعبه الشرق
و أعطاه الوجدانية التي تميز بها و وفر له عمقاً آخر، و هو عمق الاحساس
والعاطفة. فلا عجب أن يكتمل الوجود الانساني فكرياً، باكتمال العقل
والعاطفة. والواقع اللغوي أخذ شكل الواقع الثقافي حيث أن لغات الشعوب
المحلية ( كالأكادية و الآرامية و اليونانية و سائر اللغات) عبرت عن واقعها
القومي والمجتمعي فتكلمها عامة الشعب. و ترجمت اللغة اليونانية التصورات
الفكرية والفلسفية والحضارية فتكلمها المثقفون والمفكرون عند جميع الشعوب،
حتى أن جزءاً كبيراً من الذين دخلوا الحضارة الاغريقية مباشرة تكلمها كلغة
قومية، كما حصل في الاناضول مثلا.
و لا شك أن اللغة اليونانية قد لعبت دوراً كبيراً في التعبير عن الثقافات
المشرقية، لا بل الدور الأكبر، حيث أن أكثف الانتاج الأدبي والعلمي قد سجل
بهذه اللغة، و ظلت اليونانية على السنة الكثير من أهل البلاد و لاسيما
الروم حتى ما بعد الفتح العربي.
أما الفيالق الرومانية فقد أتت بتوحيد آخر كما أشرنا من قبل، وهو التوحيد
القانوني أو التوحيد التنظيمي.
فالحقوق قبل الرومان كانت حقوقاً يرتبط تطبيقها والاستشهاد بها بحياة من
أتوا بها. فالقوانين التي يشرعها عاهل، سرعان ما أزالها خلفه، الا اللهم
القوانين الدينية التي استمرت فترات طويلة من الزمن. واذا لم يكن المشرعون
الرومان أول المشرعين واذا لم تكن القوانين الرومانية، الأولى، حيث أن
قوانيننا قديمة قد سبقتها كشرائع حمورابي مثلا عند الاموريون، فالفكر
المنظم الروماني قد وحد العالم القديم من جديد بعد أن وحده اليونان من
قبلهم.
انتشر
التنظيم المدني الروماني مع "السلام الروماني" (
Pax Romana)
و أصبحت شواطيء حوض البحر المتوسط، مع دولها عالماً واحداً سمي بالعالم
الروماني. وقد تميز هذا العالم بوراثته الحضارة اليونانية كلها، و تميز
العالم الروماني في الشرق، بمشاركة أهل المنطقة في اقامته، لا بل في تأسس
أهم الأوجه عنده: القانون.
بالفعل، افرزت سوريا ولبنان لروما أباطرة و قياصرة، حكموا الدنيا من أعلى
عرش. و لكنها أفرزت أيضاً أهم مشرعين قانونيين في ذلك العصر، ومن الأهم في
العالم كأولبيانوس وبابينانوس اللبنانيين. و اشتهرت كلية حقوق بيروت كأهم
معهد للقانون في العالم القديم واشتهر اساتذتها كألبيانوس وبابنيانوس وا
ورليانس و لونجينوس.
وأصبحت اللغة اللاتينية في سوريا ولبنان، لغة القانون والادارة والدولة.
فأتقنها رجال القانون والموظفون في الدولة وجميع المرتبطين بالأعمال العامة
أو المتعلقة بالدولة. فأصبحت اللاتينية وقد تكلمها اللبنانيون والسوريون
جيداً، ذات شأن بين اللغات المكتوبة والمحكية حتى أصبحت الأولى في ذلك
الزمن.
المسيحية جاءت في الشرق من أقدس أرض في التاريخ: فلسطين انتشرت المسيحية في
العالم الروماني في مرحلة أولى مع الرسل و تأصلت فيه، حتى أصبح العالم
الروماني العالم المسيحي الأول. وقد دخلت المسيحية الى قلوب البشر فتكلمت
ألسنتهم لتعبر ما في قلوبهم من احساس جديد و تحولت لغات الحضارة الغريكو-
لاتينية، أي اللغتين اللاتينية واليونانية و جميع اللغات القومية لشعوب هذه
الحضارة، الى لغات مسيحية تعبر عن تصور كوني جديد للانسان و لقيمه الروحية.
من هنا وحدّت المسيحية العالم القديم مرة ثالثة من جديد، ومما زاد في قوة
هذه الوحدة، الوحدتان السابقتان اللتان هيأتا لقدوم " تيار المخلص".
من هنا أضحى كل شيء عالم ماحول البحر الأبيض المتوسط، مسيحياً، وأصبحت
الثقافات المحلية لكل شعب يشارك في هذا العالم، ثقافات مسيحية تنتمي الى
رؤيا واحدة في حضارة واحدة.
من هنا، اذا نظر سوري أم لبناني لمسيحي الى شيء، فرآه مربع فمن المحتم
والطبيعي أن يراه الايطالي والفرنسي والاسباني، مربعاً أيضاً. لان الجميع،
ولو كانوا من بيئات مختلفة جغرافياً وقومياً، فهم قد ترعرعوا في ظل حضارة
واحدة أعطت لكل منهم هيكلية تفكير واحدة مبنية على اخلافية واحدة.
وقد أعطى الشرق المسيحي للحضارة العالمية الانسانية أكثر مما أعطى الغرب
المسيحي الذي لم يدم طويلاً تحت حكم الرومان، حيث وقع تحت اجتياحات
البرابرة الشماليين. فظل الشرق وحدة يعطي الحضارة انتاجاً فكرياً، واستمر
الفكر المسيحي من خلال مثقفيه، العلمانيين والدينيين يتحول بين مصر
والقسطنطينية ماراً في فلسطين ولبنان وسوريا، في عالم متضامن متراص متجانس.
ولكن كيف أصبح الوضع اللغوي؟.
شهدت منطقتنا واقعاً لغوياً تعددياً. ولكن التعددية هذه لم تكن أفقية بل
عامودية. كانت عامودية بحيث ان مجموعة حضارية واحدة تكلمت عدة لغات تعبر
جميعها عن رؤياها الحضارية الثقافية. فالمسيحيون الشرقيون تكلموا لغاتهم
المحلية القومية شعبياً واليونانية واللاتينية في المدن وفي الأوساط
العلمية والادارية. فكل لغة عبرت عن درجة معينة من الاستعمال.
الآرامية مثلاً في سوريا و لبنان، كانت اللغة المحلية المحكية، يتكلمها
الشعب في الأرياف والأحياء الشعبية من المدن. واليونانية في الأوساط
الفكرية، واللاتينية لغة الدولة الرسمية الاممية.
انطلاقاً من هذا الواقع يمكن التكلم عن تعددية لغوية عامودية مسيحية وجدت
منذ القرن السابق للميلاد حتى ما بعد الفتح العربي. وعناصر هذه التعددية
تألفت من الآرامية (أم السريانية اذا أردنا أن نحددها سورياً و لبنانياً) و
اليونانية و اللاتينية. ويمكن القول اذاً أن اللغة القومية أو الوطنية
لمسيحي لبنان وسوريا قبل الفتح كانت الآرامية- السريانية. والسريانية تعني
هنا، الفرع السوري و اللبناني للارامية. لأن للفظة الآرامية تفسيران.
تفسير ضيق بمعى العنصر واللغة الآرامية الذين انتشرا بكثرة في المنطقة
السورية، و تفسير واسع يعني مجموع الشعوب و اللغات التي انطبعت بالعنصر
الارامي و التي سميت جميعاً آرامية للتدليل على تقاربها من بعضها البعض.
فالسريانية هي اذاً الارامية السورية أو اللبنانية، أي الآرامية التي
تكلمها أهل سوريا الغربية ولبنان. و قد ألف أدباء ومفكرو منطقتنا باللغات
الثلاث، وابدعوا في جميع مجالات العلوم والادب والفلسفة.
و قد تركت لنا مكتبات المدن الكبرى التي لم يحرقها العثمانيون، آثار ضخمة
عن انتاج الوف من الاشخاص الذين سكنوا هذه البلاد قبل تغيير ملامحها.
و الذين يدققون بآثار المنطقة الشرقية شاملين بيزنطية الآسيوية ومصر، يرون
حتماً، أن ثمة حضارة عظيمة وجدت وعاشت على هذه الأراضي، لقرون عدة قبل
الفتح العربي. وأن درجة الرقي والتقدم فاقت بكثير الغرب المسيحي آنذاك.
فاوروبا لم تكن في الغرب بل في الشرق. ويمكننا ان نتصور أن هذه المناطق ذات
المناظر الخلابة والطبيعة الربيعية الدائمة كانت أرضاً لحضارة كبيرة عاشها
ملايين من الناس لعدة قرون. ويمكننا أن نتصور أيضاً أن المنطقة المشرقية
البيزنطية كانت بذات موقع اوروبا واميركا اليوم. مكانت هي الدول المتحضرة
والقوية والتي تحتوي على عقل البشر.
ولكن من العجيب أن يختفي عالم كهذا، كما اختفت قارة
الاطلنطيد حسب الاسطورة. ولكن تراث هذه المنطقة وتاريخها يثبتا لنا
أن
اطلنطيداً حقيقية قد وجدت لقرون على هذه الأراضي ولكنها تعرضت لعاصفة و
زلازل متكررة بدأت بالفتح العربي و معركة اليرموك وانتهت بسقوط
القسطنطينية، فهوت في بحر مائج تلاطم أمواجه حتى اليوم صخوراً صامدة لقمم
شامخة لم تنحن منذ ألف سنة، واسمها لبنان
القسم الثاني: لبنان ، كل ماتبقى...
بالفعل، جمعت هذه القمم على سفوحها أحسن ما أعطاه الشرق للحضارة. فأفضل
الذين رفضوا الاجتياح هم الذين واصلوا المقاومة في معاقل شرقية، في قلب
الشرق في لبنان. هذه الفئة هي فئة الاحرار. و الاحرار هم الذين لم يذوبوا
في السيل الجارف، ولم يهربوا منه الى الخارج، بل الذين رفضوا الخضوع
وتمسكوا بأعلى مشارف تطل على المنطقة فصعدوا الى سطح الشرق، وفضلوا عواصف
القمم بالجرود و شمسها المحرقة على السهول، حيث الحياة لذيذة و الجو لطيف و
الشمس دافئة. لقد فضلوا الاقتراب من السماء لتنفس هواءها الطاهر بدل هواء
الذل، و حروق أشعة الشمس القريبة على لذة الرضوخ، و دفء الانصهار.
من خلال هذه الصورة نستطيع أن نفهم معاني الوجود اللبناني. و من هذه
المعاني يمكننا إدراك حقيقة البيئة اللبنانية والثقافة التي انتجهتها.
فبعد أن نعم مسيحيو الشرق بأرقى مستوى حضاري عرفه العالم القديم. وهو تماذج
لحضارات عريقة شرقية راقية وحدتها ثلاثة تيارات عالمية، فلسفية، قانونية
وانسانية دينية، صفعهم القدر فجرف مدنيتهم وغطاها برمال محرقة. ولكن قوما
من الملايين وقفوا ورفضوا. والقوم هؤلاء بوقفتهم هذه أثبتوا على انهم افضل
وارقى من الذين عاشوا في تلك الايام. فالذين وقفوا ورفضوا الذوبان وفضلوا
حياة التعب والشظف بين الصخور، هم أرقى على الأقل اخلاقياً، من الذين قبلوا
بالخضوع. فالخاضعون لم يفهموا أن عدم مصارعتهم الواقع المفروض عليهم، وان
كان يعطيهم فرصة عيش بسلام نسبية، فانه يؤدي الى انقراضهم أو تغيير ملامحهم
طبيعاً . أما الذين وقفوا ورفضوا فقد وعوا حقيقة الخطر الحضاري، و انسحبوا
و تجمعوا في قلب الشرق، جامعين معهم تراثهم وحافرينه على صخور جبلية لن
تقوى عليها أية عاصفة. فليس الانكماش و الانعزال هنا الا درجة رقي وتقدم،
عندما يكون محيط الانكماشيين والانعزاليين طاغية و محتلاً و عدواً للحضارة.
ونشبه لبنان نحن، بسفينة نوح، حيث أن أفراداً جمعوا من كل جنس مما قبل
الطوفان جزءاً واتوا به الى سفينة الخلاص، وهي قمم لبنان، فخلص على متن هذه
السفينة ممثلوا من عاشوا على سطح الأرض المشرقية ومالكيها الشرعيين قبل
الطوفان.
ماذا حدث أبان الفتح العربي؟
دخلت الجيوش العربية معها رؤيا جديدة و شبه حضارة جديدة و لغة جديدية و
منطق جديد. و الذي دخل يتناقض بالعمق مع الوجود. و لا نعني بالتناقض عدم
قابلية التواجد، بل الاختلاف التام. فالاسلام أدخل دينا جديد و حضارة
دنيوية جديدة تتكلم العربية، و المسيحية وجدت على الأرض المشرقية منذ قرون
و أفرزت حضارة لا تقل قدماً و تتكلم الآرامية والسريانية و اليونانية و
اللاتينية.
فاذا قوم لونه أخضر ويتكلم لغة خضراء يدخل منزلاً يسكنه قوم آخر لونه أزرق
ويتكلم لغة زرقاء...
فاذا بالقوم الأخضر يدحرون القوم الازرق الذين سكنوا المنزل لقرون عدة، و
يعلنون "اخضرار" البيت. فيهرب قسم من القوم الأزرق ويلتجىء الى غرفة عالية
في البيت. اما القسم الآخر فيمكث مع الفاتح الأخضر ويقبل بشروطه. اما شروطه
فهي ان يصبح لونه اخضر وأن يتكلم لغة خضراء. ويتحول الازرق الى أخضر، فيقوى
الأخضر أكثر ويطالب باخضرار كل البيت، لأنه هو صاحب البيت. فيرفض القوم
الازرق الملتجيء الى "العليةّ" الزرقاء ويعلنون ان لونهم ازرق ولن يقبلوا
بلون آت من الخارج... هذه الصورة هي صورة الشرق سياسياً وثقافيا...
فدخول الجيوش العربية عملياً أدى الى توغل الثقافة العربية واللغة العربية.
ففرض الحكم العربي اللغة العربية فرضاً على عموم الناس واستعمل عدة أساليب
لفرضها.
الفرض الأول كان بالقوة حيث عمد العرب على اكراه المواطنين على تكلم
العربية و خاصة في المدن الكبرى التي تواجدوا فيها بكثافة.
الفرض الثاني كان سياسياً واجتماعياً وادارياً. فقام الخلفاء بتعريب جميع
الدواوين أي ادارات الدولة القديمة ونقل جميع الكتب والمعلومات الى
العربية. فلم يستطيع الساكن المسيحي الا أن يتكلم العربية لكي يحق له
التعامل مع الأجهزة الرسمية ولكي يدخل سلم الوظائف في الدولة. ولم تقم حملة
التعريب هذه على الشعوب المسيحية في سوريا فقط بل على جميع الشعوب التي
وقعت ضمن الاحتلال العربي، كالفرس وشعوب شمال افريقيا واسبانيا. والجدير
بالذكر أن هذه الحملة التعربية لم تتوقف عند الحكم العربي الأول بل تواصلت
مع جميع العهود ولم تتوقف نهائياً عند قدوم العثمانيين، بل انطلقت من جديد
مع النهضة العربية في القرن التاسع عشر وتعممت في الشرق اولا، واستمرت في
افريقيا السوداء والشرق الأقصى منذ أوائل القرن العشرين. فالتعريب الثقافي
ظاهرة مرتبطة عضوياً بالتوسع العربي الذي يأخذ أوجها عدة حسب العهود وحسب
الظروف.
من هنا
بدأت الشعوب المحتلة في الشرق التراجع عن لغاتها الأصلية، وتكلمت العربية.
ولكن تراجعها عن لغاتها لم يكن سهلاً ولا سريعاً بل تخللته عقبات ومقاومات
طالت مدة قرون. وقد أكد جميع الباحثين اللغويين والمؤرخيين كلامنس (Lammens)
وغراف (Garaf)
وغيرهم أن دخول اللغة العربية الى المدن السورية لم يرافق دخول الجيوش، و
لغة العرب قد انتظرت أكثر من قرن، لتدخل المدن الساحلية اللبنانية و
السورية. ذلك لأن هذه المدن قد قاومت الدخول الحضاري العربي طويلاً قبل أن
تستوطن فيها جماعات وقبائل عربية اسلامية. وقد أدت هذه الظاهرة الى قيام
تعددية جديدة وهي التعددية الثنائية وهي التعددية العادية. فالتعددية
الثنائية بمعنى (Bilinguisme)
تشير الى أن مجموعة واحدة تتكلم لغتين، أي أن أكثرية افراد هذه المجموعة أو
جميعهم يتكلمون لغتين ويتقنوهما جيداً. أما التعددية اللغوية العادية أو
الأصلية، فهي تعني أن مجموعتين تتكلمان لغتين كل واحدة على انفراد. ولكن
المجموعتين تتواجدان على أرض واحدة.
بالنسبة لنا فإننا نعتبر ظاهرة التعددية الغوية الثنائية بمعنى (Bilinguisme)
أي أن يتكلم الجميع لغتين هي ظاهرة متناقضة مع الحقيقة التاريخية لكل شعب،
خاصة اذا انتمت هذه اللغات الى حضارتين مختلفتين.
فالتعددية الثنائية ( Biou Trilinguisme
) التي شهدتها شعوب الشرق المسيحية قبل الفتح على شكل لغات محكية محلية-
لغة يونانية علمية- لغة لاتينية ادارية وقانونية لم تر الحياة الا بسبب
انتمائها جميعاً الى حضارة واحدة مسيحية. فالرؤيا الواحدة للحضارة الواحدة
قد سمحت للشعوب المسيحية باتقان لغات متعددة، انما مسيحية.
و لكن
التعددية الثنائية أو الثلاثية( Biou Trilinguisme
) التي شهدها الشرق و كانت على شكل تعددية عامودية، لم تكن لتحيا طويلاً.
فالتركيبة اللغوية هذه كانت تركيبة مرحلية، تنحل فيما بعد لصالح جميع
اللغات القومية. و لكن تيار الوحدة المسيحية الانسانية فرض اليونانية و
اللاتينية على باقي الشعوب مرحلياً كعامل يسمح التوجه الى جميع الشعوب من
خلال جهاز واحد. الجهاز الغريكو- لاتيني كان في طريقه ليصبح وسيلة اعلامية
عالمية بل وسيلة للتعامل الفكري والقانوني في العالم، كالفرنسية والانكيزية
اليوم مثلا. و كانت اللغات القومية هي الرسمية للشعوب المختلفة. و لكن هذا
الائتلاف اللغوي قد ضربه دخول جهاز آخر بتفكير آخر و تصور آخر ويتكلم لغة
آخرى. ففرضت اللغة العربية نفسها كجهاز علمي وقانوني كما رأينا، حيث ان
الدواوين الفكرية للدولة الرسمية قد عربت. و تراجعت اللغتان اليونانية
والرومانية من جراء تقدم العربية و احتلالها مكانها كلغة رسمية للدولة
العالمية الاسلامية. فاذ بالتعددية الثلاثية (Trilinguisme)
القومية- اليونانية- اللاتينية، تتراجع امام تعددية ثنائية أخرى هي لغات
قومية- لغة عربية.
ولكن هذه التعددية الاخيرة كانت وعاء تناقضياً، حيث أن اطرافها من لغات
منتمية الى حضارات مختلفة. فاللغات الآرامية او الفارسية مثلا لم ترتبط
حضارياً باللغة العربية. لذلك فالتعددية الاولى التي وجدت في الشرق بعد
الفتح العربي، سرعان ما تزعزت وانحلت امام ضغط اللغة الرسمية العربية.
فتراجعت اللغات القومية الفارسية و الآرامية و القبطية أمام العربية،
وسيطرت لغة الفتح على جميع مرافق الحياة قرنا بعد قرن.
و لكن التعددية الثنائية لم تجابه نفس المصير في الوطن القومي المسيحي، أي
في جبال المردة في لبنان.
فكما أوضحه الكثير من الباحثين وكما لحظه سليم عبو، فالعربية لم تستطع
التوغل في الجبل كما فعلت في السهول والمدن ومقاومة الجبل استمرت طيلة قرون
ولم تنطفأ حتى اليوم حيث انها بدلت في أوجهها مع تبدل اوجه التوغل.
و يمكن القول هنا أن استقلالية المسيحيين في لبنان طلية قرون، و تجمعهم في
بقعة واحدة سمح لهم أن يحافظوا على كيانهم سياسيا وثقافيا و لم يندمجوا و
لم يتبعثروا كالذين بقوا في سائر أنحاء الشرق
الوضع اللغوي للامة اللبنانية المسيحية
اذا كانت اللغة العربية قد سيطرت على الشرق و طغت على لسانه، فالدولة
اللبنانية منذ فجر استقلالها، فور دخول العرب، رفضت الشكل الجديد للفتح.
تكلم اللبنانيون اللغات الآرامية عند دخول العرب و تميز الموارنة باللغة
السريانية و هي فرع للآرامية السورية. و كانت اليونانية و اللاتينية في
المدن الساحلية.
و بسقوط الساحل و لجوء الاهالي الى الجبال، أصبحت الآرامية السريانية اللغة
الوطنية الوحيدة لمسيحيي الشرق المستقلين. و استمرت هذه اللغة معبرة عن
اللبنانيين طويلا، حتى تبدلت المعادلة في القرون الاولى من العهد العثماني.
و لكن حصارا عربيا قوياً قد حكم من حول الجبل. و الحصارهذا كان وسيلة جديدة
لاخضاع الامة اللبنانية، لأن هذا الحصار كان اقتصادياً. فلم يتعامل التجار
و السكان العرب المسلمون في المدن منذ القرن السادس حتى الصليبيين، مع
الموارنة و المسيحيين الابشرط تكلمهم اللغة العربية.
و يروي أحد المؤرخين قصة تصور لنا واقع التعريب
القاسي الذي عاناه لبنان عدة قرون: "يهبط فلاح لبناني من الجبل حاملا معه
إنتاج اشهر عدة من العمل الشاق في الوديان و القمم، يحاول بيع ما جلبه الى
أهل المدينة العرب. يتكلم الفلاح مع تاجر بالسريانية، فيرد التاجر عليه
بالعربية أولا يرد قط. و يحاول الفلاح من جديد عند تاجر آخر. و تتردد
النتيجة نفسها، حتى يلفظ عدة كلمات عربية سمعها في تجواله. و اذا بالجميع
يتعاملون معه و يشترون منه ما لزمهم و أكثر من المنتوجات. فيرجع الفلاح الى
قريته و يخبر أقرباءه بما جرى و يعلمهم الكلمات التي استطاع لفظها، فتنتشر
العربية في هذه القطاعات و تصبح وسيلة ضرورية حياتية". فبعدما فشل الحكم
العربي بفرضها بالقوة العسكرية، استطاع بثها من خلال (الخناق الاقتصادي) و
لعلّ هذه الطريقة تستعمل نفسها اليوم في افريقيا السوداء، حيث تأكل العربية
اللغات المحلية بقوة البترو—دولار. و تراجعت السريانية شيئاً فشيئاً
لصالح العربية بعد قرنين من الفتح العربي.
و لكن الفكر المسيحي و الفكر الماروني خاصة لم يستسلم لهذا الواقع واعياً
خطورة التراجع اللغوي. فعمد الى نقل القيم الادبية و العلمية و الروحية الى
اللغات اليونانية واللاتينية. فأصبحت الاديرة في لبنان قلاعا فكرية كدست
فيها جميع ما أنتجه الفكرالماروني و السرياني باللغات السريانية و
اليونانية و اللاتينية. و قد نشطت في هذا المجال خاصة اديرة الموارنة التي
لعبت دور ( سفن الخلاص و الثقافية) لحضارة المسيحيين في لبنان و بعد ان أكد
الموارنة والمسيحيون عامة على ثقافتهم التي نقلوها الى اللغات المسيحية
التي نجت من الطوفان، اطمأنوا الى استمرار روحهم وحضارتهم من خلال فكرهم
الذي حصنوه في القلاع الفكرية. و الحقيقة هنا أقسى من التي تصورها بعض
المؤرخين و التي لم يذكر منها شيئا في كتب التاريخ الرسمية و لا البحوث
التاريخية في لبنان و الشرق ولا في أي مركز فكري في الغرب. فالمسيحيون في
لبنان و الموارنة المردة خاصة خاضوا أقسى و أعظم حرب في التاريخ لا نستطيع
ان نقابلها بأخرى.
فقد حاربوا عسكرياً أقوى دولة في العالم عدة قرون، معزولين مبدئيا عن أية
دولة صديقة. و قد تصدوا بعددهم القليل لاعداد هائلة من جنود الخلافة و
الامارات و الممالك الاسلامية. و حاربوا لأجل حياة بسيطة و لكن صعبة وشاقة،
وسط شرق يتلذذ بالثراء و الحياة المريحة و الفاحشة، صورتها لنا قصور
الامويين و العباسيين و الامراء. ففتتوا الصخور و حرثوا الارض و تعبوا كي
يحصلوا على ما يلزمهم من الطعام ليستطيعوا مواصلة المقاومة. و تقدير هذه
الاعمال اليومية و لكن الخارقة لا يمكن ان نتوصل اليه الا من خلال ادراكنا
للواقع الذي عاش فية هذا الشعب. فالخطر الخارجي العظيم يهدده في كل لحظة، و
الحياة الجبلية صعبة و شاقة و المجتمع المحيط بهم غني و يعيش حياة رخاء. و
الاتصال بالغرب قليل و طويل المسعى. و لكن تركيبة الشعب اللبناني فولاذية و
قوية. فالذين لجأوا الى الجبال هم أحرار الشرق المسيحي، و قدومهم الى
اللبنان و استيطانهم فيه، هو قرار تاريخي هام، لا يستطيع اتخاذه الا خيرة
القوم. لأن وراء تفضيل الوديان و الصخور على المدن و السهول و الرخاء،
ارادة لا تقهر في الاستمرار في الحياة الحرة. لذلك يمكننا أن نفهم وضع
اللبنانيين الذين ناضلوا أكثر من ألف سنة و خسروا من المكاسب المادية كي
يستمر استقلالهم أو أمل استقلالهم.
في هذا الواقع، يمكننا أن ندرك حقيقة ما حصل في
المجال اللغوي الثقافي فالمسيحيون المستقلون و هم خيرة الشرق، لم يستطيعوا
مواجهة المد اللغوي العربي الذي استغل صعوبة الحياة في لبنان، خاصة وانهم
يواجهون عدواً جباراً في شروط قاسية للغاية.
فكان أن تراجعوا عن لغتهم الاصلية اي الآرامية السريانية، وهي لغة مسيحية
لا يزالون يستعملونها في قداديسهم حتى اليوم، لصالح اللغة العربية.
و لكنهم، و مواصلة لهدفهم الاستقلالي الحضاري، وضعوا جميع قيمهم الفكرية في
لغات مسيحية أخرى، لها حظ أوفر في الاستمرار، حيث أن الشعوب التي تتكلمها
تستمر بعيدة عن خطر الابادة. فاذ بالمسيحيين في لبنان يحاولون من خلال
عملهم هذا أن ينقذوا تراثهم ، و تراث قارة وحضارة كبيرة زالت عن وجة
العالم، بنقل قيمهم التي حافظوا عليها فوق قممهم، الى وسائل تعبرية أخرى
اعتنقوها، ماضين في اكمال واجباتهم بحال ابادتهم نهائيا..
من هنا، بدأ التحول اللغوي في لبنان. فبعد أن كتب السريان بالسريانية،
بدأوا بكتابة العربية و لكن بأحرف سريانية، و عرف هذا الخط بالكرشونية الذي
استمر حتى القرن التاسع. و اشتهر مسيحيو الشرق و السريان خاصة بالترجمة،
فنقلوا العلوم و الآداب و الفلسفة من اليونانية الى السريانية و من هاتين
اللغتين الى اللاتينية. و قد نقلوا أيضاً من اليونانية و السريانية الى
العربية. و نستطيع القول بأن فضل هؤلاء في اقامة ركائز الحضارة الغربية
كبيراً. فالمسيحيون، الذميون منهم و المستقلون و مع أنهم قاسوا من العرب ما
لم يقاسوه من أية قوة أخرى، قد اعطوا الحضارة العربية ما لم يعطه اي شعب
غير عربي في العالم. لا نربط هذا العطاء بأي سبب بعيد. فالتعامل بين الشعوب
ظاهرة حتمية بين المجموعات البشرية المتقاربة جغرافياً. و لا تمنع حالة
الحروب والتناقض من أن ينفتح شعب، خاصة اذا كان اقلية، و اذا كانت صلاته
بشعوب حضارته صعبة، لغة و حضارة وثقافة الشعب المحيط به و المؤثر الاول على
البيئة المحيطة جغرافياً.
و قبل الانتقال الى المرحلة العثمانية، و هي مرحلة تختلف عن مرحلة الحكم
العربي، يجدر بنا أن نوضح الصلة التي تربط الحكميين بالنسبة لتحليل الوضع
اللبناني الدقيق.
الحكم ينتقل والاكثرية لا تتغير
في الطور الاخير من العهد العباسي، دخلت العالم العربي عناصر عدة لم تنتمي
اثنيا للعنصر العربي، بل كان انتماؤها الوحيد للأسلام. فدخل الفرس أولا
واستولوا عمليا على زمام الحكم، فنشطوا في تعزيز سلطتهم و ضرب وحدة العرب
من خلال تشجيع استقلالهم و انفصال الاقطار الفارسية في ايران. و دخلت عناصر
عدة على دوائر الحكم العباسي المنهار، فاستولى المماليك ذو الاصل العربي
على مصر وسوريا، و استولى البربر على شمال أفريقيا، فتجزأ العالم العربي
تحت ضغط الشعوب التي اسلمت و لكنها ليست عربية عرقاً.
و لكن العروبة لم ترفض، و ظلت الصراعات تقام لأجلها باسمها، و ظلت الدولة
العربية مهيمنة بطريقة غير مباشرة على أجزاء واسعة من العالم القديم.
و لكن دخول السلجوقيين وعنصر الاتراك الى دار العباسيين كحماة للنظام، أدى
الى كسر طوق العروبة، و ظهور قومية أخرى على ساحة الشرق الاوسط. و القومية
هذه تغلبت على القومية العربية، من الداخل، اي انها سيطرت على العالم
العربي باسم الاسلام و لأجله. ادى صراع القوميات داخل الحضارة الواحدة، الى
فوز القومية التركية أو العنصر التركي بمركز الصدارة في تراتبية الاسلام.
فبدل ان تنطق العروبة باسم الاسلام و تجسد تطلعات جماهيره، تولى العنصر
التركي هذه المهمة حتى نهاية الحرب العالمية الاولى في الربع الاول من
القرن العشرين.
عمليا، سيطر الاتراك على الادارة العباسية و استأثروا المناصب الهامة و
المراكز الحساسة في الدولة العربية، و شكلوا الجهاز الرئيس في حروب الاسلام
مع البيزنطيين والصليبيين. و بتغلب الاتراك العسكري على البيزنطيين، و
دخولهم الاناضول بعد معركة منزيكرت سنة 1071 و بعد دخول القسطنطينية سنة
1453، أصبح العثمانيون، و هم الاتراك الذين قادهم عثمان، الممثلين الفعليين
للاسلام، و احكموا سيطرتهم ليس فقط على الامبراطورية البيزنطية التي
احتلوها و سحقوها، بل على المناطق العربية الشرقية، من خلال خلع الخلافة
عليهم.
و في هذه الاجواء انتقل الحكم الاسلامي في الشرق من
العرب الى يد الاتراك، فتغيّر الحكم ولكن
الاكثرية لم تتغير. الشرق لم يزل تحت سيطرة
الاكثرية العربية الاسلامية، و لم تزل الشعوب اللاعربية و المسيحية خاصة،
اقليات في العدد و مقهورة في حياتها و استقلالها و سيادتها.
يتبع |