القسم السابع:
المتصرفية 1861- 1914
توصل المؤتمرون الاوروبيون الى ايجاد صيغة جديدة بمشاركة العثمانيين، الذين
لم يقبلوا بها الا تحت الضغوط الغربية الكثيفة. ولدت "المتصرفية" سنة 1861
و ظلت حتى سنة 1914، و قد نعم المسيحيون في ظلها بحياة هادئة نسبيا حتى
قيل: "هنيئا لمن له مرقد عنزة في جبل لبنان"..
نظام المتصرفية وضع حدودا جديدة للوطن اللبناني تمتد من ضواحي طرابلس مرورا
بسهول عكار و محاذية للجبل اللبناني جنوبا حتى جنوب جزين مع مدينة زحلة في
البقاع و السهول المحيطة بها، صعودا حتى ضواحي بيروت دون الساحل و دون صيدا
وصور امتدادا على طول السواحل الشمالية شاملة جونية و جبيل و البترون و
شكا.
يدير هذا الكيان متصرف مسيحي يعينه العثمانيون من خارج مسيحي لبنان. و
النظام هذا، يعكس استقلالية نسبية ذاتية للبلاد، حيث ان شبه حكومة محلية و
مجالس تمثيلية، كالمجلس المركزي، تهتم بشؤون ادارة البلاد.
من خصائص المتصرفية طيلة عهدها، أنها ساعدت على تنمية ذاتية للمسيحيين من
جديد و دفعتهم نحو التطور و التفاعل الحضاري من جديد، مع أنهم لا يزالون
رسميا ضمن امبراطورية عثمانية.
و التنمية الذاتية هذه، بعد قرون من الانكماش و الاضطهادات والانغلاق و
الانقطاع عن الغرب المسيحي، قد ساهمت في خلق تيارات فكرية جديدة عند الشعب
المسيحي في لبنان، لا سيما ان التطور في الغرب كان قد قطع شوطا كبيرا نظريا
وعمليا.
الوضع السياسي والفكري في المتصرقية
1-
المسلمون
المسلمون بمن فيهم الدروز، بعد أن الغيت المتصرفية الجنوبية و كانت الدولة
الدرزية التي مثلت لفترة من الوقت التطلعات العربية في المنطقة، لم يلعبوا
دورا هاما في المتصرفية حيث كانوا اقلية و حيث أن المسيحيين شكلوا الاكثرية
العددية و الثقل الفكري الاول و المعارضة الاساسية ضد العثمانيين.
طغى وضع المنطقة ككل على سياسية المسلمين في لبنان، فارتبطوا بالتطور العام
الذي دفع العرب في الشرق الى تغيير جذري هام و تاريخي. و التغيير العربي في
منتصف اواخر القرن التاسع عشر كان له مسبباته.
فكرياً، تأثر العديد من المثقفين العرب، بالثورات الغربية و بتيار
الرومنطيقية و بدأوا يتحركون على اساس قومي جديد، هو القومية العربية. و قد
وعى المفكرون العرب على انهم يشكلون شعبا عربيا واحدا من المحيط الى الخليج
له تاريخ عظيم و حضارة كبيرة. و لكن الاكثرية الساحقة من المثقفين العرب
عبروا في مؤلفاتهم عن شعور قومي عربي تفجر عند مسلمي الشرق بعد أن فشلت
الدولة العثمانية في الدفاع عن مصالح الاسلام و رضخت لشروط الغرب المهينة.
و بعد أن ظهرت عند الاتراك نزعة عنصرية ارادت توحيد السلطة على اساس
طوراني، اي ارتكازا على العنصر التركي بالمعنى الواسع شاملاً التتر و
المغول و التركمان و الاتراك و جميع الشعوب العربية و غير العربية الخاضعة
للسلطنة و التي تعمل السلطة العثمانية على تتريكها.
عملياً، دخل المسلمون في الجمعيات و الاحزاب السياسية التي طالبت بالمساوات
مع الاتراك داخل المجالس التمثلية في الدولة في مرحلة اولى، و باستقلال
الامة العربية في مرحلة ثانية بعد ان اوشكت الدولة على الانهيار... و قد
تجسدت الروح الوطنية العربية بالوهابيين في الجزيرة العربية من جهة و
بالاحزاب القومية في سوريا ومصر و بالمثقفين العرب المتواجدين في فرنسا و
سائر الدول الغربية.
2-
المسيحييون
توزع المفكرون المسيحيون على عدة تيارات و في احزاب مختلفة. و حتى نستطيع
فهم توزعهم هذا و اتخاذهم مواقف مختلفة يجب تحليل المواقع التي انطلقوا
منها و الواقع الذي عاشوه.
من ناحية اولى، أثقل تاريخ المنطقة وطأة الحياة الجماعية على المسيحيين
الشرقيين و لم يعطهم فترة سلام طويلة يعيشون فيها بامان منذ الفتح العربي.
فالمجابهة الاولى مع الخلفاء، و الثورات المتلاحقة، و هجمات المماليك، و
احتلال القبائل والعشائر، و ضغط الاقطاعية العربية و من بعدها الحكم
العثماني، لم يعطوا فرصة للشعب المسيحي لحياة سليمة و هادئة كالتي نعمت بها
شعوب اوروبا و شعوب الشرق لفترات من تاريخهم. و قد أثر هذا الوضع التاريخي
على الفكر المسيحي، لا سيما أن تيارت جديدة قد قلبت المقاييس في اوروبا في
القرن الثامن والتاسع عشر، و ترددت اصداء هذه التغيرات في الوديان و الجبال
اللبنانية، حيث قرأ المثقفون المسيحيون و سمعوا ما يحدث في الغرب و ما توصل
اليه الفكر الانساني. و لم يكن على هؤلاء المثقفين الا ان يترجموا تفكيرهم
النظري الى ايديولوجيات و مواقف سياسية قومية اساسية. انطلق الفكر المسيحي
من رفض الواقع النصراني في الشرق الذي عانوا منه الف سنة و وظفوا كل
طاقاتهم للعمل على تغيير هذا الواقع من خلال ايجاد أرضية ايديولوجية يعملون
انطلاقا منها.
أ-
التيار الاول
القسم الاكبر من مفكري المسيحيين، توجه بطريقة طبيعية نحو نظرية الكيان. و
نظرية الكيان تعتمد في اساسها على مبدأ الوجود المستقل ضمن كيان حر و سيد.
و اصبحت المقدسات عند انصار هذا التيار ثلاثة: الاستقلال، السيادة و
الحرية. و بما ان غياب هذه العناصر قد انزل الويلات بالمسيحيين فقد أقتنع
هؤلاء الاخرون بوجوب الانطلاق من مبدأ المقدسات الثلاث للتوصل الى حياة
آمنة و سليمة. و يعرف اجمالا هذا التيار بالتيار القومي اللبناني، اي
الحركة التي تستهدف اقامة وطن للأمة اللبنانية بعد أن رفضت الاكثرية في
المنطقة هذا الوطن مدة الف سنة. و التيار هذا هو نتجة حتمية لنضال قومي دام
هو نفسه الف سنة منذ دخول العرب المنطقة. فثورات المردة و ثورات اللبنانيين
و انتفاضتهم، تجسدت فكريا في تيار صوّر لنفسه استراتيجية سياسية جديدة
تستهدف البقاء اولا و البقاء المستقل ثانيا. و لكن هذا التيار، اذا كان
مواصلة لجهود تاريخية قومية، فقد مر في تفسيرات عدة، و فهمه المفكرون كل
حسب تصوره و تحليله الخاص، لا سيما أن تيار اوروبا التجديدي و الثوري قد
أثر على اعطاء صيغة مميزة لهذا التيار حسب تقبله الافكار الثورية
والديمقراطية ام لا.
1- نظر فريق اول الى
تيار القومية اللبنانية و نظرية الكيانية من منظار ثوري، و تلخصت اهدافه في
اقامة وطن قومي مسيحي، على شكل جمهورية ديمقراطية، تعطي للشعب المسيحي
ذاتيته القومية و تسمح له بالتقدم بعد أن تقضي على سلاسل الارتباط
الاستعماري من جهة و على ضغط الاقطاعية الاجتماعي. و الفريق هذا، الذي عبر
عنه عدد من المثقفين الوطنيين، هو جماهير الشعب المسيحي في الجبل و الاحياء
الشعبية، و اعضاء الاكليروس في الكنيسة المارونية المنتمين الى طبقات الشعب
المتوسطة و الفقيرة، و قد شكلوا الاكثرية الساحقة في الكنيسة. و تأثر
المثقفون المسيحيون من علمانيين و دينيين بالثورة الفرنسية سنة 1789 و
بالتيارات التقدمية و الاجتماعية التي اجتاحت اوروبا كلها و اعطت وجها
جديدا للعالم الغربي. و قدس هؤلاء مع المقدسات الثلاث الاولى، القومية
اللبنانية من ناحية و الديمقراطية من ناحية ثانية. و قد ابصرت هذه الفكرة
عمليا النور، في الخمسينيات من القرن التاسع عشر، عندما قامت ثورة شعبية
مارونية في كسروان بقيادة طانيوس شاهين، و أخرجت العائلات الاقطاعية التي
عينها الامراء والاقطاعيون العرب المسلمين، و اعلنت قيام "جمهورية مسيحية
ديمقراطية شعبية" على اراض القائمقامية الشمالية. و قد عاشت هذه الجمهورية
الفريدة من نوعها، أكثر من ثماني سنوات تحت ادارة مجلس قيادة الثورة الذي
اتخذ بكفيا مقرا له، و الذي كان يوسف كرم عضوا بارزا فيه، و قائدا عاما
لقواته المسلحة. و تاريخ هذه الجمهورية، القصير بعمره، و الكبير بمعانيه،
هو أكثر ما خبأه التاريخ الرسمي لدولة الـ 43 و لدول الشرق و التاريخ
العالمي. و قد تأثر مفكرو هذه الجمهورية بمفكري فرنسا الجمهوريين و
الديمقراطيين، و تكلموا عن امور تؤمن بها جميع شعوب العالم في القرن
العشرين، و لكنها حوربت في الشرق في القرن التاسع عشر... بالفعل لم تؤيد
هذه الدولة الديمقراطية المسيحية اللبنانية سوى الكنيسة المارونية التي
لازمت الاحساس الشعبي المسيحي و تشكل اكليروسها من رهبان و كهنة من الشعب.
و أجهز عليها بطريقة أو بأخرى كلّ من الدولة العثمانية و الدروز و المسلمين
و الاستقراطية و الاقطاعية المارونية اللبنانية، و فرنسا الرسمية
الارستقراطية. و الايديولوجية هذه، قد ابعدت رسميا من قبل جميع الفرقاء على
الساحة اللبنانبة، و لكنها لم تختفي يوما واحدا من مشاعر الجماهير، و تظهر
دوما، عند اشتداد الخطر الخارجي، بين الفئات الشعبية.
2- اذا فالهدف الاساسي لهذا التيار، و هو هدف طبيعي بالمقارنة مع باقي
الشعوب، نلخصه كما يلي:
اولا-
اقامة وطن قومي مسيحي على الاراضي اللبناني.
ثانيا:
اتخاذ هذا الوطن شكل جمهورية ديمقراطية علمانية.
ثالثا:
استقلال هذه الدولة التام عن اية جهة سياسيا و ارتباطها حضاريا بالدول
المسيحية الاخرى غربية كانت ام لا.
و يمكن القول هنا أن ثورية هذا التيار و تقدميته لم يسمحا له بإبصار النور
طالما أن الشرق لم يكن قد تخطى الاعتبارات القديمة و العقلية المتخلفة التي
لا يزال يتخبط بها حتى اليوم.
هذا من ناحية المسيرة الطبيعية للفكر المسيحي الذي تأثر طبيعيا بتطور الغرب
السياسي و الاجتماعي و حاول اللحاق به.
2- و لكن التيار هذا
لم ينج من تصورات اخرى، فسّرت الاسس التي يقوم عليها نظرية الكيان
اللبناني. فالوطن المسيحي لم يقنع جميع المثقفين والمفكرين السياسيين في
لبنان المسيحي. و قد انطلق هؤلاء في عدم اكتفائهم بهذا الوطن من عوامل عدة
اهمها: تفسيرهم الجديد لفكرة العلمنة، التي ظهرت في اوروبا حيث اصبحت من
العناصر الاولى لاهم الثورات فيها. فالاوروبيون، و هم مسيحيون ينتمون الى
حضارة واحدة، هي الحضارة المسيحية، عمدوا الى اقامة جمهورياتهم الاولى في
القرن التاسع عشر على اساس فصل الكنيسة عن الدولة. و الفصل هذا هو من انجح
ما قام به ارباب الثورات الاوروبية الجمهورية. فالكنيسة قد اعاقت تقدم
الدول عندما هيمنت على الحكم او عندما كان الحكم تيوقراتيا. هذا خاصة في
البيئة الاوروبية حيث لا تناقض بين مسيحيين و غير مسيحيين. من هنا برزت
فكرة العلمانية التي ارتكزت على فصل الكنيسة الدين عن الدولة، بمعنى فك
ارتباط دوائر الدولة و مؤسساتها عن هيكلية الكنيسة الكاثوليكية او
البروتستانية.
و لكن العلمانية لا تعني فصل الحضارة – الدين عن الدولة. لأنه مهما ابعدت
المؤسسات الحكومية عن رجال الدين، فطابع الدولة الحضاري لا يزول ابدا.
جمهورية فرنسا العلمانية هي دولة مسيحية كاثوليكية لان شعبها مسيحي
كاثوليكي، و هويتها فرنسية مسيحية كاثوليكية. ان الذين خلقوا فكرة
العلمانية لم يقصدوا فك الارتباط بين الدولة و حضارتها بل بين المؤسسات
الرسمية في الدولة والكنيسة.
و لكن ثمة من تأثر بالتفسير الخاطىء للعلمانية و قام بتطبيقه في الشرق على
الساحة اللبنانية. فجاء من مسيحيين لبنان من الذين تشربوا نظرية العلمانية
عن الغرب عامة و فرنسا خاصة، من طالب باقامة دولة لبنانية لا طابع دينيا
لها، تضم مسيحيين و مسلمين و يفصل فيها الدين عن الدولة. اذا كان الهدف
معقولا، فالاساس يشكو من الضعف في التبرير....
لقد انطلقت هذه الفئة من القوميين اللبنانيين، التي اصبحت الاهم و الاقوى
فيما بعد عند المسيحيين في مطالبتها بالدولة القومية اللبنانية من مبدأ
العلمانية بمعناه الجديد. لقد رفض هذا الفريق فكرة الوطن القومي المسيحي و
استبدلتها بفكرة الوطن القومي البناني معتبراً الاولى متناقضة مع العلمانية
التي تفصل الدين عن الدولة. و لكن الحقيقة، كما نتصورها نحن هنا، أن هذه
الاخيرة وجدت لتنظم العلائق الداخلية في الدولة وليس لتجمع داخل دولة
معدومة الهوية.
ب-التيار الثاني
اذا توجهت الاكثرية الساحقة من المسيحيين نحو تيار الاستقلال من خلال اقامة
وطن قومي، و اذا وقع الاختلاف عند الفريق الاول على الوسيلة الافضل لقيام
هذه الدولة، فإن فريقا آخر ابتعد عن الارضية المشتركة عند المسيحيين و حاول
تغيير الاتجاه العام التاريخي للشعب المسيحي، مستبدلا اياه بنظرة جديدة
للواقع التعددي، رافضا من خلالها هذا الواقع، ظانا منه ان ابعاد الصورة
التعددية يعني ابعاد شبح التناقض والمواجهات. و عمد هذا الفريق الى رفض
مبدأ تعددية الحضارات انطلاقا من تعددية الهويات القومية. و لكن هذا التيار
شهد هو نفسه درجات متباينة في التفسير.
توجهت مجموعة اولى نحو الحل التوفيقي، حيث اكتفت بمطالبة قيام دولة على
الاراضي اللبنانية دون تحديد هويتها بشكل جذري، كي لا تصطدم بالتيارات
المتناقضة العربية و اللبنانية. و لكن هذه المجموعة مالت نحو اعطاء اللون
العربي لهذه الدولة، مرتكزة على لون الجوار و المنطقة، انما دون تحديد
الوجه القومي لهذا الوطن....
اما المجموعة الثانية، و هي التي لعبت اكبر دور في نكسة المسيحيين في القسم
الثاني من القرن العشرين فيما بعد، فقد خرجت عن بيئتها الطبيعية و دخلت
دائرة السياسة العربية، فنادت بالقومية العربية و اكدت انتماء المسيحيين
العربي... متناسية تاريخا طويلا من النضال ضد الذوبان في العروبة... و
لقيام هذه المجموعة اسباب سنأتي على ذكرها في فصل لاحق.
اذاً، يمكن اعطاء صورة عن الوضع السياسي عند المسيحيين في اواخر القرن
التاسع عشر و اوائل القرن العشرين.
فريق اول انطلق من نظرية الكيان المستقل، وآمن بالقومية اللبنانية انما من
خلال تفسيرين هما:
-
قيام دولة وطن قومي مسيحي علماني.
-
اما قيام دولة تعايش بين الاسلام والمسيحية تكون وعاء تحيا فية الامة
اللبنانية، و هي اجتماع لقوم ارادوا حياة مشتركة على هذه البقعة.
-
فريق ثانٍ، قليل العدد، انطلق من ضرورة اندماج المسيحيين في العالم العربي،
و قد عالج هذا الاندماج بطرق مختلفة.
-
دولة لبنانية "تتفاعل" مع المحط العربي.
-
أو دولة عربية لبنانية مرتبطة بالأمة العربية.
القسم الثامن: الوضع الثقافي
بعد أن انصب المسيحيون على اللغات المسيحية الغربية نتيجة تراجع لغتهم
القومية السريانية امام الضغط اللغوي العربي، اصبحت اللغات الاوروبية من
صميم التراث المسيحي في لبنان.
و قد انتقل المثقفون و المؤلفون المسيحيون من اللغة اللاتينية الى
الايطالية في عهد الامارة، لأن العلاقات الثنائية المسيحية- الاوروبية
كانت مع ايطاليا. اما اللغة الفرنسية، فقد بدأ استعمالها منذ الحملات
الصليية و توسع انتشارها مع قيام العلاقات بين فرنسا و تركيا على اساس
حماية الفرنسيين لمسيحيي الشرق.
و باتخاذ فرنسا، التي لقبت بابنة الكنيسة البكر، دور حامية المسيحيين، انكب
هؤلاء على اللغة الفرنسية، و اتقنوها و ألفّوا بها، منذ القرن التاسع عشر،
خاصة مع التبادل الثقافي الذي شهده لبنان... فاصبحت اللغة الفرنسية بالنسبة
للمفكرين والمثقفين المسيحيين، الوسيلة التعبيرية الحضارية التي حافظوا من
خلالها على قيمهم الفكرية و الروحية، و ذلك منذ اوائل القرن التاسع عشر.
و لكن الوضع لم يكن هو نفسه بالنسبة للغات المحكية، فقد تراجعت الآرامية
السريانية المسيحية تدريجياً، و استوطنت اللغة العربية لسان السكان، دون ان
يخلو لفظ الاهالي القاطنين في الجبل من "رنة" سريانية، يرجح علماء اللغات
عودتها الى عدم تقبل اللغة العربية بسهولة طيلة قرون.
تبقى مسألة تأليف المسيحيين باللغة العربية ومشاركتهم النهضة العربية.
الحقيقة ان هذه الظاهرة التي يتخذها البعض مثلا على عروبة المسيحيين لها
مسبباتها العديدة اهمها مايلي:
1- ان اتقان مفكري
المسيحيين اللغة العربية يرجع الى فرض هذه اللغة تاريخيا عليهم. اما
تأليفهم بها و مساهمتهم بالنهضة الثقافية العربية، فيرجع الى موقف سياسي
مهم عند فريق كبير منهم. ابان الاحتلال العثماني فقد فضل الكثيرون من مثقفي
المسيحيين العمل في بعث القومية العربية من خلال بعث الحضارة و الثقافة
العربية، كي يضربوا من خلال قيام نهضة عربية، الحكم العثماني و يقضوا
عليه... فينتهي الشر الاول على يد الشر الثاني.
2- و لكن ابداع
المسيحيين بالعربية في الثقافة، لا يعني ايضا اندماجهم بالعرب، بل يؤكد على
انفتاحهم على جميع اللغات حتى التي طغت وفرضت عليهم.
يتبع |