عرب لبنان

ولكننا لا نستطيع ان نتابع تطور الوطن المسيحي دون ان نرى ما حصل في المناطق التي اجلوا عنها ككسروان و بيروت و البقاع و عكار و الشوف و جزين و وادي التيم.

بدأ العباسيون بحملة استطانية استقدموا خلالها قبائل عربية اسلامية على مراحل و اقتطعوا لها اجزاء من الارضي اللبنانية. فكلما تراجع المردة عن بقعة من جراء الضغط العسكري العربي، استقدمت السلطات العربية قبائل اسلامية و اسكنتها على هذه الأراضي، حيث ان اجزاء كبيرة من لبنان التاريخي خرجت من دائرة الحضارة المسيحية الشرقية و دخلت دائرة العروبة. فسكانها تحولوا من سريان آراميين مسيحيين الى عرب مسلمين. و نستطيع الكلام في هذه المرحلة التارخية عن وجود لبنان عربي من خلال تواجد سكان عرب على اراض لبنانية. فجميع الاراضي اللبنانية التي استوطنت فيها القبائل الأسلامية أصبحت اراضي عربية.

اما الاراضي الباقية فلم تزل لبنانية سريانية مسيحية. و أفرز التاريخ واقعا بارزا في المنطقة لا يزال يشغلها و يشغل العالم حتى اليوم: وجود لبنانين في الشرق، لبنان مسيحي سرياني آرامي ناتج عن تجمع مسيحيي المنطقة في حقبة من التاريخ، و منتمية الى حضارة مسيحية واحدة، و لبنان عربي اسلامي ناتج عن قدوم قبائل عربية توافدت عليه و سكنت على أرضه على عدة مراحل، و مرتبط عضويا بالامة العربية و منتمية الى الحضارة العربية الاسلامية.

و اللبنانيون هؤلاء لا يستطيع ان يميزهم الا الذي تابع تاريخ كل فئة منها. فتاريخ لبنان المسيحي الشرقي مرتبط بتاريخ المنطقة المسيحية الآرامية السابق للفتح العربي، و تمتد جذوره الى آلاف السنين من حضارة الشعوب القديمة، و نستطع القول هنا، أن "أصوله التاريخية" تبدأ مع الفينيقيين.

اما التاريخ العربي، فيرتبط بالتحرك العربي الذي جاء من الجزيرة العربية، فلا نستطيع القول أن اجداد لبنان السرياني هم العرب (اذ انه بالواقع قد حاربهم، و شكلوا بالنسبة له العدو الاول و الاخطر) و لا نستطيع القول ايضاً أن أصل لبنان العربي هو مردة ـ سرياني ـ فينيقي.

فالاراضي التي تكوّن ما يسمى بلبنان، اراض شهدت تاريخين مختلفين تماما، بالشكل و المضمون. و التاريخان هذان ولّدا نظرتين مختلفين للشعبين اللذين سكناها. لذا ليس من المكن ايجاد تاريخ واحد لكلتي المجموعتين. من هنا يمكننا ان نفهم فشل " التاريخ الرسمي" الذي يُدرس في المؤسسات الرسمية في الدولة اللبنانية. فالتاريخ الواحد لا يمكنه استيعاب تصورات شعبين... كيف يمكنه الانتقال من تاريخ المردة الذين حاربوا الخلافة العربية، الى تاريخ عروبة لبنان الرافضة للمردة؟..

و لعل عدم تجاوب "التاريخ الرسمي" في لبنان مع تطلعات و مشاعر الفريقين، قد خلق ضياعا قوميا عندهما و خاصة عند المسيحيين مما ادى الى تكوين عنصر هام في تفجير القضية اللبنانية، و هي قضية هوية لبنان التي سنبحثها فيما بعد.

اذا منذ 1305، بدأ حكم جديد في لبنان، على إثر اندحار الوطن المسيحي فيه. فسيطر العسافيون و هم امراء عينهم العرب ليحكموا لبنان، على جميع المناطق اللبنانية الواقعة من جنوب كسروان حتى الشمال. و لم يكن العسافيون وحدهم يشكلون اقطاعية لبنان. بل بسطت القبائل العربية اقطاعيتها في الشمال مع آل سيفا و البقاع مع الفريخ و الشوف مع معن و الجنوب مع الشهابيين و بيروت والغرب (اي عاليه و بعبدا و شويفات) مع امراء ارسلان و حلفاءهم. و في هذه الفترة التي امتدت منذ انتهاء الاستقلال المسيحي في لبنان سنة 1305 حتى حوالي سنة 1623، تلخصت التحركات على الساحة اللبنانية بتطاحن القبائل و الاقطاعيات الاسلامية (الدرزية بنوع خاص) في حرب قبلية نقلت رحاها من عصبية الجزيرة العربية الى سهول و جبال لبنان.

و بينما رزح المسيحيون و الموارنة خاصة تحت حكم الاقطاعيات العربية، و شل استقلالهم، و جزأت مناطقهم الى امارات و مناطق يرأسها شيوخ و امراء عرب و تركمان واكراد، تولت العائلات الاقطاعية العربية شؤون ادارة البلاد و اختفى لبنان السرياني من الوجود السياسي القومي، و حلّ محله لبنانا آخر هو لبنان العربي و قد تنازعه السنة و الشيعة و الدروز، و تمكن الآخرون من الانفراد في القيادة. و يمكن درس حقيقة الامارة العربية من خلال ثلاثة مراحل، مرحلة التوحيد، مرحلة المعنيين، مرحلة الشهابيين.

المرحلة الاولى، انتهت بانتصار الامير فخر الدين على العائلات الاقطاعية الاخرى، و كان ذلك نتيجة لسببين:

1-              مساهمة العثمانيين الغير مباشرة باضعاف اخصامه، ذلك لأن موقف فخر الدين كان قريبا منهم.

2-              مساهمة مسيحيي لبنان بقوتهم القتالية في معارك المعنيين ضد اعدائهم و ذلك لا سباب سنراها فيما بعد.

اذاً بدأ عهد الامارة مع توحيدها و اعتلائها من قبل فخر الدين في نهاية الربع الاول من القرن السابع عشر.

القسم الثالث: الأمارة العربية والمعنيون

الإمارة اللبنانية المعنية كانت إمارة عربية أو بكلام أصح إمارة درزية. فالتقلبات و المواجهات طيلة المرحلة الأقطاعية العربية الأولى، أي مرحلة الإقطاعيات المتبعثرة، التي امتدت من أواخر عهد المماليك الى أوئل حكم العثمانيين، قد دفعت بالدروز، و هم طائفة محمدية تميزت باستيطانها الجبل اللبناني جنوبي بيروت، الى سدة الحكم في البلاد.

كيف توصلوا؟

بعد جلاء الصليبيين، كافأ المماليك و الملل العربية الإسلامية كالأرسلانيين و العسافيين و الشهابيين و المعنيين و غيرهم من الذين تصدوا للغربيين، بتعينهم أمراء على الأراضي اللبنانية و اقتطاعها لهم كما رأينا. و سيطر العنصر الدرزي الذي سكن الجبل في الشوف و جزءا من البقاع بالتعاون مع بعض القبائل الأخرى على كامل المناطق، تحت لواء عائلة معن. و في أوئل العهد العثماني، بسط المعنيون سيطرتهم و وطدوها على جميع الأراضي اللبنانبة التاريخية و على جزء من سوريا.

يجب أن نتساءل هنا عن ماهية الحكم و هويته في هذا العهد. و إدراك ماهية الحكم هذا، لا يمر إلا عبر تحليل العناصر التي تؤلف لبنان آنذاك.

يمكننا أن نميز، وذلك حسب التطور التاريخي الطبيعي الذي اتبعناه، بين الشعب المسيحي في لبنان أو الموارنة من جهة، و عرب لبنان المتمثلين بإقطاعييهم و على رأسهم الأمير.

1- المسيحيون والموارنة

لقد شكل هؤلاء العنصر الفاقد الهوية منذ ان فقد الأستقلال، فاستعمل في جميع الحروب الأقطاعية تارة و في المواجات العربية - العثمانية طورا كما سنرى فيما بعد.

المسيحيون الموارنة خاصة، مع فقدانهم هويتهم و استقلالهم، استمروا في حياة جماعية، إنما مرتبطة بإرادة إقطاعييهم العرب ، سنيين كانوا أم شيعة أم دروز. فالمقدمون و المشايخ الموارنة كان يعينهم الأقطاعيون المسلمون في أنحاء جبل لبنان. و لعل هذه الظاهرة قد أثرت في العمق في طبيعة علاقة المشايخ و الأقطاعية اللبنانية المسيحية بالأقطاعية و الحكم الأسلامي عامة. فالأقطاعية المسيحية و المارونية اللبنانية لم تجد قوتها في شعبها كما في عهد المردة الأستقلالي، بل في سلطة الأقطاعية العربية و الدولة العثمانية.

لا شك أن هذا الأرتباط الذي يشد "المشيخة و الباكوية" المارونية، يفسر جيدا نوعية الولاء التي تميزت به الطبقة الحاكمة المسيحية المارونية خلال تاريخ لبنان منذ انتهاء الأستقلال المسيحي. فالأقطاعية "المعينة" المارونية لم تدع فرصة تمر إلا وأثبتت ارتباطها بالحكام المسلمين عربا كانوا أم عثمانيين. و قد طبعت هذه الظاهرة تاريخ لبنان المتوسط و الجديد بطابع عميق.

أما الشعب الماروني فقد تميز باستمرار روح الأنتفاضة و القومية عنده، فإنه لم يدع فرصة تمر إلا و شارك في القتال ضد حكامه. فكان الموارنة كيفما حاربوا، وجدوا أنفسهم يحاربون حاكما و محتلا و طاغية. وهذا ما يفسر تقلبهم من أمير على آخر و من حكم لآخر، لأنهم مهما حاربوا فأن هدفهم كان واحدا، تحرير لبنان. و لكن إقطاعييه بالتعاون مع الإقطاعية العربية قطفوا في كل واقعة ثمار انتصار ماروني شعبي كما سنرى فيما بعد.

ولكن الشعب المسيحي الماروني لم يكن ليواصل ثورته الباطنية لولا أستمرار جهاز يعاونه و يسهل عليه و يثقفه، ألا وهو السلطة الدينية.

و بالفعل، و بعد أن فقد المسيحي استقلاله، و بعد أن سيطر الحكم العربي عليه من خلال إقطاعيات توزعت على أراضيه، و بعد أن استوعبت هذه الأخيرة، الطبقة المارونية الحاكمة المدنية، لم يكن على الكنيسة المارونية إلا أن تلعب دورها التاريخي بعد أن مارسته طيلة الأستقلال المسيحي.

فأيام المردة شهدت تعاون السلطات الدينية المتمثلة بالبطريرك و السلطات المدنية المتمثلة بالمقدمين لأدارة شؤون البلاد. و لكن أرتماء السلطات المدنية المحلية المارونية في أحضان الحكم الأسلامي، جعل من السلطات الدينية التي تمثلت في البطريرك تعاونه أديرة الرهبان، السلطات الطبيعية و الشرعية لعامة الشعب الماروني و المسيحي عامة.

و الشرعية هذه اعترف بها العثمانيون أنفسهم عندما سلمت اسطنبول شؤون إدارة الموارنة للبطريرك دون مراجعة الولاة العثمانيين المشرفين على لبنان وسوريا. أما شرعية الحكام اللبنانيين أو المشايخ و الأقطاعيين اللبنانيين، فكانت مرتبطة بحكامهم المسلمين أو الدروز، المرتبطين أنفسهم بالولاة العثمانيين.

لذلك، لكي نستطيع متابعة تاريخ المسيحيين في لبنان يجب أن نتابعه من خلال شقين. شق مباشر نستعرض تطور الشعب الماروني و علاقته تحت أشراف البطاركة و الأديرة و المثقفين، وشق آخر، و هو تاريخ الأقطاعية المارونية و ارتباطها و تعاونها مع الأقطاعية العربية. و لعل الشق الثاني هو المعتمد و الأكثر وضوحا في تاريخ لبنان الرسمي. فالكلام يكثر عن العائلات المارونية الكبرى و اشتراكها في الحروب الأقطاعية الدرزية - السنية والحروب العربية - العثمانية الى جانب الأمراء و المشايخ. بينما يقل الكلام و يخف عن تطور العلاقات المارونية المسيحية بالأقطاع الماروني من جهة و بالحكم الأسلامي، عربيا كان أم عثمانيا من جهة آخرى.

2  - عرب لبنان 

  عرب لبنان كما رأينا أصبحوا الحكام الفعليين للبلاد، و يسيطرون على جميع المناطق فيها. و لكن المواجهات الطائفية و العشائرية بينهم أدت الى بروز الأقليات عندهم كالدروز و الشيعة كأقليمين لبنانيين، و بروز السنيين كمنادين للوحدة و الذوبان مع الأكثرية السنية العربية- العثمانية. و ليس "المعنيون" و حلفائهم إلا ممثلين للنزعة الأنفصالية الأسلامية التي جمعت الدروز و بعض المتاولة الشيعة. و أصبح تصور الفريق الدرزي الذي قبض على زمام السلطة، يتجه نحو إقامة إمارة درزية عربية لبنانية تحتوي على عناصر أخرى أقلية أيضا، تناهض قوة السلطة العثمانية السنية و تستقل عنها.

هكذا و بعد تحليل موقع الفريقين الماروني و الدرزي يمكننا التقدم في تاريخ لبنان "المعني" دون تعثر لندرك جميع الحقائق التي أحاطت بالتطور عبر السنين.

بما أن سياسة فخرالدين و عائلة معن الدرزية و حلفائها قد اتجهت منذ القرن السابع عشر الى مناهضة الحكم العثماني الأسلامي، و الأستقلال، فقد أتخذ المسيحيون و الموارنة خاصة المواقف كما يلي:

الأقطاعية المارونية: بما أنها كانت مرتبطة بالأقطاعية العربية، وهذه الأخيرة تتجه نحو إقامة إمارة لبنانية، فإنها أي الأقطاعية المارونية التحقت بالمعنيين و عاونتهم و شاركتهم في الحروب. 

الكنيسة المارونية: بين شرين. و لعدم تمكن استقلال المسيحيين مجدداً، اتجهت الكنيسة المارونية نحو دعم الأمير الدرزي، و التقرب منه، شرط أن تهيمن هي على السياسة الخارجية اللبنانية للأمارة. و قد أثرت فعلا في إقامة علاقات غربية - لبنانية تحولت الى حلف بين إمارات إيطالية و الأمارة اللبنانية.

و قد شاركت المارونية في دعم المعنية الدرزية حتى إنها قاربت السيطرة الكاملة على البلاد، فكان الموارنة يديرون السياسة الدرزية العربية في لبنان ضمنا، و لكن دون أن يبرزوا أية نية بالأتجاه نحو وطن قومي مسيحي. و قد حولوا الأمارة، خاصة عندما بلغت حدودها حدود دولة المردة القديمة أي جنوب سوريا - لبنان و شمال فلسطين، الى شبه إمارة مردة إنما هويتها درزية عربية رسميا. و قد أدت هذه السياسة بالطبع الى سقوط الأمارة بعد صراعاتها مع محيطها.

والأمارة المعنية تذكرنا بوجه لدولة لبنان ال  43. فالأمارة درزية مبدئيا و لكن العقل الماروني مسيطر عليها وعلى سياستها الخارجية. أما دولة ال  43  فهي مسيحية (حسب اصطلاح سياسي غير رسمي طبعا) مبدئياً، ولكنها سرعان ما سيطر عليها المسلمون من الداخل و حولوها الى عربية مستأثرين بالسياسة الخارجية. و سقوط الدولتين متشابه في إحدى صورها. فالأمارة الدرزية اللبنانية سقطت عندما أنحاز الأمير أو الدولة فيها للموارنة و لسياستهم. و دولة الـ 43 سقطت لانحياز أجهزتها من الداخل للسياسة العربية الأسلامية.

بعد أن تابع فخرالدين الأول سياسة صريحة مع العثمانيين، و بعد مقتل أبنه قرقماز، برز حفيده فخرالدين الثاني كأقوى أمير لبناني في عهد الأمارة المعنية، و تعاون مع كثير من الأقطاعيين عامة والموارنة خاصة، كالخازنيين و آل حبيش. وانتهى عهد المعنيين بوفاة احمد معن سنة 1697.

بالنسبة لعلاقات المسيحيين بأوروبا، ثقافيا، فقد تكثفت مرتكزة على عاملين، علاقة الأمارة الجديدة باوروبا و بايطاليا خاصة، و انتشار العربية من جهة أخرى. ففي عهد المعنيين تم تعريب آخر معقل للسريان في الجرود و خاصة في جبة بشري حيث قاومت قرونا طويلة. و لكن التعريب اللغوي أفسح المجال أمام المثقفين الموارنة لتلقي العلم و الأنفتاح على اللغات الغربية والايطالية خاصة.

القسم الرابع: الأمارة العربية و الشهابيون

انتخب الأمير بشير الأول بعد وفاة احمد معن سنة 1697.

و الأمير بشير من عائلة شهاب، التي تأتي بعد آل معن في سلم الأقطاعية اللبنانية و الأسلامية. و الشهابيون مسلمون سنة و لكن قسما كبيرا منهم تحول الى دروز و منهم الأمير بشير.

الأمارة الشهابية لم تتغير ملامحها كثيرا عن إمارة آل معن. فالتركيبة لا تزال نفسها:

أمير درزي يرأس إقطاعيين و مقدميين و مشايخ من جميع الطوائف، و يدير أمور البلاد الشبه المستقلة داخل الأمبراطورية العثمانية. كما له جيش خاص يفرض الأمن و الأستقرار في الجبل.

كذلك التركيبة الأنسانية لم تزل هي نفسها. فالأمير الذي يتلقى إرشادات الصدر الأعظم في اسطنبول مبدئيا، يجمع الضرائب من الأمراء والأقطاعيين في الجبل. شعب الموارنة متعلق بكنيسته و لكنه يخضع لاقطاعيين موارنة معينين و لأقطاعيين مسلمين في مناطق أخرى.

و لكن ثمة تغييرات قد حدثت في هذه المرحلة هذه أولها:

1 - قوي الأقطاع و تأصل، خاصة عند الدروز، حيث تحولت بعض العائلات الى شبه دويلات لها قواها النظامية و شيوخها، كعائلة جنبلاط، التي أصبحت أقوى عائلة أقطاعية في لبنان. كذلك برزت العائلات الأقطاعية عند الموارنة خاصة في كسروان (خازن، حبيش) و جبة بشري و زاد ارتباطها بالأمير، بينما البطاركة، و قد اضطهدوا من قبل السلطة العثمانية كأصطفان الدويهي، فقد أنكبوا على تنظيم رعاياهم و الأتصال الدائم بالغرب متمسكين به في الحالات الصعبة.

2  - برزتيار درزي - إسلامي مناوىء لسياسة الأمير الأستقلالية و المنحازة للموارنة والمسيحيين. و قد أدى صعود هذا التيار الى تفجير الموقف في القرن التاسع عشر حيث قضي على هيكلية الأمارة و فلسفة التعايش الفوقي، أو تعايش الأمراء والأقطاعيين.

 3 – تأثر بعض المسيحيين بالتيارات الثورية الناشئة في اوروبا و أهمها تيار ثورة 1789الفرنسية و تأثير هذه التيارات على الفلسفة السياسية المسيحية في لبنان وموقف المسيحيين من وجودهم في الشرق. كذلك تعدى تأثير هذه التيارات المسيحيين الى بعض المسلمين الذين نهضوا بأفكار جديدة من قومية و اجتماعية.

حكم الأمير حيدر الشهابي، خلف بشير الأول من سنة  1706الى 1732، وتميزعهده ببروز أقطاعيات مارونية جديدة كآل الدحداح وآل الخوري، و بحروب متواصلة بين الأحزاب اليمنية و القيسية. و الجدير بالذكر هنا، أن الموارنة و المسيحيين عامة، قد شاركوا في المعارك ضمن الأحزاب الأسلامية، لأن الأقطاعية المارونية المتحالفة مع الأمير قد دفعت بالمواطنين المسيحيين للقتال ضمن أحزاب عربية تقليدية. وحكم الأمير ملحم من سنة 1732حتى 1754.

 وتلاه عهود احمد و منصور شهاب و الأمير يوسف وذلك حتى سنة 1794. وتميزت هذه المرحلة، بامتداد الموارنة جنوبا و بدخول جماعات درزية عديدة الى المسيحية من عائلات شهاب و أبي اللمع و غيرهم. و قد أثرت هذه الظاهرة على أعيان الدروز الذين غضبوا من هذا الأنتقال الكثيف و لقوة الموارنة و لانتشارهم، و لبروز أقطاعيهم في إدارة الأمارة. ونشطت منذ هذه المرحلة روح عدائية بين الأقطاعية الدرزية و عموم الموارنة، حيث أن الدروز و المسلمين عامة، و ذلك منذ نكسة لبنان المسيحي سنة 1305 اعتبروا أن النصارى يشكلون مواطنين من الدرجة الثانية، يستعملونهم في الحروب و في تجليس الأقتصاد، أما السياسة فهي لهم. و لم يكن بروز الموارنة و بسط نفوذهم في الأمارة إلا ليفجر من جديد النية التي افرزتها العهود العربية الأولى منذ الفتح.

اعتلى الأمير بشير الثاني سنة 1794 عرش الأمارة، و بدأ عهدا جديدا تميز بالمساواة بين الدروز - الأسلام و الموارنة. و لكن هذه المساواة لم تكن إلا انتزاعا لبعض حقوق الموارنة و فرض الشريعة الأسلامية عليهم. و قد أشتهر الأمير بشير الثاني رسمياً بلبنانيته و اسقلاليته و بحكمته. و للشهرة هذه حق، إنما فقط بالنسبة للدروز. فالسياسة التي اتبعها لم تكن إلا درزية، حيث أنه لم يماش نابليون بونابرت سنة 1799 في حصاره لعكا، رافضا لسياسة الموارنة المتضامنين مع فرنسا. كذلك فقد تابع الأمير سياسة الأخذ و الرد مع الباب العالي، حسب مصلحته الخاصة. و يشير كثير من المؤرخين الى أن الأمير لم يتردد أمام شيء كي يؤمن رأس الأمارة. فقد دبر اغتيال زعماء موارنة كدومنيك و جورج باز من جبيل و أقصى أقطاعيين آخرين عن مراكزهم و استبدلهم بدروز، خاصة و أن الموارنة بدأوا التململ من سياسته المنحازة. كذلك سيطر بشير الثاني على العائلات الدرزية و صفّى الذين قاوموه كبشير جنبلاط مثلا. و لم تحفظ كتب التاريخ الرسمية من ذلك إلا "استباب الأمن و انخفاض الفوضى".

و بدخول جيوش محمد علي على البلاد المشرقية، دخل لبنان دائرة الصراع الدولي بين المصريين و العثمانيين و بين الفرنسيين و الأنكليز و النمساويين. فتناقلت المنطقة بما فيها لبنان بين أيادي الفرقاء، و تفرق الأقطاعيون و الأمراء الدروز و المسلمون في لبنان بين مؤيد لمصر ومؤيد للعثمانيين، و قصفت المدن الساحلية و انتشرت الفوضى في الجبل و السهول.

و في هذا الخضم الذي دام حتى سنة  1840، ضاع الموارنة بين مؤيد و معارض لحكومات جميعها أسلامية، فحاربوا تارة مع واحد و طوراً ضده، مهرولين وراء اقطاعييهم المرتبطين بالنظام الأماري الدرزي. و انقسم المسيحيون على أنفسهم بانقسام الاوروبين على أنفسهم. فبينما أيد القسم الأكبر منهم فرنسا و حليفتها مصر، أيد قسم آخر النمساويين و الروس و من ورائهم الحكومة العثمانية. و انتهت فترة الضياع هذه بعد إبعاد بشير الثالث الذي حكم من سنة 1840  حتى 1841.  و في سنة 1842 فرضت الدول الاوروبية صيغة على العثمانيين ليطبقوها في لبنان، بعد أن حاولوا إدارة البلاد مباشرة بواسطة إدارة مركزية تركية.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها