تجربة قبل وقتها التاريخي
قليلون من قراؤنا و اصدقاؤنا على مدى ثلاثة عقود، و خاصة الاجيال الجديدة
في الوطن الام، يعرفون تجربة هذه الحركة السياسية التي انطلقت في ١٩٧٠، و
تحولت الى حزب في ١٩٨٨، قبل ان تنهي نشاطها في ١٩٩٠ مع سقوط لبنان بكامله
تقريباً، تحت الاحتلال السوري-الايراني. هذه المجموعة لم يكن لها ثقل
ميداني سياسي على الاحداث، لكنها كانت من اكثر منتجي الفكر السياسي في تلك
الحقبة، في عدة قطاعات، بشكل عميق يجهله حتى من عايش عملها. و قد عملت في
صفوفها حتى قيادتها لسنوات عديدة. و سيكون لهذا التاريخ حيز واسع من
مذكراتي الشخصية و السياسية في الوطن الام.
هذا الاسبوع يصادف الذكرى الثالثة والثلاثين لاطلاق الحزب الديموقراطي
الاشتراكي المسيحي
Parti Social Democrate des Chretiens du Liban PSDC.
و هو تطور لتنظيم سابق اسمه
USDC،
الذي خرج عن تنظيم صغير اسمه الجبهة القومية اللبنانية
FNL
التي اطاقها شقيقي الاكبرسامي في صيف ١٩٧٠.
الجبهة الام لم يتعدى اعضاؤها اكثر من ٥٠ شخص معظمهم من الطلاب، و لكنها
اطلقت حملات كثيرة من ندوات تثقيف، وبيانات، و تنظيما ميدانيا تخصص وقتها
بكتابة شعارات على الجدران ما بين ١٩٧٣ و ١٩٧٧. و كان للجبهة نشاط واسع في
كتابة الرسائل الى كبارالسياسيين كما نمّت علاقات مع بشير الجميل منذ ١٩٧٣
و لجنة الكسليك منذ ١٩٧٥. و حصرت نشاطها في ١٩٧٧ في الشؤون البحثية. و اسست
هذه المجموعة عدة تجمعات اهمها اللجنة المشرقية في ١٩٨١، و تجمع المثقفين
في ١٩٨٢، و الهم فكرها السيرة التحريرية لمجلات و منشورات، منها "صوت
المشرق" و مجلة "الشعب".
في العام ١٩٨٣ اطلق بعض اعضاء الجبهة "الاتحاد الديموقراطي الاشتراكي
المسيحي"
USDC
و هو مزيج وسطي بين الديموقراطية الاشتراكية و الديموقراطية المسيحية، و
اقام الاتحاد علاقات مع هذه الاحزاب في اوروبا و اميركا اللاتينية. و ركز
الاتحاد على اقامة مدرسة كوادر فكرية خرجّت مئات من المواطنين من مختلف
البيئات و المناطق، و عمل مع مراكز ابحاث و اقام تحالفات مع اطراف سياسية،
كما اطلق اتحادا عمالياً. و وصلت اعداده الى فوق الالف عضو، فبات من اصغر
الاحزاب الصاعدة.
في ايار ١٩٨٨ تحول الاتحاد الى حزب سياسي متكامل، و تقدم بطلب علم و خبر، و
دخل نادي احزاب "المنطقة الشرقية" و تمثل في قيادة القوات اللبنانية، و طور
علاقاته الخارجية، و كان بين المطالبين باقامة مجلس وطني، او برلمان في
المناطق الحرة، و نادى بقامة مجلس دفاع مشترك بين الجيش اللبناني و القوات.
هذا و كان الحزب الشاب على تواصل مع ليبراليين من الطوائف الاخرى السنية، و
الشيعية، و الدرزية، يشجعهم على اقامة احزاب ديموقراطية اجتماعية او
اشتراكية ديموقراطية في مناطقهم، على اساس مقاومة الاحتلال السوري و حزب
الله، و حتى التوصل الى صيغة فدرالية بين هذه الاحزاب "بعد التحرير".
الخط التاريخي لهذا التيار الصغير ارتكز على بعض المبادىء المتقدمة في
وقتها
١.
اقامة نظام فدرالي-كونفدرالي في لبنان، و لكن مبني على مبدأ "حق الشعوب في
تقرير مصيرها"، اي ليس على الدين بل على الشعور الجماعي للناس. الجبهة
القومية اللبنانية طالبت بالفدرالية، و لكن الديموقراطي الاشتراكي طالب
بالكونفدرالية، بتأثير من الابحاث القانونية التي اجريتها. و كان سامي قد
علل انه "اذا لا يعطى حق تقرير المصير"، فحق اعادة تركيب البلاد هو جائز.
٢.
طالبت المجموعة بحق الاختيار لجميع اللبنانيين، باتجاه اي هوية ضمن الدولة
الكونفدرالية: قومية لبنانية، عر بية، ارامية، الخ، ضمن نظام تمثيلي.
٣.
طالب الحزب خاصة في ١٩٨٢ و ١٩٨٨، ان يكون هنالك نظام استفتائات شعبية
لتحديد شكل الدولة و ليس قرارات "فوقية"
٤.
من اهم مطالب الحركة، جبهة و حزب، كانت المطالبة بتدويل الملف تحت مجلس
الامن، و الفصل السابع، و استقدام قوات دولية، و صدور قرارات دولية.
٦.
و من المطالب الدفاع عن الديموقراطية و الحريات، حتى خلال الحرب، و عدم
احتكار السلطة، حتى في المناطق الحرة او "المحررة". و قد كلف هذا الموقف
الحزب الصغير غالياً عبر قمع سياسي، و اغلاق اعلامي، و اقتحام مراكز، و
اكثر. و لكن ذلك كان مصير القوى السياسية غير المسلحة، و الداعية الى
"ديموقراطية دائمة" ابان الصراعات الاهلية و الاحتلالات.
ال
PSDC
واجه ازمة ابان الحرب الداخلية في المنطقة الشرقية خلال ١٩٩٠، و قرر ايقاف
عمله التنظيمي بعد اجتياح نظام الاسد للمناطق الحرة.
تجربتنا في هذه الحركة كانت طويلة، و مليئة بالاختبارات السياسية،
العقائدية، و الشخصية، الصعبة، المكلفة و الخطيرة. و كأننا كنا قد سافرنا
الى الماضي من المستقبل، الى مجتمع لم تفهمنا قواه. و قد قال لي احد
المؤرخين الاوروبيين: انتم قد تأثرتم بفكر جامعي متقدم، بينما الواقع
السياسي في ذلك البلد كان يهرول الى الوراء، فكانت الصدمة. اذ ان معظم تلك
الافكار، عادت لتطفو بعد جيلين و بعد اختبار تاريخي رهيب لثلاثة عقود.
ايا كان الواقع، و ان كانت قبل وقتها، فقد علمتنا هذه التجربة الكثير،
للعقود التي تلت في اطار اوسع من الوطن الام الصغير. الاهم اننا سلمنا من
حرب اكلت البشر و الحجر و هدرت مستقبل بلد كان ينعم بالاستقرار و الهناء
|