النهار
الخميس3 شباط 2005
وليد فارس: في 13 ت1 1990 اندحرنا وهبطنا الى وضع
المغلوب والاستقلال المفقود
مجموعة صغيرة من الناشطين استطاعت تدويل القضية وبخطّي
كتبت مذكرة القرار 1559
مع صدور قرار
مجلس الأمن رقم 1559 بدأ الاهتمام بكل العوامل التي أدت إلى هذا التطور
الدولي، والاهتمام بكل الأسماء التي واكبت هذا القرار، أكانت أميركية أم
لبنانية أم سورية أم غيرها. من بين الأسماء التي ظهرت قبل صدور القرار
وخلاله وبعده، إلى جانب عدد لا بأس به من الديبلوماسيين الأميركيين و
الناشطين اللبنانيين- الأميركيين والسياسيين اللبنانيين والعرب في الخارج،
اسم الدكتور وليد فارس.
وقد برز اسمه
خلال زيارات الوفد اللبناني الاغترابي لمراكز القرار في واشنطن ولمجلس
الامن خلال شهر آذار الماضي. وكذلك عاد وبرز خلال الرسائل التي قدمت الى
مكتب الأمين العام للأمم المتحدة والتي سبقت صدور القرار والتقرير الشهري
للأمين العام، ومن ثم الرسالة الرئاسية لمجلس الأمن التي وقعها الأعضاء
الخمسة عشر. وقد حصلت "النهار" على عدد من تلك الرسائل والمذكرات والدراسات،
وقد كان للدكتور فارس دور كبير في الصياغة والهندسة القانونية والسياسية.
والدكتور فارس، أستاذ للعلوم السياسية في جامعة فلوريدا وباحث رئيسي
Senior Fellow في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات Foundation for the defuse
DEFENSE of Democracies في واشنطن، ويحتل موقعاً فكريا واعلاميا وسياسيا ،
مرموقا ضمن المؤسسات اللبنانية – الأميركية - داخل المحافل الاميركية كذلك.
phares.com
www.walid
وتشمل نشاطات
البروفسور فارس في واشنطن المحاضرات في الجمعيات والكونغرس وتحركات في
سبيل حقوق الإنسان والأقليات، ولا سيما في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى
أبحاث اكاديمية وفكرية لدى مراكز الأبحاث الأميركية المتعددة.
وقد شغل منصب
أستاذ متفرغ لدى جامعة فلوريدا لاكثر من عشر سنين. وقد وصفت الصحافة في
الولاية صفوفه ولا سيما تلك المخصصة للذين انهوا دراستهم، بأنها الأكبر في
أميركا.
ويعرف في
الاوساط الصحافية والإعلامية بانه أحد المفكرين الأميركيين من اصل شرق
أوسطي الذين تم وصفهم بالمحافظين الجددNeo Conservatives . ومع أن فارس لم
يعرف نفسه بهذه الطريقة خلال السنوات الأربع عشرة التي عاشها في الولايات
المتحدة، إلا أن محاضراته القديمة وطرحه لمسألة الحريات والديموقراطية
كحل لأزمة الإرهاب الدولي، منذ أوائل التسعينات، كان لها تأثير في الخطاب
السياسي الذي تطور في بداية عهد الرئيس جورج بوش عام 2000. ولعل خطاب فارس
الفكري وتحاليله لمسألة تعايش الحضارات قد لعب دورا في صوغ جديد لمفردات
وتحديدات برزت في نهاية التسعينات ولا سيما بعد 11 أيلول، وهي لم تكن
موجودة في الإطار الفكري العام من قبل. وقد برز ذلك بوضوح ، ولا سيما بعد
الدور الذي اضطلع به فارس في إعلان المؤتمر المشرقي - الأميركي الأول
وتنسيقه، الذي انعقد في خضمّ المعركة الرئاسية الاميركية الانتخابية في أول
تشرين الاول الماضي في واشنطن. وشارك في المؤتمر اكثر من 750 مندوبا. وقد
بدأ المواطن العربي يستوعب بعضا من هذا الطرح الجديد بعد ظهور الدكتور فارس
اخيرا عبر شاشات التلفزة العربية "كالجزيرة"و"الحرة"و"أبو ظبي".
كل ذلك بحسب
مقابلتنا معه.
جلسنا مع
البروفسور فارس لساعات في العاصمة الأميركية وطرحنا كل الأسئلة الممكنة.
وأكثر ما ميّز هذه الجلسة أننا كنا نعرف محدثنا منذ اكثر من عقدين في
لبنان. وذكرنا الدكتور فارس، بأنه مع حلول نهاية هذه السنة ، نكون قد ختمنا
ربع قرن منذ أن تعرفنا الى بعضنا في خلال خلوات فكرية في سيدة البير وقد
كانت لنا مقالات في مجلة كان يصدرها فارس في بيروت تحت اسم "صوت المشرق".
فلوليد فارس،
الأميركي - اللبناني اليوم تاريخ حافل بالنشاطات في لبنان ما قبل 1990. فقد
كانت له مئات المقالات بالعربية والفرنسية، ونشر خمسة كتب بين 1979 و 1987
وقد مارس المحاماة ودرّس مادة العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف. وإذا
كان جيل الشاب الحالي لم يتعرف الى فارس إلا عبر الإنترنت والتلفزيون
الأميركي، فهناك جيل آخر، قد واكب الدور السياسي والفكري لوليد فارس في
الانتخابات قبل أن يهاجر إلى الولايات المتحدة. لذلك كان لا بد لنا من أن
نعود معه إلى السبعينات لنواكب هذه التطورات التي شملت ربع قرن من العمل
المستمر".
الحوار
ں دكتور فارس،
هل تتابع الصحافة اللبنانية على الرغم من انشغالك بأكبر الأجهزة الإعلامية
في العالم من واشنطن؟
- أنا على
اطلاع دائم ودقيق على مجريات الأمور في لبنان عبر الاعلام، وقد خصصت مساحة
من الوقت لقراءة التقارير الشاملة عبر بعض الوسائل. إلا انه لا بد أن من
أقول لقراء "النهار" أنني أحد المغتربين القلائل الذين يقرأون الصحيفة ليس
على الإنترنت، ولكن في أوراقها التي تأتي اليّ من مطابع لبنان منذ عام
1990. وعندما افتح صفحاتها، أشم رائحة لبنان وهواءه وغباره كأن جزءا مني
لم يغادره.
ں لقد خرجت من
الساحة السياسية اللبنانية عام 1990 ولم تعد إلى الوطن. هل احدث ذلك
انقطاعاً في فكرك السياسي ونشاطك من اجل لبنان؟ وما هو الترابط الذي أدى
الى اضطلاعك بدور معين في مواكبة القرار 1559 ؟
- أولا لا يمكن
شخصا أن يقول أن قراراً كهذا هو نتيجة عمل فرد، ولا حتى عمل مجموعة واحدة.
القرار الدولي هو نتيجة تطورات كثيرة وكبيرة ومعقدة، البعض منها أتى بعد 11
أيلول والبعض الأخر تراكم في التسعينات. ويمكن القول أن بعض جذور القرار
1559 تمتد إلى عقدين من الزمن. هذا القرار هو نتيجة تطورات دولية تقاطعت مع
تطورات في القضية اللبنانية. وقد يلزمنا كتاب كامل لشرحها.
ں هل يمكنك
تلخيص نشاطاتك الفكرية والسياسية قبل أن تهاجر إلى الولايات المتحدة واشرح
لنا، ما هي المفاصل التي كونت تلك الجذور ما قبل 1990؟
- بتلخيص تام
كان لدي نوعان من النشاطات في لبنان قبل 1990. النشاط الأول، فكري محض،
والنشاط الثاني سياسي كان يتأثر بالتطور الميداني وسيأتي الوقت لكي استفيض
في تاريخ التيار الفكري والسياسي الذي انتميت إليه. وهو تيار له رؤية
تأسيسية في هذا الإطار. وقد نشرت كتاب "التعددية في لبنان" عبر مركز
الأبحاث في الكسليك عام 1979. وكان أول مؤلف ينشر في لبنان والشرق الأوسط
عن هذا الموضوع .وفي القسم الثاني منه،طرحت نظرية "العلاقة بين الحضارات "
كمحاولة لشرح الصراعات التي كانت قائمة في لبنان والمنطقة.
وقد أعلن مدير
محفوظات العالم العربي في مكتبة الكونغرس الأميركي عام 1996؛ أنني سبقت
المفكر؛ Samuel Huntington بطرح هذا المفهوم؛ ولو أن الباحث الأميركي قد
أحدث ضجة هائلة في الولايات المتحدة. في 1993و1996 عندما نشر عنه حول "صدام
الحضارات" Clash of Civlizations مشكلتي وقتها انني كتبت بالعربية ونشرت
في لبنان؛ أيام الحرب. وقد أحدث كتابي موجات من الصدام الفكري في بيروت
لبضع سنوات. واعتمدت بعض الهيئات السياسية الخط الفكري للكتاب في برامجها
العقائدية لسنوات طويلة ولا تزال. وقد ألحقته بكتب أخرى؛ مثل "الحوار
الديموقراطي" و" الفكر المسيحي الديموقراطي اللبناني" و"13 قرنا من
النضال"؛ كما نشرت كتابا حول الثورة الإيرانية عام 1986.
وكان لإنتاجي
الفكري خطان تحليليان. الأول يتعلق بمدرسة فكرية تقوم على تفسير العلاقات
الدولية على أساس الحضارات القومية وحق تقرير المصير وحقوق الإنسان.
وهذا الخط كان
لا بد من أن يتطور في كتب وأبحاث أوسع؛ إلا أن وجودي في بيئة صراع وحرب
وضرورة مواجهة الأزمة القائمة؛ منعني من تطوير هذا الإنتاج قبل أن أنتقل
إلى الولايات المتحدة في 1990.
أما الخط
الثاني الذي فاق إنتاجه العملي الخط الفكري الأول؛ فقد تركز على طرح يسعى
إلى إيجاد حل تعددي ديموقراطي للأزمة اللبنانية. والجدير بالذكر أن ما يطرح
اليوم للعراق والسودان وقبرص، وحتى لبنان؛ من مسائل اللامركزية
والفيديرالية، كانت في صلب الكتب ومئات المقالات التي وضعتها في
الثمانينات.
وعلى الرغم من
هذا الإنتاج ومن أكثر من ألف محاضرة ألقيتها في بيروت ولبنان والشمال على
مدى عشر سنين؛ فلا التعددية قبلت كمفهوم للتعايش بين اللبنانيين؛ ولا
الديموقراطية رأت النور في البيئة التي كنت أعمل وأعيش فيها. والقصة طويلة.
وقد حاولت مع عدد من المفكرين؛ بينهم صاحب هذه الفلسفة؛ من نشر هذه الأفكار
عبر مجلات ومنشورات "صوت المشرق"و "المشرق الدولي". إلا أن تطور الأحداث قد
أنهى هذه المساعي الفكرية داخل لبنان وقذفها إلى العالم الخارجي عندما
انتقلت إلى الولايات المتحدة.
من الاشرفية
الى اميركا
ں ولكن كانت لك
نشاطات سياسية لأكثر من عشر سنين قبل 1990؟ هل يمكنك تلخيصها؟
- قصتها
أطول؛ ومذكراتها آتية. كالعديد من اللبنانيين قبل الحرب؛ كانت هموم الهوية
والمصير تلعب دورا كبيرا في حياتنا الاجتماعية. وكانت لي نشاطات سياسية منذ
صغري في أزقة الأشرفية حيث كنت أسكن. وكنت من أول الذين وضعوا شعارات
سياسية على جدران في ما كان يسمى وقتها " بيروت الشرقية".
أن العديد من
الشعارات التي تقرأها اليوم؛ كتبناها قبل أكثر من ربع قرن!
لقد أطلق
تيارنا الصغير شقيقي الأكبر؛ إلا انه بتحليلي جاء هذا التيار عشرات السنين
قبل وقته. إذ كنا نرى هوية لبنان القومية وهويته وتعدديته تحت تهديد
حضاري متصاعد؛ وكنا نربط هذا الوضع بالصراعات العالمية وقتها.هذا التيار
الفكري السياسي تجسد في منظمات عدة أطلقناها وبقيت صغيرة ومحدودة. إلا أن
فكر هذا التيار بات يؤثر في مؤسسات كبرى ولدى قياديين كان لهم تأثيرهم في
التطورات.وكان جهدي يراوح بين المنظمات الصغيرة التي أطلقناها، والمؤسسات
الوطنية الكبرى كـ"الجبهة اللبنانية" و"القوات اللبنانية"؛ و"الاتحاد
الماروني العالمي"؛ وغيرها.
وكانت لي
علاقات بعدد من المفكرين الكبار كالعلامة فؤاد افرام البستاني؛ ولجنة
البحوث في الكسليك وغيرها. وعملت مع قياديين كبشير الجميل ومستشاريه فادي
افرام وفؤاد ابو ناضر وسمير جعجع وداني شمعون. كما كنت قريبا من العماد عون
وحكومته الانتقالية.
كانت لمجموعتنا
الصغيرة خصوصيتها الفكرية الذاتية. وكان لنا دور في مؤسسات عدة على الصعيد
النضالي العام. تاريخ طويل جدا رأيت فيه القيادات تقوم وتتهاوى الواحدة
تلوى الأخرى. ورأيت بعض أفكارنا يعلن ومن ثم يعدّل. تاريخ معقد وصعب؛ قائم
على التزام دام خمس عشرة سنة دون هوادة؛ ولكن بصلابة عقائدية أدت بنا إلى
أزمات كثيرة ومتلاحقة. العمل السياسي المبني على رؤية فكرية أبان حرب
تتطور وصراعات داخلية لا تنتهي هو عمل أصفه اليوم بالخطر والجنوني. إلا
أننا اعتقدنا أن مجتمعنا كانت له حظوظ في النجاح واسترجاع السيادة والحرية
ولا سيما في نهاية التسعينات.
ں كيف تم ذلك؟
وما كان رهانكم وقتها؟
- بعد 15 سنة
من الحرب المتواصلة والأزمات اللامتناهية كان اعتقادنا وتحليلي وقتها انه
مع سقوط الاتحاد السوفياتي الذي كان وحيداً منذ عام 1985؛ سوف يقوم
المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة بمساعدة الشعوب الصغيرة والضعيفة
في نيل حقوقها. ففي نهاية 1989 وبداية 1990 كانت الأوضاع الدولية تتجه إلى
سقوط الأنظمة الشيوعية في أوروبا وموسكو. ولو تمكن اللبنانيون الذين كانوا
ينعمون بمناطق حرة مع دعم من إخوانهم القابعين تحت الاحتلال العسكري
السوري، من عبور المرحلة حتى انتهاء حرب الخليج وبدء مؤتمر مدريد؛ لكان حظ
لبنان كبيراً بقرار دولي شبيه بالقرار 1559 يأتي في أوائل التسعينات.
فمنطق القرار كان لا بد ان يتجسد لو لم يسقط لبنان بكامله؛ قبل الوقت؛ تحت
النفوذ السوري الشامل. بكلام أوضح وقاس وهو أمر لا يمكن تغييره الآن لأنه
بات من التاريخ لو لم تسقط الشرقية لكان هنالك تدخل دولي لمصلحة لبنان؛
ولكان ذلك انتج اتفاقا وطنيا اكثر عدلا من اتفاق الطائف.
ں هذا يعني
انك عارضت اتفاق الطائف ؟
- وقتها نعم.
وقد أعلنت ذلك وربما دفعت ثمنا باهظا لهذا الموقف. وأنا بالطبع كنت مع
اتفاق وطني لإنهاء الحرب، ولكنني لم أوافق على أمرين في اتفاق الطائف هما:
حسم الهوية القومية عسكريا، أي على حساب التعددية الحضارية من جهة، واعطاء
سوريا حقوقا سيادية في لبنان من جهة اخرى. من هنا عارضت الفقرتين وطرحت
فكرة الفيديرالية كحل لمسألة الهوية والتوازن الداخلي، كما طالبت بانسحاب
القوات السورية ونشر قوات دولية مكانها
قضية الطائف
ں ولكن اتفاق
الطائف اصبح دستور لبنان الجديد والوجود السوري بات مشرّعا بعد 1990.
- من وجهة
نظري أن اتفاق 1989 جاء بصيغته الحاسمة ، بسبب انقسام المنطقة الشرقية على
نفسها والكلام طويل. وهذا الاتفاق قد تم فرضه بواسطة اجتياح عسكري في 13
تشرين الأول 1990. والحسم العسكري أدى إلى قيام سلطة طبقت الاتفاق (الذي
كنت انتقده أصلا) بشكل لا متوازن. من هنا بدأ الاندحار التاريخي للبلاد من
واقع التعددية إلى واقع الغالب والمغلوب. ومن واقع الاستقلال المحدود
جغرافيا، إلى واقع الاستقلال المفقود تاريخيا. فلقد أدركت في الساعة
التاسعة صباح السبت في 13 تشرين الاول 1990 أن المسألة قد انتهت. ومع أن
البعض قال لي وقتها أن الاتفاق سوف يصحح الانهيار، فقد كان لي اقتناع بان
الانهيار الميداني قد عدّل الاتفاق الموقع في الطائف.أما الباقي ، فهو عقد
كامل، كما عاشه المجتمع اللبناني خلال التسعينات.
ں لم يكن لديك
أي أمل بأن تعود السيادة وفق اتفاق الطائف، وان يتدخل العالم لتصحيح
الأمور؟
- إطلاقا.
فالمعادلة الدولية التي سمحت بإنهاء التوازن الاستراتيجي داخل لبنان، لم
تكن لتسمح بإعادة التوازن إلى ما كان قبل 1990. والمدرسة الديبلوماسية التي
وافقت على دور استراتيجي لسوريا في لبنان كنتيجة لسقوط الاتحاد السوفياتي.
لم تكن لتقبل بأي تغيير على المعادلة الجديدة . من هنا، فتحليلي الطبيعي
وقتها خلص إلى أن لبنان سوف يسقط تدريجا اكثر فأكثر بين ايدي النفوذ
السوري. وما سمي وقتها "المحدلة السورية" كانت واقعا قائما على معادلة
دولية محكّمة أنتجتها ظروف كبيرة خارجية وانهيار داخلي واسع لدى ما كان
يسمى " المقاومة اللبنانية"
من هنا، وإذ
رأيت مستقبل لبنان في الأفق،وأدركت أن أي قوة داخلية لن تتمكن من مقاومة "
المحدلة السورية" المحمية دوليا، فهمت أيضا أن العمل على إنقاذ القضية
اللبنانية بات حتما في موقع خارجي واضح في عهدة التطورات الدولية.
ں هل هذا كان
السبب الأساسي لمغادرتك لبنان؟
- نعم. ولكن
هنالك أسباب أخرى معقدة، سأسرد البعض منها. أولا، أدركت أن الحرية باتت
منتهية في لبنان. ولا أتكلم عن حرية عملانية رمزية كالتظاهرات، أو توزيع
المناشير أو الكلام، وهي فعلا انحسرت. فلقد أدركت في بداية التسعينات ما
توصل إليه البعض في نهاية القرن، إلا وهو أن المعادلة الدولية، هي معادلة
أميركية. والمعادلة الأميركية محكومة بمعادلات استراتيجية عربية ونفطية
وفكرية وداخلية. وتغيير هذه المعادلات أو التأثير عليها هو من مسؤولية
أجيال بكاملها وليس من بعض الناشطين في الخارج. على هذا الأساس اتخذت قراري
بأن اترك لبنان والعمل السياسي فيه. بكلام آخر، انتهت مرحلة من حياتي لتبدأ
مرحلة أخرى. قلتها وقتها ": لقد عملت ما في وسعي، وأعطيت أكثر من قدرتي،
وهذا هو قدري..."
كان هنالك سبب
آخر دفعني الى أن أفكر في السفر إلى الولايات المتحدة، ألا وهو فكري
الأكاديمي. فمعظم طاقتي خلال 15 سنة وضعتها في خدمة القضية القومية
اللبنانية. وقد كان لدي قرار في أن أوسّع نطاق أبحاثي في مجال العلاقات
الدولية. وكما رأيت مستقبل لبنان في الأفق، كنت أرى أفق الأزمات العالمية
ترتسم شيئا فشيئا. لذا أردت أن أعمّق تخصصي الأكاديمي في الولايات المتحدة.
وما كنت أبغيه عندما زرت الولايات المتحدة مطولا، كان استكمالا لشهادة
الدكتوراه. إلا أن التطورات غيّرت مجرى حياتي على الصعيد العام في بلدي
الجديد : أميركا.
ايلول غيّر المعادلة
ں على ماذا
ارتكزت في حياتك الجديدة في الولايات المتحدة؟ وكيف دعمت عملك وتوصلت إلى
وضعك الحالي؟
- لا شيء
إطلاقا. لقد بدأت من الصفر . ربما أيضا كنت الصفر ماديا. فقد تخليت عن
ممارسة المحاماة وعدت تلميذا في دراسات الدكتوراه عام 1991. وبدأت مسيرة
الألف ميل. أكملت شهادة الدكتوراه بسرعة فائقة وأصبحت أستاذا زائرا لدى عدد
من الجامعات. وكنت أراقب تطور الأوضاع في لبنان، ولا سيما بعد توقيع اتفاق
التعاون والتنسيق مع سوريا. كانت لدي نشاطات في سبيل "بقايا" القضية
اللبنانية أي إبقاء وجودها رمزيا. بينما كانت الأوضاع تنهار اكثر فأكثر
داخل البلاد. وقد شكلت مجموعة من الناشطين اللبنانيين تحت اسم " المنظمة
العالمية اللبنانية"WLO، وكانت هذه تنشر بيانات وتنظم ندوات وتشارك في
مؤتمرات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة. هذه المجموعة التي ولدت في 11
أيلول 1991، أي عشر سنين قبل الأحداث الكبرى، كانت تهدف إلى طرح القضية
اللبنانية من منطلق دولي على مراكز الأبحاث الأميركية. وقد عملت بهدوء طيلة
تسع سنوات في هذا الاتجاه. لم تكن WLO المجموعة الناشطة الوحيدة في
الولايات المتحدة، وكانت الأصغر حجما، إلا أنها كانت تسعى بثبات الى
"تدويل" الأزمة اللبنانية لدى الأوساط الفكرية الاستراتيجية في الولايات
المتحدة والغرب عموماً. وقد استمرت هذه المجموعة في العمل إلى حين بدأت
المؤسسات الاغترابية الكبرى التحرك في اتجاه التدويل، بينما كانت الأوضاع
الدولية تتبدل.
ں ولكن ما
كانت نشاطاتك خلال التسعينات إلى جانب الجهد في سبيل التدويل؟
- اجتياز
الصحراء. ولكنها مسيرة فكرية وأكاديمية مليئة بالنشاطات والتطورات. فإلى
جانب الوقت الذي صرفته من اجل "القضية اللبنانية"، توسعت نشاطاتي المهنية
والأكاديمية أفقيًا وعمودياً. فإذ بي أستاذا متفرغا في دراسات الشرق الأوسط
والصراعات الدينية والأتنية. وبت أحاضر في جامعات عبر الولايات المتحدة
وأوروبا. وتخصصت في مسألة حقوق الإنسان والأقليات، ونشرت كتبا ومقالات في
مجلات أبحاث أكاديمية. 1991و 1995 كانت المرحلة الأولى، وقد نشرت مقالات
وحاضرت لدى العديد من مراكز الأبحاث. وقد أوصلت بعض الأفكار إلى عدد من
أعضاء الكونغرس الذي انتخب عام 1996. كانت المساهمة في تأليف "التحالف من
أجل حقوق الإنسان" الذي ضم اكثر من 50 جمعية ومؤسسة. وفي السنة التالية،
ادليت بأول شهادة لدى مجلس الشيوخ. وقد تخرج في صفوفي الآلاف من مستكملي
الدراسات ما بعد المهنية. وإذ بالبناء الأكاديمي يتوسع واتصالي بـThink
Tanks يتعمّق. وقد تكلل ذلك عام 2000 بمؤتمر في الكونغرس حول الحريات في
الشرق الأوسط. وكان اختصاصي يتركز على "الإرهاب الأصولي، كجزء من مشكلة
الديموقراطية".
ں ولكن كيف
تحولت إلى أحد ابرز خبراء الولايات المتحدة في مجال مكافحة الإرهاب، وبات
لك وجود في الأعلام؟
- أولا البحث
الأكاديمي المتواصل. وثانيا المحاضرات التي ألقيتها في الجامعات ومراكز
الأبحاث. وثالثا نشاطي في مجال الديموقراطية والنمو السياسي في الشرق
الأوسط. والأهم هو دراستي لتصاعد الحركة الجهادية العالمية في خطابها
السياسي وتحركاتها الإقليمية واستهدافها للولايات المتحدة. فالهمّ الأكبر
بات حول حماية أمن الشعب الأميركي من الاخطار المتصاعدة. وكانت الدراسات
الشرق أوسطية قد أخفقت في فهم التطور الاستراتيجي الحاصل في الشرق، من نمو
للقوى الجهادية المقاتلة وتصاعد المشاريع العسكرية للأنظمة الديكتاتورية.
وحين كانت أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وجنوب إفريقيا تنفتح على
الحرية والديموقراطية والتغيير، كانت منطقة الشرق الأوسط تتجه إلى تصاعد
الإرهاب وتصلّب الأنظمة الإرهابية. وكان احتلال لبنان، ومجازر السودان،
والقمع في أفغانستان والعراق والجزائر، وتراجع حقوق الأقليات والنساء،
وضرب التيار الإصلاحي في إيران، كان كل ذلك يشير إلى ضربة ستوجه إلى
الولايات المتحدة. كان ذلك ليؤدي إلى 11 أيلول 2001.
وكأميركي شعرت
بمسؤولياتي كمواطن وكأكاديمي حيال بلدي الجديد. فعملت على إنتاج تحليل وبحث
يحذران من صعود الإرهاب الدولي واستهدافه الولايات المتحدة. وقد حذّرت من
أن العمليات الإرهابية التي ضربت برجي التجارة في 1993 والخبر في السعودية
في 1994 ، وصعود الطالبان في 1996 ، وضرب السفارات في أفريقيا في 1998
واعلان بن لادن الحرب الجهادية على أميركا وضرب الطرّاد USS Cole في عدن
عام 1999. أن كل ذلك كان مقدمة لعمليات في الولايات المتحدة. وكنت
الأكاديمي الشرق الأوسطي الوحيد المتكلم للغة العربية الذي حذّر الرأي
العام والحكومة، بالإضافة إلى بعض زملائي الأميركيين، من أن سياسة واشنطن
الخارجية كانت تشجع القوى الجهادية والأنظمة العسكرية في الشرق الأوسط في
اتجاه شن حرب على العمق الأميركي نفسه. وكنا حفنة من المفكرين نواجه لا
مبالاة شاملة في أوساط وزارة الخارجية والعالم الأكاديمي الأميركي. إذ أن
أكثرية الأكاديميين الأميركيين كانوا يتأثرون باللوبي العربي ومجموعة
"الضغط الوهّابية" في واشنطن. وباتت سياسة أميركا الخارجية في نهاية
التسعينات متداعية أمام المد الجهادى وضغط الأنظمة الديكتاتورية في العالم
العربي. كان لا بد من حملة توعية داخل الولايات المتحدة ولدى النخب
الصحافية والكوادر المهنية والفكرية. وفي إمكاني القول ان حفنة من الكتّاب
والصحافيين والمثقفين، وكنت واحدا منهم، قد نشروا وعيا لدى جزء من الرأي
العام ترجم بنشوء كتلة داخل الكونغرس الأميركي منذ منتصف التسعينات. وهذه
الكتلة باتت تكبر ككرة الثلج وشكلت أكثرية معنوية وسياسية داخل الجسم
الاشتراعي الأميركي.
وبعد انتخاب
الرئيس جورج بوش عام 2000 ، بات هنالك تيار فكري يمتد من الكونغرس الى عدد
من مؤسسات الإدارة. البعض يطلق عليه اسم"المحافظين الجدد". وهذا صحيح، إذ
أن عددا كبيرا من أصحاب هذا الفكر هم من الناشطين الذين شكلوا النخبة
الفكرية التي واجهت الاتحاد السوفياتي، ووقفوا مع شعوب أوروبا الشرقية في
انتفاضتها ضد طغيان السوفيات.
وهؤلاء شكلوا تياراً يدعى "المحافظين الجدد" وهو يتقاطع في رؤيته مع
التيار المسيحي المحافظ في الولايات المتحدة. إلا أن التيار الأوسع الذي
يشمل هؤلاء وغيرهم يضم عناصر من الحزب الديموقراطي ومن الليبراليين
المؤيدين لحقوق الإنسان. فالتيار الذي يدعم سياسة أميركا الجديدة بعد 11
أيلول ليس عند اليمين فقط. بل وهو أيضا في الوسط ولدى بعض أنحاء اليسار.
ںولكن لماذا
كان لك هذا الدور في الإعلام ولدى الحكومة بعد 11 أيلول؟
- لأسباب
متعددة. الأول هو بالطبع سعي الأميركيين ككل الى فهم ماذا جرى في ذلك اليوم
الرهيب. فالنخبة الأكاديمية الأميركية حاولت أن تتهرب من ترجمة الخطاب
السياسي لـ"القاعدة" وتوضيحه، ولقناة "الجزيرة " وللعديد من المثقفين في
العالم العربي والإسلامي. من هنا بدأت وسائل الإعلام تتجه إلى الأكاديميين
الذين تطوعوا لهذه المهمة وكنت واحدا منهم. وبمقدار ما كنت أقوم بواجبي
الفكري، بمقدار ما كان الجهاديون وحلفاؤهم ينتجون فكرا ومواقف كان من
الضروري تفسيرها. وكان اختصاصي في هذا المجال عاملا مهما. فقد طلبت مني
الحكومة الأميركية إلقاء محاضرات لدى إدارييها ومسؤولين فيها حول الشرق
الأوسط. وبعد تنظيم وزارة الأمن الوطني، عينتني وزارة العدل خبيراً لديها
لشؤون الارهاب.
المهم في تلك
المرحلة هو التمكن من شرح تعقيدات في الفكر السياسي والاستراتيجي للقوى
الإرهابية لدى الرأي العام الأميركي. فكنت كأنني انتقلت من كوني أستاذا
جامعيا إلى كوني أستاذا حول مادة الشرق الأوسط عبر الإعلام. وقد عملت مع
مؤسسات غير حكومية عديدة. وخصصت معظم وقتي تقريبا في سبيل تكثيف حملة الوعي
القومي في الولايات المتحدة لما كان يجري في الشرق الأوسط. وكان لمقالاتي
قرّاء كثر، ولا سيما داخل الكونغرس والإدارة. وأدى ذلك إلى خبرة على الصعيد
الأميركي نفسه وقد طلب مني إحد مراكز الأبحاث الأكثر تأثيرا، وهو
Foundation for the Defense of Democracies. أي "FDD " أن أكون كبير
الباحثين فيها.
ںوما هي طبيعة
عملك في FDD ؟
- ككبير
الباحثين، أقوم بتقويم استراتيجي للسياسة الأميركية حيال الإرهاب أو في ما
يتعلق بنشر الديموقراطية وحقوق الإنسان. وأقوم بوضع استشارات لمشاريع مهمة
كمشروع تنمية الديموقراطية في العراق، أو مشاريع الإصلاح في العالم العربي،
أو مسألة حقوق الإنسان في السودان، أو قضايا المرأة في الشرق الأوسط.
بالإضافة، طبعا، الى ملف الإرهاب الدولي. وتتحول هذه الاستشارات إلى تقارير
ترسل إلى مواقع القرار في الإدارة والكونغرس، وبعضها إلى الإعلام ومراكز
الأبحاث الأخرى.
قصة القرار 1559
ں بالعودة إلى
القرار 1559، هل لك أن توضح لنا كيف توصل مجلس الأمن إلى إقراره ؟ وبكلام
آخر من اثّر على الإدارة الأميركية من اجل طرحه على مجلس الأمن؟
- البعض في
لبنان والعالم العربي يعتقد بكل بساطة على ان "مؤامرة ما" هي التي أنتجت
القرار 1559. وهي مؤامرة ضد سوريا يدبّرها اللوبي الصهيوني في واشنطن. ان
تحليلا كهذا يسعى إلى تبسيط الأمور من اجل إنتاج قصة مقبولة لدى الرأي
العام العربي وبعض أجزاء الرأي العام اللبناني. لكن الحقيقة هي اكثر عمقا
وتعقيدا من ذلك.فصدور القرار 1559 هو مؤشر الى تغيير تاريخي في سياسة
الولايات المتحدة حيال الشرق الأوسط. ومن لم يفهم هذا الواقع، فهو غير قادر
على فهم المرحلة الحالية ولا بالتالي المرحلة المقبلة. فكما شرحت في بداية
المقابلة، السيطرة السورية على لبنان ارتكزت على معادلة دولية سمحت لها
وحتى شجعتها، بان تبقي لبنان تحت سيطرتها ضمن شروط معيّنة، وأهمها ألا تضم
الجمهورية اللبنانية إلى الجمهورية العربية السورية. وما دون ذلك، فقد
أعطيت حرية الحركة للنظام السوري في هندسة الأوضاع في لبنان. وقد طلبت
المعادلة الدولية من دمشق بان ألا تدفع بـ"حزب الله" إلى مواجهة شاملة مع
إسرائيل. هذه المعادلة قامت منذ عام 1989 مع توقيع اتفاق الطائف. وبكلام
ابسط، قيل لسوريا أن دورها في لبنان محفوظ. وقيل للأطراف اللبنانيين، ان
الاتفاق الجديد سيؤمن التوازن. وقيل لإسرائيل بأن حدودها الشمالية سوف
تضمن. وما كان مهندسو المعادلة الجديدة ينتظرونه بعد اتفاق الطائف، هو
الآتي: حسم lلأوضاع في المنطقة الشرقية، تردّ عليها سوريا ببداية انسحابها
في نهاية 1991. ثم تجريد الميليشيات من سلاحها، بما فيها "حزب الله”.
ونشر الجيش في الجنوب حتى الحدود. وتشكيل حكومة وحدة وطنية في بيروت.
وكان من الممكن صدور قرار من مجلس الأمن في 1991 أو بداية 1992 لتكريس
نهاية الأزمة اللبنانية. إلا أن حسابات البيدر كانت مختلفة. إذ إن حسم
الأوضاع في الشرقية لم يأت نتيجة مصالحة داخلية وتوحيد الصف، بل نتيجة حسم
عسكري قامت به سوريا. وقد حصل ذلك في توقيت ذكي، أي أبان انشغال الولايات
المتحدة في تأليف تحالف ضد الغزو العراقي للكويت. فإذا بالاجتياح العسكري
السوري الذي جاء خرقا لمنطق المصالحة والاستيعاب، يخلق واقعا عسكريا وأمنيا
وسياسيا جديدا، لم تعترضه الإدارة الدولية. فأقيم نظام ما بعد الحرب على
أساس حسم عسكري سوري دون معالجة وطنية داخلية. مما يعني أن التسعينات باتت
مرحلة سورية في لبنان، والباقي - أي تأليف الحكومات وقمع المعارضة الخ...
تفاصيل. فإذ بالإدارة الدولية، أي سياستي واشنطن وباريس تجاه الشرق
الأوسط، تعترف بالواقع الجديد مع شروط أخفّ. وبكلام واضح، فقد أعطيت سوريا
قدرة على السيطرة على لبنان على أن تضبط الدور العملي لـ"حزب الله"، والا
تعارض السلام الإسرائيلي- الفلسطيني. وقد طلبت واشنطن وباريس من دمشق أن
تبقي بعض الأشكال التقليدية من الوجود السياسي لمعارضيها من المسيحيين
وغيرهم. لذا وبتلخيص، وعلى الرغم من كل محاولات المجتمع المدني في لبنان،
من تظاهرات وخطابات وتحركات معارضة خلال التسعينات، فان أي قرار دولي لم
يكن ليصدر ضد هذه المعادلة. وكنت أرى في الصحافة اللبنانية ومن ثم على
الانترنت المعارضة اللبنانية، ولا سيما في بيروت الشرقية، تقوم بكل شيء
للتعبير عن رفضها للواقع على مدى عشر سنين دون جدوى.
فالمشاهد
الأميركي، والمشرع الأميركي، لم يريا ما كان يحصل داخل لبنان. وكانت خطب
المعارضين داخل لبنان تقول: كيف يقف العالم صامتا والشعب اللبناني يتعرض
للقهر والطغيان؟ إلا أن الحقيقة كانت إن العالم لم يكن يرى ما كان يحصل
للشعب اللبناني، ولم يكن يسمع أصواتا تخبره بذلك. فاللوبي النفطي والعروبي
والجهادي كان قد اقفل الباب على لبنان. وكان لا بد من كسب معركة استرجاع
القضية اللبنانية في واشنطن قبل أن تتمكن هذه من استرجاعها لدى المجتمع
الدولي. وكان ذلك صعبا للغاية للأسباب الآتية:
أ - كان
المجتمع المدني المعارض داخل لبنان يتعرض للقمع، وكان مسؤلوه يتخوفون من
التعبير بكل وضوح عما يريده هذا المجتمع بكل صراحة. فقد تم نفي سياسيين
كبار وسجنهم وترويضهم وكان الضغط عظيما. من هنا فمعادلة تيمور الشرقية
كانت مفقودة خلال التسعينات. وكان لا بد من الانتظار لكي يفرز الجيل
الجديد نخبة سياسية سياسة قادرة ومستعدة للمطالبة بالتدويل، بصرف النظر
عن الثمن السياسي.
ب - وكان مجتمع
الاغتراب اللبناني، المترابط عضويا مع المجتمع الام في لبنان، يتحرك مع
تحركات التيارات السياسية في الوطن الام ولا يتخطاها في ما يتعلق بالقرارات
الاستراتيجية الكبرى. من هنا، وعلى الرغم من العمل الدؤوب لمجموعات من
الناشطين اللبنانيين في العالم وداخل الولايات المتحدة، فان كل الضغوط
التي وضعت على الحكومة الأميركية بين 1991و 1998 من المجموعات اللبنانية
الأميركية اصطدمت بالسقف المنخفض الذي رسمته القوى السياسية المعارضة من
داخل لبنان. من هنا فان أحد أسباب عدم تمكن قوى الضغط من إجراء بداية في
التغيير في واشنطن، كان يأتي من داخل لبنان نفسه.
ج - أما السبب
الأهم والأعمق فكان يرسو في قاع مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية. إذ أن
"اللوبي العروبي - الوهابي" كان مسيطرا بشكل تام على مكاتب الشرق الأوسط
في وزارة الخارجية، ووكالة الاستخبارات الأميركية، ومجلس الأمن القومي،
ومراكز الأبحاث التي كانت تغذيها بالخطط السياسية، ومن ورائها مراكز
الدراسات الشرق الأوسطية في الجامعات الأميركية. وعلى الرغم من أن الكونغرس
الأميركي كان متفهماً معاناة الشعوب المقهورة في المنطقة، إلا أن الماكينة
التنفيذية للسياسة الأميركية كانت في موقع ليس فقط محايداً، بل معاد للقضية
اللبنانية ولمسألة الحريات والأقليات في الشرق الأوسط. لذا، حتى لو كان
المجتمع المدني في لبنان جاهزا، وبالتالي أطلقت ايدي الاغتراب حرة للتحرك،
فان جدار الرفض الديبلوماسي في واشنطن كان كبيرا جدا.
وبالتالي، فقد
كان لا بد من ثلاثة تطورات لتحصل سوية من اجل إعادة إطلاق القضية اللبنانية
عالميا والتوصل إلى قرار كالقرار 1559.
"العجيبة"
ں هل ذلك يعني
انه لولا هجمات11 أيلول لما تغيرت السياسة الأميركية تجاه لبنان، وبالتالي
فان القرار 1559 لم يكن ليصدر لولا هذا العمل الإرهابي؟
- صحيح، إلى حد
ما. ولكن المسألة احتاجت إلى ثلاثة تطورات تحصل معا أو على الأقل لتتقاطع
مع بعضها البعض. التطور الأول يتعلق بالمجتمع المدني داخل لبنان. فقد تمادى
القمع الداخلي، ولا سيما منذ منتصف التسعينات مع سجن الدكتور سمير جعجع،
وملاحقة العونيين، ومحاصرة الصحافة، الخ... إن كل ذلك دفع بمجلس المطارنة
وغبطة البطريرك إلى الخارج، ولا سيما الولايات المتحدة. واصبح سقف التحرك
الاغترابي أعلى مما كان. ومعلوم أن الداخل كان يتابع التحرك القائم في
الاغتراب. فكان الواحد يغذّي الآخر في علاقة جدلية. وفي المرحلة نفسها
تقريباً، ولا سيما بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، بدأ الاغتراب في
الولايات المتحدة وغيرها من الدول، يتحرك في اتجاه التدويل، ولكن ليس من
دون ضغوط ومقاومات كبيرة. وكان هنالك تحرك بدأ على مستويين. الأول، هو
مستوى الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، حيث قام قياديون فيها بإعادة
إطلاقها منذ عام 2000. وقد قرر مؤتمراها الثاني عشر والثالث عشر التوجه إلى
الأمم المتحدة. وبشكل مواز، كان الاتحاد الماروني العالمي قد بدأ تحركاً
مماثلاً منذ عام 1999. وبات هذا التوجه الاغترابي الحجر الأساس لاعادة
تدويل المسألة اللبنانية. والجدير بالذكر أن تحرك العماد عون و"القوات
اللبنانية" في فرنسا وأوروبا كان يتطور في هذا الاتجاه أيضا.
أما المستوى
الثاني، فكان توجه مجموعات الضغط اللبنانية في الولايات المتحدة إلى
الكونغرس الأميركي من اجل إصدار قوانين تدعو إلى انسحاب سوريا من لبنان.
وقد تلاقت معظم المؤسسات الأساسية في هذا الاتجاه. وقد لعب كل من "التحالف
الأميركي اللبناني للديموقراطية" المتعاطف مع العماد عون، والتحالف
اللبناني الأميركي الذي يضم مؤيّدي "القوات" والكتائب والأحرار والجامعة
الثقافية والاتحاد الماروني دورا مركزيا في تشجيع النواب والشيوخ
الأميركيين على تقديم المشروع والتصويت عليه.
هكذا، يمكن
القول أن العوامل اللبنانية، الداخلية والاغترابية، تلاقت على هذا الاتجاه
الجديد، ولم يبقى إلا " العجيبة" Miracle كما كنا نقول في أحاديثنا...
ں وهل تعني
"بالعجيبة" أحداث 11 أيلول 2001؟
- نعم بالضبط.
أنا شخصيا، وبعض الزملاء، كنا نعمل لرفع القضية اللبنانية أمام المؤسسة
الدولية. وكان العديد من الأطراف في الخارج غير مؤمنين بصدور قرار للأمم
المتحدة. وقد بذلنا جهدا لاقناع المجلس العالمي للجامعة الثقافية
ومؤتمراتها من اجل التصويت على قرار بتحويل الجامعة مؤسسة غير حكومية
دولية INGO يمكنها أن تطرح المسائل الدولية. ولكنني اعترف الآن، على الرغم
من كوني مطلق فكرة إصدار قرار جديد من مجلس الأمن، أنني في أعماقي كنت
اجهل إذا كان الأمر سيحصل أو لا. فكنت أقول لطوم حرب رئيس الاتحاد
الماروني الأميركي وللشيخ سامي الخوري رئيس الاتحاد الماروني العالمي وقتها
ان علينا أن نرفع المذكرة إلى مجلس الأمن. أما الجواب فنتركه لله. وثمة
حادثة بقيت في ذهني عندما أخذنا أول موعد لتقديم مذكرة في هذا الاتجاه. إذ
كان مقررا أن يسافر حرب والخوري إلى نيويورك في 12 أيلول 2001. وكان من
المقرر أن نلتقي هناك الدكتور جوزف جبيلي. وقلت لحرب والخوري قبل أن يسافرا
في 10 أيلول: "سنذهب، ولكن سنحتاج إلى زلزال ليصدر قرار ما". وفي صباح
اليوم التالي، أي في 11 أيلول، ضربت طائرات أسامة بن لادن أبراج نيويورك
والبنتاغون، وتغيّر التاريخ فجأة...
ں كيف أثّرت
هذه الأحداث على قضية لبنان، وبالتالي ساعدت في صدور القرار1559؟
- إن طائرات بن
لادن التي قتلت ثلاثة آلاف بريء في ثلاثين دقيقة، دمرت حاجز السذاجة عند
الرأي العام الأميركي. فهجمات 11 أيلول، وأشرطة الفيديو التي بثت على
"الجزيرة"، أطلقت ثورة نفسية داخل الشعب الأميركي. وقد أحدثت الموجة
الشعبية العارمة واقعا دفع بالبيت الأبيض ومجلس الأمن القومي ووزارة الدفاع
والكونغرس في اتجاه عقيدة وطنية جديدة ضد الإرهاب. وعلى الرغم من مقاومة
وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية "سي. آي. إي" القديمة لفكرة
حرب شاملة كاملة على الإرهاب وجذوره وعقيدته، فقد بدأت المعادلات القومية
تتغير في أميركا.
وجاءت خطابات
الرئيس جورج بوش التاريخية أمام الكونغرس لتعلن الحرب العالمية ضد الإرهاب،
وتدين "محور الشر" وتحذّر من يتلطى بالإرهاب بان مصيره سوف يكون مماثلا
للإرهابيين. وجاءت الأنتاجات الأكاديمية والفكرية للمدارس التي تحدثنا
عنها، لتثقف الشعب الأميركي حول مَِن مِن المنظمات والأنظمة ترعى
الإرهاب. وبدأت المواجهة ضد " العدو الجديد". وعندما قال الرئيس بوش
للأنظمة أما أن تكوني معنا ضد الإرهابيين، أو مع الإرهابيين ضدنا، فهو لم
يكن يتكلم على الديموقراطيات، بل على الديكتاتوريات، ولا سيما تلك التابعة
و القبيحة في الشرق الأوسط. ومع أن النظام السوري لم يشمله "محور الشر"،
إلا انه كان من بين الأنظمة التي طلب منها أن تحدد موقعها. إذ أن" تاريخ "
علاقة سوريا بالعمليات ضد الأميركيين في لبنان لم تنسه واشنطن. وبات وضع
"اللوبي" الذي يحمي دور دمشق في واشنطن، يتدهور يوما بعد يوم. فاللوبي
العربي اخذ يواجه التغيير على محاور عدة منها العراق والسودان والدور
السعودي في الحرب على الإرهاب، الخ... وهنا كان على كل نظام له علاقات
بالارهاب أن يدبر أمره بنفسه. وقد حاولت الديبلوماسية السورية جاهدة أن
تبرر موقعها كحليف في هذه الحرب، عبر تقارير عن "جمع معلومات" قيل انها
أنقذت مواطنين أميركيين في أماكن من العالم". وأعطى هذا الوضع القيادة
السورية سنة كاملة لالتقاط الأنفاس ما بين سقوط نظام " الطالبان" في
افغانستان، والاستعداد للحرب في العراق.
سوريا وحرب العراق
ں هل كان هناك
تأثير للحرب في العراق على موقف واشنطن من سوريا؟
– نعم كان هناك
تأثير كبير. فالأميركيون يعتبرون أن قرار القيادة السورية كان الوقوف ضد
تغيير النظام البعثي في العراق. وظهر ذلك واضحا خلال قمة بيروت العربية في
شتاء 2003. أما الأهم فكان الخيار الاستراتيجي لقيادة البعث السوري في
التصدي لقوات التحالف في العراق وتقديم الدعم للحركات الجهادية والسلفية
والبعثية في عملياتها ضد التحالف، وبعد ذلك الحكومة الانتقالية العراقية.
والحقيقة أن هذا الخيار السوري هو الذي خرق الخطوط الحمر، وفكك "الحماية"
القائمة في واشنطن. لسوريا
– ان جذور
القرار 1559 قد وجدت في دمشق لا في واشنطن. وتسارعت التطورات بشكل تزامن مع
تسارع التحرك اللبناني الاغترابي، فتقاطع الاثنان. وفي صيف 2003 حذّر
المسؤولون الأميركيون من تدخل سوريا في العراق. وفي أيلول منه، تصادم
الديبلوماسي الأميركي اللبناني الأصل وليد معلوف مع السفير السوري في مجلس
الأمن. اثر ذلك عقد وفد لبناني-أميركي اجتماعا مع البعثة الأميركية في مجلس
الأمن في بداية الخريف. وكانت الحملة اللبنانية توسّعت داخل الولايات
المتحدة من أجل تشجيع أعضاء الكونغرس على التصويت على "قانون محاسبة سوريا
واسترجاع سيادة لبنان".
وفي منتصف
كانون الأول 2003، وقّع الرئيس بوش قانون محاسبة سوريا قبل أن يذهب إلى
عطلته في كمب ديفيد. وبذلك تحول احتلال سوريا للبنان قانونا ينص على خطوات
ديبلوماسية وغيرها. وبذلك باتت لواشنطن سياسة جديدة حيال سوريا ولبنان.
والسؤال أصبح: من أي باب يجب تنفيذ السياسة الأميركية الجديدة؟ وظهر
تياران في الوسط اللبناني الناشط عالميا. واحد يقول على الولايات المتحدة
أن تأخذ على عاتقها تنفيذ هذا القانون مباشرة وأحاديا. ولم يجد انصار هذا
التيار من ضرورة لأي قرار دولي آخر، غير القرار 520. اما التيار الثاني،
وأنا من الذين طرحوا فكرته، فقال بضرورة قرار مميّز عبر الأمم المتحدة. وقد
طوّرت هذا الطرح على أساس أن الشرعية الدولية ضرورية من اجل تدويل القضية
اللبنانية. وكان في ذهني أمران: الأول أن القانون الدولي يبقى أعلى من
القانون الأميركي، وبالتالي أعلى أيضا من القوانين المحلية السورية
واللبنانية. أما الأمر الثاني فكان تحليلي لمجريات الحرب في العراق. وكنت
من بين الذين كانوا يشجّعون انتقال السلطة بسرعة إلى العراقيين، وإجراء
انتخابات، ومطالبة الأمم المتحدة بالتدخل في العراق، وذلك كنتيجة للهجمة
الشرسة التي تعرّضت لها الولايات المتحدة عندما لم تشرك الأمم المتحدة في
مبادرتها. وكان هناك أيضا الاعتبارات المتعلقة بالعامل الأوروبي والفرنسي
خصوصاً. وخلاصتي كانت أن قراراً يصدر من مجلس الأمن بل على الأقل محاولة
أميركية لإصدار قرار كهذا، هو ضمان لتدويل المسألة اللبنانية. فكي لا تتحول
المسألة معركة أميركية أخرى في لبنان، طرحت فكرة قرار جديد من مجلس الأمن
يركز على انسحاب سوريا من لبنان بدل المطالبة بتنفيذ قرار قديم.
ں لقد قلتم
أنكم طرحتم فكرة قرار جديد لمجلس الأمن في ما يتعلق بلبنان. فماذا تعنون
بذلك؟
- هنا لبّ
الموضوع. فالمعارضة اعتمدت بشكل عام، ولسنوات عديدة طرح تنفيذ اتفاق
الطائف على نحو صحيح، أو على تنفيذ القرار 520 الصادر عن الأمم المتحدة.
وفي تحليلي، كان من المستحيل إخراج السوريين بناء على اتفاق الطائف فقط.
فنص الاتفاق أعطى السوريين قدرة على البقاء في لبنان ما دام النظام فيه
يطلب منهم ذلك. ولم يخطر في بال الذين وافقوا على الاتفاق، ان كل ما كان
يكفي للسوريين أن يفعلوه هو السيطرة على الحكومة اللبنانية. وهكذا فعلوا.
ومنذ ذلك الحين، أي تشرين الأول 1990 اصبح اتفاق الطائف وسيلة لهم وليست
وسيلة عليهم. أما القرار 520، فقد كنت من بين الذين عادوا إليه في أوائل
التسعينات، وبات مطلبا لدى معظم المعارضة، ألا أن مجلس الأمن في حينه، أي
في 1982، أعلن إبلاغ الحكومة اللبنانية له قرارها بخروج كل القوات
الأجنبية من لبنان، دون أن تسمّي السوريين. وذلك يعني أن القرار 520 مرّ
أيضا عبر حكومة سيطر عليها الاحتلال كليا في بداية التسعينات. و لكنني لم
ارفع هذه المسألة داخل صفوف المؤسسات الأميركية - اللبنانية ولا مع
المعارضة داخل لبنان، لأنها كانت الوسيلة الوحيدة التي يمكن استعمالها
والاجتهاد من حولها. أما معظم أركان المعارضة في الخارج، فكانوا مؤمنين بان
القرار 520ر بمفرده سوف يصبح قاعدة لإخراج السوريين. ولكنني شخصيا، كنت
مقتنعا بان المطالبة الدولية بتحرير لبنان لا بد ان تنطلق من قرار جديد
مبني على معطيات قائمة اليوم وليس قبل عشرين سنة. لذلك اقترحت على
الفاعليات الاغترابية والخارجية، ولا سيما على الجامعة اللبنانية الثقافية
في العالم والاتحاد الماروني العالمي منذ عام 2000، وعلى التحالف الأميركي
- اللبناني منذ عام 2002، أن تبدأ المطالبة بقرار "جديد" لمجلس الأمن، وليس
فقط بتنفيذ القرار520. وهنا يمكث الفارق في الاستراتيجيا الاغترابية.
فعندما تألفت الجمعية UALINAT AL الثقافية تصبح مؤسسة غير حكومية
عالميةINGO ، يصبح في وسعنا أن نطالب بخروج السوريين بموجب القانون الدولي،
وليس من منطلق القانون القائم في لبنان. فبينما كانت الذراع الأولى تقوم
بدفع قانون أميركي في الكونغرس، كانت الذراع الثانية تدفع مجلس الأمن
لإصدار قرار دولي جديد. فلو صدر قانون محاسبة سوريا أميركيا، ولم يصدر قرار
من مجلس الأمن، لكان الاحتلال السوري قائم تحت سقف دولي وغير آبه بقوانين
أميركية داخلية. والهدف الاستراتيجي الذي سعينا إليه، هو وضع المسألة
اللبنانية، باسم الاغتراب اللبناني، تحت سقف القانون الدولي. وهكذا حصل.
الصراع في مجلس الأمن
ں الجميع يسأل
في لبنان، كيف تم إدخال المشروع إلى مجلس الأمن، ومن ادخله؟
- لقد حصلتم
على بعض الوثائق، إلا أنّ التاريخ الدقيق سيأتي لاحقا. بشكل ملخص، اتخذت
قيادة الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم والتحالف الأميركي - اللبناني
قرارا بالطلب إلى الحكومة الأميركية ثم مجلس الأمن طرح مشروع على الهيئة
الدولية. وقد دارت اجتماعات مكثّفة مع عضو الإدارة الأميركية وليد معلوف
ورئيس الجامعة جو بعيني، ورئيس التحالف جوزف جبيلي، ورئيس الاتحاد الماروني
الأميركي طوم حرب وآخرين من الزملاء حول أمرين: صوغ المشروع من ناحية،
وهندسة التحرك في سبيله من ناحية أخرى. وموضوع الصوغ شمل العناصر الفكرية
الاستراتيجية، أي النقاط التي سوف يرتكز عليها المشروع وأسبابه، وقد كتبت
المذكرة التي تطالب بهذا القرار، باسم الجامعة الثقافية. والصوغ شمل مشروع
نص قرار وضعه فريق من "اللوبي" ضم أعضاء التحالف وقيادة الجامعة، و
مستشاراً ديبلوماسيا للمجموعة، يعلن أسماءهم لاحقا. والتسويق اعتمد أولا
على فتح الأبواب في واشنطن. وقد تولى وليد معلوف تدبير الاجتماعات في البيت
البيض ووزارتي الخارجية والدفاع ومجلس الأمن القومي. وقد تألف الوفد الى
هذه الاجتماعات من مسؤولين كبار في الجامعة الثقافية وهم جو بعيني، طوم
حرب، جون حجّار ووليد فارس. وقد انضم إلى الوفد رئيس التحالف الأميركي -
اللبناني جوزف جبيلي. وقد حضر وليد معلوف كل الاجتماعات. توزعنا فكان نصيبي
أن اشرح البند الاستراتيجي للمشروع والمصلحتين الأميركية والدولية. بينما
شرح كل عضو في الوفد نقاطا خصصت له. وقد شكلت هذه الاجتماعات في شهر آذار
2004 محور التحرك الذي وفـّر للإدارة الأميركية البعد اللبناني الاغترابي
للمشروع. وكان "حضور" المجتمع المدني اللبناني في تلك الاجتماعات عبر
تقارير صادرة عن هيئات حقوق الإنسان في لبنان، شرحت فيه معاناة اللبنانيين.
وقد ركّزت شخصيا على أهمية لبنان إذا تحرر، في الحملة العربية الإعلامية
ضد الإرهاب. وقد لعب حضوري الإعلامي في الولايات المتحدة دورا وإن صغيرا
في إقناع من اجتمعنا بهم بأن "حرب الأفكار" هي الأهم، و إن دور لبنان بعد
التحرير، سيكون مهمّا في المنطقة.
وبعدما استحصل
على تأييد مراكز القرار، انطلق وفد الجامعة الثقافية إلى نيويورك. وكان
معلوف قد هيأ لاجتماع مع البعثة الأميركية التي كان يرأسها السفير جون
نيغروبونتي، بينما أمن طوم حرب الاجتماعات مع البعثات الفرنسية والروسية
والألمانية والمكسيكية وغيرها. والجدير بالذكر، أن بعثة لبنان كانت تقوم
بحملة ضغط ديبلوماسية لاقناع البعثات في الأمم المتحدة بالا تجتمع مع
الوفد اللبناني- الأميركي- الاغترابي. وقد بعث السفير اللبناني برسائل
رسمية الى هذه البعثات ومنها البعثة الأميركية . وكتب "هؤلاء لا يمثلون
أحدا".
والمفارقة كانت
عندما دخلنا مكتب البعثة الأميركية في نيويورك في آذار. فعلى أثر كلمة
الشكر التي وجهها جو بعيني الى السفير نيغروبونتي اخرج الاخير من حقيبته
رسالة للسفير اللبناني وقال لنا:"بمجرد أن طالبني رئيس البعثة اللبنانية
بان لا أجتمع مع مواطنين أميركيين وآخرين من دول حليفة كأوستراليا، كان ذلك
كافيا لكي أجتمع بكم ولأطول وقت ممكن"! واستمرت الخلوة ساعات. وكان الكلام
نفسه عندما قابلنا المسؤولة عن البعثة الفرنسية. إذ، بمقدار ما طالب النظام
اللبناني حكومات مجلس الأمن بالا نصغي إلى ممثلي الانتشار اللبناني، بمقدار
ما أصر هؤلاء على مقابلتنا. ويا لها من مفارقة. وهكذا دخل الطلب الرسمي
للاغتراب اللبناني إلى قلب مجلس الأمن. ولعل أهم ما جاء في الطلب، بالإضافة
إلى مشروع النص الذي صاغه فريق من خبرائنا، أمران: الأول العمل من ضمن
القانون الدولي، مما اثبت حسن خيار المؤسسة الاغترابية اللبنانية بان تعمل
كمنظمة غير حكومية دولية. الأمر الثاني كان مجموع النقاط الفكرية
والديبلوماسية التي تمت مناقشتها مع أعضاء مجلس الأمن. فهم كانوا يطرحون كل
الأسئلة الممكنة لكي يطمئنوا الى أن "القضية جدية" وان اللبنانيين في
مجتمعهم المدني، سيقفون مع القرار.
ں ولكن ما هي
المعادلة التي دفعت الأميركيين والفرنسيين إلى التقدم بالمشروع صيف
2004؟
- مما لا شك
فيه أن جدية "المتقدمين بالطلب"، أي الاغتراب اللبناني، ومن خلاله المجتمع
المدني في لبنان، كان لهما دور في المسألة. إذ أن واشنطن وباريس لم تكونا
لتطلقا المشروع لو لم تقتنعا بان اللبنانيين سيكونون على الموعد. ولكن لا
بد من الاعتراف بان الوضع الجيو-سياسي الإقليمي قد قصم ظهر البعير.
فالتدخل السوري في العراق بات غير محمول في واشنطن. إذ أن إسقاط العملية
السياسية في العراق كان ليؤدي إلى انهيار شامل قي المنطقة، وهذا أمر لم يعد
مقبولا لا أميركيا ولا دوليا. فعلى الرغم من اختلافهما حول الحرب في العراق،
فقد كان هناك تفاهم بين اميركا وأوروبا على ضرورة منع سيطرة "القاعدة"
و"حزب الله" وإيران وسوريا على الوضع في العراق. وعندما قررت القيادة
السورية، في خضم أدقّ معادلة في العراق، أن تحسم وضعا دستوريا في لبنان
لمصلحة التجديد لرئيس الجمهورية العماد اميل لحود، اعتبر هذا الأمر خطا
احمر. فما كان مسألة روتينية في لبنان، أي تعديلا دستوريا تحت إشراف
السوريين، بات يعتبر إخلالا بالتوازن مع الغرب برمّته. وقد كتبت مقالا
وقتها مع أحد زملائي الأكاديميين في " الدايلي ستار"، من أن ذلك سوف يغيّر
المعادلة. وبالفعل طرح المشروع في مجلس الأمن وخرج القرار 1559، ليغير واقع
سوريا في لبنان بشكل لا يمكن تعديله بعد الآن.
ں ما قصة
التصويت داخل مجلس الأمن والرسالة الرئاسية اللاحقة؟
- سيكون هناك
شرح مفصل لما حصل خلال شهر أيلول 2004 داخل مجلس الأمن. ولكن بشكل ملخص،
فقد شنّت الديبلوماسية السورية - اللبنانية حملة مضادة على القرار 1559
كما تذكرون وحاولت إيجاد ثغرة من خلال الدول الست التي لم تصوّت على
القرار اصلا . اثر ذلك وجّهنا مذكرة إلى بعثات هذه الدول. في وقت اتصلت
قيادات في الجامعة بعدد من الحكومات، منها البرازيل والفيليبين وغيرها .
وإذ بالأمين العام للأمم المتحدة، الدكتور كوفي انان يصدر تقريره بعد شهر،
وقد اعتبرنا انه لم يكن واضحا بما فيه الكفاية، فوجهنا اليه مذكرة أخرى.
وقد عالجت هذه المذكرات كل النقاط التي رفعتها الحكومات التي لم تصوّت
أصلا، وتقرير كوفي انان. وقد درس مجلس الأمن كل التقارير والمذكرات؛ وصدرت
عن رئاسته الامم المتحدة الرسالة الشهيرة باسم الأعضاء الخمسة عشر بمن
فيهم الجزائر؛ رئيسة الكتلة العربية؛ بتأييد القرار!
وقد اعتبرت
الرسالة الرئاسية أول انتصار دولي للقرار 1559؛ وقد أذهلت الكثير من
المعلّقين العارفين بأمور الشرق الأوسط. وبذلك بات القرار 1559 بات بابا
لمرحلة جديدة سوف تشرق على لبنان؛ عاجلا أو آجلا.
ں وما كانت
الردود السورية على القرار والرسالة؟
- في تقديرنا
ان القيادة السورية قررت أن تنتظر لكي ترى نتائج الانتخابات الرئاسية
الاميركية. فلو خسر الرئيس بوش فيها؛ لكانت ربحت سوريا سنتين؛ قبل أن تبدأ
إدارة جون كيري التفكير في الموضوع. أما وان جورج بوش قد انتصر؛ فالقرار
1559 بات في مقدم السياسة الأميركية؛ لا في مؤخرها.
المستقبل
ں لننتقل قليلا
إلى الوضع الإقليمي. لماذا في رأيك لم تساعد اوروبا الولايات المتحدة على
فهم مسألة تصاعد الإرهاب الأصولي قبل 11 أيلول؟
- أوروبا
الغربية تعرف الحركات الجهادية، ولكن مؤسساتها السياسية فضّلت أن تبتعد عن
ساحة المواجهة لأسباب اقتصادية وداخلية خلال التسعينات. أما اليوم؛ فقد حلت
الولايات المتحدة مكانها في مسألة الخبرة في المنطقة. فالجيوش الأميركية
والهيئات المدنية والاجتماعية الأميركية باتت منتشرة من أفغانستان إلى
العراق. والأميركيون من اصل شرق-أوسطي باتوا في مقدم الطاقات التي تواجه
الإرهاب. خذ مثلا الجنرال جون أبي زيد الذي يتقن العربية ويعرف تاريخ
المنطقة، وآلاف الأميركيين من اصل عراقي وسوري ولبناني وإيراني وسوداني
ومصري وليبي وغيرهم، الذين يعملون مترجمين ومحللين وضباط و كوادر في
المؤسسات القومية الأميركية وتلك التابعة للتحالف. أن الذراع الشرق -
الأوسطية للولايات المتحدة باتت أقوى وأوسع من أي وقت آخر. وفي أميركا
اليوم؛ صعود لعدد من المنظمات المسلمة المقاومة للإرهاب. اضف إلى ذلك
الوسائل الإعلامية الجديدة كـ"الحرة" و"راديو سوا" و"راديو العراق الحر"
وعشرات المواقع على الانترنت.
ں هل يعني أن
أميركا قد نجحت في تعبئة طاقات عربية وشرق-أوسطية في الحملة ضد الإرهاب؟
- اعتقدت أن
المشرقيين والعرب المؤمنين بالديموقراطية والإصلاح وحقوق الإنسان هم الذين
يستفيدون من الحرب ضد الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة من اجل الخلاص
من أيديولوجيات القمع والديكتاتوريات وكل أشكال العنف المنظم ضد المجتمعات
المدنية. وكمراقب لدينامية الحركات الاجتماعية في العالم العربي والشرق
الأوسط أرى أن جيلا جديدا، ولا سيما الشباب والنساء بات يرفض مقولات
الأنظمة والمنظمات الراديكالية التي لم تأت إلا بالرعب والإرهاب والقمع
والدمار والرجعية. لقد تلاقت المصالح وتقاطعت بين الحرب ضد الإرهاب ونشر
الديموقراطية في المنطقة.
ں أين ترى
مناطق التغيير الآتي؟
- إنها مناطق
يراها الجميع وليست مخبّأة تحت حجار. بالطبع هناك المسار السياسي
الديموقراطي في العراق، وتحرير لبنان، والإصلاح في سوريا، وإنقاذ دارفور
وجنوب السودان والتحرك الديموقراطي في إيران؛ بالإضافة إلى الحركة الفكرية
والثقافية في سائر المنطقة؛ ولا سيما في ما يتعلق بحقوق المرأة والشباب
والأقليات. والكلام كثير وطويل.
ں البعض يعتبر
ذلك تقسيما للمنطقة تقوم به أميركا لمصلحة إسرائيل. ما رأيك في هذا القول؟
- ثمة شعارات
كثيرة يختبئ خلفها من لا يريد التغيير. إن أول من يطالب بالإصلاح والحرية
هم مثقفون عرب على الانترنت، و يقولون: كفى لمهزلة إطالة الحرب الإسرائيلية
- العربية إلى الأبد. فالدولة الفلسطينية آتية؛ ويجب ألا يتوقف العالم
العربي عن التفكير في المستقبل حتى تحل المسألة. وما هو آت هو حق تقرير
المصير لكل الشعوب، وليس بالضرورة عبر تقسيم جغرافي تفرضه القوة العسكرية.
الاستفتاءات والانتخابات والتحالفات السياسية والإنماء الاقتصادي؛ هي وسائل
أخرى تتوق إليها شعوب المنطقة. والمصالح التي ستتم حمايتها هي مصالح الشعوب
بعد عقود من حروب دموية لحماية مصالح النخب الديكتاتورية الحاكمة.
ں بالعودة إلى
لبنان؛ كيف يرى الاغتراب ودور الكنيسة المارونية في لبنان والخارج؟
- الكنيسة
المارونية وغيرها من الكنائس اللبنانية، لعبت دورا تاريخيا في استمرار
مجتمعها عبر القرون. وهي بالطبع لا بد ان تستمر في الاضطلاع بهذا الدور.
ففي الولايات المتحدة، هناك علاقات جيدة بين المجتمع المدني الاغترابي
وكنيسته المارونية. وقد رأينا ذلك خلال المؤتمر الماروني الأميركي في
اورلندو في تموز الماضي. وقد حصل حوار مهم بين قيادات الرعية ومثقفيها
وقيادة الكنيسة الأكليريكية. والكنيسة في إمكانها أن تفعل الكثير على صعيد
المحافظة على التراث والهوية التاريخية.
ں هل تعتبرون
أن صوتكم يصل إلى لبنان كفاية؟
- كلا.
فالحوار بين أصحاب الفكر والناشطين الأميركيين-اللبنانيين وزملائهم في
لبنان ضيّق جدا. فهذه المسائل مثلا لم تناقش كفاية في محطات التلفزة
والإذاعات الموجودة في لبنان. أنا أدعو إلى تكثيف اللقاءات الفكرية
والإعلامية بين المقيمين والمغتربين ولاسيما في الولايات المتحدة. يجب عقد
حلقات وندوات في لبنان والمدن الأميركية لقيام جسور ما بين الشطرين؛
ولاسيما ان لبنان ودول المنطقة على أبواب تطورات مهمة. يجب إقامة تبادل
للوفود الفكرية والشبابية بين لبنان والاغتراب اللبناني
|