المقاومة
الثقافية – الحضارية عبر التاريخ
الجزء الثاني: من القرن السابع حتى العصور الحديثة
كما أن المقاومة على الصعيد السياسي والعسكري جمعت في
جبال لبنان، أحرار هذه المنطقة كذلك جمعت المقاومة الثقافية واللغوية على
الرقعة اللبنانية، الثقافة الحرة التي قررت الاستمرار في هذ المنطقة.
من خلال هذه الصورة، يمكننا فهم معاني الوجود
اللبناني، ومن هذه المعاني يمكننا فهم حقيقة البيئة والثقافة التي أنتجتها
المقاومة. فبعد أن نعم مسيحيو الشرق بأرقى مستوى حضاري في العالم القديم، وهو
نموذج لحضارات عريقة شرقية راقية وحدتها ثلاثة تيارات عالمية فلسفية وقانونية
وإنسانية-دينية، بعدها صفعهم القدر، فجرف مدينتهم وغطاها برمال أتت من
الصحراء. ولكن هناك فريق من هذه المنطقة وقف ورفض وأثبت أنه أفضل وأرقى من كل
الذين كانوا يعيشون في تلك الأيام، فالذين وقفوا ورفضوا الذوبان وفضّلوا حياة
الحرية بين الصخور هم أرقى على الأقل أخلاقياً، من الذين قبلوا ولأسباب
متعددة بالخضوع، فالخاضعون لم يفهموا أن عدم معارضتهم الواقع الذي كان
مفروضاً عليهم، حتى ولو كان يعطيهم فرصة العيش بسلام، فهذه الفرصة هي نسبية
وحتماً ستؤدي إلى انقراضهم او تغيير ملامحهم بشكل تدريجي. أما الذين وقفوا
ورفضوا، فقد وعوا حقيقة الخطر الحضاري وانسحبوا وتجمعوا في قلب المشرق وجمعوا
تراثهم وحفروه على صخور جبلية لم تقوَ عليها أية عاصفة طيلة قرون، فليس
الانكماش والانعزال هنا إلاّ درجة رقي وتقدم عندما يكون محيط الانكماشيين
وهؤلاء الانعزاليين محتلاً ومعادياً لحضارتهم. ونشبه مجازاً لبنان في تلك
المرحلة بسفينة نوح حضارية حيث أن أفرادها جمعوا من كل جنس إبان الطوفان
العربي، جمعوا هذه الأجزاء وأتوا بها إلى سفينة الخلاص وهي قمم لبنان فخلص
على متن هذه السفينة ممثلو من عاشوا على سطح الأرض المشرقية وأهلها الشرعيين
قبل الطوفان.
الوضع الثقافي الحضاري إبان الغزو العربي الإسلامي
دخلت الجيوش الإسلامية ودخلت معها رؤيا جديدة وشبه
حضارة جديدة ولغة جديدة ومنطق جديد. والذي دخل يتناقض بالعمق مع الموجود، لا
نعني بالتناقض عدم قابلية التواجد، كلا، بل اختلاف نوعي، فالرؤية الإسلامية
أدخلت دنيا جديدة وحضارة دنيوية جديدة تتكلم اللغة العربية. والمسيحية أيضاً
انوجدت على الأرض المشرقية منذ القدم وأفرزت حضارة تتكلم الآرامية -السريانية
واليونانية واللاتينية.
يمكننا تصوير ما حصل على الصعيد الثقافي بما يلي:
أتت مجموعة لونها أخضر وتتكلم لغة خضراء ودخلت إلى بيت أزرق
يسكنه قوم لونهم أزرق ويتكلمون لغة زرقاء، فإذا بالقوم الخضر يدحرون القوم
الزرق الذين سكنوا المنزل الأزرق لعدة قرون ويعلنون اخضرار البيت فيهرب قسم
من القوم الزرق ويلجأون إلى غرفة عالية في البيت أما القسم الآخر فيمكث مع
"الفاتح" الأخضر ويقبل بشروطه. أما تلك الشروط فهي أن القوم الزرق يصبح
أخضراً وأن يتكلموا لغة خضراء ويتحول الأزرق إلى أخضر ويقوى الأخضر ويطالب
باخضرار كل البيت لأنه اصبح هو صاحب البيت فيرفض القوم الزرق الملتجئين إلى
العلية ويعلنون أن لونهم أزرق ولن يقبلوا بلون آتٍ من الخارج.
هذه الصورة هي صورة المشرق إبان الغزو العربي، فدخول
الجيوش العربية عملياً أدّى إلى توغل الثقافة العربية واللغة العربية...
فالحكم العربي فرض اللغة العربية فرضاً على عموم الناس واستعمل عدة أساليب
ليست كلها عسكرية، فالغرض الأول كان القوة، حيث عمد العرب عملياً على إكراه
المواطنين على تكلم اللغة العربية وخاصة في المدن الكبرى. أما الغرض الثاني
فكان سياسياً واجتماعياً وإدارياً. كيف؟
قام الخلفاء بتعريب جميع الدواوين أي إدارات الدولة
(عبد الملك بن مروان حوالي سنة 695) ونقل جميع الكتب والمعلومات إلى العربية
فلم يستطع الساكن المسيحي في هذه المنطقة إلاّ أن يتكلم العربية كي يحق له
التعامل مع السلطات الرسمية ولكي يدخل سلّم وظائف الدولة. ولم تقم حملة
التعريب على الشعوب المشرقية في مصر والعراق وسوريا ولبنان فقط، بل على جميع
الشعوب التي وقعت تحت الاحتلال العربي الإسلامي كالفرس وشعوب شمال أفريقيا
وإسبانيا وغيرها. والجدير بالذكر أن هذه الحملة العربية لم تتوقف مع انتهاء
الحكم العربي الأول بل تواصلت مع جميع العهود. ولم تتوقف نهائياً عند قدوم
العثمانيين كما يظن البعض، بل انطلقت من جديد مع عصر النهضةالعربية في القرن
التاسع عشر وتعممت في الشرق أولاً وامتدت إلى أفريقيا السوداء والشرق الأقصى
منذ أوائل القرن العشرين وهي مستمرة بأشكال وأساليب مختلفة.
فالتعريب الثقافي هو ظاهرة
مرتبطة عضوياً بالتوسع العروبي الذي يتغير وجهه تبعاً للمراحل. من هنا بدأت
الشعوب المحتلة في المشرق تتراجع عن استعمال لغاتها الأصلية وتكلمت العربية
ولكن تراجعها عن هذه اللغات لم يكن سهلاً أو سريعاً، بل تخللته عقبات
ومقاومات طالت قرون وقرون.
لقد أكد الباحثون اللغويون بأكثريتهم كالمؤرخ "لامنس"
و"غراف" وغيرهما أن دخول اللغة العربية إلى المدن السورية واللبنانيةلم يرافق
دخول الجيوش العربية، فلغة العرب انتظرت ربما أكثر من قرن حتى تثبت نفسها
وتدخل المدن الساحلية. فتلك المدن قاومت الدخول الثقافي طويلاً قبل أن تستوطن
فيها جماعات عربية بحد ذاتها،
وهذه الظاهرة أدت إلى
قيام تعددية من نوع جديد وهي التعددية الثنائية أي أن تكون المجموعتان
تتكلمان لغة مختلفة كل واحدة على انفراد ولكن على أرض واحدة. أما التعددية
العادية أو الأصلية، فهي أن مجموعة واحدة تتكلم لغتين في نفس الوقت.
بالنسبة لنا، هذه الظاهرة التعددية مهمة جداً لأنها
تفسر مجمل التطور الثقافي واللغوي لتلك المرحلة. ولكن هذه التعددية كانت
نوعاً من وعاء تناقضي، لأنه كان يوجد فيها عدة لغات من عدة حضارات، أحد
الباحثين في ذلك الموضوع الأب الدكتور سليم عبو يقول: "العربية لم تستطع
التوغل في الجبل كما فعلت في السهول والمدن ومقاومة الجبل على الصعيد اللغوي
استمرت طيلة قرون ولم تنطفئ حتى اليوم حيث أنها بدلت أوجهها مع تبديل أوجه
التوغل..."
يمكننا القول أن استقلالية هذا المجتمع في لبنان طيلة قرون وتجمعه في
بقعة واحدة سمح له أن يحافظ على كيانه إن على الصعيد السياسي أو على الصعيد
الثقافي، ولم يندمج ولم يتبعثر مثل الذين بقوا في سائر أنحاء الشرق.
من هنا الوضع اللغوي لمجتمعنا وللمقاومة هو التالي:
إذا كانت اللغة العريبة سيطرت على الشرق وطغت على كل لسانه،
فالكيان الحرّ في جبل لبنان الذي تكوّن فور دخول "الفتح" رفض الشكل الجديد
للإستعمار القادم من الخارج. فاللبنانيون كانوا يتكلمون اللغة
الآرامية-السريانية عند دخول العرب وتميزوا فيها، وبسقوط الساحل ولجوء
الأهالي إلى الجبال أصبحت الآرامية-السريانية اللغة الوحيدة لمسيحيي الشرق
المستقلين في هذه الجبال. واستمرت هذه اللغة المعبرة الوحيدة عن اللبنانيين
مدة قرون حتى تبدلت المعادلة في بداية المرحلة العثمانية. لكن يمكننا القول
أنه حدث نوع من الحصار الثقافي اللغوي إلى جانب الحصار العسكري السياسي حول
هذا الجبل، هذا الحصار كان اقتصادياً وثقافياً فلم يتعامل التجار والسكان
العرب في المدن منذ القرن السادس أو السابع حتى قدوم الصليبيين، مع سكان
الجبل إلا بشرط تكلمهم اللغة العربية، من هنا فمنتوجات الجبل التي كانت يجب
أن تصرَّف في المناطق المحيطة لم تكن تستطيع المرور، وبالتالي لم تكن الدورة
الاقتصادية باستطاعتها الدوران في الجبل إلا إذا تكلم أهله اللغة العربية
وبالتالي إذا قاموا بنوع من المساومة على الموضوع اللغوي. ومن هنا تمكنت
اللغة العربية تحت الضغط الاقتصادي أن تدخل إلى الجبل تدريجياً، لكن الفكر
المسيحي في الجبل لم يستسلم إلى هذا الواقع رغم التراجع اللغوي، فعمد إلى نقل
القيم الأدبية والروحية والعلمية إلى اللغتين اليونانية واللاتينية اللتين
كانتا من اللغات المسيحية أيضاً فسقطت لغة لتنتقل إلى لغة أخرى من نفس
الحضارة. من هنا أصبحت الأديرة في لبنان عبارةً عن قلاع فكرية حفظ فيها جميع
ما انتجه الفكر اللبناني المسيحي الحرّ في الجبل باللغات السريانية
واليونانية واللاتينية.
من هنا هذه الأديرة يمكن اعتبارها في مرحلة مهمة
جداً من تاريخنا، نوعاً من سفن خلاص ثقافية لهذه المجموعة التي استمرت في
الشرق رغم كل شيء.
من هنا يمكننا التأكيد على حقيقة مهمة جداً على الصعيد اللغوي
الثقافي:
إن المجتمع الحرّ الذي بقي في جبل لبنان والذي رغم المقاومة
لقرون، أجبر على التراجع عن اللغة الآرامية تحت الضغط، عملياً تراجع عن لغته
الأصلية الآرامية السريانية (وهي لغة مسيحية تستعمل في القداديس حتى اليوم)،
تراجع لصالح اللغة العربية. ولكن مواصلة لهدفهم الاستقلالي الحضاري وضع
اللبنانيون جميع هذه القيم الفكرية بلغات مسيحية أخرى كان لها حظ أوفر في
الاستمرار مطبقين نظرية الجسر الثقافي الحضاري. من هنا نفهم تعلق المجتمع
الحر في لبنان بلغات البحر الأبيض المتوسط اليوم، فتلك ليست نتيجة للاستعمار
أو للإرساليات أو الانتداب مثلما ينظرون لها، بل هي نتيجة لاستمرار عملية
المقاومة من لغة إلى لغة، سقطت الآرامية فاستمرت السريانية، سقطت القبطية
فاستمرت اليونانية، سقطت جميعاً فاستمرت اللاتينية ومنها انبثقت اللغات
الأوروبية.، ومن هنا تعلقنا باللغات الغربية ليس لأسباب استعمارية بل لمواجهة
الاستعمار العربي التذويبي اللغوي الذي مورس على الجبل. أكثر من ذلك إن
أكثرية علماء اللغة اليوم يقرّون أن اللغة اللبنانية التي نستعملها والتي
تتميز كلياً عن اللغة العربية الأدبية في نهاية المطاف، هي لغة ذات هيكلية
سريانية بمفردات عربية فنحن نستعمل هيكلية
Structure et Syntaxe
آرامية-سريانية قومية ولكن المفردات أصبحت عربية، وهذا شكل آخر من أشكال
المقاومة وهو مهم جداً لمعرفة تعلق الشعب جذرياً بقيمه وحضارته وحريته.
يمكننا الاستنتاج أن المقاومة الحرة في هذه الجبال
حاولت من خلال هذا الجسر الثقافي أن تنقذ تراثها وربما تراث قارة كاملة
وحضارة كبيرة زالت عن وجه العالم، بنقل كل القيم التي حافظ عليها اللبنانيون
المشرقيون في جبالهم إلى وسائل تعبيرية أخرى اعتنقوها مستمرين في إكمال
واجباتهم بحال إبادتهم نهائياً. من هنا بدأ التحول اللغوي في لبنان،
فبعد
أن كتب المسيحيون اللبنانيون بالسريانية بدأوا بالكتابة بالعربية ولكن بأحرف
سريانية، فكان أول تراجع ولكن المقاومة مستمرة. وعرف هذا الخط "بالكرشونية"
الذي استمر حتى القرن التاسع عشر. كما اشتهر مسيحيو الشرق وخاصة السريان
منهم بالترجمة فنقلوا العلوم والأدب والفلسفة من اليونانية إلى السريانية ثمّ
إلى العربية. ويمكننا القول أن لهذه المجتمعات، مجتمعات "الأطلنتيد" مثلما
أسميناها سابقاً، فضل كبير في إقامة ركائز ما يسمى بالحضارة العربية كلها.
فالمسيحيون المشرقيون عموماً، واللبنانيون خصوصاً ذميين كانوا أم مستقلين
بالرغم مما قاسوه من الغزوة العربية، أعطوا تلك الحضارة العربية ذاتها ما لم
يعطه أي شعب غير عربي في العالم لها. فرغم القمع الذي تعرضوا له، أنتجوا
الحضارة العربية وأعطوا اللغة العربية. هذا العطاء لن نربطه بشيء من العقد
فالتعامل بين الشعوب ظاهرة حتمية بين المجموعات البشرية المتقاربة جغرافياً
من بعضها البعض. أما حالة الحروب والتناقض فلا تمنع أن ينفتح شعب حتى ولو
أصبح أقلية وإذا كانت صلاته بشعوب حضارته صعبة جداً، لا تمنع أن ينفتح على
لغة وحضارة وثقافة الشعب المحيط به والمؤثر الأول على البيئة المحيطة
جغرافياً. فالجزائريون في نهاية المطاف وبالرغم من أنهم لم يقضوا إلا مائة
وعشرين سنة فقط تحت الحكم الفرنسي، فقد أنتجوا بالفرنسية ربما كل تراثهم
التحرري. واليوم ما زالوا يسترجعون اللغة العربية، الشيء نفسه بالنسبة
للمسيحيين اللبنانيين الذين خضعوا لمدة سبعماية سنة مباشرة تحت الاحتلال
العربي (منذ 1305م.)، وبالتالي من الطبيعي جداً أن ينتجوا باللغة العربية، من
هنا يمكننا أن نفهم ونستخلص ما يلي: تماماً كما أن هذا المجمتع الذي تجمع في
جبل لبنان وأخذ القرار بالاستمرار في المقاومة، هذا القرار نفذه على الصعيد
القومي والجغرافي والسياسي والعسكري، أيضاً وأيضاً نفذ هذا القرار على الصعيد
الحضاري والثقافي واللغوي، وكان أميناً على كل هذه القيم التي من أجلها أخذ
القرار أساساً عندما أعلن استقلاله في جبل لبنان في القرن السابع...