عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية

  

مدينة الرها عاصمة الثقافة والتقاليد السورية الشرقية

سليمان غانم

مدينة الرها: في اللغة العربية، في اللغة السريانية: ܐܘܪܗ تلفظ أورهاي، في اللغة اليونانية: Ἔδεσσα إديسسا. كانت الرها مهد الفلسفة والأدب السرياني. في حين كانت مدينة أنطاكية عاصمة التقاليد السورية الغربية في العصور الكلاسيكية، كانت الرها عاصمة التقاليد السورية الشرقية. ذاع صيت المدينة عبر قصتها الشهيرة في الأدبيات المسيحية؛ قصة المراسلات الشخصية بين ملكها السرياني أبجر الخامس بن معنو و بين المسيح بن مريم. تحتل هذه القصة شهرة عالمية في تاريخ المدينة الديني. تحولت الحاضرة السورية عبر اهتمام ملوكها بالديانة المسيحية منذ البدء، للعب دور ديني مركزي، بالغ الأهمية في نشر المسيحية بعد أنطاكية، عبر الكرازة والتبشير بالإنجيل في البلدان القريبة والبعيدة منها، في الشرق والغرب. البلدة السورية الرها: عبارة عن حاضرة متمدنة، توجد في أعالي الجزيرة السورية. يعتقد أن أول ذكر لاسمها في التاريخ يعود للآشوريين، الذين ذكروا في حولياتهم اسم بلدة في المنطقة قرب مدينة حران باسم Adma أو Admum التي يعتقد أنها تشير إلى بلدة الرها ويعود تاريخها إلى القرن السابع قبل الميلاد، لكنها لم تكن ذات أهمية كبيرة في العهد الآشوري. عادت المدينة للظهور بشكل صريح في المصادر التاريخية، في فترة إعادة تأسيسها في القرن الرابع قبل الميلاد على يد الملك الإغريقي سلوقس نيكاتور، خليفة الإسكندر في سوريا. كانت المدينة مهداً للأدب والفلسفة السريانية بكل أدوارها وفي المرحلتين؛ المرحلة الآرامية الوثنية، وفي المرحلة المسيحية السريانية. عاشت المدينة شهرة وتاريخاً غنياً بعد دخول الإغريق اليونانيين إلى سوريا، الذين أسسوا في عام 304 ق.م حاضرة إغريقية جديدة في الرها عاملين على توسيع البلدة الآشورية القديمة وبناء منشآت جديدة في الرها. أطلقوا على المدينة الجديدة لقب عاصمتهم المقدونية الأم في شمال بلاد اليونان Edessa ليرافق الاسم المدينة في العهد السلوقي حتى عام 175 ق.م. في عهد الملك السلوقي أنطيوخوس الرابع إبيفانيوس Antiochus IV Epphanes الذي أعاد الاهتمام بالمدينة وتحصينها، أطلق الملك على مدينة الرها اسم جديد هو Αντιόχεια η επί Καλλιρρò أنطاكية كاليروهي: التي تعني أنطاكية الحسنة المياه. بعد انهيار الحكم السلوقي في الرها، حكمت المدينة أسرة محلية من أصول سريانية، عرفت بسلالة الأباجرة، التي بدأت حكمها في المدينة في النصف الثاني من القرن الثاني قبل الميلاد. أسست هذه الأسرة مملكة الرها المعروفة تاريخياً بمملكة أوسروينا؛ التي عرفت في اللغة اليونانية باسم Ὁσροηνή وفي اللغة السريانية: ܡܠܟܘܬܐ ܕܒܝܬ ܐܘܪܗ. في التاريخ العالمي باسم The kingdom of Osroene كانت عاصمتها الرها. صنفت المملكة ضمن الممالك الهلنستية الطابع والتاريخ، لكنها كانت ذات خصائص ثقافية سورية محلية. أسست المملكة في عام 132 ق.م بعد انهيار الحكم السلوقي في المنطقة وحكمها الملوك المحليين الأباجرة حتى عام 216 ميلادي. عادت المملكة في عهد الإمبراطور الروماني كركلا إلى حكم الرومان المباشر، الذين عملوا إنهاء وجودها السياسي. حملت الرها في عهد أسرة الأباجرة في القرن الثاني قبل الميلاد اسمها السرياني الأصيل أورهاي. في القرن الأول الميلادي، نقرأ اسم المدينة لدى المؤرخ الروماني بلينيوس Plinius الذي تؤرخ كتاباته بحدود 79 ميلادي، نقرأ الاسم بصيغة Arabes Orrhei والتي تعني الرها العربية. في العصر الروماني المتأخر البيزنطي سميت المدينة Justinoplois أي مدينة جوستين الإمبراطور البيزنطي الشهير. في النصف الأول من القرن السابع الميلادي، دخل المسلمون مدينة الرها بقيادة عياض بن غنم الذي نجح في ضم الجزيرة السورية للدولة الإسلامية الناشئة. حملت المدينة في العهد الإسلامي اسم الرها واستمرت عليه حتى الاحتلال الصليبي، حيث عرفت في العهد الصليبي، خلال الحملات المتتالية لهم، في المشرق ضمن العصور الوسطى باسم كونتية الرها The County of Edessa التي أسست من قبل الملك الصليبي الفرنسي بلدوين الأول Baldwin of Boulogne في عام 1098 م. بعد نهاية الحقبة الصليبية عادت المدينة للسيطرة الإسلامية؛ الأيوبية، المملوكية، من ثم العثمانية. في نهاية الحرب العالمية الأولى، اقتطعت المدينة من سوريا و ضمت إلى جمهورية تركيا، التي غيرت اسم المدينة في ستينيات القرن الماضي إلى أورفة Urfa و لاحقاً إلى شانلورفة .Şanlıurfa.

تتموضع مدينة الرها جغرافياً في أعالي الجزيرة الفراتية، في شمال سوريا بين نهري دجلة والفرات. بنيت في موضع أقرب إلى الفرات منه إلى نهر دجلة، تبعد عن الفرات 8 كيلو متر إلى الشرق. تتوزع أحياء المدينة على السهل والهضبة، يخترقها نهر ديصان الشهير في تراث وأدبيات المدينة، يعتبر النهر جزءاً من نهر البليخ أحد روافد نهر الفرات. يحيط النهر بمدينة الرها من الشمال إلى الجنوب الشرقي، ينحدر باتجاه الجنوب حيث يلتقي مع نهر كولاب، الذي يمر في مدينة حران حيث يصب في نهر البليخ. إحاطة النهر بالمدينة، أتاح لها مناعة تحصينية كبيرة من الشمال والجنوب الشرقي، بالإضافة إلى إحاطتها من قبل جبل الرها المقدس في الشمال الغربي، الذي يعرف اليوم بجبل طوب داغ، الجبل مليء حتى اليوم بالكهوف والقلايات، التي كان الرهبان السريان يستخدمونها للتعبد في المنطقة، وصل عددها إلى ثلاثمائة من أشهرها كهف القديس أفرام السرياني نفسه: الذي كان من أوائل الشخصيات المسيحية، التي رسخت تقاليد الرهبنة السورية في بداية القرن الرابع الميلادي. من أشهر المعالم المتبقية اليوم في المدينة، الأماكن المرتبطة بالأدبيات الأسطورية؛ ككهف النبي إبراهيم، التي توجد في جامع الرها اليوم وبركة إبراهيم الشهيرة، البركة الأخرى المسماة بركة زولها (البركة المقدسة)، أيضاً لدينا بقايا القلعة المعروفة بقلعة النمرود، الذي ينسب له سكان المدينة في إرثهم الشفوي تأسيس المدينة. تنفتح الرها في الجنوب على سهول أراضي مدينة حران الحاضرة الشهيرة في تاريخ الروحانيات السورية. كان لفيضانات نهر ديصان أهمية كبيرة في تراث المدينة الشفهي، التاريخي على السواء، أشهر القصص التي تتناول فيضان النهر حادثة الطوفان التي حصلت في 201 م، الفيضان الذي دمر الكثير من الأبنية في المدينة، منها الكنيسة المسيحية، الحادثة التي يذكرها الرهاويون السريان في مروياتهم حتى اليوم. زودت المدينة في العصر الهلنستي بمستلزمات المدينة الإغريقية؛ أسوار، حمامات، ساحات عامة، مسارح، ميادين للخيل، كما أنشأ فيها السلوقيون الكثير من القصور، صممت أبنيتها وفقاً للنظام الإغريقي الشطرنجي. في تلك الحقبة أيضاً؛ أقيمت فيها العديد من الجسور والقناطر على نهر ديصان. كان سور المدينة التحصيني الطابع، سوراً ضخماً، يحتوي على أبواب عديدة مشهورة حتى اليوم بأسمائها؛ الباب الشمالي الذي يدعى باب سميساط و الذي يفضي إلى الشمال إلى سميساط و منها إلى أرمينيا، الباب الغربي الذي يعرف بباب الأقواس و يفضي إلى مدينة أنطاكية، الباب الشرقي و الذي يدعي باب كيساس و يفضي إلى الشرق إلى مدينة نصيبين، الباب الجنوبي و يعرف باب الشمس أو بيت الشمس و يفضي إلى حران التي يسمى الباب باسمها اليوم.

تقاليد الرها المسيحية في المصادر التاريخية:

قبل الدخول في الحديث عن تاريخ الرها في العصور الكلاسيكية، يجب أن نشير إلى بعض المصادر التاريخية التي تخص المدينة. مصادر وثقت وغطت محطات مهمة في ذاكرة وتاريخ المدينة، مسجلة إرث سكانها، خصوصاً سكانها السريان المسيحيين. من أوائل المصادر التي تتحدث عن تاريخ المدينة نقرأ؛ اسم كتاب أبرسيوس، كان أبرسيوس أسقفاً على مدينة جيرابوليس السورية في نهاية القرن الثاني ومطلع القرن الثالث الميلادي، يصف في كتاباته رحلة قام بها إلى منطقة ما وراء االفرات؛ أي نصيبين وغيرها من المدن المجاورة، يشرح فيها شهادات عن أخوة مسيحيين، كما يصفهم في كتاباته، ممن التقاهم في تلك المدن ومنها الرها. من المراجع التاريخية الأخرى التي تخص المدينة؛ لدينا كتابات المؤرخ الكنسي أوسابيوس القيصري Eusebius; the bishop of Caesarea في الربع الأول من القرن الرابع الميلادي، تؤكد كتاباته على أصالة الديانة المسيحية في مدينة الرها و مدن ما بين النهرين، يذكر في كتابه التاريخ الكنسي Historia Ecclesiae قراراً اتخذته الكنائس في ما بين النهرين، من بينها كنيسة الرها بالاحتفال بعيد الفصح يوم الأحد، يعود القرار إلى عهد البابا فكتور في السنة العاشرة لحكم الإمبراطور كومودوس أي 189 م، مما يدل على قدم وعراقة المسيحية في تلك المدن. مصدر آخر يخص المدينة؛ تاريخ الرها: هو كتاب تم جمعه في القرن السادس الميلادي عن الوثائق المحفوظة في الخزانات الرهاوية الكنسية، يبدأ الكتاب بسرد الوقائع التاريخية بداية في عام 201 ميلادي، السنة التي فاض فيها نهر ديصان بقوة، أضرت بالمدينة، مدمراً الكثير من الأبنية في الرها، منها كنيسة المسيحيين، من ثم يذكر الكتاب أنه في عام 202 م وضع الأسقف نونا أساس كنيسة الرها الجديدة، هذه الإشارة إلى وجود أسقف للرها في مطلع القرن الثالث الميلادي، يشير إلى أن الكنيسة التي أسسها لم تكن الأولى، بل كان هناك كنائس قبلها، فالكنيسة التي بنيت في عهده، كانت للتعويض عن الكنيسة التي دمرها فيضان نهر ديصان سنة، هو ما يرجح وجود كنائس في الرها في القرن الثاني الميلادي، هي معلومة تدل على أسبقية متقدمة في تاريخ المسيحية. من الكتابات التي تخص المدينة أيضاً؛ كتابات يوليوس الإفريقي، الذي عاش في مطلع القرن الثالث الميلادي، يقول في تاريخه أنه رأى في بلاط أبجر ملك الرها 179.. 214 م الفيلسوف برديصان المسيحي الغنوصي، الذي وصلتنا من مدرسته في الفكر، الكتابات السريانية الأولى في المدينة، نعلم من كتاباته أن الملك المقصود كان أبجر التاسع، مع أن يوليوس الإفريقي، لا يذكر في كتابه شيئاً عن تنصر الملك، لكن بوسعنا أن نستنتج من الحديث، بأن المسيحية كانت منتشرة في الرها وأنها كانت مرعية من قبل البلاط نفسه. من المراجع المحلية المهمة في تاريخ المدينة؛ كتاب الفيلسوف برديصان المسمى شرائع البلدان، إن مؤلف الكتاب هو فيلبس أحد تلاميذ الفيلسوف برديصان، كان قد كتبه في سنة 196..226 م وضع الكتاب على غرار حوار يدور بين المعلم الفيلسوف برديصان و تلاميذه، حول أدبيات تخص مواضيع مسيحية منها؛ الخطيئة، الشر، الحرية، القدرة و قوة الشرائع، لقد جاء في الكتاب أيضاً، معلومات عن تنصر الملك أبجر التاسع. من المصادر الدينية المهمة في إرث المدينة أيضاً؛ دياطسرون ططيانس (الإنجيل الموحد) وهو إنجيل جمعه ططيانس بين 150 و 170 م في روما باللغة اليونانية و حين عاد إلى المشرق ترجمه إلى الآرامية. إن وجود إنجيل موحد في النصف الثاني من القرن الثاني في المدينة وسعة انتشاره في كنائس ما بين النهرين دلالة واضحة على وجود المسيحية في المنطقة في فترة أبعد تاريخياً، خصوصاً أننا نقرأ فيما بعد أن ططيانس كان منحرفاً عن الدين القويم حسب ادعاءات الكنيسة الرسمية ومن ثم مناوأة الكنيسة لإنجيله الموحد، هذا الجدل يدل على أن المسيحية كانت قد استقرت منذ عهد طويل في المنطقة، بالمفهوم العام نعلم أن الديانات لا تبدأ بالهرطقات. من المصادر التاريخية والكنسية التي تهتم بالمدينة شهادة المؤرخين البيزنطيين سقراط وسوزومين Sozomenus هذا الأخير يذهب للقول بأهمية الرها في كتابه تاريخ سوزومين الكنسي بتسعة أجزاء إلى أبعد من سابقيه، إذ يؤكد أن الرها من أول المدن والممالك في العالم التي اعترفت بالديانة المسيحية، فيقول في كتابه بعبارة صريحة: إن المدينة قبلت بالإيمان بالمسيح مند البدء. من المصادر المسيحية المحلية في المدينة؛ كتاب المؤرخ السرياني برحذبشبا عربايا الذي توفي في عام 630 م يتحدث في كتابه عن التقليد المحلي الجاري في مدينة الرها، يشرح فيه سبب تأسيس المدراس الفلسفية في البداية يقول؛ إن المفسرين كانوا يعتمدون -قبل انتشار شرح المفسر الكبير أي يقصد تيودوروس المصيصي-كتابات القديس أفرام السرياني، التي كانت في ماهيتها نقل لتعاليم مار أدي؛ مؤسس الجماعة المسيحية الأولى في الرها. بعد هؤلاء المؤرخين لدينا عدد كبير من المؤرخين المتأخرين، الذين تكلموا عن الرها منهم؛ توما المرجي في القرن التاسع الميلادي، إيشوعدناح البصري في القرن التاسع، ميخائيل السرياني 1199 ميلادي، ماري بن سليمان في القرن الثاني عشر الميلادي، صليبيا بن يوحنان الموصلي القرن الرابع عشر، ابن العبري 1286 ميلادي.


الرها في العصور الكلاسيكية؛ العصر الهلنستي، الروماني، البيزنطي:

العصور الكلاسيكية في سوريا: هي العصور التي تبدأ بدخول جيش الإسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد إلى سوريا، وتنتهي بالدخول الإسلامي إلى سوريا في بداية القرن السابع الميلادي. استمرت العصور الكلاسيكية في سوريا قرابة ألف عام. يعرف العصران الأولان؛ أي اليوناني والروماني منها بالعصر الكلاسيكي، الذي يمتد من القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرن الرابع الميلادي، ليبدأ بعدها في سوريا العصر البيزنطي. سوريا لم ترزح تحت السيطرة البيزنطية، إلا ثلاثة قرون من منتصف القرن الرابع الميلادي، إلى بداية القرن السابع الميلادي، أي مع الدخول الإسلامي إلى سوريا. يصنف العصر البيزنطي أكاديمياً، ضمن قائمة ما يعرف بالعصر ما بعد الكلاسيكي، كغيره من دول العصور الوسطى الدينية التي نشأت على تفتت الأراضي، التي كانت تشكل قبلاً جسم الإمبراطورية اليونانية الرومانية الموحد. هذه الدول التي تطورت باتجاه أدبيات العصور الوسطى، بعيداً عن الأدبيات التقليدية الكلاسيكية الوثنية في أثينا وروما. كانت هذه الدول متأثرة بالتقاليد اليونانية والرومانية إلى حد كبير عبر اللغة والإرث التاريخي، لكنها كانت مختلفة ثقافياً عن الإمبراطوريات الكلاسيكية للعالم القديم؛ سواء في نظم الحكم أو في الدين، لذلك يطلق عليها أو تصنف ضمن العصر ما بعد كلاسيكي -Postclassical-Era. يعود هذا التحول في الإمبراطورية الرومانية، إلى أسباب بنيوية عديدة؛ سياسية، اقتصادية حصلت في القرن الثالث الميلادي، وعوامل أخرى ثقافية، كان من أهمها توجه الإمبراطورية نحو المسيحية في القرن الرابع الميلادي. في سوريا يتم دوماً إلحاق العصر البيزنطي بالعصور الكلاسيكية، لأن سوريا كانت قد عاشت الحقبة البيزنطية الأولى فقط، التي تعرف بالعصر الروماني المتأخر، لم تكن الفوارق قد ترسخت بعد بين تقاليد الإمبراطورية الرومانية وتقاليد الإمبراطورية البيزنطية، التي نراها مترسخة باستقلالية في وقت لاحق في العصور الوسطى. يقسم التاريخ البيزنطي إلى ثلاثة فترات؛ الفترة البيزنطية المبكرة: التي تمتد من القرن الرابع الميلادي حتى بداية القرن السابع الميلادي؛ أي من عهد الإمبراطور قسطنطين حتى عهد الإمبراطور هرقل. الفترة الثانية: تمتد من القرن السابع حتى القرن الثالث عشر بعد احتلال الصليبيين في الحملة الصليبية الرابعة للعاصمة البيزنطية القسطنطينية. الفترة الرابعة: تمتد من القرن الثالث عشر حتى سقوط الإمبراطورية في يد الأتراك العثمانيين عام 1453 م لتنتهي الإمبراطورية سياسياً من الوجود. لم تستمر السيطرة البيزنطية في سوريا حتى العصور البيزنطية المتأخرة؛ أي بقيت سوريا تحت الحكم البيزنطي خلال الفترة الأولى؛ أي من بداية القرن الربع الميلادي حتى بداية القرن السابع الميلادي، على خلاف أماكن أخرى في العالم استمرت فيها سيطرة الإمبراطورية البيزنطية قرابة تسعة قرون أخرى؛ كآسيا الصغرى، شبه جزيرة البلقان.

الرها في العصر الهلنستي والروماني (الكلاسيكي):

كانت مدينة الرها قبل العهد السلوقي، مقراً لبلدة آرامية قديمة ازدهرت فيها في العصور المتأخرة الآداب الآرامية الشفوية، من مرويات وأدب تقليدي، كخطاب مار سرابيون، أو كقصة أحيقار السرياني وغيرهم من الآباء السريان الذين حفظت المدينة إرثهم شفوياً. عاشت المدينة فترة ازدهارها التاريخي الحقيقي، بعد إعادة تأسيسها من قبل السلوقيين، فلقد بنيت المدينة من جديد في عام 304 ق.م على يد سلوقس نيكاتور، الذي أطلق على مدينته السورية الجديدة المنشأة في الرها، لقب عاصمة المقدونيين إديسسا Ἔδεσσα في شمال اليونان. حظيت المدينة في عهد السلوقيين برعاية كبيرة، كالرعاية التي أولوها بالمدن التي أسسوها في سوريا خلال حكمهم. عملوا على تزويد المدينة بكل ما تحتاج إليه من مقومات المدينة الحضرية الإغريقية؛ كالمعابد، المسارح، الساحات، ميادين الخيل والأسوار. بلغت المدينة ذروة عظمتها الاقتصادية في ذلك العهد، فلقد كان لموقعها الجغرافي، على طول الطريق بين الغرب والشرق، بين الإمبراطوريات المعاصرة، أثر كبير في غناها وخاصة وقوعها على مفترق طرق القوافل القادمة من الشرق من الصين والهند، على طريق الحرير والمتجهة غرباً إلى أراضي الإمبراطورية الإغريقية بداية، والرومانية فيما بعد. هذا الدور وفر للمدينة غنى وأهمية تجارية كبيرة على المستوى الاقتصادي في العصور الكلاسيكية، هيأت هذه الفرصة الاقتصادية الأجواء في الرها لنهضة ولانفتاح ثقافي كبير. ازدهرت في المدينة في ذلك العهد الكثير من الأديان المحلية؛ كديانات الآراميين الوثنية، ديانات سوريا الوافدة من حران، تدمر وجيرابوليس، أيضاً ازدهرت في المدينة الأديان الإغريقية الغربية، لتتلاقح الأفكار والثقافات والروحانيات على أرض المدينة، لتنتج تقاليدها السورية الصياغة والطابع، التي ستظهر بوضوح في العهد البيزنطي. توفر للمدينة في العصر الكلاسيكي جو ثقافي تاريخي، منفتح على كل الأفكار العالمية لحضارة ذلك الزمن؛ الحضارة الكلاسيكية. هذا الجو سمح فيما بعد، لتلقي المدينة لأفكار المسيحية بكل رحابة، لتكرس منذ البدايات أعرق التقاليد المسيحية وأكثرها أصالة في قصة المسيحية، ليس في سوريا والمنطقة فحسب، بل في كل العالم المسيحي. وسط هذه الأجواء من الاهتمام بالمدينة في العصر الإغريقي، نقرأ أنه في عام 175 ق.م قام الملك السلوقي أنطيوخوس الرابع إبيفانيوس Antiochus IV Epphanes بالعناية بالحاضرة السريانية الرها، مولياً اهتماماً خاصاً بالمدينة السورية، فعمل على ترميم الكثير من الأبنية و تجديدها و أطلق على المدينة لقب جديد أسماها Antiochia Kallirhoe تيمناً باسم العاصمة السورية في العصور الكلاسيكية؛ أنطاكية على العاصي، مضيفاً لاسم أنطاكية لفطة كاليروهي و التي تعني أنطاكية حسنة أو كثيرة المياه، لتعرف الرها بعد عهده، باسم أنطاكية كاليروهي. كان الاهتمام بالمدينة من قبل الملك السلوقي عائد لعدة أسباب: أولها؛ أهميتها الثقافية في تلك الحقبة كمهد للآداب السريانية السورية والهلنستية الإغريقية. ثانيها؛ أهميتها الاقتصادية على طريق القوافل التجارية. أيضاً كان يخشى من الظهور والصعود الجديد للفرس الفرثيين في الشرق ومزاحمتهم للسلوقيين عبر تهديد طرق التجارة، مما فرض على السلوقيين الاهتمام بالمنطقة بالعمل على تقويتها والمحافظة على ازدهارها كجزء مهم من أراضي المملكة السلوقية. بعد عام 150 ميلادي، أصبحت القوة الفارسية الجديدة ممثلة بحكم السلالة الفرثية، أمراً قائماً في المنطقة، أضحت تهدد بكل جدية المملكة السلوقية وممتلكاتها في الشرق، خصوصاً مدن منطقة ما بين النهرين كمدن نصيبين والرها. كانت المملكة الإغريقية السلوقية في ذلك الوقت، قد وصلت إلى مرحلة من الضعف والانحطاط، جعلت من الفرس يتوسعون على حساب أراضيها وممتلكاتها. بعد عام 150 ق.م انهارت السيطرة السلوقية في منطقة ما بين النهرين السورية تحت هجمات الفرس، وسط هذا الانهيار وفي قمة الصراع بين الفرس والسلوقيين، وصلت إلى حكم المنطقة أسرة من أصول محلية سريانية، عرفت باسم أسرة الملوك الأباجرة، أسست هذه الأسرة ما يعرف بمملكة الرها، التي عرفت في التاريخ باسم أوسروينا Ὁσροηνή وعاصمتها أديسسا Edessa الرها. حكمت من قبل الأسرة المحلية السريانية، التي عرف حكامها في اللغة والأدبيات اللاتينية الرومانية باسم أبجاروس Abgarus كان تأسيس مملكة الرها وسط هذه الظروف المليئة بالصراعات، والقدرة فيما بعد على الحفاظ على خط التوازنات القائم بين الإمبراطوريات، إنجازاً سيحسب للسلالة الحاكمة، وسيدفع المدينة للتطور والازدهار عن طريق تبادل التجارة، تبادل الثقافة، فيما بعد ستلعب المدينة دور نقل الآداب السريانية المسيحية بين الشرق والغرب. كان تأسيس المملكة قد بدأ بدقة في عام 132 ق.م ذلك بعد أن قضى الفرس على قسم كبير من جيش أنطيوخوس السابع السلوقي، في معركة جرت قرب نصيبين، هنا قامت الأسرة المحلية، باستغلال الفوضى والأوضاع الجديدة الناتجة عن الصراع الفارسي السلوقي، لتملأ الفراغ الناشئ من انسحاب السلوقيين، لتقف في علاقات متفاوتة مع الفرس، لتنجح في القرن الأول قبل الميلاد في تحقيق استقلال نسبي عن الفرس والسلوقيين وعن الرومان فيما بعد. انحصرت هذه المملكة بين مملكتي السلوقيين وفارس بداية، من ثم في العصر الروماني بين روما وفارس المتنافستين. أول ملك محلي استوى على عرشها كان الملك الرهاوي المدعو آريو الذي حكم في عام 132 ق.م ولمدة خمس سنين، كان أول ملوك مملكة الرها السريان، ثم خلفه على حكم المملكة الملك عبدو بن زرعو (127_120) ق.م، الذي خلفه أبراداشت (120_115) ق.م، وخلفه بكرو الأول (115_112) ق.م، الذي خلفه أبنه بكرو الثاني. في سنة 94 ق.م شاركه في الحكم معنو وذلك لمدة أربعة أشهر. ثم شاركه في الحكم أبجر بيقا الذي قتل الملك بكرو الثاني في سنة 92 ق.م واستولى على عرش المملكة، واستمر حكم أبجر بيقا حتى سنة 69 ق.م، وخلفه أبنه أبجر الثاني (68_53) ق.م، وخلفه معنو الثاني الذي لقب نفسه بألاها (52_29) ق.م، الذي خلفه أبجر الثالث (29_26) ق.م، وخلفه أبجر الرابع سوماقا (الأحمر) (26_23) ق.م، وخلفه معنو الثالث بسبلول (23_4) ق.م، وخلفه أبجر الخامس أوكاما (الأسود) (4 ق.م_ 50 م)، كان من أهم الموك المؤثرين في تاريخ المدينة، خصوصاً على صعيد الأسبقية الدينية المسيحية عبر مراسلاته الشهيرة مع المسيح و تلاميذه، عبر دعوتهم مراراً إلى المدينة لإضفاء البركة عليها، في السنة العاشرة لملكه حدثت فتنة في أورهاي نفي على أثرها الملك أبجر أوكاما و حكم عوضه أخوه معنو الرابع، لكن حكمه لم يدم طويلاً حيث رجع أبجر أوكاما، ليستلم زمام الأمور حتى وفاته سنة 50 م. خلفه أبنه معنو الخامس (50_57) م، وخلفه معنو السادس (57_71) م، و خلفه أبجر السادس (71_91) م. و من سنة 91 م خرج الحكم من يد الأباجرة، لكنهم عادوا إلى الحكم سنة 109م و استوى على العرش أبجر السابع أبن إيزاط الذي قتله الرومان سنة 116م، فاستلم الحكم الفرثي برتسباط، الذي دام ملكه حتى سنة 123م، حيث عاد الأباجرة إلى الحكم بشخص معنو السابع بن إيزاط (123_139) م، و خلفه معنو الثامن الذي حكم حتى سنة 163م حيث استولى الفرثيون على الرها، فهرب معنو الثامن إلى روما، لكن الرومان طردوا الفرثيين من الرها سنة 164م و ملكوا عليها أبجر الثامن الذي حكم إلى سنة 167 م حيث رجع معنو الثامن وملك حتى سنة 179م. وخلفه أبجر التاسع (179_214) م، خلفه أبنه سيفير أبجر العاشر (214_242) م، و خلفه أبجر الحادي عشر أبراهاط سنة 242م، لم يستمر حكمه سوى سنتين، مع نهاية حكم أبجر الحادي عشر، انتهت مملكة الرها سياسياً، بعد أن رفعت سلالة الأباجرة رايتها فوق المنطقة مدة أربعة قرون. كانت مملكة الرها قد عادت في عهد الإمبراطور فيليب كركلا للسيادة الرومانية، لتتحول المدينة فيما بعد بين القرنين الثالث والسادس الميلادي، لقاعدة انطلاق للرومان في حروبهم مع الفرس الساسانيين، حيث وقعت في تلك الحقبة، العديد من المعارك في المنطقة بين الرومان والفرس، كان أشهرها تلك التي المعركة التي وقعت في عام 260 م كان النصر فيها للرومان، الذين رسخوا سلطتهم وسيطرتهم في المنطقة. في زمن الإمبراطور فاليريان 253..260 ميلادي ، اهتم الرومان بالمدينة واتخذ الإمبراطور فاليريان نفسه، الرها كجبهة متقدمة لهجماته ضد الإمبراطورية الفارسية، نقرأ؛ أن فاليريان وفي سلسلة صراعه مع الفرس، كان قد أسر من قبلهم في معركة وقعت قرب المدينة، حيث استطاع الفرس الانتصار، من ثم دخول المدينة وأسر الإمبراطور الروماني فاليريان، الذي ألقي القبض عليه من قبل الجيش الساساني، الذي كان تحت قيادة الإمبراطور الفارسي شابور الأول. شهد القرن الخامس فترة هدوء بين الإمبراطوريتين، لتعود الاضطرابات والمواجهات للظهور في العصر الروماني المتأخر، ففي بداية القرن السادس وبين عامي 502 و 506 م شهدت المدينة، و منطقة ما بين النهرين العديد من المواجهات بين الإمبراطوريتين، تعرضت مدينة الرها خلالها لعدة حصارات و اقتحامات من قبل الرومان و من قبل الفرس على السواء. لقد كانت الرها في العصر الهلنستي الروماني، مدينة صراع على النفوذ بين الإمبراطوريات الموجودة في المنطقة، عاشت خلالها المدينة فترات من الاضطرابات السياسية، محافظة على بعض من التوازن والاستقلالية في عهد أسرة الأباجرة المحليين، الذين ازدهرت المدينة في عهدهم، لتلعب دوراً كبيراً، على طريق التبادل التجاري العالمي، بين الشرق والغرب، الأمر الذي وفر لها غنى اقتصادي، ثقافي سيظهر بوضوح في العصر البيزنطي.

الرها في العصر البيزنطي المسيحي:

تعود أهمية الرها على صعيد الديانة المسيحية، إلى الطقس الديني السرياني، الذي صاغته وطورته في قصتها الطويلة مع المسيحية، التي اكتملت في العصر البيزنطي. هذا الطقس تشكل منذ اللحظات الأولى لوجود المسيحية، ترسخ مع الزمن، ليصبح جزءاً من تاريخ المدينة السريانية، التي قامت بتصديره إلى العالم المسيحي في الخارج، لتتأثر بها المناطق القريبة كأرمينيا بداية وروسيا في وقت متأخر. وصلت شهرة المدينة في ذلك العصر إلى أقاصي أديرة وكهوف الرهبان في الغرب الأوربي. تربعت المدينة في العهد البيزنطي على قائمة المدن السورية في الأهمية بالنسبة للدين المسيحي، عبر تقليدها العريق في الأدبيات الدينية. يبدأ التقليد المسيحي الرهاوي بنقاش فكرة دخول المسيحية إلى بلاد ما بين النهرين وإلى الرها على الأخص. إن التقليد في كنيسة الرها وما بين النهرين عموماً؛ يؤكد أن الرسل الذين بشروا في هذه المنطقة هم أربعة: توما الرسول؛ حواري المسيح، ثم التلميذ أدي من السبعين الذين اختصهم المسيح للكرازة، من بعد أدي جاء تلاميذه أجاي وماري. ترسخ هذا التقليد في كتب تاريخ مدينة الرها مع بدايات القرن الثالث الميلادي، ليزداد رسوخاً خلال القرون اللاحقة. بعض المؤرخين يرجح أن يكون للمجوس الذين زاروا القدس، لرؤية المسيح، دور في نشر الدين في منطقة ما بين النهرين في القرن الأول الميلادي، بعد عودتهم إلى بلادهم. لا يعرف على وجه الدقة، إن كانوا قد سبقوا الرسول توما و تلاميذه في التبشير في المنطقة، أم أن الرسول توما كان قد سبقهم إلى المنطقة. يقول المؤرخ السرياني ماري بن سليمان في كتابه المجدل، الذي يعود إلى القرن الثاني عشر؛ (أن أدي السليح العبراني من السبعين الذين صحبوا سيدنا المسيح أرسله توما الرسول أحد الإثني عشر إلى المشرق و تبعه ماري تلميذه بعد صعود سيدنا إلى السماء بثلاثين عام)، هنا يؤكد على أن الذين قاموا بالتبشير كانوا؛ توما الرسول و أدي و ماري، مع أنه يضع أدي على رأس الذين بشروا بالمسيحية في المنطقة، لكنه يستدرك الموضوع في كتابه قائلاً؛ (و نتنائيل بن تلمي ولبي الملقب بتدي و توما من الإثني عشرة و أدي و ماري واحد من السبعين تلمذوا المشرق و استقامت أمور النصرانية على أيديهم أحسن استقامة). هنا نرى عبر المؤرخ ماري بن سليمان، تأكيد على أسماء الشخصيات التي بشرت في المدينة. أما المؤرخ السرياني صليبا بن يوحنان الموصلي، فيذكر في عمله، الذي قام به بتوسيع المعلومات في كتاب المجدل نفسه لسابقه المؤرخ ماري بن سليمان، بعد أن أضاف أجزاء جديدة عليه، يذكر المؤرخ في العمل؛ أن ماري هو من أسس كرسي المشرق، لكن تلمذ أيضاً البلاد من بعده رفيقه أدي (أقام في التلماذ بعد ماري أدي رفيقه ثلاثة وثلاثين سنة). عبر دراسة جميع المصادر التي تخص الحدث، ومن قراءة أغلب الكتب التي تتحدث عن كنيسة ما بين النهرين نلاحظ؛ أن أغلب المصادر، تذكر الأسماء نفسها، بداية بالرسول توما وأدي وماري وآجاي، لقد أصبح من الثابت تاريخياً؛ أن الرسول توما، هو من بشر في منطقة ما بين النهرين، في طريقه إلى الهند للتبشير هناك. يقول أوسابيوس القيصري في تاريخه الكنسي؛ إن القديس توما الرسول بشر في بلاد الفرثيين أيضاً، لدى عبوره فيها في طريقه إلى الهند التي توفي فيها. يقول تقليد كنيسة الرها؛ أن رفات و ذخائر القديس توما الرسول، كانت قد نقلت بعد وفاته في الهند إلى الرها، حيث دفنت في كنيسة الرها الكبيرة.

تعليم أدي: أساس أدبيات المدينة المسيحية:

المرويات عن رسل المسيح، التي تخص التبشير في المنطقة، تبلورت في مدينة الرها في وقت مبكر، عبر ما يسمى بتعليم أدي وهو التعليم الأساسي في المدينة، الذي يقدم صيغة لتاريخ انتشار المسيحية في الرها منذ البدايات كرواية متكاملة. إن هذا التعليم في صيغته الحالية محفوظ في مخطوطات كنسية، ترقى إلى القرنين الرابع والخامس الميلادي. يحتوي التعليم في صيغته، قصة المدينة مع رسل المسيح، الذين أتوا للكرازة، يضع التعليم الرواية بطريقة أدبية سردية. موجز التعليم يقول؛ أن ملك الرها Okhamo v Abgarus أبجر الخامس بن معنو الملقب بأوكاما (الأسود)، حينما سمع من أحد أشراف مملكته بالعجائب و المعجزات، التي يجترحها يسوع المسيح في فلسطين، رغب الملك في الذهاب إلى فلسطين، لرؤيته و الإيمان به، عبر حضور معجزاته شخصياً، إلا أن العداوة القائمة بينه و بين الرومان، حالت دون تحقيق ذلك. حدث في تلك الفترة نفسها إصابة الملك أبجر بن معنو بداء عضال (داء الملوك الجذام)، فأوفد إلى يسوع رجالاً لمراسلته، يطلب منه في الرسائل، أن يأتي إليه و يشفيه من مرضه العضال عارضاً عليه أن يشاطره ملكه. حينما وصل الرسل الرهاويون إلى فلسطين، وجدوا المسيح في بيت أحد رؤساء اليهود في مدينة القدس يدعى (كماليد)، قدموا له في بيت كماليد رسالة الملك أبجر بن معنو، فرح يسوع بهذه البادرة من الملك، لكنه تأسف لعدم إمكانية تلبية رغبة الملك في الذهاب إليه، لأن رسالته موجهة إلى فلسطين أولاً، مشيراً أن على رسله أن لا يخرجوا من هذه البلاد قبل صعوده إلى السماء، لكنه أردف قائلاً للموفدين من قبل الملك، أنه سيعهد إلى أحد رسله بعد صعوده إلى السماء، بالذهاب إلى الملك كي يشفيه، ويبارك المدينة. ألقيت هذه المهمة بعد صعود المسيح إلى السماء، على عاتق أدي أحد السبعين من أصحاب المسيح، فذهب بعد العنصرة إلى الرها، وشرع يبشر فيها ويجري العجائب. ما إن سمع الملك بتلك الأعمال المدهشة، حتى تذكر وعد المسيح له. فاستدعى أدي وأكرم مثواه، وشفي الملك أبجر على يد التلميذ أدي من مرضه العضال، قام الملك بعدها باعتناق الديانة الجديدة المسيحية تحت رعاية أدي، الذي منحه العماد مع الكثير من اليهود والوثنيين في المدينة. نصب أدي بعد ذلك كأول أسقف للرها في التقليد، لما أشرف أدي على الموت، عين تلميذه أجاي خلفاً له على كرسي أسقفية الرها. عند وفاة أدي عومل بإكرام بالغ من قبل الملك أبجر وسكان المدينة ودفن في مقبرة ملوك الرها.

يضع كاتب (التعليم) على فم المسيح أو في رسالته إلى الملك أبجر هذا القول: (وستكون مدينته مباركة ولن يقوى عليها عدو)، لم يرد ذكر هذه البركة للمدينة في تاريخ أوسابيوس القيصري، لكن معظم الكتبة السريان يوردونها في كتاباتهم من أمثال؛ القديس أفرام ويعقوب السروجي ونراها عند الكتاب الأرمن واللاتين، جميعهم يذكرون هذه البركة للمدينة، يظهر أنها كانت ناجمة عن الامتيازات التي نالها أبجر من المسيحية. سببت هذه البركة خيبة أمل لدى الكتبة الشرقيين، عند سقوط مدينة الرها ودمارها في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي.

إن معظم المؤرخين والنقاد، يجمعون على القول؛ أن تعليم أدي في مدينة الرها بصيغته الحالية، متأخر عن تاريخ أوسابيوس القيصري. يفترضون بالإجماع وجود وثائق رهاوية، أقدم من تاريخ أوسابيوس الكنسي، كانت قد شكلت أساساً ونواة للتعاليم اللاحقة. أوسابيوس القيصري نفسه، استقى معلوماته من وثائق الرها. فهو يقول في سياق كلامه عن التلميذ أدي في تاريخه الكنسي: (لقد كمل وعد المسيح بواسطته (أدي) لديك شهادات على ذلك، في كتابات استقيت من مذكرات في الرها، التي كانت مملكتها ما تزال قائمة، فإن الأضابير الموجودة هناك، تضمنت ما قام به الأقدمون حتى أبجر. وما جرى هناك محفوظ إلى الآن)، لقد كانت الوثائق الرهاوية المصدر الذي اعتمد عليه أوسابيوس القيصري في كتابة تاريخه الكنسي. استفاد منها كثيراً، لتكوين معطيات تاريخه، عبر الحصول على أغلب المعلومات، التي تخص نشأة المسيحية فيما بين النهرين، قام بنقل أغلب المعلومات في هذه الوثائق على وجه التقريب في تاريخه الكنسي.

صورة وجه المسيح في المدينة، Mandilyon :

تستشهد المصادر التاريخية المسيحية، التي تتحدث عن بدايات تبلور الفن المسيحي، خصوصاً فن الأيقونة، بصورة المسيح، المرتبطة بأبجر ملك الرها، التي لم تكن ذات أهمية شفوية فقط، بل أيضاً لعبت درواً كبيراً في تأسيس الفن المسيحي، سواء في الأيقونات أو الرسوم الأخرى كالفريسك، مما أعطى دفعاً كبيراً للفن المسيحي في التجسيد والتصوير. الفن الذي كان ممنوعاً في العهد القديم. نعلم أن إله العهد القديم كان قد منع موسى من وصف وتصوير شكل الإله الذي ظهر له في السماء وفي طور سيناء. بينما في المسيحية على خلاف الأديان التوحيدية، نرى انطلاقة كبيرة للتجسيد والتشخيص، لأشكال المسيح والقديسين. تقول المصادر أنه كان بتشجيع من المسيح نفسه، عبر قصة منديل الرها المقدس. تروي الحادثة التاريخية المسماة بالمانديليون في اللغة اليونانية لذلك العصر Mandilyon قصة منديل المسيح القماش الذي طبع عليه وجهه. تبدأ القصة في المراسلات بين ملك الرها أبجر بن معنو و المسيح بن مريم. أخذت القصة شهرة عالمية عن طريق صورة وجه المسيح المفترضة والموجودة في الرها، التي صدرت فيما بعد، كنموذج شهير و معروف في كل أنحاء العالم اليوم، كرسم يجسد شكل أو وجه المسيح. تقول القصة؛ أنه خلال المراسلات و الكتابات بين المسيح و ملك الرها أبجر، طلب الملك من المسيح القدوم إلى المدينة، لشفائه من مرض الملوك الجذام، لكن المسيح، لم يستطع القدوم إلى المدينة، لكنه قام بوضع قطعة قماش على وجهه مبلولة بالماء، عندما جفت نزعها عن وجهه، فأخذت شكل الوجه، من ثم أرسل المنديل الذي يحمل صورة الوجه مع تلميذ المسيح أدي إلى الرها، فقام الملك أبجر بوضعه على وجهه، ليبرأ من الجذام فيما بعد، ببركة المسيح. أصبحت القصة تقليدًا مروياً في أدبيات كنيسة الرها. في قصة أخرى منقولة عن تراث المدينة الشفوي تروي؛ أن الرسل الذين أرسلهم أبجر ملك الرها أبجر لرسم وجه المسيح واحضار الصورة له، أخفقوا في رسم الوجه ولم يفلحوا في عملهم، فقام المسيح نفسه، فأخذ منهم منديلاً وطبقه على وجهه، فانطبعت صورته عليه مثلما كانت، فأتوا بالمنديل للملك أبجر، الذي وضعه في مدينة الرها ككنز مقدس. في رواية أخرى منقولة عن كتاب سير الشهداء والقديسين الكنسي، في القسم الذي يخص شهداء الشرق، يروي الكتاب قصة أخرى تشير إلى أن الصورة المقدسة لوجه المسيح، التي كانت موجودة في الرها، تخص القديسة فيرونيكا في فلسطين، التي مسحت وجه يسوع المتألم على طريق الجلجلة، حصلت على صورة مطابقه لوجه المسيح على منديلها، عرفت الصورة فيما بعد طريقها إلى تلميذ المسيح أدي، الذي بدوره نقلها إلى الرها، فوصلت إلى الملك أبجر، الذي وضعها ضمن كنوز قصره، فيما بعد وضعت الصورة في كنيسة الرها حتى القرن التاسع الميلادي، تشير التقاليد إلى أنها نقلت بعد القرن التاسع الميلادي إلى القسطنطينية، ثم انتقلت إلى إيطاليا بعد أن أهداها إمبراطور بيزنطة إلى دوق جنوا. اليوم في إيطاليا، يوجد ثلاثة نماذج عن قصة اللوحة؛ إحداها في مدينة جنوا معروفة باسم Il mandylion di Genova الأخرى؛ في كنيسة القديس سيلفتسر في الفاتيكان في روما Il mandylion di Roma و الثالثة؛ هي المعروفة بكفن مدينة تورينو La Sindone di Torino الذي يثير جدلاً واسعاً في أوساط الدارسين، لكونه الكفن الحقيقي للمسيح أو أنه حقاً يعود للقرن الأول الميلادي. أما نسخة مدينة جنوا التي يتحدث عنها التقليد الرهاوي، فلقد أرسلت من قبل إمبراطور بيزنطة يوحنا الخامس باليولوجوس إلى دوق جنوا دوجي ليوناردو مونتالدو. بالنسبة لنسخة مدينة جنوا، قامت الباحثة كوليت بوزو بدراسة وتحليل تاريخ النسخة، أثبتت الدراسة، أن النسخة تعود إلى القرن الرابع عشر فقط، هو ما يدل على أنها لم تكن الأصل، بل كانت نسخة عن تلك الموجودة في القسطنطينية، أهداها الإمبراطور البيزنطي لدوق جنوا. أخذت قصة المنديل بعدها، بعداً عالمياً في موضوعات الفن المسيحي وفي التأويل الديني والإسقاطات التاريخية. كثيرون يفسرون الحادثة، بتأويلات دينية مسيحية، تشير إلى العقيدة المسيحية نفسها، يؤكدون على أن القصة تشير إلى الخلاص والخطيئة في الديانة، فيرمز مرض الملك أبجر إلى الخطيئة الأصلية التي يحملها بني البشر، بينما يرمز منديل المسيح المرسل إلى أبجر ملك الرها والشفاء؛ إلى فكر الفداء والخلاص من الخطيئة الأصلية، التي جاء المسيح بدينه الجديد على أساسها.


أسقفية الرها في العصر البيزنطي:

كانت أسقفية الرها جزء من الكنيسة المشرقية السريانية. كانت كنيسة المدينة تتبع تنظيمياً لإكليروس يقع ضمن أراضي الإمبراطورية الفارسية، سواء في كرسي المدائن أم في كرسي ساليق الكنسي (سلوقية جنوب بغداد)؛ الكرسي السيادي على كافة الكراسي السريانية في منطقة ما بين النهرين. كان موقع الرها الجغرافي في أعالي الجزيرة السورية الفراتية، يفرض تبعيتها السياسية أغلب الأحيان إلى الإمبراطورية البيزنطية، بينما كانت تبعيتها الروحية للكراسي الدينية في الإمبراطورية الفارسية. سبب لها هذا الوضع، الكثير من المشاكل والنزاعات، كانت الكنيسة دوماً تتأثر بالسياسة وبالعلاقة السياسية بين الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية. ففي سيطرة الفرس على المدينة، نلاحظ دوماً وجود أسقف مونوفيزي من أصحاب الطبيعة الواحدة على كرسي المدينة، بينما نرى في أوقات السيطرة البيزنطية وجود أسقف خلقيدوني من أصحاب الطبيعتين. تأثرت الكنيسة كثيراً بهذا الوضع ودفعت الكنيسة السريانية أثمان كبيرة، بسبب السياسية الدولية لذلك الزمن. لقد تعرضت الكنيسة فيما بين النهرين، من ضمنها كنيسة الرها، لكثير من الاضطهادات الدينية في العصور الكلاسيكية والبيزنطية، من قبل الأباطرة الفرس والبيزنطيين على السواء. فالجالية المسيحية الكبيرة في أراضي الإمبراطورية، كان ينظر لها في البداية، باحتقار من قبل الأباطرة الفرس، الذين كانوا يرون المسيحيين كخونة وعملاء لروما وبيزنطة، كذلك كانت هذه الجماعة المسيحية السريانية الكبيرة، تعرف طبيعة الحرية المسيحية خارج الأراضي الفارسية، كان لديها حنين دائم لمدن؛ أنطاكية، القسطنطينية، روما وحسد للمواطنين المسيحيين، الذين يعيشون في كنفها. لم يكن باستطاعتهم إخفاء فرحهم، عندما كانت جحافل البيزنطيين وراياتهم المسيحية المقدسة، تقتحم بلاد ما بين النهرين وترتفع فيها. على المقلب الآخر، كان الفرس ينظرون لهم بعين الريبة، كما كانوا في صراع ديني معهم أيضاً، لأنهم رأوا فيهم خطراً على معتقداتهم، ودياناتهم الفارسية القديمة. نرى في كل مرة كان البيزنطيون ينتصرون فيها على الفرس في منطقة ما بين النهرين، كان مستوى التسامح مع المسيحيين في الإمبراطورية الفارسية ينخفض ويتجهون إلى اضطهاد المسيحيين المتواجدين على أراضيهم، عبر تحميلهم أسباب الخسارة. أيضاً في أيام السيطرة البيزنطية، كانت الكنيسة السريانية المشرقية تدفع الثمن، من خلال الصراع اللاهوتي بين المسيحيين أنفسهم عبر الانشقاقات التي حصلت في جسم الكنيسة، فكثيراً ما تعرضت الكنيسة السريانية للاضطهاد من قبل الأباطرة البيزنطيين أنفسهم لهذا السبب، نراه بوضوح بعد الانشقاق في الكنيسة البيزنطية بعد مجمع خلقيدونية. ورفض الكنيسة الشرقية له. أكبر الاضطهادات التي نقرأ عنها في تاريخ الكنيسة الشرقية، اضطهاد شهير يعرف بالاضطهاد الأربعيني في التاريخ الكنسي، وقع في عهد الإمبراطور الفارسي شابور الثاني، الذي فرض ضرائب باهظة على المسيحيين، لسند مجهوده الحربي ضد الرومان، عندما لم يستطع المسيحيون دفع المستحقات، تعرضوا لحملة من الاعتقال والتنكيل. حدث ذلك في ربيع عام 341 م كان مار شمعون برصباعي ورفاقه المئة واثنين من دفعة الشهداء الأولى في هذا الاضطهاد الشهير. مار شمعون برصباعي؛ كان الرئيس الروحي على المسيحيين فيما بين النهرين، تم جلبه بعد حادثة الضرائب، التي كانت حجة للاضطهاد، فسيق مع رفاقه إلى المدائن إلى منطقة كرخ ليدان في منطقة الأهواز. كان قد اتهم باحتقار الشمس والنار المقدسة الفارسية وبرفضه السجود لملك الملوك الفارسي شابور الثاني، استطاع مار شمعون بحكمته، تفنيد كل الاتهامات الملفقة له. كان الملك يعرف مكانته بين النصارى، لذلك لم يكن يرد قتله في البداية، فعاد و اتهمه بتحريض المسيحيين لرفض دفع الضرائب، فأجاب بأنه قائد روحي للمسيحيين، ليس جلاد أو جابي ضرائب روماني، موضحاً؛ أنه لا يستطيع تحميل الناس أكثر من طاقتهم في دفع الضرائب، مما ألب عليه المجوس في القصر، الذين قاموا بالتحريض عليه أمام الإمبراطور، عندما طلبوا منه أن يسجد لرمز الشمس بداية فرفض، من ثم طلبوا منه السجود للنار الفارسية المقدسة، لكنه رفض بشدة، عندها استشاط الملك الفارسي غضباً، فأمر بقتله مع رفاقه، فساقوه مع الكاهنين حنانيا و عبد هيكلا و الآخرين، فتم قطع رؤوسهم جميعاً. بعد استشهاد مار شمعون ورفاقه المئة واثنين، بدأت حملة اضطهاد عنيفة للمسحيين في الأراضي الفارسية، استمرت عشرة أيام ذهب ضحيتها الكثيرون، حتى من الأبرياء الذين قتلوا بالخطأ، عندها طلب شابور الثاني، أن يأخذ الاضطهاد والاتهام صيغة قضائية، استمر القتل والتنكيل في أرجاء الامبراطورية بطريقة مهولة، لا زال صداها يتردد بأسى في الكنيسة السريانية. في خريف 341 م ألقي القبض في كرسي ساليق رأس الكنيسة السريانية الشرقية على مار ساهدوشت؛ الذي خلف مار شمعون على كرسي المدائن، مع 128 شخص من الكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات، استشهد هؤلاء في شباط عام 342 م، أما مار شاهدوست، فلقد سيق إلى بيت لاهاث حيث قطع رأسه خلال الصيف بعد محاكمة صورية. في نهاية عام 344 م. نقرأ أنه خلال إقامة الملك شابور في ساليق، ألقي القبض على 120 شخصاً من الإكليروس وقتلوا في 6 نيسان عام 345 م بعد أن أمضوا فترة ستة أشهر في السجن تحت التعذيب. في شباط من العام نفسه ألقي القبض على بربعشمين؛ هو ابن أخت مار شمعون، كان قد خلف مار شاهدوست على كرسي المدائن، زج به في السجن مع 16 شخصاً من الإكليروس، ظلوا رهن الاعتقال مدة عام، ثم اقتيدوا إلى كرخ ليدان في الأهواز، حيث جرى قتلهم هناك في عام 346 م. بعد بربعشمين، ظلت الكنيسة السريانية الشرقية بدون راع مدة أربعين سنة تقريباً، إلى ما بعد وفاة الملك شابور الثاني. على الرغم من كل ما حصل، لم ينجح الاضطهاد الكبير، في إخماد نفس الكنيسة السريانية نهائياً، فبالرغم من طول مدة الاضطهاد، التي يذكر بعض المؤرخين أنها استمرت إلى عام 379 م، إلا أن التقاليد السريانية المسيحية عادت للظهور بعد انتهاء موجة العنف، عاملة على إعادة إحياء الكنيسة وتأمين استمرارها، بكل ما تحمله من إرث وتقاليد سامية. بعد الفترة العصيبة التي مرت في تاريخ كنيسة ما بين النهرين، عادت الأمور للتحسن والانفراج من جديد في عام 394 م. لكن المشكلة، تبقى في ذكر رؤوس الكنيسة في تلك الفترة المأساوية بعد مقتل (بربعشمين)، فالمصادر تذكر اسمين تعاقبا على سيادة الكرسي في المدائن، هما على الترتيب؛ تومرصوما المسمى (تموزا)، و قيوما، اللذان ذكرا في كتابات المؤرخين السريان؛ صليبا و ماري بن سليمان و ابن العبري، لكن الروايات التي ذكرت الاسمين تتضارب، خصوصاً حول التاريخ الذي وصل فيه تومرصوما لرئاسة الكنيسة، لكن أغلب المرويات، ترجح أن التنصيب حصل في عام 384 م واستمر إلى 392 م و أن الكرسي خلا بعده مدة سنة و نصف، أو سنتين كما يقول المؤرخ صلبيا، فيكون و الحالة هذه اختيار قيوما كرأس للكنيسة، قد تم حوالي عام 395 م و قام بهذه المهمة لمدة أربع أو خمس سنوات، عندما تنازل عنها لمار إسحق الذي ارتقى إلى الكرسي في عام 399 م في عهد الإمبراطور يزدجرد الأول. دامت رئاسة إسحق على الكنيسة الشرقية السريانية مدة 11 عاماً، كانت زاخرة بأهم الأعمال، أكثرها قيمة وأهمها على الإطلاق كان؛ إعادة تنظيم الكنيسة السريانية عبر عدة خطوات أولها؛ عقد مجمع ساليق الشهير عام 410 م المجمع الأهم في تاريخ الكنسية السريانية الشرقية، الذي كان لمار إسحق وماروثا الميافرقيني دوراً كبيراً، في عقده وإقناع الإمبراطور الفارسي يزدجرد الأول بأهميته. كانت قرارات هذا المجمع، بمثابة أو بأهمية القرارات التي أصدرها الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول في الغرب إبان مرسوم ميلانو الشهير وحملة التسامح والحرية الدينية الكبيرة بعده. أمر الإمبراطور الفارسي يزدجرد الأول الذي ترأس المجمع وتلقى الاطراء في بدايته من قبل رجال دين الكنيسة؛ بإقرار الحرية الدينية المسيحية داخل أراضي الامبراطورية الفارسية، منع اضطهاد المسيحيين الذين كانوا تحت حكمها، اعطاء الأمر بإعادة بناء الكنائس المتهدمة من الاضطهاد السابق. كل ذلك كان على صعيد الإمبراطورية والعلاقة مع الكنيسة، التي أعطي لأفرادها الحرية الكاملة في فارس، لتنظيم شؤونهم، لينبثق عن المجمع فيما بعد ترتيب الكراسي الدينية في الكنيسة السريانية ورسامة رهبانها وقادتها الروحيين.
رتبت الكراسي السريانية فيما بين النهرين على النحو التالي:

كانت كرسي ساليق (سلوقية جنوب بغداد) تشكل رأس الهرم في الكنيسة السريانية في بلاد ما بين النهرين، حيث كانت كرسي الرئيس الأعلى جاثليق المشرق. كانت كرسي ساليق مع كرسي المدائن في العاصمة أهم كراسي الكنيسة السريانية التي أسسها مار ماري، الذي بشر في بلاد الفرثيين، تحت سيادة هذه الكراسي؛ كان هناك خمسة كراسي رئيسية هي على الترتيب التالي؛

1. كرسي بيت لافاط في الأرضي الفارسية.
2. كرسي نصيبين شمال شرق سوريا.
3. كرسي فرات ميشان وهي منطقة البصرة حالياً.
4. كرسي حدياب وهي مدينة أربيل الحالية.
5. كرسي كرخ سلوخ وهي كركوك الحالية.

فيما يخص ألقاب رؤساء الكنيسة الشرقية: إن لقب بطريرك: هو لفظة يونانية تعني (الأب العام)، لم يظهر إلا بعد المجمع الخلقيدوني سنة 451 م، كان قد أطلق في البداية على رؤساء الكراسي الرئيسية: روما، القسطنطينية، أنطاكية، القدس، الإسكندرية. كانت قد تبنته أيضاً كنيسة السريان المشرقية في فترة ما بين القرن الرابع والقرن السادس الميلادي. لذا لا يجوز اطلاقه قبل هذا التاريخ على آباء الكنيسة. كان رأس الكنيسة السريانية في نهاية القرن الثالث يسمى Katholikos جاثليق: وهو اسم تبناه رئيس كرسي المدائن في فارس؛ كان يطلق الاسم يطلق على جابي الضرائب في الإمبراطورية الرومانية، كان يعني (العام) أو (الشامل). في القرن الرابع الميلادي أصبح رئيس الكنيسة السريانية، يسمى مافريان Maphrian المشتقة من الأصل السرياني أفري Aphrī و الذي يعني أعطى، فكانت اللفظة تشير إلى صاحب العطاء أو الغبطة. في مراحل متأخرة، أطلق على رؤساء كنيسة المشرق لقبهم الأول مع اللقب الجديد أي؛ الجاثليق البطريك: (قاثوليقا بطريركس) التي تستخدم اليوم في الصلوات الطقسية.

كانت كنيسة الرها في القرن الرابع الميلادي، كرسي لأسقفية، تابعة كهنوتياً إلى جاثليق ساليق رأس الكنيسة السريانية، التي تقع على نهر دجلة جنوب بغداد، داخل أراضي الإمبراطورية الفارسية في ذلك الوقت. بينما كانت مدينة الرها في أغلب الأحيان، منطقة نزاع تحت السيطرة السياسية البيزنطية. هذا الوضع زاد في تعقيد الوضع في أسقفيتها. على الرغم من تواتر أسماء لأساقفة مدينة الرها قبل القرن الرابع الميلادي، لكننا لا نستطيع تأكيد ترتيبها تاريخياً. على الرغم من ذكر التقليد أسماء العديد منهم في القرن الثاني: كالأسماء الأولى؛ آحي، آجاي، فالوط، عبشلاما، برسميا. لا نستطيع وضع ترتيب أكيد لهذه الأسماء الأخيرة الثلاثة، هناك شح في المعلومات التاريخية الدقيقة، أو المؤكدة عن أساقفة مدينة الرها في القرن الثاني والثالث الميلادي. حتى في مرويات الأحداث المدنية في الرها، خلال القرن الثاني والثالث الميلادي، نلاحظ فتوراً في العلاقة مع المسيحية وقلة حماس للدين، خصوصاً في قصة فيضان نهر ديصان التي وقعت في بداية القرن الثالث الميلادي، تؤكد القصة أن الملك وناس المدينة، كانوا أقرب إلى الوثنية منه إلى المسيحية، مدعية أن الفيضان، حصل بسبب غضب الرب على أهالي المدينة لقلة إيمانهم. هو أمر طبيعي في سياق التاريخ، عندما يفقد أي شعب الحماس حول موضوع معين، بعد ابتعاد القصة عن بدايتها وزخمها الأول والانصراف إلى طبيعة الحياة الجديدة. في بداية القرن الرابع الميلادي مع شرعنة الديانة المسيحية، عبر الدفع الذي أعطته الإمبراطورية البيزنطية، تعود المسيحية إلى زخمها الأول وحماسة مؤمنيها. تبدأ سلسة أساقفة الرها الموثقة بالظهور في ذلك الزمن بترتيب واضح، بداية مع الأسقف مار أفرام السرياني(Ephraem Syrus (373..363 ، كان أفرام أسقفاً سورياً ولد في عام 306 ميلادي قرب نصيبين في سوريا. تلقى العماد المسيحي في عمر الثامنة عشر، لينخرط بعدها في السلك الكنسي في المدينة، في عام 338 م أصبح شماساً، قام بنشاطات كبيرة في التبشر والرهبنة في منطقة الجزيرة العليا. في عام 361 م وصل مار أفرام السرياني إلى الرها التي عين فيها أسقفاً. كتابات مار أفرام السرياني، تحمل أهمية وخصوصية كبيرة في تاريخ الكنيسة الشرقية السريانية، تعتبر مصدراً مهما في الكتابة عن المعلومات الكنسية والأمور الطقسية، عبر عدة مجالات؛ تخص النصوص الدينية والأدبية الشعرية. أيضاً له شهرته الكبيرة في ترسيخ وصياغة تقاليد الرهبنة،والحياة الديرية في سوريا في العصر البيزنطي. في فترة وجوده على رئاسة أسقفية الرها، تعرضت الكنيسة فيما بين النهرين، لغزو الفلسفة والأفكار المانوية الدينية للكنيسة، استطاع مار أفرام السرياني، بما يملكه من ثقافة وتمرس عميق في اللاهوت المسيحي، من مواجهة المانوية في الرها وتفنيد حججها. مما جعله يرتفع في نظر رعايا كنيسته، سكان المدينة الرها، الذين ارتبطت ذاكرتهم الجمعية الروحية بمحبة مار أفرام السرياني حتى اليوم. كان يطلق عليه في الرها لقب عمود الكنيسة السريانية السورية أو شمس السوريين. بعد وفاة مار أفرام السرياني في عام 373 ميلادي، نقرأ أن كرسي الكنيسة في الرها وقع بيد الأريانيين؛ أتباع آريوس في الديانة المسيحية، قام الأريانيون في الرها، بإثارة الكثير من المشاكل في المدينة مع الطوائف المسحية الأخرى، أدت إلى الاضطراب والفوضى في المدينة، مما أجبر الإمبراطور الروماني جوليان إلى ارسال الجيش إلى المدينة لإعادة الأمن واستخلاص الكرسي الكنسي الرهاوي من أيدي الأريانيين.في عهد فالنتينيان364 ) Valentinianus م) الذي كان امبراطوراً مسيحياً أريانياً، وقع اضطهاد من قبل الإمبراطور ضد سكان المدينة، خير فيه الإمبراطور سكان الرها بين اعتناق الأريانية أو الموت، لتحصل حملة كبيرة من التنكيل ضد مسيحيي المدينة في عهده. بعد وفاة الإمبراطور فالنتينيان، قام مسيحيو المدينة بعزل الأسقف الأرياني براسي Brasi وارساله إلى المنفى. عملوا بعدها على رسامة وتعيين الأسقف الجديد ربولا على كرسي الرها (411..436 م). ولد الأسقف ربولا Rabula لأسرة سورية في مدينة قنسرين قرب حلب، لأب وثني وأم مسيحية. ترك الأسقف ربولا الأسرة في وقت مبكر وذهب لممارسة حياة الرهبنة ذات التقاليد القاسية في شمال سوريا. بعد ذلك انتقل إلى مدينة الرها، حيث تدرج في السلك اللاهوتي هناك، حتى وصل إلى رئاسة الأسقفية في عام 411 ميلادي. كان ربولا مونوفيزياً من أنصار الطبيعة الواحدة في المسيح، عندما وقع الصراع اللاهوتي بين نسطوريوس وبطريرك الإسكندرية، وقف ربولا إلى جانب كيرلس ودعم تعاليم المدرسة الإسكندرية ضد تعاليم نسطوريوس. توفي ربولا في عام 436 ميلادي وخلفه على كرسي الرها الأسقف هيبا Hiba (436..457 م) كان الأسقف هيبا صديقاً لنسطوريوس، لذلك حاز على ثقة ودعم النساطرة في المدينة. في ذلك الوقت حصل صدام بين النساطرة وأصحاب الطبيعة الواحدة في المدينة، قام المونوفيزيون في الرها بالتشكي على الأسقف هيبا لدى بطريرك أنطاكية. الذي اتخذ قراراً في مجمع أفسوس الثاني، بعزل الأسقف هيبا عن كرسي الرها. توفي أسقف الرها هيبا في عام 457 ميلادي.

بعد وفاة هيبا، عاشت أسقفية الرها فترة طويلة من الاضطرابات والمشاكل، بسبب الصراع بين النساطرة وأصحاب الطبيعة الواحدة. بعد فترة الصراع هذه، نقرأ أنه في عام 469 ميلادي، تم تعيين أسقف للمدينة باسم نونا Nuna ( 469..471 م)، استمر الأسقف نونا على رأس الكنيسة لمدة عامين، لكونه أسقفاً خلقيدونياً، حصلت في فترة نيافته، الكثير من المضايقات للمسيحيين النساطرة في المدينة. بعد الأسقف نونا رسم على رأس الكنيسة في الرها الأسقف قورا Qura (471..489 م) كان الأسقف قورا خلقدونياً تابعاً لكنيسة العاصمة القسطنطينية، خلال وجوده على رئاسة كرسي الرها، استطاع الأسقف قورا اقناع الإمبراطور زينون Zenon بإغلاق مدرسة الرها اللاهوتية، التي كانت مركزاً سريانياً مهماً تأسس على يد مار أفرام السرياني، و لعب دوراً كبيراً في تطور اللاهوت المسيحي في المدينة. بحصول الأسقف قورا على موافقة الامبراطور زينون، لإغلاق مدرسة الرها، انتهت قصة آخر مركز لاهوتي نسطوري داخل أراضي الإمبراطورية البيزنطية. بعد إغلاق مدرسة الرها النسطورية وبعد وفاة الأسقف قورا في عام 498 ميلادي، عاشت كنيسة المدينة عامين من الصراع بين المونوفيزيين أصحاب الطبيعة الواحدة وبين الخلقيدونيين الذي يدعمون قرارات مجمع خلقيدونية التي رفضها أصحاب الطبيعة الواحدة في سوريا.
في عام 501 ميلادي اختير الأسقف بولس على رأس كرسي الرها، كان الأسقف بولس مونوفيزياً من أصحاب الطبيعة الواحدة. في عهده عاشت الأسقفية في الرها، فترة من الهدوء والسلام، خصوصاً أن امبراطور بيزنطة في تلك الفترة أنستاسيوس Anstasius كان مسيحياً مونوفيزياً، يدعم أصحاب الطبيعة الواحدة في سوريا، مما انعكس على المونوفيزيين، الذين عاشوا فترة مزدهرة من الحرية في عهده.

توفي الإمبراطور أنستاسيوس في عام 519 ميلادي، خلفه على عرش القسطنطينية، الإمبراطور جوستين Justin كان جوستين مسيحياً خلقيدونياً، أراد أن تكون مسيحية الإمبراطورية البيزنطية، مجتمعة على تعاليم مجمع خلقيدونية. وقع في عهده اضطهاد كبير ضد أنصار الطبيعة الواحدة، المونوفيزيين في سوريا الرافضين لقرارات المجمع المذكور. كانت فترة حكمه الأسوأ على المسيحيين الشرقيين. قام بقتل الكثير من الرهبان ورجال الدين في سوريا. أصدر أيضاً أمراً بمنع ممارسة أنصار الطبيعة الواحدة لمذهبهم، ليتحول المذهب المونوفيزي في عهده إلى مذهب سري، تمارس طقوسها في الخفاء. ضاق الخناق في عهده كثيراً، على أتباع الكنيسة السريانية السورية. في تلك الفترة لعب يوحنا أسقف تلا في شمال سوريا، دوراً كبيراً في المحافظة على التقاليد السريانية الشرقية في سوريا، حيث قام بالاهتمام بتنصيب الرهبان والأساقفة ورجال الدين بسرية تامة في سوريا، إلى أن تم القاء القبض عليه في منبج وقتله من قبل الجنود البيزنطيين. في عام 527 م توفي الإمبراطور جوستين وخلفه ابن أخته الإمبراطور جوستنيان الكبير Justinaius I الذي رغب بتوحيد الكنيسة المسيحية ضمن أراضي الإمبراطورية؛ الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية. كان الإمبراطور يعرف أن وحدة الكنيسة، مهمة جداً على طريق وحدة الإمبراطورية، التي كان يسعى إليها جاهداً. فاتسم عهده بتسامح كبير، خصوصاً مع المونوفيزيين؛ أصحاب الطبيعة الواحدة في سوريا. يقال أيضاً أن زوجته الإمبراطورة تيودورا لعبت دورًا كبيراً في دعم المونوفيزية، خصوصاَ؛ أن المصادر السريانية لأصحاب الطبيعة الواحدة، تعيد أصلها إلى عائلة سورية وتؤكد أنها كانت ابنة راهب سوري مونوفيزي، كان على رأس كنيسة الرقة السورية (Kalinikos)، بينما تؤكد المصادر البيزنطية، أنها كانت ابنة مربي الدببة في سيرك العاصمة البيزنطية القسطنطينية. مهما يكن من أصل الإمبراطورة، فلقد لعبت دوراً كبيراً في مهمة دعم أصحاب الطبيعة الواحدة. قام الإمبراطور جوستنيان في عام 543 ميلادي، بدعوة ملك العرب الحارث بن جبلة الغساني Arthas إلى القسطنطينية لتنظيم شؤون المقاطعة العربية. في تلك الزيارة طلب الملك من الإمبراطور جوستنيان والإمبراطورة تيودورا، مساعدته في دعم الكنيسة السورية، وترسيم أساقفة لها من قبل تيودوسيوس بطريرك القسطنطينية، فلبى الإمبراطور طلبه بدعم من الإمبراطورة تيودورا، قام تيودوسيوس بطريرك القسطنطينية بتعيين المطران تيودور على ولاية العربية في كرسي بصرى. من ثم قام بتعيين يعقوب البرادعي على أسقفية الرها، وخوله سلطة واسعة على منطقة الشرق. كان يعقوب البرادعي ابن كاهن من تلموزلت في شمال سوريا، ولد عام 490 ميلادي، ترهب في دير قرب نصيبين، جاء إلى القسطنطينية في عام 528 ميلادي. حصل فيما بعد على رعاية الإمبراطورة. عندما تم ترسيمه أسقفاً على الرها في عام 543 ميلادي واعطائه سلطة على منطقة الشرق، أخد يطوف في المناطق الشرقية ويرسم أساقفة وكهنة وشمامسة عديدين، حتى قيل إنه رسم 127 أسقفاً وبطريركين ونحو مائة ألف إكليركي على مختلف درجاتهم، بفضل نشاطه استطاعت الكنيسة المونوفيزية في سوريا، أن تنظم شؤونها وتستعيد نشاطها، وتحافظ على استمراراتها في البلدان التي عمل بها. بعد أفعال يعقوب البرادعي الجليلة في خدمة الكنيسة المونوفيزية، أطلق اسمه على الكنيسة، لفترة من الزمن، حيث انتسب أبناء المذهب له فترة طويلة فعرفوا (باليعاقبة) هذه التسمية باتت غير مرغوبة في هذا العصر، حل محلها اسم (السريان الأرثوذكس). توفي يعقوب البرادعي في الرها في عام 578 ميلادي.

توفي الإمبراطور جوستنيان في عام 565 ميلادي، خلفه على عرش القسطنطينية، الإمبراطور جوستين الثاني، عمل الإمبراطور جاهداً على توحيد الكنيسة داخل الإمبراطورية، لكنه لم يفلح في تحقيق ارادته. أصبح بعد إخفاقه من المتعصبين دينياً، بدأ حملة من الاضطهادات للمخالفين لمذهب خلقيدونية البيزنطي، مما أوقع الكثير من القتل والتنكيل بأنصار الطبيعة الواحدة في سوريا. لم تكن الأمور تسير بشكل جيد في الرها، فلقد تأرجح أساقفتها في تلك الفترة، تارة بين تعاليم الخلقيدونيين، وتارة على تعاليم الطبيعة الواحدة، لم يستقر أسقف واحد لفترة طويلة على رأس المدينة، التي بقيت في تلك الفترة ساحة للنزاع والصراع والاضطهاد.

في عام 609 ميلادي، دخل الإمبراطور الفارسي خسرو الثاني بجيشه مدينة الرها، فقام بعزل الأسقف بولس الذي كان في تلك الفترة على رأس الأسقفية، من بعدها قام بتعيين أسقف نسطوري على كرسي الرها. هرب رجال الدين الخلقيدونيين في تلك الفترة من المدينة باتجاه العاصمة. أرسلت الكثير من الشخصيات الدينية المونوفيزية في المدينة إلى المنفى في فارس، كان من بينهم الأسقف المونوفيزي للمدينة يونان الذي كان معاصراً للإمبراطورين موريشيوس وفوكاس. توفي أسقف الرها يونان عام 628 ميلادي، حيث تم تعيين خلف له الأسقف إيشعيا الذي كان منفياً في فارس من قبل. في نفس العام دخل الإمبراطور البيزنطي هرقل إلى مدينة الرها واستردها من أيدي الفرس. تفاجأ الإمبراطور بكثرة أعداد المونوفيزيين في المدينة في تلك الزيارة. حدث أن طلب الإمبراطور دخول الكنيسة الكبيرة لحضور القداس، أثناء القداس تروي المصادر؛ أن الأسقف إيشعيا رفض مناولة الإمبراطور الأفخاريستيا متذرعاً، بأن الإمبراطور على غير مذهبه، لذلك لا يستطيع مناولته. أحدثت القصة، اضطرابات في المدينة، قام هرقل على أثرها بعزل الأسقف إيشعيا عن رأس الكنيسة، وتنصيب أسقف خلقيدوني ملكي، لتبقى المدينة في يد الملكيين حتى دخول المسلمين الرها، الذين تركوا الأوضاع على ما كانت عليه، ليخسر أصحاب الطبيعة الواحدة، السيادة على أسقفية الرها فيما بعد، بسب أزمة الأسقف إيشعيا والإمبراطور هرقل في العصر البيزنطي. بدخول العرب إلى الرها، انتهت العصور الكلاسيكية التي كانت غاية في الأهمية في تاريخ المدينة وتاريخ سوريا بشكل عام. هذا الدخول العربي، أدى إلى خروج الإمبراطور هرقل وجيشه من سوريا، لينتهي العصر البيزنطي الذي كان المحطة الأكبر في ازدهار المسيحية السورية.


مدرسة الرها اللاهوتية (363..489 م):

كان لنشوء مدرسة الرها المسيحية اللاهوتية أسباب عديدة؛ أولها علاقتها المبكرة مع المسيحية. ثانيها الأنشطة التبشيرية والحماس للمسيحية مند اللحظات الأولى في المدينة، أتاح شهرة عالمية وصلت إلى كافة أماكن العالم المعروف، حتى أقاصي أديرة وكهوف الرهبان في الغرب. فوق ذلك نرى جميع المؤرخين يؤكدون على أنها مهد الدب السرياني. كان لهذا الإرث، دور كبير في نشوء أدبيات النقاش الفكري واللاهوتي. تحول المدينة أيضاً في وقت لاحق إلى مركز للحج المسيحي، أدى إلى استقبالها لأفكار وثقافات عديدة، مختلفة بين الشرق والغرب، أصبحت عبرها الرها بوتقة لصهر هذه الأفكار وإعادة صياغتها. هنا كانت الرها عقدة وصل ليس تجارياً فقط، بل ثقافياً أيضاً. على الصعيد الديني: كانت عقدة وصل رباعية الاتجاهات؛ بين الكنيسة الشرقية في فارس والكنيسة الغربية في القسطنطينية. عقدة وصل سورية؛ بين مدرسة نصيبين اللاهوتية في الشرق ومدرسة أنطاكية اللاهوتية في الغرب السوري. دور آخر مهم لعبته المدينة لا يتم التركيز عليه؛ هو دورها كمركز سرياني أصيل لعب دور بوابة ثقافية في أقصى الشمال السوري، قام بنقل ثقافات المراكز السورية السريانية في الجنوب إلى الخارج خصوصاً أرمينيا وروسيا، لا نستطيع عدم رؤية الدور الذي لعبته الكنيسة الشرقية عبر الرها المركز السرياني الأقرب في إيصال التقاليد الأرثوذكسية الشرقية إلى تلك البلدان، لتتحول تلك التقاليد من إطارها السوري المحلي إلى صيغة عالمية اليوم خارج الوسط السرياني. هنا مكن موقع الرها الجغرافي المدينة من لعب دور استقبال وارسال وصياغة التقاليد اللاهوتية.
تعاقب الامبراطوريات على مدينة الرها في العصور الكلاسيكية، أدى أيضاً إلى تلاقح ثقافي كبير على كل الأصعدة. فمن الحكم الآشوري إلى الإمبراطورية السلوقية، إلى الرومانية ومن ثم البيزنطية. لعب هذا التعاقب الثقافي دوراً في منح المدينة غنى تراكمي متجدد. كان لإرسال العائلات الغنية أولادها للدراسة في حواضر العالم الكلاسيكي تأثير كبير، في تمهيد الأجواء في المدينة لتطور الثقافة. نقرأ من معلومات الكنيسة أن عائلات المدينة الغنية، كانت ترسل أولادها للتعلم في مدارس أنطاكية، الإسكندرية، بيروت، أثينا وغيرها من مدن العصر الشهيرة بالعلم والثقافة.

وجود جالية يهودية سورية كبيرة في المدينة، كان عاملاً آخر ساعد على بناء أساس أو قاعدة، لنشر الثقافة والأدبيات اللاهوتية المبكرة للعهد القديم، نقرأ في تاريخ المدينة الكنسي أن الجالية اليهودية في المدينة، قدمت في أوقات مبكرة من التاريخ الميلادي، مساعدات مالية لمعبد اليهود في القدس. عوامل خارجية أخرى ساهمت في هذا الغنى؛ كانت دخول الأفكار المانوية إلى المدينة وانتشارها بكثافة في فكر المدينة، من ثم كان لدينا الهرطقات التي دخلت في بداية المسيحية كالمرقيانية والنيكولية، كل هذا الجو؛ من الاستقبال والارسال والدفاع والرد على الأفكار الأخرى، خلق البيئة المناسبة لانتشار المسيحية كفكر سوري جديد. نعرف من خلال المراجع أن المملكة في الرها؛ كانت أول مملكة مسيحية في العالم.

أسست مدرسة الرها من قبل القديس أفرام السرياني سنة 363 ميلادي، تعود أسباب تأسيسها المباشرة، إلى فتح مدرسة للنازحين السريان من مدينة نصيبين بعد الاجتياح الفارسي للمدينة، فكان أغلب أساتذتها وطلابها من النازحين النصيبيين، لذلك تعرف المدرسة أيضاً باسم مدرسة الفرس في الرها. أصبحت المدرسة وبعدما توفر لها من مقومات ثقافية سابقة وإمكانيات لاهوتية مسيحية لاحقة، أن تصبح لمدة قرن وربع أهم مركز ثقافي في المنطقة الشرقية السورية وفي الشرق المسيحي كله. تخرج منها الكثير من العلماء في اللاهوت المسيحي السرياني الشرقي، تبوأ عدد كبير منهم كراسي أسقفية ومناصب رسمية مهمة في الإمبراطورية البيزنطية، سواء في أنطاكية أو في العاصمة القسطنطينية نفسها. تأثرت المدرسة اللاهوتية في الرها بالأفكار السائدة في أنطاكية، فسرعان ما تبنت المدرسة النظرية الأنطاكية، وما تمثله من تيار شرقي عقلاني، يطرح على النقاش كل الأفكار اللاهوتية، فأصبح تيودوروس الطرسوسي وتيودوروس المصيصي الرائدين الرئيسيين في هذه المدرسة بأفكارهما. بقيت مدرسة الرها اللاهوتية على أفكار المدرسة الأنطاكية على طول مسيرتها، لم تخرج عنه بشكل ملحوظ، إلا في عهد الأسقف ربولا الذي اتخذ موقفاً مناوئاً للمدرسة وفكرها، ظهر جلياً عندما وقف في الصراع بين تعاليم نسطوريوس بطريرك القسطنطينية السوري وكيرلس بطريرك الإسكندرية إلى جانب كيرلس، ودعم أفكار كيرلس ومدرسة الإسكندرية في مواجهة نسطوريوس وأفكار مدرسة أنطاكية والرها. يقال إن السبب يعود إلى خلافات قديمة، تعود إلى إفحام تيودوروس المفسر لربولا أمام الرهبان في قضية لاهوتية، في العاصمة القسطنطينية، لذلك حقد ربولا على تيودوروس ورفض تعاليمه وأفكاره وحاربها في مدرسة الرها. نقرأ أيضاُ أنه قام بحرق الكتب التي نقلها الأسقف هيبا لتيودوروس المفسر من اليونانية إلى السريانية. لكن بعد وفاة ربولا ورسامة هيبا على أسقفية المدينة في سنة 435 ميلادي، نلاحظ انفتاح المجال أمام هيبا لنشر تعاليم تيودوروس ونسطوريوس في المدينة، لا سيما أن هبيا كان صديقاً لنسطوريوس. بعد هيبا نقرأ اسم الراهب نونا الذي كان مونوفيزياً على رئاسة المدرسة والأسقفية. بعد نونا نقرأ اسم الراهب قورا في إدارة المدرسة، تابع قورا أعمال هيبا في دعم مدرسة أنطاكية في المدينة. بعد وفاة الراهب قورا، استلم إدارة المدرسة الراهب نرساي الملفان الشهير في تاريخ الكنيسة السريانية لمعرفته وثقافته اللاهوتية العالية. في عهده، عمل نرساي على نشر تعاليم تيودوروس المصيصي بكل حماس في الرها، مما أعطى دفعاً كبيراً لتعاليم المدرسة الأنطاكية في المدينة.

تسرب النفوذ المونوفيزي إلى فكر مدرسة الرها في فترات عديدة من تاريخها، خصوصاً بعد فترة طرد هيبا من الرها وتعيين الأسقف نونا المونوفيزي بأمر من المجمع الذي عقد سنة 449 ميلادي. بدوره الأسقف نونا أقصي عن كرس الرها وعن إدارة المدرسة بعد قرارات مجمع خلقيدونية 451 ميلادي. لكنه عاد واحتل الكرسي من جديد في سنة 457 ميلادي. نقرأ بعد عام 449 ميلادي مغادرة العديد من الأساتذة والطلاب لمدرسة الرها باتجاه نصيبين، منهم أسماء شهيرة كنرساي الملفان وبرصوما النصيبيني، أصبح برصوما أسقفاُ على نصيبين عام 457 ميلادي، عند مجيء نرساي الملفان من الرها ومدرستها باتجاه نصيبين، طلب الأسقف برصوما منه بالبقاء في المدينة وتأسيس مدرسة لاهوتية فيها، لكي تواصل عمل المدرسة التي كان يعقوب النصيبيني قد أسسها في نصيبين. أخذت مدرسة الرها بالانحلال والابتعاد عن الدور الذي لعبته في عهدها الزاهر، فبعد هجرة الأساتذة والطلاب المهمين فيها، بدأ الضعف يدب في هيكلها التنظيمي نفسه، فتحولت إلى مركز للمشاحنات والخصومات بين النساطرة وأصحاب الطبيعة الواحدة، بعد أن كانت مركزاً لتطوير الفكر اللاهوتي بصيغ أكثر رقياً وأدباً في بداية عهودها الأولى. استمرت المدرسة على هذا المنوال، من المشاحنات والاضطرابات، حتى عهد أسقف الرها قورا، الذي حصل على إذن من الإمبراطور البيزنطي زينون بإغلاق مدرسة الرها الفكرية اللاهوتية في عام 489 ميلادي، بإغلاقها انتهت قصة آخر مركز سرياني نسطوري داخل أراضي الإمبراطورية البيزنطية دام قرابة قرن وربع من الزمن.

دخل العرب المسلمين الرها في عام 639 ميلادي، بعد أن استطاع القائد الإسلامي عياض بن غنم ضم الجزيرة السورية للدولة الإسلامية الناشئة. لعبت المدينة أدواراً مهمة في العصور الوسطى، سواء تحت أيدي المسلمين أو تحت أيدي الصليبيين. استمرت الحياة فيها بشكل طبيعي، لكنها لم تكن بالزخم الثقافي والأدبي، الذي عرفته المدينة في العصور الكلاسيكية وفي العصر البيزنطي المسيحي.

مراجع تاريخية:

1.الأب ألبير أبونا: تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية، الجزء الأول، دار المشرق، بيروت 1999.
2. الأب الدكتور متري هاجي: موسوعة بطريركية أنطاكية التاريخية والأثرية، الطبعة الأولى 2001.

Bibliography:

1. Enciclopedia dell’Antichità classica, Garzanti, Roma 2000.

2. Eusebius: The history of the church from Christ to Constantine. G.A. Williamson, trans. New York:1984.

3. ΕΥΣΕΒΙΟΥ ΚΑΙΣΑΡΕΙΑΣ: ΕΚΚΛΗΣΙΑΣΤΙΚΗ ΙΣΤΟΡΙΑ, Eusebius Caesariensis Historia ecclesiastica, National Library of Russia, Mosca 1986.

4. Harrak, A (1992), "The Ancient Name of Edessa", Journal of Near Eastern Studies 51 (3): p.p 209–214.

5. J. B. Segal, Edessa: The Blessed City (Oxford and New York: University Press, 1970

6. Icone Arabe, catalogo, Jaca Bokk spa, Milano 2009

http://thevoiceofreason.de/article/3087

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها