عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

 د. عماد شمعون  رئيس الجبهة الآرامية  


 

المؤتمر الآرامي الأول في لبنان

"الآرامية حضارة ولغة وهوية وشعب"

 برعاية غبطة البطربرك مار نصرالله بطرس صفير

1-5-1997

 

 الكلمة الافتتاحية مؤتمر الجبهة الارامية الثقافية الاول  د. عماد شمعون

 

أسرة التحرير مجلّة آرام مؤتمر الجبهة الارامية الثقافية  

 

التنظيم الارامي الديمقراطي الى مؤتمر الجبهة الارامية الثقافية  

 

 كلمة المطران بولس مطر (رئيس أساقفة بيروت للموارنة)

 

 كلمة المطران غريغوريوس الياس طبي ( المعاون البطريركي للسريان الكاثوليك)

 

 كلمة الدكتور حبيب شارل مالك (أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية الآميركية)

 

 كلمة المطران جورج صليبا (مطران جبل لبنان وطرابلس للسريان الارثوذكس)

 

 كلمة المطران مار نرساي دي باز (اسقف لبنان للكنيسة الاشورية)

 

 كلمة الدكتور ديمتري بيطار (رئيس الرابطة اللبنانية لطائفة الروم الارثوذكس)

 

 كلمة الأب الدكتور ميشال سبع (ممثل طائفة الروم الكاثوليك)

 

 كلمة د. كميل طانيوس الحاج ( أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية )

 

 كلمة القس حبيب بدر ( ممثل المجمع الأعلى للطائفة الإنجيلية في لبنان وسوريا)

 

كلمة سيادة المطران يوسف توماس (مطران بيروت للكنيسة الكلدانية)

 

 كلمة د. كميل طانيوس الحاج ( أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية )

 

كيف أحدّد هويّتي؟ د.عماد شمعون رئيس الجبهة الآرامية  1 أيار 1

 


        

 1أيار 1997

 مؤتمر الجبهة الارامية الثقافية الاول

 "الآرامية حضارة ولغة وهوية وشعب"

برعاية غبطة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير

 -------------------------------------------------

 الكلمة الافتتاحية

   تتألف الكلمة الافتتاحية لمؤتمر الجبهة الآرامية الثقافية الأول، "الآرامية حضارة ولغة وهوية وشعب" من رسالة يتوجه بها الملك أحيرام ملك جبيل الى المؤتمرين، ومن ردٍّ على الرسالة يتوجه به رئيس الجبهة الآرامية الثقافية الدكتور عماد شمعون.

 "... رسالة عاجلة من صاحب الجلالة، "جلالة الملك أحيرام ، ملك جبيل"

 أيها الحفل الكريم،

    لقد بلغني نبأ إجتماعكم اليوم بإسم مايجمع بيكم من حضارة مشرقيّة عريقة ، ولغة آرامية مديدة، وديانة مسيحية مجيدة، فسُرَّ قلبي وخفق بي نعشي نافضاً عنه غبار دهر كاد تراكمه يقتل فيّ الامل.

   إن ما حلمت به طويلاً أراه يتحقق اليوم، حيث شعبي يرفع راية حضارته المشرقيّة عالياً، حافظاً الامانة، رافضاً التنكّر للهوية والجذور.

   أبنائي، أبناء بلاد أمورو، أبناء اللسان الآرامي، أود في هذه المناسبة أن تبلّغوا أشواقي الى أبناء نينوى شقيقة مملكتي جبيل، والى أبناء بابل، وماري ، وماردين، والرُها، وأغاريت، فهم الآن يحتفلون بفضلكم بعيد الصحوة هذا، عيد إستنهاض وحدة الشمل حضارياً ومسيحياً.

   وختاماً، أستودعكم مؤكداً، أن في إتحادكم هذا، قوة لكم وللبنان:

دمتم الى سيّد البحار

الملك أحرام ملك جبيل


صاحب الجلالة، جلالة الملك أحيرام ،

ملك جبيل المدينة الأعرق حضارةً في التاريخ، مدينة الحرف مدينة النور.

بعد التحية والإكبار،

سيدي الملك،

إننا نعاهدكم بإسم آباء حضارتنا: أمورّو، وكنعان، وآرام، وآشور... وبإسم آباء كنيستنا : مار نسطور، ومار يعقوب البرادعي، ومار يوحنا ذهبي الفم، ومار أفرام، ومار مارون... أن نظل شهوداً أوفياء على إستمرارية حضارتنا، وذلك في تشبثنا بهويتنا القومية، وفي تمسكنا بلغتنا الأم لغةِ إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح.

د. عماد شمعون

رئيس الجبهة الآرامية الثقافية


 1أيار 1997

أسرة التحرير مجلّة آرام

المؤتمر الآرامي الأول في لبنان

"الآرامية حضارة ولغة وهوية وشعب"

برعاية غبطة البطربرك مار نصرالله بطرس صفير

1-5-1997

عقد "المؤيمر الآرامي الأول" في لبنان، بتاريخ الأول من أيار عام 1997، تحت عنوان: "الآرامية حضارة ولغة وهوية شعب" برعاية غبطة البطربرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير. ويأتي هذا المؤتمر في خضم الصراع الحضاري، لتأكيد هوّية لبنان السريانية الآرامية الأصيلة، إثر المحاولات الهادفة الى تغيير هوّيته المميّزة تلك، وإرغام سكانه اللبنانيين المسيحيين:من موارنة وروم وسريان وإنجيليين، على القبول بهوّية غربية عنهم، تراثاً وتاريخاً قومياً. وذلك تطبيقاً لقول الباحث البريطاني        Huble: "إذا أردت أن تلغي شعباً، تبدأ أولاً، بشلّ ذاكرته، ثم يلغي كتبه وثقافاته وتاريخه، ثم يكتب له طرف آخر كتباً أخرى، ويخترع له تاريخاً آخر... عندها ينسى هذا الشعب من كان، وماذا كان، والعالم ينساه أيضاً...".

هذه الخطوة الرّصينة من "سيّد بكركي" البطريرك الذي "  مجد لبنان أعطي له"، لم تكن الوحيدة في هذا المجال، إذ سبق له، أن حقّق إنجازات تاريخية عدّة ، منها ولعلها الآولى من نوعها منذ 400 سنة، عندما ضمّن إعلانه الشهير، في وجوب الرجوع الى الأصالة والجذور الآرامية الموحِدة، والحفاظ على الهويّة القوميّة، والعودة الى اعتماد اللغة السريانية الآرامية. ناهيك عن احتضان الكنيسة المارونية، لسلسة "مؤتمرات التراث السرياني" الدورية كل عام، بمشاركة مختلف طوائف الشعب الآرامي. حيث تمّ مؤخراً عقد "مؤتمر التراث السرياني الخامس" من هذه السلسة التاريخية الهامّة.

لقد شارك في أعمال " المؤتمر الآرامي الأول" في لبنان، نخبة من المفكّرين وذوي الاختصاص، من علماء ورجال دين، يمثلون كافة طوائف العائلة الآرامية الواحدة في لبنان. وقد عبّر المشاركون، خلال طروحاتهم وكلماتهم، عن رغبتهم لا بل إصرارهم في العودة الى الجذور الآرامية الموحدة، والحفاظ على التراث الجامع الواحد، الذي يعزّر الإنتماء الى الهويّة الأصيلة.

كان هذا المؤتمر، في الواقع ، ظاهرة جديدة، في تاريخ الطوائف الآرامية، التي تلاقت بلهفة وشوق، يشدّها حنين العودة الى الأصالة والجذور الواحدة، التي تصبّ في الهوية الواحدة، القوّة والكرامة.

وأخيراً لا يسعنا، إلا أن ننوّه بالدور الحضاري الرائد الذي قامت به "الجبهة الآرامية الثقافية" في لبنان، في عقد " المؤتمر الآرامي الأول" هذا، إعداداً وتحضيراً ودعوة وإشرافاً، وذلك بإدارة رئيسها الكتور عماد شمعون، المعروف بنشاطه الثقافي والحضاري الدؤوب في لبنان ولأجل لبنان، وبحسماسه الشديد لجمع شمل كافة طوائف الشعب الآرامي، التي لبت دعوة رئيس الجبهة الآرامية باندفاع عفوي جارف ، تحقيقاً لأمانيها القومية.

ولأهميّة هذا الحدث الفريد، ورغبةّ منّا في نقل القارىء الكريم، الى أجواء "المؤتمر الآرامي الأول"، فقد عمدنا الى نشر جميع المقالات والأبحاث، التي قُدمت فيه كاملةً، في هذا العدد من مجلّة آرام.


27/4/1997

الى الجبهة الآرامية في لبنان

وإلى المؤتمرين الكرام في المؤتمر الآرامي الأول في لبنان

 تحية آرامية

 لمناسبة انعقاد المؤتمر الآرامي الأول في لبنان، نتوجه للآباء الكرام ولكم وللإخوة المؤتمرين بأطيب التمنيات والتوفيق لجهودكم وعزائمكم على طريق توحيد الشعب الآرامي وتأكيد هويته وإثبات وجوده في حركة تاريخ المنطقة لتحقيق اماله وأمانيه في حياة حرة كريمة، شاكرين جهودكم في سبيل إنجاحه وبذر الفكر القومي الآرامي، كي تبقى هويتنا المستقلة شعاراً مرفوعاً لكرامتنا معبرّين لكم عن تضامننا مع تطلعاتكم واًهدافكم لما يعطيناهذا التضامن من قوة وأمل واستعداد للتعاون الآرامي في لبنان والمشرق والعالم.

          والتنظيم الآرامي الديمقراطي في السويد، يتمنى لمؤتمركم الكريم النجاح الكامل لأعماله في هذه المرحلة التاريخية والمصيرية لنضال شعبنا في المشرق، آملين أن نبقى يداً واحدة وقلباً واحداً في خدمة قضايا شعبنا المصيرية العادلة.

لتنظيم الارامي الديمقراطي

المكتب السياسي


1997/أيار/1

مؤتمر الجبهة الآرامية الثقافية الاول

 "الآرامية حضارة ولغة وهوية وشعب"

برعاية غبطة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير

 كلمة المطران بولس مطر

(رئيس أساقفة بيروت للموارنة)

 الجذور الآرامية السريانية للكنيسة المارونية

أشكر الداعين أولاً الى هذا المؤتمر حول التراث السرياني، كما أشكر لهم الثقة التي محضوني إيّاها لأحدّثكم عن موضوع واسع ومتشعب في التاريخ والجغرافية، وقد اختصروه في العنوان التالي:

(الجذور الآرامية السريانية للكنيسة المارونية).إني أقرّ أمامكم بادىء ذي بدء أن عقبتين تحولان دون معالجة عميقة لهذا الموضوع ، أولهما: ضيق الوقت وثانيها: أني لست رجل اختصاص في تاريخ الشرق القديم الذي يُعرف بمهد الحضارات وبمهد كبرى ديانات العالم بأسره، إلاّ أني كماروني قُيّض له أن يدرس تاريخ الكنيسة، أتجرّأ لأعطيكم لمحة ولو سريعة تظهر الارتباط العضوي بين هذه الكنيسة المارونية وبين اللغة السريانية وحضارتها ومجمل  شعوبها. ولكي أرسم بعض الخطوط العريضة للجغرافيا الإنسانية لهذه الحضارة، أعود معكم الى الجيل العاشر قبل المسيح أي الى أيام داود املك العبري الذي دخل في صراع دام مع بعض شعوب المنطقة دونها الحثيون في وسط فلسطين والكنعانيون في شمالها وفي ما نسميه بالجليل اللبناني، والآراميين في بلاد شام. فمنذ ذلك الزمن أي منذ حوالي ثلاثة آلاف سنة ماتزال كلمة "آرامي" تتردّد على الألسن في شرقنا دون انقطاع. هذا فيما الكتاب المقدّس يعيد أصل ابرهيم الخليل الى الآراميين ممن كانوا في ما بين النهرين، فليزمنا هذا القول بالعودة الى أصل الآراميين ووجودهم الى حوالي ألفي سنة قبل المسيح والى الشمال العراقي بالذات.

 والجميع يعلم أن السيّد المسيح له المجد يذكر في إنجيله رجلاً شُفي من مرضه على يد اليشع النبي إسمه نعمان السرياني أو الآرامي، وهي أعجوبة تعود بنا الى القرن الثامن من العصور القديمة. أما المؤرخون فيذكرون أن هذا القرن الذي ذكرنا قد شهد بداية مهمة لانتشار الآرامية السريانية وانطلاقاً واسعاً لحضارتها في مجمل الأراضي التي صار اسمها اليوم العراق وسورية ولبنان. لكننا ملتزمون أيضاً لإكمال صورة انتشار الشعوب التي عرفها الشرق الأوسط في هذا الماضي القديم، بذكر خاص للكنعانيين الذين كانوا يقطنون ساحل البحر المتوسط من فلسطين الى لبنان ووصولاً الى رأس شمرا وانطاكية وخليج اسكندرون. وهؤلاء أيضاً قد دعوا فينيقيين وهي تيمية أتتهم من اليونان كما أن إسم سورية من الرومان.

    فإذا ما قلنا أن الأرض اللبنانية هي جزء من أرض كنعان وأنها مُحاطةٌ بأرض كان يسكنها الآراميون، يتبين لنا في الحال أن الموارنة الذين عرفوا انطلاقتين كبيرتين لهم، الأولى في شمال سوريا على يد مارون الناسك وتلاميذه ، والثانية على أرض لبنان بواسطة تفاعل الرسالة المارونية الآتية من سوريا مع سكان كنعان المحليّين أي الفينيقييّن.

 جذور الكنيسة المارونية هي إذن جذور آرامية. وإن هذا القول ليجعلنا شركاء تاريخٍ مجيدٍ مع جميع المتكلّمين باللغة السريانية، تلك التي سيطرت حضارياً على مجمل الشرق، من البحر المتوسط حتى ايران ردحاً من الزمن يزيد على أكثر من ألف عام.وهي لغة تعلّمها العبرانيون عندما رماهم السّبي في أرض بابل، وعادوا بها الى فلسطين ليبقوا على استعمالها حتى في أيام السيد المسيح الذي باركها بالتكلمّ بها مع العذراء مريم أمّه ومع جميع الذين بشّرهم بملكوت الله. فيكفي هذه اللغة فخراً أنها كانت لغة التجسّد الإلهي والكنيسة الأولى، من أورشليم الى انطاكية ومن ثم الى بلاد بابل وبعض من بلاد الهند حيث يقطن الى اليوم السريان الملنكار والملابار الذين بُشرّوا بحسب التقليد على يد توما الرسول في القرن الأول الميلادي.

    وكما عرفت الآرامية رواجاً قبل المسيح بسبعة قرون هكذا أيضاً امتدّ ظلُّها على الشرق بعد المسيح من لبنان وسوريا حيث سُميت لهجتها بالسريانية الغربية حتى العراق وبعض من الهند حيث تميزت لهجةً وكتابةً ودُعيت بالآرامية الشرقية. وفي كلتا البقعتين المذكورتين أعلاه عرفت الآرامية ازدهاراً أدبياً ولاهوتياً كبيرين أعطى الكنيسة الجامعة واحداً من أكبر آبائها وهو مار أفرام السرياني الملقّب بكنارة الروح القدس. ألإّ أن الكنيسة المارونية قد تفردّت في العائلة السريانية عن سائر كنائس هذه العائلة بانفتاحها نحو أرض لبنان وبارتباطها بكنيسة روما على مدى تاريخها كلّه دون انقطاع، ممّا أعطاها أن تتطوّر وأن تسهم خاصة في تكوين شخصية ممُيزة لأبنائها.

    مثل هذا الكلام يعني أولاً أن الكنيسة المارونية هي جزءّ من الكنيسة السريانية الانطاكية وهي مرتبطة لاهوتياً بهذه الكنيسة وبتراثها الطقسي والفكري العريق. فمارون الناسك كان يتكلم الآرامية السريانية وهكذا تلاميذه ومجمل الشعب الذي كان يُحيط بالدير الماروني الأول على العاصي في شمال سوريا. ومن ذاك المكان بدأ التمايز بين السريان الموارنة والسريان الأورثوذكس إذ حدث بينهم انشقاق من جراء تعليم المجمع الخلقيدوني الأول عام  451م.

    ومن هناك، من خلقيدونيا تعدّدت أغصان الكنيسة على الجذور الآرامية الواحدة للكنيستين. والغريب أيضاً في التاريخ الماروني أن هناك تاثيراً متبادلاً يدّونه هذا التاريخ بين الكنيسة المارونية في غرب هذه المنطقة وبين الكنيسة الآرامية (الكلدانية – الآشورية) في مشرقها، مما يجعلنا نكتشف صلوات مشتركة بينهما ونوافير موحدة النشق في كتب القداس منها النافور الذي يصلي فيه الموارنة الى الآن في القدّاس السنوي الذي يقُام في صباح يوم الجمعة العظيمة كما نذكر أيضاً مقارنة بين هاتين الكنيستين، إذ لعبت الكنيسة الكلدانية – الآشورية دور المترجم والوسط بين الفكر اليوناني والفكر العربي في القرون الوسطى ولعبت الكنيسة المارونية دور المترجم والوسيط بين الفكر اليوناني الغربي الأوروبي والفكر الشرقي العربي في القرون الحديثة. إن مثل هذه المقارنة تقودنا الى التاكيد بأن الكنيسة (كل الكنائس) بانفتاحها تجمع الحضارات وتوحدها مثلما هي تجمع في أحضانها وتوحد بين أبنائها. وهكذا فمثلما كان للكنيسة المارونية في أجيالها الأولى دور في دمج اللغتين الآرامية والفينيقية بفضل تواجدها في لبنان، مما أعطانا الكثير من أسماء المدن والقرى عندنا، والكثير أيضاً من الغنى الشعري والموسيقي، هكذا عرفت أيضاً كنيستنا دوراً فعالاً في الأزمنة الحاضرة في تقريب الثقافتين وحتى اللغتين العربية والسريانية، وفي صياغة أدب إنساني رفيع أعطى جبران وأعطى النهضة العربية بكهتها الخاصة والمميّزة.

    لذلك فإننا إذ نثبت الجذور السريانية لكنيستنا المارونية نسجل أيضاً لهذه الكنيسة دوراً في الإنفتاح الحضاري والثقافي وفي تلاقيها مع سواها من الشعوب.صحيح أن الموارنة التزموا الحرية في هذا الشرق وقدّموا على مذبحها القرابين الغالية لكن الصحيح أيضاً هو أن الموارنة كانوا ويبقون أهل انفتاح ثقافي وتفاعل خلاّق أينما حلوّا في دنيا الله الواسعة.

    وإني لفخور شخصياً أمثل الكنيسة المارونية في عملية التقارب التي نقوم بها بين جميع الكنائس ذات التقليد السرياني، وهي الى المارونية، الكنائس السريانية الكاثوليكية والأرثوذكسية والشرقية القديمة، الكلدانية والآشورية والهندية الملبارية والملنكارية. إننا نتوخّى بهذا العمل أمانة لتراثنا السرياني الجامع وإحياءً له وسبراً لكنوزه الإنسانية الرائعة، لكنني في الوقت عينه أوكد أمامكم أن تراثنا السرياني هذا سيكون كما كان دائماً موجهاً نحو الانفتاح الفكري والإنساني على التراث العربي الذي أصبح تراثنا وعلى سائر الثقافات في العالم، التي تكوّن بتنوعها غنى للجنس البشري برمته.

    جميلة هي الجذور الضاربة في الأرض لكل شجرة باسقة وجميلة وممتلئة أيضاً بثمارها الدلاة على أغصانها.فليحفظ الله الكنائس التي تكلمنا عن جذورها، وليبقها مثل صديق سفر المزامير، أشجاراً مزروعة على مجاري المياه تعطي أكلها في حينه وتفصح في رسالتها وفي كل مساعيها.

    كلمة المطران بولس مطر


1997/أيار/1

مؤتمر الجبهة الارامية الثقافية الاول

"الآرامية حضارة ولغة وهوية وشعب"

برعاية غبظة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير

كلمة المطران غريغوريوس الياس طبي

( المعاون البطريركي للسريان الكاثوليك)

خواطر في الجذور الآرامية السريانية

يقول اللاتينيّون: "التاريخ هو معلَّم الحياة"

   ويعتبر ابن العبري في بداية كتابه: "تاريخ الزمان":" أن الدعوة الى تذكر الأحداث إن كانت جيَّدة أم سيئة، تلك التي جرت كل جيل، توفَّر فائدة قيمة لكل الذين يرغبون في اكتساب ما هو جيد وتسمح باحتقار كل ما هو سيء".

من هذا المنطلق يُسعدني ويشرفني أن أعرض بمناسبة انعقاد هذا المؤتمر "الآرامية حضارة ولغة وهوية شعب" بعض الخواطر في الجذور الآرامية والسريانية استقصاءً للعبر واستجلاءً لهذا "التراث الآرامي العظيم الذي ورثه الموارنة ومسيحيّو الشرق "على حدّ قول الأب بطرس ضو.

وأولى هذه الخواطر فكرةً وملاحظة أبداها أحد اباحثين في علم الفن والاثار، يقول فيها: " إن الفن التشخيصي الآرامي عموماً والسوري خصوصاً ، مقارنة بمثله في حضارات الشعوب المجاورة، كالفرعونية والبابلية- الآشورية، يتمز بأحجامه المعتدلة وقياساته الواقعية، فلا ضخامة فيه ولا جبروت، كمثل أبي الهول أو الثورالمجنح وغيرهما، الأمر الذي يعكس نظرة واقعية في الإنسان والكون، يتمثل الإنسان فيها سيداً بدل أن تسحقه هذه المجسَّمات الطاغية بأحجامها". 

أن الفكرة جديرة بالبحث والاهتمام، وتقودنا الى استكشاف علم الإنسان الارامي، كما إنها توضح جوانب كثيرة عن بيئة الكتاب المقدس. فبغض النظر عن عنصر الوحي الإلهي، إن قصّة الخلق بشكلها الآرامي مقارنةً بأشكالها عند الشعوب البابلية-الآشورية أو دراسة بيئة إبراهيم الخليل الارامي، قد تُضفي أنواراً ساطعة عن الواقعية والروح الإنسانية المعتدلة الثوب الآرامية، كما وعن استعداد هذه الشعوب لتقبل فكرة الوحي الإلهي بالتوحيد. فالنعمة لا تلغي الطبيعة بل تكملها.

ومن هذا المنطلق، قد نستطيع أن نفهم لماذا يفضل ابراهيم الموحّد اختيار زوجاتٍ لأبنائه من الشعب الآرامي الذي لم يلتحق بعد بإيمانه الجديد. أو غضب الله من عبده داود إذ أقام له بيتاً ومسكناً فيه عظمة الحكام المتجبرين.

نستخلص من ذلك أن الذهنية الآرامية، بالرغم من وثنيتها، كانت أقرب ما تكون من ذهنية الكتاب المقدّس بنظرتها الى الإنسان ومكانه من الكون، أو هي الحلقة الوسطى بين الوثنية والتوحيد، بكل ما في التوحيد من مزايا إنسان، يعكسها الكتاب المقدّس ولم تكن بعيدة عن طباع الآرامي واستعداده النفسي. 

وبمجيء السيد المسيح تكتمل الحلقات. ونندهش بأية سرعة وسهولة انتشرت المسيحية في بلاد آرام. فلا شك أنها لا قت تجاوباً طبيعياً في نفوس هذه الشعوب. ولم يرَ الآرامي غضاضةً أن يدُعى سريانياً نسبةً الى البلاد التي خرجت منها هذه الدعوة الإنسانية الجديدة.

 أن سرّ القوّة والضعف في الشعوب الآرامية- السريانية ربما مردّه المنحى الإنساني المسيحي. فلا عجب أن تكون نهاية استقلال الدويلات الآرامية السياسي بداية إنطلاقة انتشارهم الروحي والثقافي في الشعوب الغالبة، لاسيما منذ انتشار المسيحيّة.

لم يستقوِ الآراميون على الشعوب الأخرى إلاً نادراً، وباستشناء مملكة الرُها لم يؤسس السريان حكماً.

 إن المؤرخ السرياني الأخير، ابن العبري عبّر عن لسان حال السريان التوم، فيرى أن التاريخ لم يخلق للشعوب السريانية إلاّ المآسي فلم يبقَ لهم اليوم إلاّ التساؤل عن معنى هذه المآسي، أهي عقاب الله؟

مع ابن العبري، لا ننفي دور العناية الإلهية ولكننا لا نُلغي من الحساب العوامل البشرية. فبعضها متجذرة في طبيعة الشعوب السريانية ، والبعض الآخر انسابت اليها مع اللاهوت السياسي، فلا خلص الدّين ولا صفت الهوية.

المطران غريغوريوس الياس طبي


1997/أيار/1

مؤتمر الجبهة الارامية الثقافية الاول

"الآرامية حضارة ولغة وهوية وشعب"

 برعاية غبطة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير

 كلمة الدكتور حبيب شارل مالك

 (أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية الآميركية)

 المَسيحية المشرقيّة: بعض التميَّيزات

   لم أعد أستحسن استعمال تعببر" المسيحيّة المشرقيّة " فهو مصطلح أصبح يحمل- أو- حُمّل- معانِ متضاربة تنمّ غالبيتها عن غرضيات سياسية وعقد نفسية مستشرية. من البديهي طبعاً أن هنالك مسيحيين، أفراداً وجماعات، في هذا الشرق ومن الواضح أيضاً أن هؤلاء المسيحيين متنوّعو اللغات والإثنيات والإختبارات التاريخية. وقصة المسيحيين على تنوعهم في الشرق العربي الإسلامي عبر القرون الأربعة عشر الماضية هي على العموم حكاية اضمحلال واندثار. مدى وعمق هذا الإضمحلال يتفاوتان بين مجموعة مسيحية وأخرى، وأسباب هذا التفاوت متعدّدة، إلا أن المنحى العام يسير، وبدون شك، نحو التلاشي التدريجي. ويمكننا التأكيد، مع شلّة مرموقة من الباحثين والعلماء القيمين/ أن العامل الأساسي في صلب هذا التلاشي المسيحي البطيء-وأحياناً السريع-هو النظام الذمي الإسلامي (نسبة لأهل الذمة) ورواسبه الإجتماعة ومخلفاته السيكولوجية المتشعبة. أي أن المشكة بالفعل سبقت مجيء الصليبيين مثلاً الذين، كما يزعم البعض خطاً، هم مسببو التدهور. هذه الحقيقة المأساوية، أي التلاسي التدريجي ، تحدد في العمق ليس علاقة المجتمعات المسيحية الزائلة هذه مع الأكثرية الإسلامية فحسب، بل أيصاً نظرتها بعضها الى بعض وموقفنا من العالم المسيحي الأوسع.

 وبالعودة الى كلمتي "المسيحية المشرقية" فقد راح هذا التركيب مؤخراً في بعض الأساط التي وجدت فيه خير تعبير عن موقف مسبق من المسيحي الآخرالمختلف أو من اللامسيحي (بالأخص اليهودي) واللاشرقي. بكلمة مختصرة "المسيحية المشرقية" تعبير ملغوم، يخفي في طياتة طروحات وادعاءات تستدعي التأمل المسؤول تحضيراً لإصدار حُكم صارم على مضامينها سأركز فيما يلي على ثلاثة معاني لما يُسمّى "المسيحية المشرقية".

 1-     إذا اقتصر استعمالنا لمصطلح "المسيحية المشرقية" على العودة الى الجذور الإثنية والثقافية واللغوية ، آرمية كانت أم سريانية غيرها، فهو عمل مشرع لاغبار عليه، ومؤتمرنا اليوم هو محاولة متواضعة للمساهمة في هذا المجال. معروف لدى المؤرخين أن اللغة السريانية مثلاً، بقيت احدى لغات الثقافة في آسيا خلال القرون الوسطى من إنطاكية وصولاً الى سور الصين. إذاً مسألة تحديد الهوية الحضارية والروحية لفئة من الناس شيء ضروري، لاسيما هنا في الشرق حيث تتالت الحضارات وامتزجت الشعوب وطُمست الكثير من المعالم ليحلّ مكانها معالم أخرى أحياناً مناقضة لها بالقيم وبوسائل التعبير. فالإسلام مثلاً اجتاح منذ القرن السابع شرقي المتوسط وبلاد ما بين النهرين وشمال إفريقيا وفي نفس الوقت استُبدلت اللغات الأصلية لبعض شعوب هذه المناطق باللغة العربية. وعنذما تحاول مجموعات مسيحية تأثرت بهذين الاجتياحين الديني واللغوي أن تستعيد مقومات ثقافاتها المطمورة ولغاتها الأصلية وحضاراتها المنسية، وذلك تحت شعار إحياء "المسيحية المشرقية" فهذا واجب عليها وهدفه سام. لاشك أن أي عمل لإبراز التعددية الثقافية في هذا الشرق يقوي مقاومة الإنصهار والذوبان. فأحياناً التماسك الداخلي لهذه المجموعات، كي تكون مناعة كيانية تحميها من المزيد من الإندثار ، يكون مرتبطاً مباشرة بمقدار نجاحها في التنقيب عن ماضيها ولإعادة إحياء تراثها ولغاتها وهويتها الحضارية. أقول هذا مع العلم أن دينامية التكيف الى تحديات التغيير هي أيضاً ميزة قوة وعنصر بقاء لدى الحضارات الفاعلة في التاريخ. فالرسالة المسيحية، مثلا، لا تحدها لغة أو يقيدها مكان أو  زمان أو يحصرها ظرف حضاري معين أو لون ثقافي خاص. وكي لا ينتهي التفتيش عن جذور الماضي الى نوع من تصبير وتشميع لتلك المجمعات "المسيحية المشرقية" كماهو الحال في المتاحف وحوانيت الأنتيكا، عليها أن توطد وتدعم باستمرار علاقاتها واتصالاتها العضوية مع الكنائس المسيحية الكبرى في الشرق كما في الغرب وذلك وذلك لتبقى عضواً فاعلاً في الأسرة المسيحية العالمية الحية فتتجنب الزوال النهائي.

إذاً العودة الى الجذور على أهميتها هي غير كافية كعلاج لمشكلة الإضمحلال، والمجتمعات "المسيحية المشرقية" بحسب المعنى الأول لهذا الإصطلاح، مدعوة للإنخراط فوراً وعلى أعمق المستويات في خضم الركب الحضاري والروحي للمسيحية العالمية.

2-     يحاول البعض استعمال تعبير " المسيحية المشرقية" للإيحاء بأن هناك لاهوتا خاصاً ومميزاً لفئات مسيحية معينة في الشرق وأن هذا اللاهوت يجعل تلك الفئات متفوقة روحياً على سائر المسيحيين. فقد درج الكلام في أوسا هؤلاء عن "روحانية مسيحية مشرقية" تمتاز بأصالتها على أي لون من ألوان الروحانية المسيحية في أي مكان آخر. فالمسيحية، بحسب زعم أصحاب هذه  النظرة، وُلدِت في الشرق وتركت فيه أثر فريداً دمغه دمغةً روحية مميزة لم تنتقل مع انتشار المسيحية في باقي المعمورة، هذا الطابع الشرقي الخاص المزعوم  هو الذي تفتقده الروحانية المسيحية في الكنائس والمجتمعات خارج الشرق، رومانية كانت أم انكلوساكسونية أم غيرها.

   الجواب بسيط: لا وجود على الإطلاق لهكذا لاهوت مسيحي مشرقي. فهو نسج من االخيال يُراد به أغراضاً لا علاقة لها بالدين. هناك لاهوت الكنسية الجامعة في الألف الأول ، يليه لاهوت وروحانية الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية جنباً الى جنب مع لاهوت وروحانية الكنيسة الكاثوليكية ومشتقاتها بالإضافة الى لاهوت وروحانية الكنائس البروتستانتية الأساسية. والمهم بالأمر أن لاهوت الألف الثاني هذا على تنوعه يحتوي نقاط تلاقي عديدة وهامة بين الكنائس الشرقية والغربية معاً على اختلاف بيئاتها الحضارية. واليوم نعيش في زمن يغلب عليه الطابع المسكوني داخل الأسرة المسيحية، فنجد أن التلاقي اللاهوتي يتسع بفضل جهود وحوارات وصلوات ذوي النوايا الطيبة والروح المسيحية الحقيقية السليمة. إذا لا مكان لنظرةٍ علوية قائمة على أسس وهمية إن لم نقل شبه عنصرية، واللجوء الى تفاسير مشبوهة للتاريخ لإبراز اللاهوت المنشود غير مُجدٍ هو أيضاً. فلا ثودوروس أبو قرة الخلقيدوني ولا يحيى بن عدي اللاخلقيدوني ولا غيرهما من المدافعين الشرقيين عن العقائد المسيحية appologists يصلح نعتهم باللاهوتيين أو بمطوري لاهوت مسيحي مشرقي.

أما مار أفرام السرياني ويوحنا الدمشقي، مثلاً فحقهما الروحاني واللاهوتي محفوظ ضمن آباء الكنيسة الجامعة في الألف الأول. صحيح أن الشرق قد شهد منذ العصور المسيحية الأولى نزعة نسكية تقشفية كونت اختبار جليا دخل في صميم التراث المسيحي الكنسي العالمي. صحيح أيضاً ومؤسف في آن معاً أن المذاهب المسيحية التي نادت بالطبيعة الواحدة للمسيح Monophysites عانت الأمرين من الاضطهاد الخلقيدوني خلال العصو الباكرة، وقد دون كتابها هذا التاريخ الأسود بالتفاصيل (مثلاً ميخائيل السرياني 1126- 1199، وغريغورريوس يوحنا ابن العبري 1226- 1286). حتى أن البعض فضل سيطرة المسلمين على طغيان الروم. فالإنجاز النسكي إذاً والمعاناة تحت الاضطهاد الأخوي هما ميزتان في حكاية مسيحيي الشرق لكنهما لايعنيان بالضرورة  قيام لاهوت " مسيحي مشرقي" مستقل أو ذات أصالة متفوقة كما يدَّعي البعض.

3-     لعل أسواً مظاهر بدعة "المسيحية المشرقية" كما نواجهها اليوم هي التستر وراء هذا الشعار للتعبير عن عداءٍِ لدودٍ للغرب وللكنيسة الغربية عموماً، وللموارنة والكنيسة المارونية في لبنان خصوصاً. إنه موقف مليء بالحقد الأعمى من جهة، هو ذاته موقف الأكثرية الإسلامية من جهة أخرى، أي إنه ضرب من ضروب الذمية الحديثة. هذا العداء تحت راية " المسيحية المشرقية" المشبعة بأساطير التمييز والتفوق والأصالة الحصرية طورته، وأقولها بصراحة، قلة من الإكليريكيين في كنيسة أنطاكية الأرثوذكس، تمحورت حولها مجموعة من المفكرين الأرثوذكس أيضاً ذوي الخلفية العقائدية اليسارية أو القومية السورية، المجسدين للاختبار الذمّي بشتى أشكاله، والذين غالباً ما يعملون إما صحافيين أو منظرين أو كانوا يلوذون الى مجلس كنائس الشرق الأوسط في السبعينات والثمانينات أيام كان شغل هذا المجلس الشاغل، نُصر القضية الفلسطينية، وأبعد ما يكون عن اهتماماته وضع المجتمعات المسيحية السيء في الشرق. الخبر السار هو أن مجلس الكنائس اليوم بقيادة القس رياض جرجور قد حول أولوياته 180 درجة ليجعل العناية بأوضاع المسيحيين في الصدارة. والخبر السار أيضاً هو أن الإمتداد الشعبي لهذه المجموعة الحاقدة ضئيل جدّاً وعلى تقلص. لكن السم الذي يبثه من حين الى آخر من ينطق بإسم هذه النظرة كافٍ لإحداث البلبة وزرع الشكوك وتعكير الأجواء ضمن الأسرة المسيحية.

    عندما تصبح "المسيحية المشرقية" مرادفةً للذمية الجديدة- القديمة، يولد تفسير لحالة الوجود المسيحي في الشرق يفيض بالتبريرات للظلم والتباهي بوهم الحكمة الدهرية. لا تدعونا نجعل العبودية فضيلة. فلا أهون الإستقالة من العالم، ولاهوت الإستسلام للأمر الواقع، ولاهوت العيش اليواني (أي مجرد البقاء من اجل البقاء)، ولاهوت الكرامة المسحوقة، جمتعها لاهوتات زائفة تتلى علينا بين البرهة والأخرى تحت عنوان " المسيحية المشرقية" ويا للأسف! في الحقية فإن الخوف الكياني الساكن في أعماق اللاوعي الذمي هو الذي يغذي هكذا موقف. والإنعزال عن الكنيسة العالمية باسم الأصالة المحلّية يؤدي حتماً الى الزوال.

    التقلبات الديمغرافية والتقلص العددي للمسيحيين في الشرق مشكلة خطيرة. لكن التقلص العددي هذا لا يُخيفني بمقدار ما يقلقني غيابُ نهضةٍ روحية بين الشبية في المقابل. لا أري متشنجة ضمن العائلة المسيحية الواحدة. الذمية أصبحت حالة نفسية مرضية لدى البعض ، واجب علينا محاربتها بشتى الوسائل للتخلص منها. الأصالة الفعلية هي الأمانة للحقيقة مهما تكن مرة، والحقيقة هي أن المحتوى الأنثرونولوجي (الثقافي – الحضاري) "المسيحية المشرقية" هو المحتوى الوحيد الشرعي، ويستوجب بالإضافة الى التنقيب عن الجذور إقامة الروابط المتشعبة والمُعمقة مع الكنائس الكبرى الحية الناهضة في العالم. ونحن المسيحيين هنا في لبنان أحوج مانكون الى التعانق ورص الصفوف.

    أما المحتويان اللاهوتي المدعي والبوليميكي المماحك للمسيحية المشرقية فهما مرفوضان جملة وتفصيلاً. شعار " التنوع صمن الوحدة" يبقى الشعار الأمثل والهدف الأسمى لدى المجموعات الميسحية المجذرة في الشرق العزيز. كما وأن مضاعفة الإتصالات على جميع المستويات وتوثيق العلاقات وتعميق تبادل الخبرات الروحية والزمنية بين هؤلاء المسيحيين في الشرق بعضهم البعض، وبينهم من جهةٍ والمجتمعات والكنائس المسيحة من جهةٍ ثانية، كلها الأولويات المُلحة ونحن على عتبة الألف الثالث.

    وأخيراً الإبتعاد عن الإنزلاق في ديماغوجية الألفاظ والمصطلحات من بديهيات واجبات المثقف. لنعري إذن عبارة "المسيحية المشرقية" من الشوائب التي نحملها، أو نستبدلها كلياً بعبارة أخرى خالية من الرواسب السلبية والإدّعاءات الفارغة. بكل بساطة "مسيحيي الشرق"، مثلاً.  خدمة لهذه الغاية أردت اليوم الخوض الموجز في بعض التمييزات الأساسية لتعبيرٍ أثقله تفخيخاً سوء الإستعمال.

د. حبيب شارل مالك


1أيار 1997

مؤتمر الجبهة الارامية الثقافية الاول

 "الآرامية حضارة ولغة وهوية وشعب"

 برعاية غبطة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير

   كلمة المطران جورج صليبا

 (مطران جبل لبنان وطرابلس للسريان الارثوذكس)

 الجذور الآرامية السريانية للكنائس المشرقية الإنطاكية

 إن  تسمية "آرام " تعود تاريخياً الى آرام بن سام بن نوح حسبما يذكر سفر التكوين. وإن السيدّ المسيح هو من نسل هذه العائلة السامية، إذ أنه كان آراميّاً سريانياً ويتكلم هذه اللغة المقدّسة.

كما أن كلمة "آرام" تعني المرتفع العالي في السريانية، والمنتسب الى آرام يعني أنه منتسب الى شيء سام رفيع العماد. من هنا فالآراميين هم قوم من النخبة، مثّلوا دورهم الأبرز على مسرح التاريخ.

ومن الناحية الجغرافية فإن بلاد آرام والسريان تمتدّ الى بلاد فارس شرقاً والى سواحل البحرالأبيض المتوسط غرباً ومن بلاد أرمينيا شمالأ والى شبه الجزيرة العربية جنوباً.

وقد لعب الآراميّون على امتداد هذه الأرض دورهم الأساسي دور الحضارة والثقافة والتجارة والعلوم التي امتدّت من هذا المكان الى كل أجزاء الأرض. وأثّروا في الآخرين من الناحية الحضارية أكثر ممّا أثَّروا من ناحية الحروب والسلاح.

 المطران جورج صليبا

ملاحظة:

(هذا كل ما وصلنا من كلمة سيادة المطران جورج صاليبا في المؤتمر الآرامي. أما إذا كان من ملحق لها أو بقية لم تنشر هنا، فلأنه لم يستن لنا الحصول عليها كاملة من رئيس الجبهة الدكتور عماد شمعون، فمعذرة).


1997/أيار/1

لمؤتمر الجبهة الارامية الثقافية الاول

"الآرامية حضارة ولغة وهوية وشعب"

 برعاية غبطة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير

من كلمة المطران مار نرساي دي باز

(اسقف لبنان للكنيسة الآشورية)

الآشوريون  واللغة الآرامية

ان اللغة الآرامية- السريانية كانت منذ أقدم العصور ولا زالت حتى يومنا هذا، وبأشكالها المتطورة والمعاصرة ، لغة الشعب الآشوري وكنيسته المشرقية، وقد حافظ عليها وصاغها واستمرّ في تداولها قومياً ودينياً رغم قساوة الفواجع والمذابح التي فُرضت عليه.

    إنه موضوع فخر واعتزاز ان تكون هذه اللغة، لغةً مشتركة بيننا وبين بقية الأقوام والكنائس التي تنتمي إلى نفس العائلة ، وأود بهذا الخصوص الإشادة بقرار غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير في اعتماد الآرامية السريانية وتعميم استعمالها في الكنيسة السريانية المارونية، ولنا أمل أن يجد هذا القرار النبيل خطوات عملية له في واقع حياتنا وأن يكون بادرة لبقية الكنائس، لا لتعميم استعمال هذه اللغة في مراسيم القداس فحسب، بل في تعميمها أيضاً ونشرها بين رعيتها حتى تغدو حقّاً لغة شعب وكنيسة.

 وإسهاماً منا في تحقيق هذا الحلم نقترح مايلي:

     ·              تشكيل هيئة عليا للغة الآرامية السريانية من كبار رجال الدين والاخصائيين.

·        تشكيل مجمع لغوي أكاديمي يقوم بمهمّات تطوير اللغة الآرامية السريانية وصيانتها، ومنها توحيد اللهجات والأبجديات وإيجاد المصطلحات المناسبة لمواكبة التطور وإصدار مجلة أكاديمية علمية بهذا الخصوص.

·        تأسيس صندوق مالي لدعم نشاطات اللغة الآرامية السريانية وآدابها.

·        اعتماد الآرامية السريانية كمادة تدريس في المدارس الخاصة التابعة للكنائس الناطقة بهذه اللغة أو التابعة لرعيتها.

نأمل أن تلقي هذه المقترحات اهتمام الحاضرين.

 المطران نرساي دي باز


1997/أيار/1

مؤتمر الجبهة الارامية الثقافية الاول

 "الآرامية حضارة ولغة وهوية وشعب"

 برعاية غبطة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير

 كلمة الدكتور ديمتري بيطار

 (رئيس الرابطة اللبنانية لطائفة الروم الارثوذكس)

 الجذور الارامية السريانية لأبناء الطقس البيزنطي الابطاكي

        إن من رواسب الاحتلال اليوناني لمشرقنا الآرامي في بداية القرن الرابع ق.م. على يد اسكندر المقدوني، هو اعتماد بعض كنائسنا المشرقية الأنطاكية اللغة اليونانية لغةً طقسية في صلواتها الليتورجية. وكذلك، فقد تمّ إعنماد اللغة العربية لاحقاً، بفعل الاحتلال العربي المسلم لمشرقنا الآرامي، لغة طقسية ورسمية .

وعلى ضوء هذه الحقائق، أصبح بالإمكان التمييز بين ما هو أصيل وما هو دخيل، أي بين لغتي الأم ولغة البلاد الرسمية وبين هويتي الحضارية وهوية الأمر الواقع.

 وبالتالي، فإذا ما أردت أحدد هويتي، أنا ابن طائفة الرّوم الارثوذكس، أحددها على أساس كونها هويةً مركّبة، أي مؤلفة من مجموعة إنتماءات مختلفة:

·        فعلى الصعيد الوطني أنتمي الى لبنان.

·        وعلى الصعيد الديني أنتمي الى المسيحية.

·        وعلى الصعيد الكنسي أنتمي الى طائفة الروم الارثوذكس.

·        وعلى الصعيد القومي أنتمي الى الشعب السرياني الآرامي.

·        وعلى الصعيد اللغوي أنتمي الى اللغة اليونانية بصفتها لغتي الطقسية.

·         والى اللغة العربية بصفتها لغتي الرسمية - والى اللغة السريانية بصفتها لغتي الآم.

 وهكذا، أجد نفسي منسجماً مع مختلف إنتماءاتي التي تشكّل لي هويتي. ويوم تحاول إحدى الإنتماءات المذكورة أعلاه أن تطغي على ثمّة انتماءات أخرى ينشب الصاع وندخل في أزمة فقدان الهوية لصالح مشاريع الهيمنة والقضم والتسلّط.

 الدكتور ديمتري بيطار


1997/أيار/1

مؤتمر الجبهة الآرامية الثقافية الاول

"الآرامية حضارة ولغة وهوية وشعب"

 برعاية غبطة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير

   كلمة الأب الدكتور ميشال سبع

 (ممثل طائفة الروم الكاثوليك)

 بين الإنتماء القومي  والإنتماء الديني

يتشكَّل هذا البحث من أربع حركات:

 الحركة الاولى

  فقرة أولى:

 دراسة التاريخ هي نظرة إليه، ومن ثم ربط خطواته وإسقاط الرؤيا المعرفية والعاطفية عليه. وعليه، فلا يوجد دراسة موضوعية للتاريخ إلا نظرياً. وكلما ابتعد تاريخ بلدٍ ما عن مشاعرنا وقضايانا كلما زادت الموضوعية، والعكس صحيح، كلما اقترب مّنا ولنا كلما نقصت الموضوعية وانتفت. وتاريخ فرنسا يعنينا وتاريخ العروبة يعنينا وتاريخ الترك يعنينا، وربما كان تاريخ راوندا أكثر بُعداً ودراستهما أكثر موضوعية.

    فقرة ثانية:

 في الأراضي البكر تُزرع المفاهيم لتترسخ وتُعتبر البديهيات الأولية ويحتاج المنطق العقلي الى عملية وعي ثقافي وتنوع ثقافي كي يتمكن من إجراء عملية النقد الذاتي للمفاهيم، ما الفرق بين كلمات غزو، فتح، إستعمار، إستلاء، وصاية ، إنتداب... إلخ . قد تكون الفروقات لغوية، عاطفية، قاموسية، لكنها تصبّ في مصب واحدٍ: هناك بلد على آخر، يغير في جغرافيته، يستلب تاريخه.

 فقرة ثالثة:

الأوطان لم تُخلق إنما تتكون بفعل الزمن، تراكمات تاريخية، أفراد يأتون الى أراض بور يبدأون بالتعامل معها لإنتاج حضارة وشعب. هذا التعامل مع الأرض العذراء هو كالتعامل مع فتاةٍ عذراء، تصبح هناك إلفة وتزاوج، تصبح أرض الشعب وشعب الأرض، يتكون عبر محافطة الشعب على الأرض والدفاع عنها وإستعمالها، وعبر إنتاج الأرض للشعب تاريخ هو تاريخ الوطن. الأرض التي لا تُطعم أبناءها يرحلون عنها، والشعب الذي لا يدافع عن أرضه تُؤخذ منه.

 فقرة رابعة:

 أراضي الكرة الأرضية اتسمت عبر المتغيرات الجيولوجية قبل الحياة وما بعدها، بإفراز مساحاتٍ خضراء ومساحاتٍ صحراويةٍ رمليةٍ أو ثلجية. وبمياهٍ حلوةٍ صالحةٍ للشراب أو مالحة. المعروف أن الحياة البشرية عل الأقل نمت وتماهت عبر الأرضي الخضراء ذات المياه الحلوة. وفي التقسيم الخغرافي والإكتشافات المعاصرة تبين أن منطقة الشرق الأوسط من المناطق التي كانت تحوي مؤهلات الحياة وخصوصاً بلاد الشام، والمناطق المرادفة من البحر الأحمر عُمان، حضرموت، اليمن، ما بين النهرين، وادي النيل.

 فقرة خامسة:

 ليس طبيعياً أن تكون هناك أقوام بشرية متحضرة نشات في الصحراء لأن طبيعة الحياة ونموها تستلزم خضاراً وحيوية إذاً، لا مبرر لوجود أقوام في الجزيرة العربية إلاّ إذا كان هناك أفراد: إما أن تكون الجزيرة العربية خضراء ومن ثم أقحلت، وإما أن تكون الأقوام التي أتت اليها عبرتها مؤقتاً إذ أتت من عُمان وحضرموت واليمن بعدما ضاقت بها الأرض تبحث عن أراض جديدةٍ للحياة فعبرت الجزيرة الى بلاد الشام. وفي الحالتين الشعوب الآتية من الجزيرة العربية هي شعوب واحدة إن كانت باتجاه وادي النيل أو باتجاه بلاد الشام أو باتجاه ما بين التهرين.

 فقرة سادسة:

 بحسب قوانين ابن خلدون، الشعوب التي تقطن المناطق الخضراء هي شعوب تعيش سلاماً وتنتج حضارة، والشعوب التي تصبح في حالة بحثٍ عن أرض هي شعوبً جائعة محاربة ومطاردة وغير سلمية. لذا، فالشعوب الآتية من الجزيرة العربية كانت قبائل غازيةً لشعوبٍ أخرى حضارية. الغزو تمّ، وبحسب قوانين ابن خلدون أيضاً، و الشعوب الغازية تكتسب حضارة الشعب المقيم لأنها لا تملك ما تعطيه له. لذا تأخذ وتتأقلم مع هذا الأخذ. 

فقرة سابعة:

الحرب تنتهي باستسلام أحد الطرفين، أما الحضارة فتحتاج سنين طويلة لتُدخل تحت جوانبها من لا حضارة لهم. لذا، فالشعوب الآتية من الجزيرة العربية هي التي تأقلمت مع حضارة ما بين النهرين وبلاد الشام ووادي النيل وبالتالي فالتسمية الأصح أن نقول الشعوب السورية واالشعوب النهرية والشعوب النيلية إذا كانت التسمية جغرافية.  وأما إذا كانت إثنية فالنتيجة تصبح الشّعوب السورية والشعوب الكلدانية والشعوب المصرية.

فقرة ثامنة:

 إن المفاهيم القومية التي أتت من الفلاسفة الألمان والفرنسيين صنّفت الإنتاج القومي عن عوامل التاريخ المشترك والجغرافية المشتركة والآمال والأحلام المشتركة، اللغة المشتركة، الدين المشترك، المصالح المشتركة.

   وكلّ عامل من هذه العوامل كي يكون مشتركاً لا مفروضاً قهراً أو ظلماً أو بالقوة العسكرية، يستلزم فترةً طويلة لنسيان هذا الفرض الذي هو موجود حتماً وحُكماً. وبالتالي يستلزم أيضا ًانصهاراً للأقليات لحساب الأكثرية.

الفقرة التاسعة:

 من الأمور الحضارية هي االغة والدين، وحسب منطق ابن خلدون، فاللغة للشعب الحضاري هي التي يجب أن تسود على اللغة الوافدة. ودين الشعب الحضاري هو الذي يجب أن يسود على الدين الوافد. إذا استطاع الوافد أن يفرض لغتة ودينه عبر أجيالٍ طويلةٍ فهذا يعني أن الحضارة السابقة ومقوماتها قد زالت واضمحلت.

   أما إذا بقي من الحضارة القديمة بعض من الماضي فهذا يعني أن القوّة العسكرية لم تستطع أن تنهي الوضع الحضاري. وبما أن الوضع يتحرّك عبر الزمن، إنما الحضاري ذات جذورٍ تترسّخ فهذا يعني أن للقليل الباقي أن يعود ليصبح الأكثرية الباقية.

 الحركة الثانية: التبدّل

 الموت مقدّس لأنه خرج من يد إلهيٍة، فكم بالأحرى سيدّ الكون أي الأنسان . إنه حتماً مقدس. والألوهة محور حياته وتفكيره، وهو بقلبها بحسن تعبير جبران وكون المناطق الحضارية في الجغرافية البشرية تتكامل عندما تُسرع مرحلة الوعي فمن الطبيعي أن تعي هذه الأقوام حسّ الألوهة فيها أسرع من غيرها.

 ولقد تجلّى الوعي الألوهي بعدة أشكالٍ وبمراحلَ مختلفةٍ من التاريخ وهو يتجلّىباستمرار عبر أفراد ضمن جماعات حيث  (يشرقط) الوعي في فرد قبل غيره.  وقد تنضج عملية الوعي الألوهي بين أفراد ينطق واحدهم بها فيتقبلها الآخرون كصدى لهم. عند الفرس تحققت بوعي القدرة الجمالية والحكمية على يدّ المردوكية والزرادشتية لتصل الى الصين على يدّ الكونفوشية محاولةً المزج بين التعاطي والتأمل لتغرف في التأملية على يدّ البوذية في الهند. في هذا الوقت كانت تتحرّك الطقوسية عند المصريين الفراعنة ومن خلال النظم الاجتماعية والقوانين عند الكلدانية والآرامية.

 هذه التجليات صارت أكثر وضوحاً عندما تمازجت الحضارات وصار النضج أكثر تكاملية. فمن تمازج الآرامية والمصرية والبابلية خرجت التجليات اليهودية فتجلّت في كلام موسى من خلال الوصايا والأنبياء في العهد القديم. ومن تمازج الآرامية والهندية واليهودية تجلّى التجسد الإلهي في المسيح من خلال تعاليمه ومعجزاته وقيامته من الموت. ومن تمازج الآرامية السورية واليهودية المسيحية والجزيرة العربية تجلّت في وحي محمد واقرآنه.

 التجلّيات الإليهة التي ظهرت من خلال الوعي هذا، ليس هناك من مبرّر لتوقفها، إنما كل مجموعةٍ آمنت بواحدٍ منها توّقفت عندها. التجلّيات مستمرّة إنما الإيمان بكل واحدةٍ منها توقّف عند زمانها واعتُبر أن الزمان انتهى عنده ولم يعد هناك زمان خارج زمانه. وعليه، فاليهودية تعيش حالة انتظار عودة المسيح الملوكي ليُعيد ملوكيتها، والمسيحية تنتظر عودة المسيح الديّان العادل لينهي حالة الوجود الكوني. والإسلام ينتظر حشر الأجساد. إن  حالات الإنتظار هذه تعني العيش ضمن إطارٍ زمني محددٍ، وحدوده الإيمان بالمعتقد والتعاليم الخاصة بكل حالةٍ زمانية. ومن أجل تنظيم حالة الإنتظار هذه، قامت المؤسسات الدينية، وصار ترابط الحالة الدينية وبين الحالة المدنية المعاشة.

 (هنا سأتجاوز قواعد التشكّل عند الدولة الدينية اليهودية والمسيحية والإسلامية لأنطلق للاٍ ستعمارات الدينية)

 إن الإستعمار المؤسساتي الذي أخذ تارةً شكل الدولة وتارةً شكل التغلغل بواسطة إحدى الدول إنما يشكل غطاءً يلفّ هوية الشعب المؤمن وقد يشكل جزءاً أساسياً فيه.في اليهودية مثلاً، شكّلت حالة السبي والبابلية جزءاً أساسياً من إتمانيات الديانة اليهودية وجعلتها تعيش حالة الإضطهاد الذي تعاملت معه في تشكيل الدولة اليهودية لدرجة أن من يسمع المراثي لا يراها بعيدةً عن دعوة هرتزل.

 أما في المسيحية فقد شكلت الحالة الملوكية التي عاشتها في القرن الرابع وصراع المدن أساساً في التقاتل الإستعماري. فراحت القسطنطية تتسابق مع روما في السيطرة على الكنائس الخمس. الى أن قضمت روما في وقت ما القسطنطية من خلال سيطرتها على أوروبا وراحت تأكل أطرافها من خلال البعثات التبشيرية.

 إن الصراع يأخذ شكلين:

الشكل الأول:

حيث تمازج الدين مع حضارة الشعب فصار جزءاً من هويته كما حدث مع الشعوب السريانية- أي السورية القديمة- فصارت المسيحية جزءاً أساسياً منها. وكانت اأنطاكية والمدن القديمة مساحتها الجغرافية.

 عندما أتى الإسلام، كانت أنطاكية أقرب الى فتوحاته مما جعل الشعوب الآرامية- السريانية المتمسحنة إما أن تدخل في الإسلام وإما أن تهرب وإما أن تموت. وعندما أتت الصليبية عادت الجماعات لتعيش إيمانها لكنها اصطدمت بالمفاهيم الرومانية الغربية. فعاشت الغربة في بيئتها وكانت أشدّ وأصعب. وعندما أتى الأتراك عاد الظل المشرقي يُخيّم على المنطقة الأنطاكية السورية، ثم عادت الإرساليّات التبشيرية لتتغلغل من جديد فتقضم المؤمنين وتشدّهم الى روما.

 الشكل الثاني:

 إن التشكّل القومي الذي حدث في منطقة الهلال الخصيب في القرون الأولى للمسيحية كانت عوامله: الدين الميسيحي ممزوجاً بالمفاهيم الدينية السورية القديمة، اللغة الآرامية محدثة بالسريانية، بتاريخ مشهور بالإنفتاح والثقافة، بالآمال والآلام المشتركة، بالأحلام، بالمصالح. عندما أتت الأفواج العربية تحت راية الإسلام العسكري تمازجت العربية والسريانية كلغة، والإ سلام مع المسيحية كدين، وراح التاريخ يدور في اتجاه تشكٌل قومي جديد. لكن الفترة التي حكم فيها العرب كانت كافية إذ سرعان ما أصبح الأتراك والفرس وغيرهم نتيجة الولادات من أجنبيات يحكمون تحت راية الإسلام وصار التوجه القومي إسلامياً مما فرض حالة دفاع الدين المسيحي عن نفسه من خلال تقوقع الجماعات القومية السريانية ضمن أطرٍ ضيقةٍ وفرضت بعض الشخصيات نفسها من خلال العلوم والفلسفة والطبّ وغيره نفسه.

عندما سيطر الأترك بشكل واضح ابتداء مع القرن الخامس عشر، تعاملت أوروبا السياسية مع الدولة التركية من منطلقات لا تخلو من الدينية حيث الدولة التركية دولة إسلامية وأوروبا مسيحية  رغم اختلافاتها المذهبية. من هنا جرى إتفاق بين الإرساليات المسيحية في الدولة التركية وبين الآراميين من منطلق عامل الدين الذي سرعان ما أتبعوه بعامل اللغة من خلال المدارس التبشرية. ولاحقاً بعامل المصلحة المشتركة ظاهرياً إنما لحساب وحيد الجانب هو الجانب الأوروبي. و بل فحتّى في بعض المدارس التبشيرية بالتاريخ المشترك وجرت مصادرات قيمّية وإيمانيّة من قبل الغرب لدرجةٍ أن المسيح صار من حصة روما. وعندما نعتت روما المطران حجّار مطران فلسطين بمسيح الشرق تحبّباً كان هذا التحبب وقاحةً لأنه يعلن صراحة عن انتماء المسيح للغرب فشوّهوا الحقيقة و التاريخ والجغرافية وأصبح المسيح بنظرهم ينتسب لهم عوضاً أن ينتموا إليه.

 الحركة الثالثة: الثوابت  

كلّ حركةٍ استعماريةٍ ذات منافع وأضرار سلبية وإيجابية، و الحركة الإستعمارية هي ضرورةٌ تُمليها حالة التمدد السكاني والحاجة الإقتصادية والتفوّق العسكري. وقد تحدث في منطقة واسعةٍ فتحافظ على ذاتيتها وتحمي نفسها من المتغيرات كما حدث في المناطق الصينية، وإما أن تكون عرضةً للتقلبات كما جرى مع الأوروبيين.

 والإستعمار يأخذ عدّة أشكال: الشكل العسكري أو الثقافي أو الإقصادي أو الديني. وقد تتمازج عدة أشكال. فالحروب الصلبية حروبٌ توسعية استعمارية تحت شكل الدين المسيحي والحروب الإسلامية حروب توسعية استعمارية تحت شكل الدين الإسلامي. ولا يعفي الأولى كونها تريد تخليص الأماكن المقدسة ولا يعفي الثانية كونها تريد نشر راية الحقّ والجهاد.

 إن الحالة الدينية لا تُفرض إلا بشكل استعماري، لكنها إذا قبلت بشكل تدريجي وإيماني دون ضغوط عسكرية أو اقتصادية أو ثقافية فانها تعني ملئ حالة فراغ وبالتالي تدخل ضمن الثوابت القومية لشعب.

من هذا المنطلق، فعندما كانت المسيحية تنتشر في الدياميس وبقناعات الناس، كانت تدخل في عمق كيانهم القومي كما حدث عند الشعوب السريانية السورية.

 وهذه المسيحية- الفكرة والقناعة- راحت تعيش تفسيرات ورؤى متجانسة مع الشعوب، أفسدتها الرغبة الرومية أو القسطنطانوية الإستعمارية المتجلية في المجامع المسكونية حيث سحقت كل الأفكار المناقضة لها وبالتالي فرضت قناعاتها ا,03للحمة المتجسدة في اللغة المكية والمكتوبة.

 عندما أطق سعادة مقولته في إحياء القومية السورية اعتمد على الجغرافية أساساً وهذا فعلاً هو الأساس. لكن المتغيرات الإستعمارية الطويلة إلأمد تجعل الجغرافية صمّاء ومشلولة. ولعله لو اعتمد على اللغة كعامل أساسي لصارت هناك حركة التفاف مختلفة. لقد تعامل مع اللغة العربية مقترنةٌ بالدين الإسلامي والسورية القومية ترفض اعتبار الدين أساساً أو مرتكزاً للقواعد القومية.إن الشأن الإجتماعي- مصلحة سوريا فوق كل مصلحة واعتبار- كان يمكن أن يكون رافداً مهمّاً. لكن التواصل الثقافي القائم على أساس اللغة أيضاً سقط ولم يعد يمكن التمييز بين التراكم التاريخي السوري وبين التراكم التاريخي العربي.

 الحركة الرابعة: لو أنّ...

لو أن سوريا الطبيعة لم تتعرّض لهكذا هجماتٍ عسكرية كبرى، ولو أنها عندما اعتنقت المسيحية الممتزجة مع مفاهيمها لم تُقمع.

ولو أنها اعتنقت الإسلام قناعة وطوعاً لا بالقوّة العسكرية والقوانين الزمنيّة، ولو أنها لم تُجبر على استعمال اللغة التركية أو العربية بل حافظت على لغتها الآرامية، ولو أن البعض،  ضلّ الضّلالات.

ولكن بما أن المتغيرات ابتلعتها فهي تبقى في الضمير والوجدان.

 إنّ عمليّة التأمل والوعي هذه التي نتكلم عنها الآن هي مفتاح معرفي لكل ّ باحث وناهل من أجل العودة نحو الجذور.

نحن نأمل أن يكون هدفنا هو اكتشافُ الهوية لمن يكتشفها، وتأصّلٌ لمن اكتشفها، ودعوةٌ لمن يفكر باكتشافها.

في حقوق الإنسان، الحقّ الأول هو الحق في الإسم والأرض والتاريخ فهل وصلنا الى مرحلة نُضجِ تجعلنا نبحث عن حقوقنا لنعرفها؟

 نحن لا نرفض الإسلام كدين ولا نرفض العروبة كفكرة، نحن نرفض أن نُدجن دون أن يكون لنا رأي في تحديد هويتنا وانتماءاتنا. وسياسة الأمر الواقع وإن ظلّت آلاف السنين فهي لن يمكنها تمحي أصالة شعب أو حضارة أمة.

الأب د . ميشال سبع


 

1أيار 1997

مؤتمر الجبهة الآرامية الثقافية الأول

"الآرامية حضارة ولغة وهوية وشعب"

برعاية غبطة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير

كلمة القس حبيب بدر

( ممثل المجمع الأعلى للطائفة الإنجيلية في لبنان وسوريا)

الُترَاث الإنجيلي والحضَارة الآرامية

   حضرة ممثّل غبطة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، المطران فرنسيس البيسري. حضرات السادة الأساقفة. حضرات الآباء الأجلاء. حضرات السادة النواب. حضرات الأخوة والأخوات، أيها السيدات والسادة،

   بالنيابة عن ريئس المجمع للطائفة الأنجلية في سوريا ولبنان القس الدكتور سليم صهيوني وباسمي الشخصي، أود أن اُقدم تحية خاصة للجبهة الآرامية الثقافية ولرئيسها الدكتور عماد شمعون، بمناسبة انعقاد هذا المؤتمر الهام. كما أود أن أشكر د. شمعون على الدعوة الشجاعة للطائفة الإنجيلية الصغيرة الححم للمشاركة في أعمال هذا المؤتمر الأول، الذي تحت عنوان "الآرامية حضارة ولغة وهوية وشعب".

 إن  الإنجيليين في لبنان قلة ، لكنهم يتميزون بتعددية حضارية ملفتة لا نجدها في طائفة مسيحية أخرى في هذا البلد. إذ هناك- ومنذ تأسيس الطائفة 1848- إنجيليون ينتمون الى حضارة لبنانية وعربية متجذرة في أرض الشرق، وهناك آخرون ينتمون الى أرمنية نزح حاملوها مع مرور الزمن من آسيا الصغرى الى بلاد  الشام ولبنان، وهناك إنجيليون آخرون ينتمون الى حضارة سريانية هي بدورها متجذرة في عمق أعماق هذا الشرق، وقد أتى معظمهم الى لبنان بسبب المجازر التركية في بداية هذا القرن . فإن أنت زرت كنيسة إنجيلية سريانية أو أرمنية. مثلا، ستشارك بصلاةٍ  و تختبر لاهوتاً إنجيلياً بحتاً لكن بقالبٍ لغوي وثقافي سرياني أو أرمني.

  الآرامية، إذاً، كحضارة ولغة وهوية ثقافة هي جزء من إرث الطائفة أو الكنيسة الإنجيلية في لبنان والشرق، وهي حقيقة تاريخية لا يمكن نكرانها بالرغم من كل التحفظات التي قد توجد لدى البعض بالنسبة للوجود الإنجيلي المحلي في الشرق ككلّ. زد على ذلك، فإننا كإنجيليين لبنانيين، وبغض النظر عن جذورنا الكنيسة والإثنية المعينة (لوثرية أو كالفينية – عربية، أرمنية أو سريانية) وتماماً لإننا من سكان هذا البلد، ننتمي الى حضارة لبنانية تغرف الى حدّ كبير من جذور آرامية/سريانية مازالت حية في تراثنا الإجتماعي والموسيقي والفني والجغرافي والكنسي، وهي فعلاً جزء لا يتجزأ من هويتنا كلبنانيين.

 لغتنا فيها الكثير من التعابير والكلمات السريانية، أسماؤنا وأسماء قرانا وبلداتنا كذلك موسيقانا وفلكلورنا، عاداتنا وتقاليدنا، إلخ... كلها مدينة للتراث و الحضارة الآرامية/السريانية الى حد كبير. وحسبي أن فرادة لبنان وقيمته تتجليان في كونه بلداً لم ينكر أصوله الضارية في التاريخ بدءاً من الحضارة الآرامية ومروراً باليونانية والرومانية والبيزنطية والعربية، والعثمانية والفرنسية والأوروبية وحتى الأنكلوسكسونية حديثاً.

   غير أنني كإنجيلي أودّ أن أخرق الى مستوى أعمق من الحوار والوصال ( إذا صحّ التعبير) بين التراث الإنجيلي – وهو التراث المصنف بالغربي عامةً- والحضارة الآرامية . وسأعمد الى ذلك عن طريق استلهام التراث الآرامي /السرياني البيزنطي المشرقي الذي تمثّله تاريخياً البطريركية الإنطاكية الشرقية.

   هناك ، كما تعلمون، خمسة تقاليد كنسية مشرقية تدين بالولاء لانطاكيا التاريخية، وجميعها لديها بطريرك انطاكي يترأس الكنيسة من مكان ما في الشرق الأوسط. فهناك السريان الأرثوذكس والسريان الكاثوليك، وكذلك الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك، وهناك الموارنة طبعاً، وحتى اللاتين نصبوا لأنفسهم بطريركاً لاتينياً على انطاكيا إبان الحروب الصليبية، ومازال المركز موجوداّ – ولو في روما فقط - الى الآن.

  تجري محاولات حثيثة هذه الأيام، وخصوصاً منذ انعقاد السينودس من أجل لبنان في روما سنة 1995، لأجل إيجاد قواسم مسكونية مسيحية مشتركة بين الكنائس هذه تساعدها على تحقيق حالة متقدمة من الوحدة الكنيسة على أسس الألف الأول من تاريخ الكنيسة . ومن يعرف منكم تاريخ بطريركية انطاكيا ومدرستها اللاهوتية، يدرك ولا شك أهمية الدور الذي لعبه التراث والحضارة الآراميين في نشوء وارتقاء الهوية المسيحية الأنطاكية المشرقية.

   لكن يلاحظ المرء أن الحوار الأساس في المجال يدور بين الكاثوليك والأرثوذكس على مختلف مشاربهم- من سريان وبيزنطيين وحتى أرمن- وليس مع الإنجليين الذين يعُتبرون ( مع اللاتين أحياناً ) غير مشرقيين.

هذا الإستثناء للإنجيليين كان مفهوماً- والى حدّ ما طبيعياً- لأن التعايش بين الكاثوليك والأرثوذكس في لبنان والشرق يمتدّ لمئات السنين ولأن الإنجيليين أقلية وحديثو العهد في لبنان. وإحياء الإرث التاريخي الآرامي المشترك بين المسيحيين في لبنان والشرق عموماً والذي يتمحور حول إحياء ما يُسمى بالتراث الأنطاكي المشترك بين الكاثوليك الشرقيين (من موارنة وروم كاثوليك وسريان كاثوليك وكلدان ولاتين وحتى أرمن كاثوليك) من جهة، والأرثوذكس الشرقيين (من روم وسريان وآشوريين وحتى أرمن أرثوذكس) من جهة أخرى ، هو من أهم الخطوات التي اتخذتها الكنائس الشرقية في تاريخها الحديث باتجاه وحدتها. وبنظري، هو أهم من محاولات توحيد الأعياد أو أمور أخرى قد تبدو لأول وهلة أنها مستعجلة وضرورية.

لكن، لايجوز إبعاد أو استبعاد كنيسة مسيحية كالكنيسة الإنجيلية، بأبعادها العالمية، عن حوار كهذا. صحيح أن جميع هذه الكنائس تقريباً تدَّعي انتساباً تُراثيّاً الى بطريركيات أنطاكية لها جذور آرمية/سريانية واضحة المعالم ومختلفة الواحدة عن الأخرى. ولكن، إن استندت تلك الفكرة المسكونية التي تبغي التقريب بين الكاثوليك والأثوذكس على قاعدة أنطاكية (سريانية/ بيزنطية) تاريخية وجغرافية، فلا مكان للكنائس الإنجيلية البرتستانتية في التراث الآرامي سوى ما ذكرته في بداتة حديثي، لأنه- تاريخيّا وجغرافياً- لم يكن لها مكان. أمّا إذا كان التمحور حول الفكرة الأنطاكية يشمل أبعاداً روحَّية ولاهوتية وفكرية تغرف من التراث الشرقي لأنطاكي (الآرامي) المسكوني، فللإنجيليين دور متواضع لكنه هامّ يلعبونه في هذا المجال.

فالمطلع على التراث الإنجيلي الأوروبي المُصلح يعلم تماماً مدى تجذر الآباء المُصلحين كلوثر وكالفين في التراث الفكري واللاهوتي الأنطاكي القديم. وهذا الأمر مدروس ومبحوث بعمق في الكنيسة الإنجيلية عموماً. وإني أرى فيه باباً هاماً يمكن للإنجيليين الدخول منه إن أريد لهم مشاركة في تراث وهوية وحضارة آرامية أكثر عمقاً من مجرَّد مشاركة إسمية وفولكلورية وحضارية عامة.

وإني أدعو من هذا المنبر الى أخذ هذا الطَّرح بمحمل الجدية، والتعمق فيه، ليس لأن الكنيسة الإنجيلية ستؤثر على التوازن الطائفي المسيحي في لبنان والشرق، بل لأنها أثرت وستوثر حتماً في صنع الحياة المشتركة الأفضل للجميع هنا، ولأنها من رواد الحركة والتحرك المسكونيين في العالم والشرق، ويمكنها أن تلعب دوراً مهماً في تفعيل الحضور والشهادة المسيحيين في لبنان والشرق.

القس حبيب بدر


1997/أيار/1

مؤتمر الجبهة الارامية الثقافية الاول

 

"الآرامية حضارة ولغة وهوية وشعب"

برعاية غبطة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير

كلمة سيادة المطران يوسف توماس

(مطران بيروت للكنيسة الكلدانية)

حضارة بين النهرين والوحدة المشرقية- السريانية

منذ أن عرف الإنسان الحضارة، عرفها في  بلاد ما بين النهرين، فقد كشفت التنقيبات الأثرية عن مستوطنات بشرية ترجع الى آلاف السنين في شمال العراق وجنوبه. فإن ثابتاً القول أن الحضارة السومرية هي  اقدم الحضارات المعروفة في العالم، وآثارها وروائعها معروفة لدى الجميع.

   ففي بلاد ما بين النهرين عرف الإنسان الزراعة فالإستيطان ، ثم أرسى ركائز الحضارة والمجتمع ، حتى عرف أداة الحضارة المتطوّرة أي الكتابة، فدوَّن النصوص الأولى بأشكال مُعبَّر ثم بخط مسماري وأبدع اولى الآثار الفنّية والادبية إضافة الى لوازم المعيشة والبيت والمجتمع والقرية والمدينة فالدولة.

وقد شخص لعلماء  لغات  الشرقالقديمة ، وصنفوها  فكانت  السومرية لغة قديمة مقدسة، ثم كانت  الأكادية أقدم اللغات السامية المعروفة، تشبهها اللغة الأبلية، وعنها كانت اللغات السامية كلها: الشرقية والغربية، الفينيقية، الكنعانية ، الكلدانية والبابلية الآشورية والعبرية والآرامية والعربية، كها لغات شقيقة لأم واحدة. ومن هذه كانت أيضاً لغة الرها التي بفضل الممكة التي قامت فيها وتبني الكنيسة اياها، أصبح لها شأن أدبي وكنسي، فانتشرت بين سكان ومسيحييّ الشرق وأصبحت اللغة الطقسية لقسم كبير من المسيحية منذ الأجيال الأولى.

ولما تجزأت هذه المسيحية الى جملة كنائس، والأسباب باتت اليوم معروفة، بقيت السريانية لغة مشتركة لها رغم الإختلاف الطفيف الذي داخل لفظها وخطّها. ومعلوم بأن الإنقسامات التي حصلت في جسم المسيحية الشرقية لم تكن مهمة وعميقة بل لاختلافات تفسيرية فلسفية، لاهوتية، وعدم اتفاق على المصطلحات والمناهج المدرسية، أما الأساس المشترك فواحد وواسع. لذا فإن شعوبنا، لغاتنا، كنائسنا هي واحدة الأصل وما يجمها أكثر مما يفرقها، بل إنها شقيقة كل ما في المنطقة الشرق أوسطية من شعوب ولغات وتراث 

وقد يظن البعض أنه علينا أن نكون واحداً، بمعنى أن نكون متساوين متشابهين في كل شيء، بحيث أنه لا يجوز أن يكون بيننا أي فارق مميز وخصوصية خاصة. و لكن هذا محال في عالم البشر والفكر واللغة والحضارة والدين... فالوحدة شيء والتوحد الشكلي أو التطابق الحرفي شيء آخر، إذ لايوجد إثنان متشابهان تماماً. وما التنوع إلا علاقة غنى، والله لم يرالبشر قطعا متشابهة متطابقة تماماً. وضرورة تجسيد الفكر والايمان أساسية لدى الناس لذا كانت الحضارات يتميز بها كلُ إنسان وكل شعب وكل كنيسة وكل بلد، ولكنها لاتضاد الوحدة ولا المشترك الأساسي.

وقد يظن  بعض الناس أن الحضارة هي فقط ما يقدمه الإنسان في العصور الحديثة والمعاصرة ليس إلإ، وأن التراث القديم لاقيمة له أو أقلة لم يعد له من قيمة، وينسى هؤلاء أنه لولا القديم لما كان الجديد، حسب قول المثل الشعبي "اللي ما عندو قديم ما عندو جديد" وأن التواصل الحضاري سنّة الكون والبشرية، فلا يبدأ من الصفر، والعظيم من يعرف جذوره ويرتكز الى أصالته الحضارية ليمتدّ الى الأمام ويرتقي في سماء الرقي والإبداع.

 و ليس تكابراً القول انه لم يعرف التاريخ حضارة كحضارة بلاد ما بين النهرين عمقاً ورقياً وسمواً، لم يعرف البشر كنيسة ككنيسة المشرق ذات التراث الآرامي السرياني، كنيسة أصلية عظيمة شاهدة للإيمان والعلم اللهم ان اعتبرنا التراث اليوناني الدنيوي والديني الكنسي موازياً لها، فهي قد امتدت حتى أقصى بلاد الشرق وشملت شعوباً وأمماً متعدّدة ونفحت لغات عديدة في أرجاء واسعة وشاسعة من الشرق، منذ الألف الأول قبل الميلاد وحتى الألف الأول بعد الميلاد. وان ضعفت لغتنا وتقلّص وجودنا امام المّد العربي الاسلامي، فقد تمكنا من أن نتعاون ونتآخى مع غيرنا وان نقدم للحضارة العربية فكراً وعلماً ومصطلحات. فكان قيام الحضارة الفكرية والعلمية العربية على أيدي الناطقين بالسريانية خاصة في عصر الترجمات الشهيرة لا سيما أيام العصر الذهبي للعباسيين في بغداد، وبغداد هي وريثة العواصم الحضارية الشرقية المتعاقبة.

فلا مُغالاة إذا قلنا اليوم: أننا أحفاد شعوب ولغات وحضارات كلها في الأصل واحد. وأن ما يجمعنا أكثر بكثير ممّا يفرقنا، وأنه في أعناقنا مسؤولية تاريخية كبيرة أن نعرف من نحن وأبناء من نحن وأن نستفيد من هذا الإرث العظيم، ناهيك عن وحدتنا في الإيمان وفي الإنتماء الى جسد المسيح السري الواحد. فكلّنا واحد في المسيح المخلّص الأوحد، كرمة الحق، فهو الذي يوحّد ويحيي جميع الأغصان التي هي نحن أعضاء جسد المسيح الواحد الذي هو الكنيسة الواحدة الرسولية المقدسة والجامعة، وهذا حسب قول الرسول بولس: "فاناشدكم إذاً  انا السجين في الرب، أن  تسيروا سيرة تليق بالدعوة التي دعيتم اليها، سيرة ملؤها التواضع والوداعة والصبر. فاحتملوا بعضكم بعضاً بمحبة واجتهدوا في المحافظة على وحدة الروح  برباط السلام. فهناك جسد واحد و روح واحدة، كما إنكم دُعيتم دعوةً رجاؤها واحد. وهناك رب واحد وايمان واحد ومعمودية واحدة، واله واحد أب يجمع الخلق وفوقهم جميعاً، يعمل فيهم جميعاً وهو فيهم جميعاً" (افسس4/16).

المطران يوسف توماس


كيف أحدّد هويّتي؟

لسنا نقصد فيتحديد الهوية الأنا في ماهيتها الفلسفية والبسيكولوجية، بل تحديد الأنا في واقعها المعاصر قومياً ودينياً ووطنياً والغوياً.

   والهوية في اعتقادنا تتحدّد من مجموعة انتماءات . فكم يُخطئ مَن يختزل الهوية في انتماء حصري أحادي، فيقول ان هويتة هي الهوية الدينية وحسب ، أو الهوية الوطنية ليس إلا، أو الهوية القومية دون سواها.

   ففي واقعنا المعاصر ، ليس من إنسان إلا وينتمي إلى وطنٍِ ما، وإلى قومية تاريخية، قد تكون جذورها سابقة لبروز الدولة والوطن، الى عقيدة دينية كانت أم ملحدة، وإلى لغة وطنية رسمية كانت أم قومية.

   وإذا ما أردت تحديد هويتي عملا بالمقولة المقترحة، أقول انني على المستوى الوطني أنتمي إلى لبنان وعلى المستوى القومي، أنتمي إلى القومية الارامية – السريانية، وعلى المستوى الديني أنتمي إلى المسيحية، وعلى المستوى اللغوي أنتمي إلى اللغة الآرامية – السريانية بصفتها لغتي الأم وإلى اللغة العربية بصفتها اللغة الرسمية للبلاد.

   واذا ما أخذت كافة الجماعات اللبنانية ، على اختلاف انتماءاتها القومية والدينية واللغوية، بهذا التحديد للهوية المتعددة الانتماءات، نلاحظ ان ثمة ما يجمع في ما بينها من انتماءين ثابتين كقاسمين مشتركين، هما: الانتماء للوطن لبنان، والانتماء للغة العربية بصفتها اللغة الرسمية الأولى (1) للبلاد.

فإن اللغة العربية الرسمية، اللغة المشتركة بين كافة أبنا الوطن الواحد، أهلت الدولة اللبنانية العربوفونية، كدولة عربية اللسان، أن تكون كذلك دولة عربية السياسة، أي أن تكون عضواً في "جامعة الدول العربية(2) ودول العربية (3)".

وان لبنان الحاضن غير الرافض لمختلف التعدديات القومية والدينية واللغوية، في أن يبقى الانتماء الضامن في مواجهة كل رغبة في التقسيم.

 --------------------------------------

1-              نقول ان اللغة العربية هي اللغة الرسمية الأولى في لبنان لأن اللغة الفرنسية الثانية وفق ما نص عليه الدستور اللبناني.

2-              الدول العربية، هي الدول التي تنتمي إلى الهوية العربية لغة وقومية. وهي الدول التي تصنف أمتها من الأمم التامة (المبتورة) مثل دول شبه الجزيرة العربية السبع.

3-              دول العربية ، هي الدول العربوفونية الناطقة باللغة العربية. ويبلغ عددها، من أصل 20 دولة منتمية إلى "جامعة الدول العربية"، 13 دولة تصنف أمتها من الأمم المركبة. ونذكر على سبيل المثال، كلاً من الدول التالية: الجزائر، والسودان، والعراق، وسورية، ولبنان...

حدّد هويتك

اللغة

الأم

اللغة

الرسمية الاولى

الانتماء

الوطني

الانتماء

الديني

الانتماء

القومي

 

          

 

 

 

القومي

الآرامية- السريانية

 

 

 

 

 

القومية

الارمينة

 

 

 

 

 

القومية

القبطية

 

 

 

 

 

القومية

الكردية

 

 

 

 

 

القومية

العربية

 

 

 

 

 

غير ذلك، حدد:

 

 

 

 

 

الديانة

المسيحية

 

 

 

 

 

الديانة

الاسلامية

 

 

 

 

 

الديانة

الدرزية

 

 

 

 

 

الديانة

العلوية

 

 

 

 

 

الديانة

اليهودية

 

 

 

 

 

غير ذلك، حدد:

 

 

 

 

 

الجمهورية

اللبنانية

 

 

 

 

 

اللغة

العربية

 

 

 

 

 

اللغة

الآرامية- السريانية

 

 

 

 

 

 

اللغة

الارمنية

 

 

 

 

 

 

اللغة

القبطية

 

 

 

 

 

اللغة

الكردية

 

 

 

 

 

اللغة

العبرية

 

 

 

 

 

 

غير ذلك، حدد:


 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها