المؤتمر الآرامي الأول في لبنان
"الآرامية
حضارة ولغة وهوية وشعب"
برعاية غبطة البطربرك مار نصرالله بطرس صفير
1-5-1997
كلمة
الدكتور حبيب شارل مالك
(أستاذ
محاضر في الجامعة اللبنانية الآميركية)
المَسيحية
المشرقيّة: بعض التميَّيزات
لم أعد أستحسن
استعمال تعببر" المسيحيّة المشرقيّة " فهو مصطلح أصبح يحمل- أو- حُمّل- معانِ
متضاربة تنمّ غالبيتها عن غرضيات سياسية وعقد نفسية مستشرية. من البديهي
طبعاً أن هنالك مسيحيين، أفراداً وجماعات، في هذا الشرق ومن الواضح أيضاً أن
هؤلاء المسيحيين متنوّعو اللغات والإثنيات
والإختبارات التاريخية. وقصة
المسيحيين على تنوعهم في الشرق العربي الإسلامي عبر القرون الأربعة عشر
الماضية هي على العموم حكاية اضمحلال واندثار. مدى وعمق هذا الإضمحلال
يتفاوتان بين مجموعة مسيحية وأخرى، وأسباب هذا التفاوت متعدّدة، إلا أن
المنحى العام يسير، وبدون شك، نحو التلاشي التدريجي. ويمكننا التأكيد، مع
شلّة مرموقة من الباحثين والعلماء القيمين/ أن العامل الأساسي في صلب هذا
التلاشي المسيحي البطيء-وأحياناً السريع-هو النظام الذمي الإسلامي (نسبة
لأهل الذمة) ورواسبه الإجتماعة ومخلفاته السيكولوجية المتشعبة. أي أن المشكة
بالفعل سبقت مجيء الصليبيين مثلاً الذين، كما يزعم البعض خطاً، هم مسببو
التدهور. هذه الحقيقة المأساوية، أي التلاسي التدريجي ، تحدد في العمق ليس
علاقة المجتمعات المسيحية الزائلة هذه مع الأكثرية الإسلامية فحسب، بل أيصاً
نظرتها بعضها الى بعض وموقفنا من العالم المسيحي الأوسع.
وبالعودة الى كلمتي "المسيحية
المشرقية" فقد راح هذا التركيب مؤخراً في بعض الأساط التي وجدت فيه خير تعبير
عن موقف مسبق من المسيحي الآخرالمختلف أو من اللامسيحي (بالأخص اليهودي)
واللاشرقي. بكلمة مختصرة "المسيحية المشرقية" تعبير ملغوم، يخفي في طياتة
طروحات وادعاءات تستدعي التأمل المسؤول تحضيراً لإصدار حُكم صارم على
مضامينها سأركز فيما يلي على ثلاثة معاني لما يُسمّى "المسيحية المشرقية".
1-
إذا
اقتصر استعمالنا لمصطلح "المسيحية المشرقية" على العودة الى الجذور الإثنية
والثقافية واللغوية ، آرمية كانت أم سريانية غيرها، فهو عمل مشرع لاغبار
عليه، ومؤتمرنا اليوم هو محاولة متواضعة للمساهمة في هذا المجال. معروف لدى
المؤرخين أن اللغة السريانية مثلاً، بقيت احدى لغات الثقافة في آسيا خلال
القرون الوسطى من إنطاكية وصولاً الى سور الصين. إذاً مسألة تحديد الهوية
الحضارية والروحية لفئة من الناس شيء ضروري، لاسيما هنا في الشرق حيث تتالت
الحضارات وامتزجت الشعوب وطُمست الكثير من المعالم ليحلّ مكانها معالم أخرى
أحياناً مناقضة لها بالقيم وبوسائل التعبير. فالإسلام مثلاً اجتاح منذ القرن
السابع شرقي المتوسط وبلاد ما بين النهرين وشمال إفريقيا وفي نفس الوقت
استُبدلت اللغات الأصلية لبعض شعوب هذه المناطق باللغة العربية. وعنذما تحاول
مجموعات مسيحية تأثرت بهذين الاجتياحين الديني واللغوي أن تستعيد مقومات
ثقافاتها المطمورة ولغاتها الأصلية وحضاراتها المنسية، وذلك تحت شعار إحياء
"المسيحية المشرقية" فهذا واجب عليها وهدفه سام. لاشك أن أي عمل لإبراز
التعددية الثقافية في هذا الشرق يقوي مقاومة الإنصهار والذوبان. فأحياناً
التماسك الداخلي لهذه المجموعات، كي تكون مناعة كيانية تحميها من المزيد من
الإندثار ، يكون مرتبطاً مباشرة بمقدار نجاحها في التنقيب عن ماضيها ولإعادة
إحياء تراثها ولغاتها وهويتها الحضارية. أقول هذا مع العلم أن دينامية التكيف
الى تحديات التغيير هي أيضاً ميزة قوة وعنصر بقاء لدى الحضارات الفاعلة في
التاريخ. فالرسالة المسيحية، مثلا، لا تحدها لغة أو يقيدها مكان أو زمان أو
يحصرها ظرف حضاري معين أو لون ثقافي خاص. وكي لا ينتهي التفتيش عن جذور
الماضي الى نوع من تصبير وتشميع لتلك المجمعات "المسيحية المشرقية" كماهو
الحال في المتاحف وحوانيت الأنتيكا، عليها أن توطد وتدعم باستمرار علاقاتها
واتصالاتها العضوية مع الكنائس المسيحية الكبرى في الشرق كما في الغرب وذلك
وذلك لتبقى عضواً فاعلاً في الأسرة المسيحية العالمية الحية فتتجنب الزوال
النهائي.
إذاً العودة الى الجذور على
أهميتها هي غير كافية كعلاج لمشكلة الإضمحلال، والمجتمعات
"المسيحية المشرقية"
بحسب المعنى الأول لهذا الإصطلاح، مدعوة للإنخراط فوراً وعلى أعمق المستويات
في خضم الركب الحضاري والروحي للمسيحية العالمية.
2-
يحاول
البعض استعمال تعبير " المسيحية المشرقية" للإيحاء بأن هناك لاهوتا خاصاً
ومميزاً لفئات مسيحية معينة في الشرق وأن هذا اللاهوت يجعل تلك الفئات متفوقة
روحياً على سائر المسيحيين. فقد درج الكلام في أوسا هؤلاء عن "روحانية مسيحية
مشرقية" تمتاز بأصالتها على أي لون من ألوان الروحانية المسيحية في أي مكان
آخر. فالمسيحية، بحسب زعم أصحاب هذه النظرة، وُلدِت في الشرق وتركت فيه أثر
فريداً دمغه دمغةً روحية مميزة لم تنتقل مع انتشار المسيحية في باقي
المعمورة، هذا الطابع الشرقي الخاص المزعوم هو الذي تفتقده الروحانية
المسيحية في الكنائس والمجتمعات خارج الشرق، رومانية كانت أم انكلوساكسونية
أم غيرها.
الجواب بسيط: لا وجود على
الإطلاق لهكذا لاهوت مسيحي مشرقي. فهو نسج من االخيال يُراد به أغراضاً لا
علاقة لها بالدين. هناك لاهوت الكنسية الجامعة في الألف الأول ، يليه لاهوت
وروحانية الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية جنباً الى جنب مع لاهوت وروحانية
الكنيسة الكاثوليكية ومشتقاتها بالإضافة الى لاهوت وروحانية الكنائس
البروتستانتية الأساسية. والمهم بالأمر أن لاهوت الألف الثاني هذا على تنوعه
يحتوي نقاط تلاقي عديدة وهامة بين الكنائس الشرقية والغربية معاً على اختلاف
بيئاتها الحضارية. واليوم نعيش في زمن يغلب عليه الطابع المسكوني داخل الأسرة
المسيحية، فنجد أن التلاقي اللاهوتي يتسع بفضل جهود وحوارات وصلوات ذوي
النوايا الطيبة والروح المسيحية الحقيقية السليمة. إذا لا مكان لنظرةٍ علوية
قائمة على أسس وهمية إن لم نقل شبه عنصرية، واللجوء الى تفاسير مشبوهة
للتاريخ لإبراز اللاهوت المنشود غير مُجدٍ هو أيضاً. فلا ثودوروس أبو قرة
الخلقيدوني ولا يحيى بن عدي اللاخلقيدوني ولا غيرهما من المدافعين الشرقيين
عن العقائد المسيحية
appologists
يصلح نعتهم باللاهوتيين أو بمطوري لاهوت مسيحي مشرقي.
أما مار أفرام السرياني ويوحنا
الدمشقي، مثلاً فحقهما الروحاني واللاهوتي محفوظ ضمن آباء الكنيسة الجامعة في
الألف الأول. صحيح أن الشرق قد شهد منذ العصور المسيحية الأولى نزعة نسكية
تقشفية كونت اختبار جليا دخل في صميم التراث المسيحي الكنسي العالمي. صحيح
أيضاً ومؤسف في آن معاً أن المذاهب المسيحية التي نادت بالطبيعة الواحدة
للمسيح
Monophysites عانت
الأمرين من الاضطهاد الخلقيدوني خلال العصو الباكرة، وقد دون كتابها هذا
التاريخ الأسود بالتفاصيل (مثلاً ميخائيل السرياني 1126- 1199، وغريغورريوس
يوحنا ابن العبري 1226- 1286). حتى أن البعض فضل سيطرة المسلمين على طغيان
الروم. فالإنجاز النسكي إذاً والمعاناة تحت الاضطهاد الأخوي هما ميزتان في
حكاية مسيحيي الشرق لكنهما لايعنيان بالضرورة قيام لاهوت " مسيحي مشرقي"
مستقل أو ذات أصالة متفوقة كما يدَّعي البعض.
3-
لعل
أسواً مظاهر بدعة "المسيحية المشرقية" كما نواجهها اليوم هي التستر وراء هذا
الشعار للتعبير عن عداءٍِ لدودٍ للغرب وللكنيسة الغربية عموماً، وللموارنة
والكنيسة المارونية في لبنان خصوصاً. إنه موقف مليء بالحقد الأعمى من جهة، هو
ذاته موقف الأكثرية الإسلامية من جهة أخرى، أي إنه ضرب من ضروب الذمية الحديثة.
هذا العداء تحت راية " المسيحية المشرقية" المشبعة بأساطير التمييز والتفوق
والأصالة الحصرية طورته، وأقولها بصراحة، قلة من الإكليريكيين في كنيسة أنطاكية
الأرثوذكس، تمحورت حولها مجموعة من المفكرين الأرثوذكس أيضاً ذوي الخلفية
العقائدية اليسارية أو القومية السورية، المجسدين للاختبار الذمّي بشتى أشكاله،
والذين غالباً ما يعملون إما صحافيين أو منظرين أو كانوا يلوذون الى مجلس كنائس
الشرق الأوسط في السبعينات والثمانينات أيام كان شغل هذا المجلس الشاغل، نُصر
القضية الفلسطينية، وأبعد ما يكون عن اهتماماته وضع المجتمعات المسيحية السيء
في الشرق. الخبر السار هو أن مجلس الكنائس اليوم بقيادة القس رياض جرجور قد حول
أولوياته 180 درجة ليجعل العناية بأوضاع المسيحيين في الصدارة. والخبر السار
أيضاً هو أن الإمتداد الشعبي لهذه المجموعة الحاقدة ضئيل جدّاً وعلى تقلص. لكن
السم الذي يبثه من حين الى آخر من ينطق بإسم هذه النظرة كافٍ لإحداث البلبة
وزرع الشكوك وتعكير الأجواء ضمن الأسرة المسيحية.
عندما تصبح "المسيحية
المشرقية" مرادفةً للذمية الجديدة- القديمة، يولد تفسير لحالة الوجود المسيحي
في الشرق يفيض بالتبريرات للظلم والتباهي بوهم الحكمة الدهرية. لا تدعونا
نجعل العبودية فضيلة. فلا أهون الإستقالة من العالم، ولاهوت الإستسلام للأمر
الواقع، ولاهوت العيش اليواني (أي مجرد البقاء من اجل البقاء)، ولاهوت
الكرامة المسحوقة، جمتعها لاهوتات زائفة تتلى علينا بين البرهة والأخرى تحت
عنوان " المسيحية المشرقية" ويا للأسف! في الحقية فإن الخوف الكياني الساكن
في أعماق اللاوعي الذمي هو الذي يغذي هكذا موقف. والإنعزال عن الكنيسة
العالمية باسم الأصالة المحلّية يؤدي حتماً الى الزوال.
التقلبات الديمغرافية
والتقلص العددي للمسيحيين في الشرق مشكلة خطيرة. لكن التقلص العددي هذا لا
يُخيفني بمقدار ما يقلقني غيابُ نهضةٍ روحية بين الشبية في المقابل. لا أري
متشنجة ضمن العائلة المسيحية الواحدة. الذمية أصبحت حالة نفسية مرضية لدى
البعض ، واجب علينا محاربتها بشتى الوسائل للتخلص منها. الأصالة الفعلية هي
الأمانة للحقيقة مهما تكن مرة، والحقيقة هي أن المحتوى الأنثرونولوجي
(الثقافي – الحضاري) "المسيحية المشرقية" هو المحتوى الوحيد الشرعي، ويستوجب
بالإضافة الى التنقيب عن الجذور إقامة الروابط المتشعبة والمُعمقة مع الكنائس
الكبرى الحية الناهضة في العالم. ونحن المسيحيين هنا في لبنان أحوج مانكون
الى التعانق ورص الصفوف.
أما المحتويان اللاهوتي
المدعي والبوليميكي المماحك للمسيحية المشرقية فهما مرفوضان جملة وتفصيلاً.
شعار " التنوع صمن الوحدة" يبقى الشعار الأمثل والهدف الأسمى لدى المجموعات
الميسحية المجذرة في الشرق العزيز. كما وأن مضاعفة الإتصالات على جميع
المستويات وتوثيق العلاقات وتعميق تبادل الخبرات الروحية والزمنية بين هؤلاء
المسيحيين في الشرق بعضهم البعض، وبينهم من جهةٍ والمجتمعات والكنائس المسيحة
من جهةٍ ثانية، كلها الأولويات المُلحة ونحن على عتبة الألف الثالث.
وأخيراً الإبتعاد عن
الإنزلاق في ديماغوجية الألفاظ والمصطلحات من بديهيات واجبات المثقف. لنعري
إذن عبارة "المسيحية المشرقية" من الشوائب التي نحملها، أو نستبدلها كلياً
بعبارة أخرى خالية من الرواسب السلبية والإدّعاءات الفارغة. بكل بساطة
"مسيحيي الشرق"، مثلاً. خدمة لهذه الغاية أردت اليوم الخوض الموجز في بعض
التمييزات الأساسية لتعبيرٍ أثقله تفخيخاً سوء الإستعمال.
https://www.youtube.com/watch?v=gxVi6ejdKNI
|