المؤتمر الآرامي
الأول في لبنان
"الآرامية حضارة ولغة وهوية وشعب"
برعاية غبطة البطربرك مار نصرالله بطرس صفير
1-5-1997
كلمة المطران بولس مطر
(رئيس أساقفة بيروت للموارنة)
الجذور الآرامية
السريانية للكنيسة المارونية
أشكر الداعين أولاً الى
هذا المؤتمر حول التراث السرياني، كما أشكر لهم الثقة التي محضوني إيّاها
لأحدّثكم عن موضوع واسع ومتشعب في التاريخ والجغرافية، وقد اختصروه في
العنوان التالي:
(الجذور الآرامية
السريانية للكنيسة المارونية).إني أقرّ أمامكم بادىء ذي بدء أن عقبتين
تحولان دون معالجة عميقة لهذا الموضوع ، أولهما: ضيق الوقت وثانيها: أني
لست رجل اختصاص في تاريخ الشرق القديم الذي يُعرف بمهد الحضارات وبمهد كبرى
ديانات العالم بأسره، إلاّ أني كماروني قُيّض له أن يدرس تاريخ الكنيسة،
أتجرّأ لأعطيكم لمحة ولو سريعة تظهر الارتباط العضوي بين هذه الكنيسة
المارونية وبين اللغة السريانية وحضارتها ومجمل شعوبها. ولكي أرسم بعض
الخطوط العريضة للجغرافيا الإنسانية لهذه الحضارة، أعود معكم الى الجيل
العاشر قبل المسيح أي الى أيام داود املك العبري الذي دخل في صراع دام مع
بعض شعوب المنطقة دونها الحثيون في وسط فلسطين والكنعانيون في شمالها وفي
ما نسميه بالجليل اللبناني، والآراميين في بلاد شام. فمنذ ذلك الزمن أي منذ
حوالي ثلاثة آلاف سنة ماتزال كلمة "آرامي" تتردّد على الألسن في شرقنا دون
انقطاع. هذا فيما الكتاب المقدّس يعيد أصل ابرهيم الخليل الى الآراميين ممن
كانوا في ما بين النهرين، فليزمنا هذا القول بالعودة الى أصل الآراميين
ووجودهم الى حوالي ألفي سنة قبل المسيح والى الشمال العراقي بالذات.
والجميع يعلم أن
السيّد المسيح له المجد يذكر في إنجيله رجلاً شُفي من مرضه على يد اليشع
النبي إسمه نعمان السرياني أو الآرامي، وهي أعجوبة تعود بنا الى القرن
الثامن من العصور القديمة. أما المؤرخون فيذكرون أن هذا القرن الذي ذكرنا
قد شهد بداية مهمة لانتشار الآرامية السريانية وانطلاقاً واسعاً لحضارتها
في مجمل الأراضي التي صار اسمها اليوم العراق وسورية ولبنان. لكننا ملتزمون
أيضاً لإكمال صورة انتشار الشعوب التي عرفها الشرق الأوسط في هذا الماضي
القديم، بذكر خاص للكنعانيين الذين كانوا يقطنون ساحل البحر المتوسط من
فلسطين الى لبنان ووصولاً الى رأس شمرا وانطاكية وخليج اسكندرون. وهؤلاء
أيضاً قد دعوا فينيقيين وهي تيمية أتتهم من اليونان كما أن إسم سورية من
الرومان.
فإذا ما قلنا أن الأرض اللبنانية هي جزء من أرض كنعان وأنها مُحاطةٌ بأرض
كان يسكنها الآراميون، يتبين لنا في الحال أن الموارنة الذين عرفوا
انطلاقتين كبيرتين لهم، الأولى في شمال سوريا على يد مارون الناسك وتلاميذه
، والثانية على أرض لبنان بواسطة تفاعل الرسالة المارونية الآتية من سوريا
مع سكان كنعان المحليّين أي الفينيقييّن.
جذور الكنيسة
المارونية هي إذن جذور آرامية. وإن هذا القول ليجعلنا شركاء تاريخٍ مجيدٍ
مع جميع المتكلّمين باللغة السريانية، تلك التي سيطرت حضارياً على مجمل
الشرق، من البحر المتوسط حتى ايران ردحاً من الزمن يزيد على أكثر من ألف
عام.وهي لغة تعلّمها العبرانيون عندما رماهم السّبي في أرض بابل، وعادوا
بها الى فلسطين ليبقوا على استعمالها حتى في أيام السيد المسيح الذي باركها
بالتكلمّ بها مع العذراء مريم أمّه ومع جميع الذين بشّرهم بملكوت الله.
فيكفي هذه اللغة فخراً أنها كانت لغة التجسّد الإلهي والكنيسة الأولى، من
أورشليم الى انطاكية ومن ثم الى بلاد بابل وبعض من بلاد الهند حيث يقطن الى
اليوم السريان الملنكار والملابار الذين بُشرّوا بحسب التقليد على يد توما
الرسول في القرن الأول الميلادي.
وكما عرفت الآرامية رواجاً قبل المسيح بسبعة قرون هكذا أيضاً امتدّ ظلُّها
على الشرق بعد المسيح من لبنان وسوريا حيث سُميت لهجتها بالسريانية الغربية
حتى العراق وبعض من الهند حيث تميزت لهجةً وكتابةً ودُعيت بالآرامية
الشرقية. وفي كلتا البقعتين المذكورتين أعلاه عرفت الآرامية ازدهاراً
أدبياً ولاهوتياً كبيرين أعطى الكنيسة الجامعة واحداً من أكبر آبائها وهو
مار أفرام السرياني الملقّب بكنارة الروح القدس. ألإّ أن الكنيسة المارونية
قد تفردّت في العائلة السريانية عن سائر كنائس هذه العائلة بانفتاحها نحو
أرض لبنان وبارتباطها بكنيسة روما على مدى تاريخها كلّه دون انقطاع، ممّا
أعطاها أن تتطوّر وأن تسهم خاصة في تكوين شخصية ممُيزة لأبنائها.
مثل
هذا الكلام يعني أولاً أن الكنيسة المارونية هي جزءّ من الكنيسة السريانية
الانطاكية وهي مرتبطة لاهوتياً بهذه الكنيسة وبتراثها الطقسي والفكري
العريق. فمارون الناسك كان يتكلم الآرامية السريانية وهكذا تلاميذه ومجمل
الشعب الذي كان يُحيط بالدير الماروني الأول على العاصي في شمال سوريا. ومن
ذاك المكان بدأ التمايز بين السريان الموارنة والسريان الأورثوذكس إذ حدث
بينهم انشقاق من جراء تعليم المجمع الخلقيدوني الأول عام 451م.
ومن
هناك، من خلقيدونيا تعدّدت أغصان الكنيسة على الجذور الآرامية الواحدة
للكنيستين. والغريب أيضاً في التاريخ الماروني أن هناك تاثيراً متبادلاً
يدّونه هذا التاريخ بين الكنيسة المارونية في غرب هذه المنطقة وبين الكنيسة
الآرامية (الكلدانية – الآشورية) في مشرقها، مما يجعلنا نكتشف صلوات مشتركة
بينهما ونوافير موحدة النشق في كتب القداس منها النافور الذي يصلي فيه
الموارنة الى الآن في القدّاس السنوي الذي يقُام في صباح يوم الجمعة
العظيمة كما نذكر أيضاً مقارنة بين هاتين الكنيستين، إذ لعبت الكنيسة
الكلدانية – الآشورية دور المترجم والوسط بين الفكر اليوناني والفكر العربي
في القرون الوسطى ولعبت الكنيسة المارونية دور المترجم والوسيط بين الفكر
اليوناني الغربي الأوروبي والفكر الشرقي العربي في القرون الحديثة. إن مثل
هذه المقارنة تقودنا الى التاكيد بأن الكنيسة (كل الكنائس) بانفتاحها تجمع
الحضارات وتوحدها مثلما هي تجمع في أحضانها وتوحد بين أبنائها. وهكذا
فمثلما كان للكنيسة المارونية في أجيالها الأولى دور في دمج اللغتين
الآرامية والفينيقية بفضل تواجدها في لبنان، مما أعطانا الكثير من أسماء
المدن والقرى عندنا، والكثير أيضاً من الغنى الشعري والموسيقي، هكذا عرفت
أيضاً كنيستنا دوراً فعالاً في الأزمنة الحاضرة في تقريب الثقافتين وحتى
اللغتين العربية والسريانية، وفي صياغة أدب إنساني رفيع أعطى جبران وأعطى
النهضة العربية بكهتها الخاصة والمميّزة.
لذلك فإننا إذ نثبت الجذور السريانية لكنيستنا المارونية نسجل أيضاً لهذه
الكنيسة دوراً في الإنفتاح الحضاري والثقافي وفي تلاقيها مع سواها من
الشعوب.صحيح أن الموارنة التزموا الحرية في هذا الشرق وقدّموا على مذبحها
القرابين الغالية لكن الصحيح أيضاً هو أن الموارنة كانوا ويبقون أهل انفتاح
ثقافي وتفاعل خلاّق أينما حلوّا في دنيا الله الواسعة.
وإني لفخور شخصياً أمثل الكنيسة المارونية في عملية التقارب التي نقوم بها
بين جميع الكنائس ذات التقليد السرياني، وهي الى المارونية، الكنائس
السريانية الكاثوليكية والأرثوذكسية والشرقية القديمة، الكلدانية والآشورية
والهندية الملبارية والملنكارية. إننا نتوخّى بهذا العمل أمانة لتراثنا
السرياني الجامع وإحياءً له وسبراً لكنوزه الإنسانية الرائعة، لكنني في
الوقت عينه أوكد أمامكم أن تراثنا السرياني هذا سيكون كما كان دائماً
موجهاً نحو الانفتاح الفكري والإنساني على التراث العربي الذي أصبح تراثنا
وعلى سائر الثقافات في العالم، التي تكوّن بتنوعها غنى للجنس البشري برمته.
جميلة هي الجذور الضاربة في الأرض لكل شجرة باسقة وجميلة وممتلئة أيضاً
بثمارها الدلاة على أغصانها.فليحفظ الله الكنائس التي تكلمنا عن جذورها،
وليبقها مثل صديق سفر المزامير، أشجاراً مزروعة على مجاري المياه تعطي
أكلها في حينه وتفصح في رسالتها وفي كل مساعيها.
|