كلمة سيادة المطران يوسف توماس
(مطران بيروت للكنيسة الكلدانية)
حضارة بين النهرين والوحدة المشرقية- السريانية
منذ أن عرف الإنسان الحضارة، عرفها في بلاد ما بين
النهرين، فقد كشفت التنقيبات الأثرية عن مستوطنات بشرية ترجع الى آلاف
السنين في شمال العراق وجنوبه. فإن ثابتاً القول أن الحضارة السومرية هي
اقدم الحضارات المعروفة في العالم، وآثارها وروائعها معروفة لدى الجميع.
ففي بلاد ما بين النهرين عرف الإنسان
الزراعة فالإستيطان ، ثم أرسى ركائز الحضارة والمجتمع ، حتى عرف أداة
الحضارة المتطوّرة أي الكتابة، فدوَّن النصوص الأولى بأشكال مُعبَّر ثم بخط
مسماري وأبدع اولى الآثار الفنّية والادبية إضافة الى لوازم المعيشة والبيت
والمجتمع والقرية والمدينة فالدولة.
وقد
شخص لعلماء
لغات
الشرقالقديمة
، وصنفوها
فكانت السومرية لغة قديمة مقدسة، ثم كانت
الأكادية أقدم اللغات السامية المعروفة، تشبهها اللغة الأبلية، وعنها كانت
اللغات السامية كلها: الشرقية والغربية، الفينيقية، الكنعانية ، الكلدانية
والبابلية الآشورية والعبرية والآرامية والعربية، كها لغات شقيقة لأم
واحدة. ومن هذه كانت أيضاً لغة الرها التي بفضل الممكة التي قامت فيها
وتبني الكنيسة اياها، أصبح لها شأن أدبي وكنسي، فانتشرت بين سكان ومسيحييّ
الشرق وأصبحت اللغة الطقسية لقسم كبير من المسيحية منذ الأجيال الأولى.
ولما تجزأت هذه المسيحية الى جملة كنائس، والأسباب باتت
اليوم معروفة، بقيت السريانية لغة مشتركة لها رغم الإختلاف الطفيف الذي
داخل لفظها وخطّها. ومعلوم بأن الإنقسامات التي حصلت في جسم المسيحية
الشرقية لم تكن مهمة وعميقة بل لاختلافات تفسيرية فلسفية، لاهوتية، وعدم
اتفاق على المصطلحات والمناهج المدرسية، أما الأساس المشترك فواحد وواسع.
لذا فإن شعوبنا، لغاتنا، كنائسنا هي واحدة الأصل وما يجمها أكثر مما
يفرقها، بل إنها شقيقة كل ما في المنطقة الشرق أوسطية من شعوب ولغات وتراث
وقد يظن البعض أنه علينا أن نكون واحداً، بمعنى أن نكون
متساوين متشابهين في كل شيء، بحيث أنه لا يجوز أن يكون بيننا أي فارق مميز
وخصوصية خاصة. و لكن هذا محال في عالم البشر والفكر واللغة والحضارة
والدين... فالوحدة شيء والتوحد الشكلي أو التطابق الحرفي شيء آخر، إذ
لايوجد إثنان متشابهان تماماً. وما التنوع إلا علاقة غنى، والله لم يرالبشر
قطعا متشابهة متطابقة تماماً. وضرورة تجسيد الفكر والايمان أساسية لدى
الناس لذا كانت الحضارات يتميز بها كلُ إنسان وكل شعب وكل كنيسة وكل بلد،
ولكنها لاتضاد الوحدة ولا المشترك الأساسي.
وقد يظن بعض الناس أن الحضارة هي فقط ما يقدمه
الإنسان في العصور الحديثة والمعاصرة ليس إلإ، وأن التراث القديم لاقيمة له
أو أقلة لم يعد له من قيمة، وينسى هؤلاء أنه لولا القديم لما كان الجديد،
حسب قول المثل الشعبي "اللي ما عندو قديم ما عندو جديد" وأن التواصل
الحضاري سنّة الكون والبشرية، فلا يبدأ من الصفر، والعظيم من يعرف جذوره
ويرتكز الى أصالته الحضارية ليمتدّ الى الأمام ويرتقي في سماء الرقي
والإبداع.
و ليس تكابراً القول انه لم يعرف التاريخ حضارة كحضارة
بلاد ما بين النهرين عمقاً ورقياً وسمواً، لم يعرف البشر كنيسة ككنيسة
المشرق ذات التراث الآرامي السرياني، كنيسة أصلية عظيمة شاهدة للإيمان
والعلم اللهم ان اعتبرنا التراث اليوناني الدنيوي والديني الكنسي موازياً
لها، فهي قد امتدت حتى أقصى بلاد الشرق وشملت شعوباً وأمماً متعدّدة ونفحت
لغات عديدة في أرجاء واسعة وشاسعة من الشرق، منذ الألف الأول قبل الميلاد
وحتى الألف الأول بعد الميلاد. وان ضعفت لغتنا وتقلّص وجودنا امام المّد
العربي الاسلامي، فقد تمكنا من أن نتعاون ونتآخى مع غيرنا وان نقدم للحضارة
العربية فكراً وعلماً ومصطلحات. فكان قيام الحضارة الفكرية والعلمية
العربية على أيدي الناطقين بالسريانية خاصة في عصر الترجمات الشهيرة لا
سيما أيام العصر الذهبي للعباسيين في بغداد، وبغداد هي وريثة العواصم
الحضارية الشرقية المتعاقبة.
فلا مُغالاة إذا قلنا اليوم: أننا أحفاد شعوب ولغات
وحضارات كلها في الأصل واحد. وأن ما يجمعنا أكثر بكثير ممّا يفرقنا، وأنه
في أعناقنا مسؤولية تاريخية كبيرة أن نعرف من نحن وأبناء من نحن وأن نستفيد
من هذا الإرث العظيم، ناهيك عن وحدتنا في الإيمان وفي الإنتماء الى جسد
المسيح السري الواحد. فكلّنا واحد في المسيح المخلّص الأوحد، كرمة الحق،
فهو الذي يوحّد ويحيي جميع الأغصان التي هي نحن أعضاء جسد المسيح الواحد
الذي هو الكنيسة الواحدة الرسولية المقدسة والجامعة، وهذا حسب قول الرسول
بولس: "فاناشدكم إذاً انا السجين في الرب، أن تسيروا سيرة تليق
بالدعوة التي دعيتم اليها، سيرة ملؤها التواضع والوداعة والصبر. فاحتملوا
بعضكم بعضاً بمحبة واجتهدوا في المحافظة على وحدة الروح برباط
السلام. فهناك جسد واحد و روح واحدة، كما إنكم دُعيتم دعوةً رجاؤها واحد.
وهناك رب واحد وايمان واحد ومعمودية واحدة، واله واحد أب يجمع الخلق وفوقهم
جميعاً، يعمل فيهم جميعاً وهو فيهم جميعاً" (افسس4/16).