الجزء الثاني والعشرون
البطريرك "المعزول" عبدالمسيح الثاني
(1895-1905)
تحدثنا سابقاً عن المطران عبدالله الصددي (ولد في صدد عام 1833
وتوفي في القدس عام 1915) وذكرنا بانه كان المرشح الأول
والاقوى للبطريركية بعد وفاة البطريرك بطرس الثالث
(1872-1894). لكن في الأيام الأخيرة التي سبقت الانتخابات،
تغيرت المساومات والمعادلة وانُتخب يوليوس عبدالمسيح مطران حمص
(سوريا) بطريركاً جديداً.
وعلى أثرها زعل المطران عبدالله وقدم مع مجلسه الكنسي في
ابرشيته دياربكر شكوى للحكومة (لا نعرف فحواها وحجتها)، لكن
دون جدوى. وبسبب الاضطرابات السياسية في المدينة التجأ الى
القنصلية الفرنسية في دياربكر التي طلبت منه الانضمام الى
الكنيسة الكاثوليكية. ويقول مصدر معاصر للحدث بان المطران
عبدالله حلف اليمين على الانجيل اثناء اتباعه المذهب
الكاثوليكي رسمياً ووعد ان يكون مخلصاً له، وقد تمت مراسيم هذا
القسم في كنيسة مار بطرس وبولس في دياربكر، وذلك في الثلاثين
من شهر آذار 1896 أمام المطران السرياني الكاثوليكي ماروثا
بطرس ممثلاً الكنيسة السريانية الكاثوليكية. وبعدها نجح
عبدالله في الخروج من دياربكر الى سوريا وثم الى لبنان وانضم
رسمياً الى الكنيسة السريانية الكاثوليكية في دير الشرفة. وبقي
فيها حوالي عشر سنوات كواحد من اساقفتها.
لا نعلم بأي طريقة قبلت الكنيسة السريانية الكاثوليكية المطران
عبدالله وماذا طلبت منه أكثر من القسم الذي أداه، ولا نعلم
ماذا كانت شروطها عليه حينما انضم اليها واصبح احد مطارنتها.
فهل جحدَ مثلاً ايمان كنيسته الارثوذكسية وكفر بآبائها
وقديسيها كما كانت العادة المخجلة اثناء التحول الى المذهب
الكاثوليكي وقتذاك؟ وهل تعمَّد من جديد كما كان أحياناً يشترط
للقبول في المذهب الكاثوليكي حينها؟ أم ان الكنيسة السريانية
الكاثوليكية قبلته كما هو دون أي شرط؟ للأسف ليس لدينا معلومات
بهذا الخصوص. وربما يحتوي آرشيف دير الشرفة في لبنان بعض
الوثائق الهامة في هذا الموضوع. لكننا نميل الى الاعتقاد بانه
قُبل كما هو دون قيد أو شرط، واكتفت الكنيسة السريانية
الكاثوليكية بالقسم والوعد الذي قدمه.
بقي المطران عبدالله الصددي حوالي عشر سنوات كمطران شرعي في
الكنيسة السريانية الكاثوليكية ممارساً حقوقه وواجباته
الكهنوتية. لكن بعد أن سحبت السلطات العثمانية فرمانها من
عبدالمسيح الثاني بطريرك السريان الارثوذكس عام 1905، ترك
المطران عبدالله الكثلكة وعاد الى كنيسته الام السريانية
الارثوذكسية، ورُسم بطريركا لها عام 1906.
اننا لا نملك معلومات عن عودة المطران عبدالله الى الكنيسة
السريانية الارثوذكسية. فالمعلومات شحيحة جداً والموضوع فيه
الكثير من الغموض. فهل عاد عن طيب خاطر، أم بسبب زعل ما مع
الكنيسة السريانية الكاثوليكية، أم بسبب الوضع الجديد في
الكنيسة السريانية الارثوذكسية بعد إقالة بطريركها؟ أعتقد ان
قرار السلطنة العثمانية بسحب فرمان البطريرك عبدالمسيح ربما
شجعه ليعود الى كنيسته القديمة وعساه ان يصبح بطريركها هذه
المرة. لكن كيف نجح بعد عودته في اقناع المطارنة والزعماء
العلمانيين ليختاروه بطريركاً هذه المرة بعد ان كانوا قد غدروه
في المرة الأولى حينما اختاروا عبدالمسيح؟
كان عبدالله قد ارتسم مطرانا للقدس عام 1872 على يد البطريرك
بطرس الثالث الذي اخذه معه في زيارته التاريخية للهند عام 1875
لتنظيم الكنيسة في الهند. ولما عاد البطريرك بطرس الى الشرق
الأوسط ترك المطران عبدالله
في الهند بسبب خلافه معه. ونزع منه ابرشية القدس، ورسم لها
مطراناً جديداً وهو المطران كيوركيس الصددي عام 1877.
ولما عاد المطران عبدالله من الهند وجد ان ابرشيته (القدس) قد
اُخذت منه، فحز ذلك في نفسه، وسكن في حمص واشترى ارضا واسعة
وبنى فيها بعض الدكاكين. وحصلت له خلافات مع كهنة الابرشية.
وأرسل سريان صدد وحمص بعض الرسائل الى البطريرك بطرس بتاريخ
الثاني والثالث من شباط 1882 يشتكون فيها على المطران عبدالله،
وطلبه البطريرك ليحضر اليه فامتنع عن الحضور فغضب البطريرك
عليه وأراد عزله، لكن تدخل المجلس الكنسي وصالحهما. وكان
عبدالله يريد ان يبقى في حمص كمطرانها، لكن البطريرك بطرس رسم
لها عام 1886 المطران يوليوس عبدالمسيح (البطريرك عبدالمسيح
بعدئذ). وأرسل البطريرك رسالة الى حاكم حمص مؤرخة في كانون
الأول 1886 يطلب منه طرد المطران عبدالله منها لأنه متمرد
والقى فيها فساداً. بعدها غادر عبدالله الى بيروت ثم الى لندن
ثانية ليتعلم تركيب وتشغيل المطابع ويتعلم الإنكليزية، لكن
يبدو انه فعل ذلك دون اذن البطريرك. وعلى أثرها قام البطريرك
بطرس بتوقيف المطران عبدالله وحرمه دون روية. وأرسل البطريرك
رسالة الى القس الانكليزي الدكتور طرملت
Tremlett
المسؤول عن الجمعية السريانية في لندن
مؤرخة في 18 أيلول من عام 1887 يشرح فيها بانه عزل المطران
عبدالله الصددي وجرّده من مرتبة الأسقفية، وقال عنه بانه "غير
مطيع للشريعة الرسولية، ومتمرد على القوانين السليحية
(الرسولية)". ويضيف في تهمته قائلاً: "وارشدناه مرتين وثلاثة
كي يرجع عن عصيانه فلم ينصاع... وحضر... بدون رضانا. ويتخابر
مع حضرتكم ويدّعي انه مطران ومرخص من قبلنا. ... والحال انه
منذ أقدم سنة فهو مطرود ومشلّح (مجرد) من رتبة الأسقفية،
ومحروم من شركة الاسرار المقدسة... وبناء على ذلك طردناه من
وظيفة الأسقفية وشلّحناه من وظيفته التي تسلمها من حقارتنا
... بنعمة الله، اغناطيوس بطرس، بطريرك السريان الأرثوذكس بدير
الزعفران".
يقول المطران دولباني بان الترجمان الذي كان مع المطران
عبدالله في لندن افتعل فتنه بينه وبين البطريرك.
واستغرب الدكتور طرملت من مضمون الرسالة ومن قرار البطريرك
بتوقيف عبدالله، فكتب الى البطريرك يعاتبه ومدافعا عن المطران
عبدالله قائلا له بانه لا يوجد بين السريان احد يشبه المطران
عبدالله في الغيرة والخدمة والاخلاص. ثم تصالح المطران مع
البطريرك فأعاده للخدمة. وبعد عودته اخذ يشتغل في المطبعة
السريانية بكل تفاني وكأنه عامل أجير فيها. ثم أعطاه البطريرك
ابرشية امد (دياربكر).
لكن بعد رسامة عبدالمسيح بطريركا زعل عبدالله وانضم الى
الكنيسة السريانية الكاثوليكية في لبنان. وبعد عدة سنوات عاد
الى الكنيسة السريانية الارثوذكسية، ورسم بطريركاً عام 1906.
-20عودة
المطران عبد الله من الكنيسة
الكاثوليكية وسيامته بطريركاً:
بعد ان أصدرت السلطات العثمانية قرارها بسحب فرمان البطريرك
عبدالمسيح، فلم يعد له الحق ان يمارس الإدارة الكنسية الخارجية
(لكن قرار السلطنة لم يتدخل في القضايا الكهنوتية، لهذا استمر
البطريرك يمارس الخدمات الكهنوتية كبطريرك). وحينها عاد
المطران عبدالله من الكنيسة السريانية الكاثوليكية واختير
وارتسم بطريركاً.
لا نعلم كيف ومتى ولماذا عاد المطران عبدالله سطوف الصددي الى
الكنيسة السريانية الارثوذكسية بعد انضمامه الى الكنيسة
السريانية الكاثوليكية ومكوثه فيها حوالي عشر سنوات كأحد
اساقفتها. ولا نعلم كيف اُختير وانتخب بطريركاً في الكنيسة
السريانية الارثوذكسية بعد عودته اليها.
ان يوحنا دولباني الذي كتب عن البطاركة، لم يكتب عن موضوع عودة
المطران عبد الله الى الكنيسة السريانية الارثوكسية إلا جملة
واحدة فقط بقوله: "أخيرا اُختير غريغوريوس عبدالله ورُسم في 15
آب عام 1906". وفي موضع آخر يقول: "عاد عبد الله من الكثلكة
وانتخب للبطريركية ورسم في آب 1906".
وكتب المطران يوحنا عباجي (1962-1881) في مذكراته: "بعد انحلال
بطريركية مار اغناطيوس عبدالمسيح أفندي، التي لأسباب ما يسع
الوقت ذكرها، باتفاق اكثريت (أكثرية) الآراء، أنتخب المطران
غريغوريوس عبدالله الصددي لدرجة البطريركية".
أي لا دولباني ولا عباجي ذكروا شيئاً عن حيثيات الموضوع، لذلك
هناك اسئلة كثيرة تطرح نفسها عن موضوع عودة المطران عبدالله
الى الكنيسة السريانية الارثوذكسية وكيفية اختياره للبطريركية.
هل عُقد سنودس وانتخبه؟ من كان المطارنة الذين انتخبوه؟ وهل
كان هناك مطارنة يرفضون اختياره للبطريركية لأنه ترك الكنيسة
حوالي عشر سنوات؟ كيف تمت عملية رسامته بهذه المدة القصيرة بين
رجوعه ورسامته؟ ان طول المدة الزمنية، أكثر من سنة ونصف، التي
استغرقت منذ صدور قرار الدولة بعزل عبدالمسيح ولغاية رسامة
عبدالله بطريركا، يفسح المجال أمان التكهنات.
ان الرواية التقليدية تقول انه بعد إقالة البطريرك عبدالمسيح
الثاني عن الكرسي البطريركي، عاد المطران عبد الله سطوف الصددي
الى الكنيسة السريانية الارثوذكسية ثانية. وأقنع المطارنة بان
قضية التجائه الى الكنيسة السريانية الكاثوليكية لم تكن
ايماناً بالتعاليم الكاثوليكية إنما كانت نكاية بالبطريرك
عبدالمسيح وانتقاماً من المطارنة مما جرى له. فعاد اسمه يلمع
تدريجياً كمرشح أول للبطريركية بعد عزل خصمه عبدالمسيح. فقام
المطارنة بانتخابه ورسامته بطريركاً على الكنيسة السريانية
الارثوذكسية عام 1906 باسم عبد الله الثاني سَطّوف. لكن
الأسئلة المطروحة أعلاه بحاجة الى أجوبة لتتوضح الصورة. للأسف
لا جواب على الأسئلة. الموضوع يكتنفه الغموض.
وبرسامة عبدالله بطريركا اعترفت عليه السلطات العثمانية بانه
هو الذي يمثل الكنيسة السريانية الارثوذكسية. لكن برسامته دخل
في منافسة وصراع حاد مع البطريرك "المعزول" عبدالمسيح الساكن
في مديات.
وكان البطريركان عبدالمسيح "المعزول" وعبد الله يعملان على
مقاطعة بعضهما وكل واحد يحاول إغلاق الطريق امام الاخر، فعبد
الله كان يرى في عبدالمسيح انه منافسه ولم يفز بالبطريركية
سابقاً بسببه، ولم يتمكن من البقاء في حمص لأنها مُنحت
للبطريرك عبدالمسيح عندما كان مطرانا باسم يوليوس عبدالمسيح.
وكان عبدالمسيح يرى في عبد الله بانه سبب مآسيه.
وكلمة حق لا بد ان نقولها وهي ان للكنيسة السريانية
الكاثوليكية الكثير من الفضل على هذين البطريركين عندما التجأ
الاثنان اليها اثناء ازماتهما، ففتحت لهما الأبواب وساعدتهما
وخففت من معاناتهما، ثم عادا الى كنيستهما الأم.
21-
البطريرك عبدالله في غياب مستمر من الكرسي البطريركي والشعب
مستاء:
بعد رسامته بطريركاً في 15 آب 1906قام البطريرك عبدالله مشمراً
عن ساعد الجد والعمل بمنتهى الإخلاص والتفاني والغيرة
السريانية. وكان شعلة من النشاط والحماس والتضحية والإخلاص في
الخدمة رغم كبر سنه، وهو صاحب الفضل في استجلاب مطبعة من لندن
بعد سفره اليها ثلاث مرات، المرة الأولى برفقة البطريرك بطرس
الثالث عام 1874، والمرة الثانية 1886 ليتعلم تركيب وتشغيل
المطابع، والمرة الثالثة وهو بطريرك في طريقه الى الهند عام
1912.
إلا ان البطريرك عبدالله لم يفعل شيئاً لجمع شمل الطائفة
وتوحيد مسالكها التي تشعبت بسبب وجود بطريركين متخاصمين. وكان
ينبغي على عبدالله اجراء حوار اخوي مع البطريرك عبدالمسيح
ليقنعه بما حصل وان يعرض عليه للانتقال الى دير الزعفران
والسكن فيه كبطريرك ثان له حقوقه في الشؤون الداخلية. وخاصة ان
أنصار البطريرك عبدالمسيح لم يكن يُستهان بهم. لكن عبدالله لم
يفعل أي شيء لحل المشكلة، بل على العكس كان يقاطع عبدالمسيح
ويحاول اغلاق الطرق في وجهه، وكان عبدالمسيح أيضاً يتعامل بنفس
الاسلوب. فدفعت الطائفة ثمناً غالياً لهذا الصراع. فمنذ تاريخ
عزل عبدالمسيح ولغاية وفاته ووفاة عبدالله، كانت طائفة السريان
الارثوذكس في أسوء حال وأحرج مرحلة في تاريخها الحديث. فقد
ضعفت الطائفة كثيرا وانهارت معنوياتها، وفقد الكثيرون ثقتهم
بالكنيسة والاكليروس، وترك البعض من الاكليروس الكنيسة وانضموا
الى كنائس أخرى، وتبعهم ايضاً بعض العلمانيين في أماكن مختلفة.
فمثلاً في عام 1912 كتبت احدى الجرائد ان حوالي عشرين الفاً
سرياني مع اسقفهم من حمص وجوارها يريدون ان يتركوا الكنيسة
السريانية الارثوذكسية ويرغبون الدخول الى كنيسة الروم
الأرثوذكس.
وفي السنوات الأخيرة لبطريركية عبدالله ساد الإهمال في اعماله
الإدارية، وكان دائماً يؤجل الحلول.
والامر الملفت للنظر انه منذ رسامته بطريركا ولغاية وفاته لم
يسكن في مركز البطريركية (دير الزعفران) إلا نادراً. فقد كان
في سفر دائم، حيث سافر وسكن لفترات طويلة جداً في القسطنطينية
ولندن والهند والقدس ومصر. تاركاً الكرسي البطريركي شاغراً،
والكثير من الأمور الطائفية التي تحتاج الى قرار البطريرك بقيت
دون انجاز، فساءت أحوال الطائفة واخذ بعض السريان يسألون عن
سبب غياب البطريرك. لكن هل كان ابتعاده عن الكرسي البطريركي
عفويا أم عملاً مقصوداً ومتعمداً ليبتعد عن البطريرك الآخر
"المعزول" عبدالمسيح الساكن في مديات (القريبة من دير
الزعفران) ويتجنبه؟
هناك وثيقة (رسالة) هامة مؤرخة في الأول من شهر آب 1911 وجهها
زعماء الطائفة وكهنتها في دياربكر الى البطريرك عبدالله
يقرعونه فيها على غيابه الدائم من مركز البطريركية، ويطلبون
منه الرجوع لدير الزعفران حالا والاهتمام بأمور الطائفة. كما
ان كهنة وزعماء الطائفة في ماردين ومعهم مطرانهم قوريلوس
كيوركيس ارسلوا له ايضاً رسالة مشابهة مؤرخة في السادس من آذار
لعام 1913 يشتكون الوضع السيء في الطائفة.
وفي رسالة أخرى من المجلس الملي في دياربكر بتاريخ العاشر من
أيار 1913 يشكون سوء وضع الطائفة بسبب غياب البطريرك عبدالله
حيث يقولون "... وهذه الخسارات كلها حدثت من عدم التدبير ومن
عدم اصغائكم لصوت الملة عندما تطلبكم الى الكرسي، وابتعادكم عن
الكرسي قد خسرت طائفتنا حقوقها وفرص تقدمها ونجاحها... فيا
لسوء حظ وطالع هذه الملة المسكينة، ومن سيعطي الجواب في يوم
الدينونة امام الله العظيم عن هذا الإهمال وعن عدم السؤال عن
حقوق الملة، والطوائف عمال تفترسنا من كل جانب، من هو الراعي
ومن هو الرأس ومن هو المسؤول امام الله... ان الملة من هذا
التماهل في هذا العصر على فراش الموت، اسفاً على الملة!... هذه
كلها خسارة من ابتعادكم عن الكرسي... وكم مرة حررنا وطلبنا
حضوركم. وهذه سنتين ونصف رجعتم من الهند وانت في سورية والقدس
تنتقلوا من محل الى محل... ان كل ما حررناه أعلاه هو من كسر
قلوبنا على ملتنا المسكينة التي وصلت الى حالة لا يصح السكوت
عليها، وهذه كلها ناتجة من عدم وجودكم بالكرسي وابتعادكم هذه
المدة الطوعية... اسرعوا بالحضور والا سوف الملة تروح من
اليد... هذا اخر تحرير لغبطتكم... دياربكر، سرياني قديم ملت
مجلس".
وهناك رسالة قاسية جداً مؤرخة في الأول من آب لعام 1913 أرسلها
اليه أحد مثقفي السريان يسمى الياس شمعون. بعد ان يشرح بانه
درس في دير الزعفران وحلب والموصل ودياربكر يقول بانه زار
الطائفة في حلب والرها (اورفا) وويران شهر، ونصيبين، وماردين،
والجزيرة، والموصل، وطورعابدين ودياربكر وتعرف على حالتها،
يقول: " بناء على محبتي لجنسيتي وغيرتي، قد حررت أحرف العبودية
لغبطتكم وانا بحزن شديد على أحوال امتنا السريانية الحاضرة،
وعلى الجرح الغير قابل الشفاء التي جرحت به هذه الطائفة
المسكينة... التي ليس يوجد أحد يسئل عليها.. ان ما وصلت اليه
الطائفة الان في أيامكم... لم يحصل في اي زمان ما قبلاً من
الازمان، ولا ابائنا واجدادنا خبّرونا عن مثل هذا الانحطاط
والتأخر والترك وعدم السؤال عليها... وهذه الأمور ستكون لك
كسوداء في تاريخ بطريرتكم لا تحجبها الأجيال والعصور
المقبلة...." ويقول: "الطوائف الأخرى كلها تنظر الى طائفتنا
بعين الاحتقار". ويتساءل قائلاً: "ان انتم ما سئلتم على قطيعكم
واغنامكم من يسئل؟...عجباً ما تتأثروا بقلوبكم على جرح ملتكم
العظيم... واجب عليكم بغيرة ان تحضروا للكرسي وتسئلون على
اغنامكم... أحرر لغبطتكم هذه الاحرف من حريق قلبي والتهاب
صدري...". وفي نهاية الرسالة يوقعها المرسل هكذا "الحزين على
أحوال ملته، الياس شمعون".
وحتى وفات البطريرك حلت في القدس ودفن في دير مار مرقس فيها،
بعيدا عن كرسي البطريركي في دير الزعفران.
وبسبب ابتعاد البطريرك عن الكرسي راح البعض من معاصريه يستخلص
النتائج ويتهم البطريرك عبدالله "بانه كان يفعل كل هذا عن قصد
لإضعاف الكنيسة السريانية الارثوذكسية بناء على رغبة
الفاتيكان، وان الفاتيكان كان وراء انتخابه بطريركا في الكنيسة
السريانية الأرثوذكسية". لكننا نرفض هكذا اقاويل هزيلة.
كتب البطريرك أفرام الأول (1887-1957) عن البطريرك عبدالله
بانه كان متواضعاً وفطناً، لكنه كان ضعيف الفكر وبخيلاً. وقال
عنه المطران دولباني بانه كان ورعاً في اعماله وجميلاً في
كلامه، واما البخل فكان بسبب قلة موارد الطائفة التي لم يكن
يريد ان يفرّط بها.
22- لكن ماذا لو كان عبدالله غير شرعي؟
لقد اتخذت إدارات الكنيسة السريانية الارثوذكسية موقفها من هذا
الموضوع وقررت عدم شرعية عبدالمسيح منذ صدور قرار السلطنة
العثمانية بسحب فرمانها منه عام 1905،
وقررت الاعتراف بشرعية عبد الله منذ رسامته 1906 لغاية وفاته
عام 1915. ورغم ان غالبية الطائفة كانت مع عبدالله إلا ان
الكثيرين من الاكليروس والمؤمنين كانوا يتعاطفون مع البطريرك
عبدالمسيح، ويعتبرونه أيضاً بطريركاً شرعياً في الشؤون
الكهنوتية والكنسية الداخلية، ومنهم من كان يعتبر عبد الله غير
شرعي كما وجدنا في الجزء الماضي من هذه المقالة.
لكن لو فرضنا ان عبد الله كان بطريركاً غير شرعي، فهذه قضية
خطيرة للغاية لأنها ستخلق مشكلة كبيرة في تسلسل الكهنوت في
الكنيسة منذ حينها، لأنها تعني ان كل المطارنة الذين رسمهم
عبدالله سيكونون غير شرعيين، وما رسموه بدورهم من كهنة ورهبان
غير شرعيين، وكذلك سيتحول كل البطاركة الذين خلفوا عبدالله على
الكرسي غير شرعيين (لان البطريرك عبدالله كان قد رسم الياس
الثالث مطراناً، وهذا اصبح بطريركاً بعدئذ، والياس الثالث رسم
افرام برصوم مطراناً وثم اصبح بطريركاً، والذي بدوره رسم يعقوب
الثالث مطراناً، ويعقوب الثالث رسم زكا الأول مطراناً وبدوره
رسم البطريرك افرام الثاني مطرانا، فكل هؤلاء سيصبحون غير
شرعيين ان كان عبدالله غير شرعي). لذلك من مصلحة الكنيسة القول
في شرعية عبد الله لإعطاء الشرعية لجميع خلفائه.
(ملاحظة: ان الشواهد التي نقلناها من الرسائل التي استشهدنا
بها مكتوبة بلغة ضعيفة وركيكة وفيها كلمات عامية وأخطاء، لكننا
تركناها كما هي).
الجزء الثالث والعشرون
|