عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم

تعقيب على مشكلة المطارنة الستة ومشاكل الكنيسة السريانية الارثوذكسية

ستوكهولم / السويد


الجزء الثالث والعشرون

وضع الكنيسة بين البطريركين عبدالمسيح الثاني وعبدالمسيح الأول

23- الكنيسة السريانية الارثوذكسية بين البطريركين عبدالمسيح الثاني وعبدالمسيح الأول والنزاع على البطريركية:

رغم ان الفترة الزمنية التي تفصل بين البطريركين السريانيين الارثوذكسيين عبدالمسيح الأول (1661-1686) وعبدالمسيح الثاني (1905-1895)  تبلغ قرابة القرنين والنصف، إلا ان وضع الكنيسة والطائفة اثناء حياة البطريركين لم يتغير كثيراً بل كان مشابهاً في عدة أمور، وخاصة لوجود بطريرك آخر منافس ومخاصم في حياة كل منهما، ولعلاقة البطريركين مع الكنيسة في الهند ودورهما في مفريانية الهند، وكذلك لتغلغل المرسلين الاوروبيين بين السريان الأرثوذكس لحملهم على تغيير مذهبهم في عهد كل من البطريركين، ولخروج مجموعات من مدنيين واكليروس من السريان الأرثوذكس وانضمامهم الى المذهب  الكاثوليكي، وللنشاط الخاص الذي بذله كل من البطريركين لتثبيت رعاياه في كنيسته.

عام 1661 انُتخب عبدالمسيح الأول بطريركاً في دير الزعفران خلفاً للبطريرك يشوع برقمشو (1661-1653)، لكن "المفريان" شكر الله اعترض على الرسامة وزعل وجمع حوله مجموعة من المعارضين ونصبوه بطريركا خصماً على دياربكر. (لكن حسب أحد المصادر ان أنصار شكرالله كانوا قد نصبوه بطريركا عليهم قبل عشرين سنة أي في عام 1640؟). وانقسمت الكنيسة بين البطريركين المتنازعين عبدالمسيح الأول وشكرالله "الأول". وهذا يذكرنا بزعل المطران عبدالله الصددي بعد رسامة عبدالمسيح الثاني بطريركاً عام 1895 وكيف انه اقنع ابرشية دياربكر للشكوى على عبدالمسيح لدى الحكام المحليين. يبدو ان جانباً كبيراً من المشاكل الكنسية الإدارية كانت تُحاك من بعض الناس في ابرشية آمد (دياربكر) التي كانت من حين الى آخر "تتمرد" على البطاركة وتخلق لهم المصاعب.

 لكن بمساعي أبناء الطائفة الغيورين على الكنيسة تمت المصالحة بين البطريركين عبدالمسيح الاول وشكرالله. وحُلّت المشكلة وزال انقسام الكنيسة. وتم الاتفاق ان يكون شكر الله بطريركاً ثانياً في الدرجة بعد عبدالمسيح ومقيماً في دياربكر كمطران عليها، وعبدالمسيح البطريرك الرسمي في دير الزعفران. ودبر البطريركان إدارة الكنيسة معاً بشكل سلمي.

 ان المرحلتين التي عاش فيهما البطريركان عبدالمسيح الأول وعبدالمسيح الثاني شهدتا صراعات كبيرة على البطريركية السريانية، وشهدتا دخول الكثلكة بين السريان وانضمام بعضهم اليها.

ففي المرحلة الاولى انضم الشماس اندراوس عبد الغال الى الكنيسة الكاثوليكية، وبمساعي القنصل الفرنسي في حلب فرنسيس بيكيت والمرسلين الأجانب أخذ يؤسس نواة طائفة سريانية كاثوليكية في حلب. ورغم انها كانت تتكون حينها من بعض العائلات القليلة، إلا ان الرهبان المرسلين الكاثوليك كانوا مجموعة لا يستهان بنفوذها وسلطتها وهي التي كانت تسيطر وتحكم الكنيسة في حلب بمساعدة الدبلوماسيين الفرنسيين هناك. يقال ان أحد الرهبان السريان الارثوذكس قدم من موطنه في الموصل الى حلب بشأن قضية ما اثناء بطريركية عبدالمسيح الأول، واراد النزول والمبيت في احدى الغرف التابعة للكنيسة السريانية في حلب وان يصلي في الكنيسة، ولم يكن يعلم الكثير عن الصراع الحاصل في حلب، فلما همّ الدخول الى بيت الكنيسة قبض عليه المرسلون الأوروبيون والقوه خارجاً، كما انهم منعوه من ان يصلي في الكنيسة. فتأثر هذا الراهب كثيراً مما حصل له، فذهب وبات في الفندق متذمراً ووعد ان ينتقم منهم. وتشاء الظروف بعد سنوات عديدة ان أصبح هذا الراهب بطريركاً باسم كيوركيس الثاني (1687- 1708)، فجاء الى حلب وعمل جهده على فك قبضة هؤلاء المرسلين الأجانب من الكنيسة السريانية والدار التابعة لها، ونجح في السيطرة على الكنيسة وضمها الى سلطته.

وكان السريان الأرثوذكس في حلب يعيّرون اخوتهم السريان من الذين تبعوا المرسلين الاجانب والمذهب الكاثوليكي ويسمونهم "فرنجية". وكان الأرثوذكس والكاثوليك يشتكون دائماً على بعضهم لدى الحاكم والمحاكم في العاصمة اسطنبول ولدى الحكام المحليين في حلب، والذي يدفع أكثر يربح الدعوى بغض النظر ان كان على حق أم على باطل، لذلك تغيرت ملكية الكنيسة في حلب عدة مرات وانتقلت من هذا الفريق لذاك الى ان استقرت ملكيتها اخيراً للمجموعة الكاثوليكية. ان هذه الاعمال العدائية بين الطرفين الشقيقين اضعفت السريان والكنيسة السريانية الى درجة كبيرة جداً.

واستمر النزاع الكنسي في الطائفة والصراع على البطريركية اثناء حياة عبدالمسيح الأول وخلفه كيوركيس الثاني المذكور اعلاه (1687- 1708) بشكل قوي.

 ان انقسام المطارنة الى تكتلات وصراعهم على البطريركية وقيام أكثر من بطريرك في آن واحد لم ينقطع. فتاريخ الكنيسة السريانية الارثوذكسية حافل بالصراعات على البطريركية في كل زمان، وحافل بالانقسامات، وحافل بقيام بطريركين أو أكثر في نفس الوقت.

ففي المرحلة التي نتكلم عنها مثلاً، أي في القرن السابع عشر اثناء بطريركية عبدالمسيح الاول، وبعد وفاة البطريرك داويد شاه المارديني (1591-1576) اختار بعض المطارنة المفريان بيلاطوس المنصوري ورسموه بطريركا عام 1591 لكن بعض المطارنة الاخرين قاموا برسامة المفريان بطرس هدايا بطريركا في نفس السنة 1591، وقبل وفاة البطريرك بيلاطوس بسنتين كان قد رسم شقيقه المطران عبدالغني المنصوري بطريركاً ليخلفه على الكرسي البطريركي، فاصبح في الكنيسة ثلاثة بطاركة (وبالإضافة الى البطريرك اغناطيوس سهدو المدياتي بطريرك إقليم طورعابدين المستقل كنسياً، اصبح للكنيسة أربعة بطاركة معاصرين).

لكن بعد وفاة البطريرك بيلاطوس في حلب عام 1597 توحد الفريقان المتخاصمان واستمر البطريرك بطرس هدايا لوحده على الكرسي لغاية 1640، أما عبدالغني فاصبح بطريركاً ثانياً في الدرجة بعد بطرس هدايا.

 وبعد وفاه البطريرك بطرس هدايا عام 1640 انقسم المطارنة ثانية الى عدة تكتلات وكل مجموعة اقامت لها بطريركها. فقام في دياربكر البطريرك شمعون الطورعابديني (1653-1640)، واقام بعض المطارنة الاخرين بطريركا آخرا منافساً له هو عبدالنور، وحسب احد المصادر أقام بعض المطارنة الآخرين بطريركاً آخراً اسمه شكرالله. أما شمعون فنال لوحده الاعتراف من الدولة.

لكن في عام 1653 قام حاكم دياربكر العثماني بعزل البطريرك شمعون الطورعابديني ونفاه الى جزيرة قبرص. وفي قبرص التقى البطريرك المنفي بالقنصل الفرنسي فرنسيس بيكيت وطلب منه مساعدته لإزاله حكم النفي منه. فساعده القنصل الفرنسي وسُمح للبطريرك شمعون بالمجيء الى سوريا فجاء الى حلب، وطلب منه القنصل بإلحاح ان يرسم الراهب اندراوس اخيجان مطراناً لسريان حلب، لكن البطريرك شمعون امتنع معللاً بان اندراوس اعتنق المذهب الكاثوليكي وارتسم كاهنا على يد بطريرك السريان الموارنة يوسف بطرس العاقوري عام 1649 في الكنيسة المارونية في جبل لبنان، وان عقائده ليست ارثوذكسية لأنه درس العلوم الكنسية في روما. ولما رفض البطريرك شمعون رسامته اسقفاً لسريان حلب، أرسلوا الراهب اندراوس الى بطريرك الموارنة بطرس صفراوي في جبل لبنان وقام برسامته مطراناً في قنوبين عام 1656 وعاد الى حلب مطراناً. وقام القنصل الفرنسي المذكور فرنسيس بيكيت والمرسلون الاجانب واتصلوا مع والي حلب ابراهيم باشا وأقنعوه أن يُسلم كنيسة السريان الى المطران اندراوس اخيجان، وهكذا حصل. لكن لغاية حينها لم يكن الكاثوليك منفصلين عن السريان الأرثوذكس بشكل كامل.

 وعند نفي البطريرك شمعون الطورعابديني عام 1653 الى قبرص، نهض الفريق التابع لشكرالله وحاولوا اقراره وتجليسه على الكرسي البطريركي. لكن غالبية المطارنة رسموا يشوع برقمشو بطريركاً في نفس العام 1653.

وعند وفاة البطريرك يشوع برقمشو عام 1661 "اغتنم الفرصة القنصل الفرنسي فرنسيس بارون بيكيت ومعه الرهبان الأوروبيين واقاموا المطران اندراوس اخيجان بطريركا في كنيسة السريان في حلب  1662"، وحاولوا فرضه على الطائفة كلها لكن دون جدوى، فبقي بطريركاً للمجموعة الكاثوليكية الصغيرة فقط في حلب. ويقال بان أخيجان ارتُسم بطريركاً على يد مكاريوس بطريرك الروم وصليبا بطريرك الأرمن، ويقال ايضاً بانهما كانا قد تكثلكا. وأصبح أندراوس أول بطريرك للسريان الكاثوليك. وبعد سنتين اعترفت به السلطات العثمانية.

توفي البطريرك اندراوس أخيجان عام1677 في حلب بعد ان أسس نواة للكنيسة السريانية الكاثوليكية، وكان قد رَسَم مطرانين للمجموعة الكاثوليكية، الأول هو شقيقه بهنام روحيجان، والثاني رزقو أمين خان.

 وكان البطريرك يشوع برقمشو (1661-1653)، قد رسم الراهب عبدالمسيح الرهاوي مطراناً، ولما وجد فيه الصفات الجيدة رشحه ليكون بطريركاً بعد وفاته. وبعد وفاة برقمشو اختار المطارنة المطران عبدالمسيح المذكور ورسموه بطريركاً في دير الزعفران عام 1661 باسم عبدالمسيح الأول. لكن المفريان شكرا الله لم يقبل به ولم يعترف بسلطته. (يقال ان اتباع شكرالله كانوا قد رسموه بطريركاً منذ أمد) ولما لم يكن الناس يعترفون بشكرالله بشكل رسمي إلا أنصاره القلائل، لذلك رضي شكرالله ان يكون بطريركا بوظيفة مفريان. ولما لم يشاء المفريان شكرالله الاعتراف بالبطريرك عبدالمسيح. رسم عبدالمسيح مفرياناً جديداً بدلاً من شكرالله هو غريغوريوس الرهاوي، فتحمس اتباع شكرالله حينها واقاموه بطريركا على دياربكر، وانقسمت الطائفة بين البطريركين. لكن بعد ان فض النزاع، وتصالحَ الطرفان، أصبح عبدالمسيح البطريرك الأول للطائفة وشكرالله بطريركاً من الدرجة الثانية يحكم فقط على دياربكر لكن برضى الطرفين الذين توحدا.

 وفي عام 1677 قام بطريرك آخر هو اغناطيوس مراد وتوفي في السنة التالية. ثم تكثلك المطران بطرس شهبدين ابن اخت البطريرك عبدالمسيح الأول، وتكثلك أيضاً بعض المطارنة الاخرين (سريان وأرمن) الذين اجتمعوا ورسموا بطرس شهبدين بطريركاً عام 1678 خلفاً لأندراوس أخيجان. وحدث خصام شديد في الطائفة في حلب التي كانت مركز المشاكل. وبعد عدة جولات من المد والجذر سيطر الأرثوذكس على الوضع، وغادر البطريرك بطرس شهبدين حلب الى روما ونقل معه رفات البطريرك اندراوس اخيجان ودفنها هناك في كنيسة مار يوحنا لاتران. وبعد عدة سنوات غادرها الى إسطنبول برفقة سفير النمسا وبمساعيه حصل على الاعتراف من السطات العثمانية، ثم جاء الى حلب. واشتكى عليه الأرثوذكس ثانية، وألقي في السجن مع المطران رزقو بطريقة بشعة جداً، ومات الاثنان في سجن أضنة عام 1702.

 لكن النزاع على البطريركية لم ينته. ففي عهد البطريرك الذي خلفه كيوركيس الثاني الموصلي (1708-1687) كان هناك عام 1701 ستة بطاركة وثلاثة مفارنة في الكنيسة السريانية، فتأمل.

 ان بعض المطارنة والبطاركة لم تكن تهمم غير مصالحهم الشخصية، ولما كانت مصالحهم لا تسير كما يرغبون فكانوا يحدثون انشقاقات في الكنيسة من خلال رسامة بطاركة غير شرعيين ضد البطريرك الرسمي. وليس هذا فحسب فان بعض البطاركة اعتنقوا الإسلام ايضاً مثل البطريرك يشوع الثالث (1509- 1510) والبطريرك نعمة الله المارديني (1557- 1576)، بغض النظر عن الظروف والأسباب التي دفعتهم للأسلمة ثم الندم. فتأمل.

 الجزء الرابع والعشرين 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها