الجزء الواحد والعشرون
البطريرك "المعزول" عبدالمسيح الثاني
(1895-1905)
19-
هل كان البطريرك معزولاً بالفعل ولا يحق له ممارسة الخدمات
البطريركية؟
سنذكر هنا أربعة احداث لنستخلص منها شيئاً من الحقيقة المرة.
أولاً: رأي الكنيسة السريانية المستقلة في الهند من عزل
البطريرك:
تقول بعض المصادر الكنسية الهندية ان السلطنة العثمانية نزعت
عن البطريرك عبدالمسيح "فرمانه" فقط، لكنها لم تجرَّده من
صلاحياته الكهنوتية كبطريرك ولم توقفه عن الخدمة. وتعلل تلك
المصادر بقولها: عندما قام البطريرك عبدالمسيح بزيارة الهند
ورسامة مفريان لها عام 1912 كان يعتبر نفسه بطريركا رسمياً له
كامل الحقوق البطريركية. لذلك اعطى للهنود الساعين الى مزيد من
السلطة والاستقلال الداخلي الحق ان يقيموا مفارنة دون الرجوع
الى الكرسي البطريركي، وانه بسلطته حلَّ الكهنة الموقوفين في
الهند خاصة المطران ديونيسيوس كيوركيس زعيم حركة المطالبة
بمزيد من الحقوق والسلطة للكنيسة السريانية الهندية، لاغياً
بذلك قرارات البطريرك عبد الله بخصوص توقيف ديونيسيوس وحرمه
الذي كان قد حصل في ايار عام 1911. (وقد أخبرني بعض الأصدقاء
الهنود بان هذا المطران الهندي الموقوف كان من أكبر علماء
اللغة السريانية والعلوم الكنسية حينها. وتفوَّقَ فيها على
البطريرك الياس الثالث شاكر وحاشيته من الرهبان اثناء زيارته
للبطريرك في دير الزعفران عام 1923، ونقاشه معهم بالسريانية
الفصحى. كما انه أثبت مقدرته العظيمة في الجدل وأصول النقاش
بالسريانية، وكذلك معرفته الواسعة لتاريخ الكنيسة السريانية
ولاهوتها وآدابها. ولما زار البطريرك بطرس الثالث الهند عام
1875 كان هذا المطران العلامة كيوركيس ديونيسيوس راهباً
ومعلماً حينها، وقد أعجب البطريرك بطرس بعلمه الغزير فأنعم
عليه بلقب "ملفان" لأنه كان قد ألّف أطروحة علمية باللغة
السريانية حول عقائد الكنيسة الارثوذكسية أسماها
Matha Sangathi،
(وقد كتب عنها أحد المؤرخين الكنسيين الهنود بانها تفوق كل
بحوث الاخرين الذين كتبوا عن الموضوع بعدها، لا بل أصبحت
أساساً لكل ما كُتب بعدها عن الايمان. وأخبرني هذا المؤرخ
شخصيا بانه كان يعرف المطران ديونيسيوس معرفة شخصية جيدة، وكان
معجباً بعلمه، وقد وصفه لي قائلاً بانه كان من أهم العلماء
الذين انجبتهم الكنيسة السريانية الملنكارية في الهند) كما انه
كان من أنشط المدرسين في المعهد الاكليركي السرياني وله مؤلفات
أخرى منها كتاب لتعليم اللغة السريانية، وقد أكد هذه الصفات
البطريرك المرحوم يعقوب الثالث عندما كتب عنه بانه: "كان
استاذاً ماهراً، وكاتباً قديراً وخطيباً مصقعاً، وجدلياً،
ومتبحراً في علم الكتاب المقدس، ومتضلعاً من اللغة
السريانية...". لذلك يقال بان أحد جوانب خلاف القيادات الكنسية
معه كان انهم لم يستوعبوا قصده جيداً، لأنه كان يسعى لتنظيم
علاقة الكنيسة الهندية مع البطريركية على أساس جديد، وكان
يدعمه في مسعاه معظم المثقفين السريان في الهند لأنه كان
متعلماً جداً والفريق الاخر أقل منه بكثير، وكان معظم الشعب
البسيط واقفا مع الفريق الآخر (البطريركي). ويقال ايضاً بان
خلاف البطريركية معه كان خلافاً بين التجديد والحفاظ على
التقليد المتوارث).
وكان هذا العلامة السرياني الهندي ديونيسيوس كيوركيس الساعي
للحصول على نوع من الاستقلال الداخلي للكنيسة السريانية
الهندية مع تبعيتها لبطريرك انطاكية، قد جاء في شيخوخته الى
دير الزعفران متجشماً أعباء السفر والطريق الطويلة من الهند
لأجل المصالحة وتنظيم العلاقة الكنسية والحوار مع البطريرك
الياس الثالث عام 1923. والذي يهمنا هنا من اللقاء بينهما هو
انهما ناقشا معاً وضع البطريرك "المعزول" عبدالمسيح وموقف
الكنسية السريانية الهندية من عزله وكيف كانت تعتبره. لأنه
اثناء زيارة عبدالمسيح للهند كان قد رسم مفرياناً وبعض
المطارنة، وأزال الحرم والتوقيف الذي كان على بعضهم.
وورد في البرتوكول السرياني المدون اثناء الحوار بين الطرفين،
قال المطران ديونيسيوس للبطريرك الياس: "لقد سمعنا ان البطريرك
عبدالمسيح عُزل على يد السلطان "العثماني"، لكن لم يصل الى
مسامعنا بانه عُزل من قبل سنودس الاساقفة، ولدينا اثباتات تؤكد
هذا: منها رسالة المطران صليبا البشيري "التي وجهها للهنود"
عندما كان شماساً ذكر فيها بانه رغم ان البطريرك طُرد من قبل
السلطان، إلا انه لا زال بطريركاً روحياً".
وأضاف ديونيسيوس كيوركيس سائلاً البطريرك: "هل اجتمع السنودس"
وقرر عزل البطريرك عبدالمسيح؟
فأجابه البطريرك الياس مصرحاً: "ان المطارنة لم يجتمعوا كلهم
معاً، لكنهم كانوا قبل عزله بعدة أشهر يراسلون بعضهم البعض
بخصوصه". أي كان هناك نشاطات وتكتلات للمطارنة المعارضين.
ولهذا لم يكن عزل عبدالمسيح بقرار مأخوذ في اجتماع رسمي في
السنودس الكنسي، أي لم يكن عزله حسب القوانين الكنسية، ولهذا
لم يعترف ديونيسيوس كيوركيس واتباعه الهنود بعزل عبدالمسيح بل
كان بنظرهم "بطريركاً شرعياً. وان والرسامات الكهنوتية التي
قام بها قانونية، وان درجة المفريانية التي منحها للهنود ليست
غير شرعية". لكن ديونيسيوس وفريقه من الهنود كانوا على صلة مع
البطريركين ويعرجون على الجانبين حسب مصالحهم.
وكان هذا المطران ديونيسيوس كيوركيس الهندي قد رُسم مطراناً مع
صديقه قوريلوس بولس الهندي في القدس عام 1908على يد البطريرك
عبد الله الصددي. وكانت سلطته على الكنيسة السريانية الهندية
تعادل سلطة مفريان. لكن اثناء زيارة البطريرك عبدالله الى
الهند وبسبب المشاكل قام البطريرك بعزل وحرم المطران ديونيسيوس
كيوركيس عام 1911 وعيَّن صديقه قورلوس بولس مطراناً عاما على
الهند بدلا من كيوركيس.
لكن كيوركيس لم يكن يعترف على قرار حرمه الذي صدر بحقه من
البطريرك عبد الله، لأنه كان يعتبره قرارا "غير قانوني" لأنه
لم يصدر من السنودس كما تنص القوانين الكنسية بل من البطريرك
لوحده. وفي نهاية السنة 1911 عاد البطريرك عبد الله من الهند
دون ان يحل ديونيسيوس كيوركيس من حرمه. لكن حينما زار البطريرك
عبدالمسيح الهند في السنة التالية 1912 قام بحل ديونيسيوس من
حرمه، أي انه أعيد شرعياً على يد البطريرك عبدالمسيح.
وفي حوار المصالحة المذكور المذكور أعلاه بين البطريرك الياس
والمطران ديونيسيوس الهندي، طلب البطريرك الياس من المطران
ديونيسيوس ان تُعاد رسامته ورسامة مطارنته مجدداً. لكن
ديونيسيوس رفض لأنه لم يكن يعتبر نفسه محروما كما كان البطريرك
ينظر اليه، لان البطريرك عبدالمسيح حله من حرمه.
فرد عليه البطريرك الياس قائلاً: "ان الرسامات التي قام بها
البطريرك عبدالمسيح في الهند هي باطلة ومحرمة" وكذلك الرسامات
التي منحها المرتسمون منه لغيرهم. لذلك يجب ان تعاد رسامات
الجميع.
وأضاف البطريرك "ان مطارنتك رُسموا من قِبل من كان موقوفا من
الخدمة... ان السنودس الذي سلم السلطة البطريركية والإدارة
لعبدالمسيح هو نفسه اخذها منه، لذلك لم يكن بيده أي سلطة، فكيف
يستطيع ان يمنح لغيره ما لا يملك؟"
فرد ديونيسيوس بقوله: "رغم تجريد عبدالمسيح من البطريركية
والإدارة، إلا انه لم يجرد من الكهنوت والروحانية". وقال
ايضاً: "لقد وصلنا خبر طرد البطريرك عبدالمسيح من جريدة
أمريكية كان كاتبها في القدس، جاء فيها "ان ملك الاتراك طرد
البطريرك عبدالمسيح من كرسيه"، ولما سمع البلايريون كتبوا في
جرائدهم مستهزئين بالسريان قائلين ان سلطان الاتراك هو الذي
يقيم ويعزل بطاركة السريان اليعاقبة".
فرد البطريرك الياس قائلاً: "ان سلطان الاتراك لا يقيم ويعزل
بطاركتنا، إلا الذين نقبلهم او لا نقبلهم".
وتابع البطريرك: "عندما اختير البطريرك عبدالمسيح للبطريركية
كان صادقا وغيوراً. لكنه عندما ذهب الى دياربكر اثناء
الاضطرابات وقتل الأرمن عام 1895 فانه خاف وارتبك عقله قليلا،
فصدرت منه بعض الأمور غير السليمة في اعماله وسلوكه. وقد
تحملوه عشر سنوات، وأخيراً اتفقوا ان يكتبوا عنه للعاصمة
بواسطة النائب هناك. ولما ازدادت الشكاوى من كل أطراف الطائفة
والرؤساء حينها، الغت السلطات فرمانه".
وبعد حوالي عشر سنوات، عندما زار البطريرك الياس الثالث الهند
عام 1931، وكان الانقسام الكنسي بين الفريقين السريانيين يتكرس
في القلوب، جاء المطران ديونيسيوس لزيارته وهو شيخ طاعن في
السن وهو زعيم الفريق الساعي لمزيد من الاستقلال، فأشفق
البطريرك على شيخوخته واستقبله وازال حرمه، وتعانقا طويلاً، ثم
عانق بقية المطارنة والاكليروس الحاضرين والمرافقين للبطريرك
وبينهم الراهبين قرياقس تنورجي (بعدها اسطاثيوس قرياقوس مطران
الجزيرة السورية) والراهب يشوع صموئيل (بعدها اثناسيوس يشوع
مطران أمريكا). واعتبر ديونيسيوس هذا الاجراء للمجاملة وليس
كإجراء قانوني. ثم عقدوا عدة اجتماعات لحل المشاكل، واصرَّ
المطران بانه على البطريرك ان يقبل المفريان ومطارنته دون قيد
او شرط (دون إعادة رساماتهم)، فتوقفت المفاوضات.
توفي البطريرك الياس في الهند في السنة التالية
1932
وفي قلبه غصة ومرارة لأنه لم يتوفق في حل مشكلة الكنيسة في
الهند بسبب مطالب ديونيسيوس. وقدم حالا المطران ديونيسيوس
المذكور يريد نقل رفاة البطريرك ليدفنه في المعهد الاكليركي
الذي كان يُعتبر قلب الكنيسة في الهند. لكن الشعب لم يوافق.
ثم مات المطران ديونيسيوس كيوركيس بعده بسنتين عام 1934.
وكان يسكن في المعهد الاكليركي ومات فيه. ويطلق عليه اتباعه
والمعجبون بعلمه لقب "زينة الكنيسة السريانية الملنكارية
الهندية".
إذاً، ان ما ذكرناه أعلاه يكشف ان السريان الهنود المستقلين لم
يعتبروا البطريرك عبدالمسيح معزولاً بل شرعياً. كما اعتبروا كل
الرسامات التي قام بها شرعية وقانونية.
ثانياً: رأي المؤرخ السرياني اسحق ارملة:
ان الاب العلامة اسحق ارملة الذي كان معاصراً لكل هذه الاحداث
ويعرف البطريركين عبدالمسيح وعبد الله جيداً، كتب عام 1908 (أي
بعد عدة سنوات من إقالة البطريرك عبدالمسيح ورسامة البطريرك
عبدالله) معتبراً البطريرك عبدالمسيح بانه هو "البطريرك
الشرعي"، واعتبر البطريرك عبد الله "غير شرعي".
فلو كان عزل البطريرك عبدالمسيح قد جرى حسب القوانين الكنسية
والأصول المتبعة، لكان اسحق أرملة ايضاً اعتبره معزولا وغير
شرعي. لكن على العكس من ذلك فان المؤرخ اسحق أرملة الذي كان
يعرف البطريركين عبدالمسيح وعبدالله معرفة شخصية، اعتبر
عبدالمسيح بطريركاً شرعياً واعتبر عبدالله غير شرعي.
ثالثاً: رسالة البابا بيوس العاشر
يبدو ان البطريرك عبدالمسيح، بعد عودته من الهند، أتصل
بالكنيسة السريانية الكاثوليكية. ويقال بانه انضم اليها. ففي
رسالة من البطريرك السرياني الكاثوليكي العلامة أفرام رحماني
موجهة الى البطريرك عبدالمسيح ومؤرخة ب 16 حزيران 1914 نفهم
منها ان عبدالمسيح راسل البابا بيوس العاشر. يقول البطريرك
رحماني في رسالته المذكورة بانه استلم في 28 نيسان من نفس
العام رسالة من البابا بيوس يخبره فيها بانه استلم رسالة من
البطريرك عبدالمسيح، وان البابا يذكِّر البطريرك عبدالمسيح
بالوعود وان عليه ان "يعمل جهده في استرجاع السريان المنفصلين
(أي السريان الارثوذكس) الى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية".
فاذا كان عبدالمسيح مختلاً أو بطريركا معزولاً ولا سلطة له في
طائفته فكيف يطلب منه البابا بان يعمل لضم السريان الأرثوذكس
للكنيسة الكاثوليكية؟ فهل كان البابا بيوس بسيطاً وجاهلا لهذه
الدرجة؟ أم ان عبدالمسيح كان بطريركا كامل الصلاحيات؟ ومن خلال
المراسلة بين عبدالمسيح والبطريرك رحماني لا نفهم بان
عبدالمسيح كان معزولاً.
رابعاً: احداث لصالح عبدالمسيح يذكرها المطران دولباني:
يخبرنا المطران دولباني في أحد مؤلفاته السريانية عن حدثين
كنسيين مهمين حصلا لأفرادِ من عائلة دولباني شارك فيهما
البطريرك المعزول عبدالمسيح وكأنه بطريرك الكنيسة الأوحد
ويمارس الخدمات كبطريرك بشكل طبيعي جداً.
الحدث الأول هو ان ابن عمه الشماس عبدالمسيح دولباني كان يريد
ان يُرتسم راهباً، فمكث ستة أشهر في دير الزعفران منتظرا
ليرتسم راهباً فلم يرسموه. لذلك ذهب الى مديات ليرتسم هناك.
وقام البطريرك "المعزول" عبدالمسيح برسامته راهبا في كنيسة مار
شربيل في نهاية كانون من عام 1907 باحتفال كنسي لائق، وهيكل
الكنيسة مليء بالاكليروس المشارك في الرسامة، والكنيسة تعج
بالمؤمنين اثناء الرسامة. وأصبح المُرتسم راهباً وكاهناً
رسمياً في الكنيسة السريانية الأرثوذكسي بشكل طبيعي جداً. وكأن
للكنيسة بطريركان أحدهما (عبدالمسيح) وكرسيه في مديات، والثاني
(عبد الله) وكرسيه في ديرالزعفران. والاثنان لهما كامل
الصلاحيات الكهنوتية ويمنحون الرسامات المختلفة للاكليروس
بطريقة تشبه صلاحيات بطاركة طورعابدين اثناء استقلالها بأمورها
الكنسية عن بطريركية الزعفران. ولأن الناس كانوا يعتبرون
عبدالمسيح بطريركا له كامل الصلاحيات، لذلك انطلق الشماس
عبدالمسيح دولباني الى مديات وقام البطريرك عبدالمسيح برسامته
راهبا بشكل طبيعي جداً ولم يشك أحد لا من اتباع البطريرك
عبدالمسيح ولا من اتباع البطريرك عبدالله في صحة هذه الرسامة
وشرعيتها أبداً، فبالنسبة للجميع كان الأمر طبيعياً وعاديا ولا
غرابة فيه، وخاصة ان عائلة دولباني كانت من العائلات السريانية
الكبيرة ومشهورة في خدمتها الكنيسة وفيها بعض الكهنة والمعلمين
وأكثرهم شهرة في الخدمة والثقافة السريانية والنزاهة المطران
(الراهب حينها) يوحنا دولباني
أما الحدث الثاني الذي يخبرنا عنه يوحنا دولباني، فهو انه لما
توفي عم والده القس كبرئيل دولباني، ترأس البطريرك
عبدالمسيح مراسيم جنازته. والكنيسة مليئة بالاكليروس
والعلمانيين المشاركين في مراسيم الجنازة، نظراً لمكانة وأفضال
الاب المتوفي كبرئيل دولباني وتقديراً لعائلة دولباني
المباركة. والحاضرون والمشاركون في التجنيز والجنازة يتعاملون
بالاجماع مع البطريرك عبدالمسيح الذي ترأس المراسيم على انه
بطريرك السريان الأرثوذكس بشكل طبيعي جداً دون اية التباسات.
هذان الحدثان المذكوران هنا يدعمان رأينا بان البطريرك
عبدالمسيح لم يكن مجرداً من سلطاته البطريركية على الطائفة،
وان صلاحياته كبطريرك لم تُسحب منه، فقط سُحب منه الفرمان
العثماني. كما ان الشعب كان ينظر اليه على انه بطريرك شرعي
قانوني له كل حقوق البطاركة وصلاحياتهم. فلو كان معزولا فلن
يذهب اليه الشماس عبدالمسيح دولباني من دير الزعفران الى مديات
ليقوم عبدالمسيح برسامته راهباً، ولن يُسمح له بتجنيز القس
كبرئيل بحضور ومشاركة الكثير من الاكلروس بمختلف الدرجات ووجود
الكثير من أبناء الطائفة.
كما ان أهل مديات كانوا يعتبرونه بطريركاً شرعياً كامل السلطة
والصلاحيات في حياته، وحتى بعد وفاته بعدة عقود كانوا يتذكرونه
كبطريرك شرعي لا غبار عليه، وان منزله في مديات اثناء اقامته
فيه كان بمثابة مركز بطريركي وفي خدمته بعض الرهبان، حيث
الزوار من كهنة وعلمانيين يتوافدون اليه باستمرار.
فإذا كان هذا الرجل مختل العقل ومعزولاً كيف تطلب منه الكنيسة
تجنيز القس كبرئيل دولباني ورسامة الراهب عبدالمسيح دولباني.
ولو كان بالفعل مختل العقل لكانت الطائفة قد رمته الى دار
المجانين، لأنها طائفة قاسية القلب ولا ترحم آبائها وأبنائها.
ويخبرنا المطران يوحنا دولباني عن حدث آخر حصل بينه شخصياً
وبين البطريرك عبدالمسيح. لما جلبوا البطريرك عبدالمسيح الى
دير الزعفران قبل وفاته وهو مريض وعاجز واسكنوه فيه. كلّفوا
ابن عمه المدعو موشى ليقوم على خدمة البطريرك عبدالمسيح في دير
الزعفران. وفي احدى المرات لما كان موشى في إجازة، عيّن
المسؤولون في الدير الراهب يوحنا دولباني لخدمة البطريرك
المريض عبدالمسيح. وفي نفس اليوم الذي كان يخدمه حدّثه
البطريرك عن القس المرحوم كبرئيل دولباني (عم والد الراهب
يوحنا دولباني) ذاكراً أحد المواقف معه عندما سأله عن مفاتيح
الخزانة فأبى أن يقدمها له، لكنه أخذها بشكل قانوني من
المسؤولين. وعندما تذكر البطريرك هذا الحدث انفعل قليلاً ورفع
عكازه نحو دولباني ليضربه لكن لم يصبه. ولم يمكث البطريرك
كثيرا بعد هذا الحدث لكنه توفي.
وذكر أمير الادباء السريان في قرن العشرين الملفونو عبدالمسيح
قرباشي (1984-1905) في كتاب مذكراته السريانية كيف ان البطريرك
عبدالمسيح أنقذ السريان من مجزرة 1895 في دياربكر لكن الطائفة
انكرت حق البطريرك قائلاً: "ان الطائفة غمطت فضل هذا الاب
الرحوم، وجازته شراً بدل الاعمال العظيمة التي قام بها فأقالته
من الكرسي البطريركي. وكأنه هو الذي قال الآية "جازوني بدل
الخير شراً" (مزمور 35:16)
ان قضية الانقلاب على البطريرك عبدالمسيح والأسباب الحقيقية
لعزله وموضوع سحب فرمانه بحاجة الى دراسة وتحقيق جدي. لكن قبل
كل شيء بحاجة الى البحث عن وثائق مختلفة وخاصة في الأرشيف
العثماني والبريطاني والفاتيكاني، وارشيف الكنيسة السريانية
الارثوذكسية والكاثوليكية، وارشيف الكنيسة السريانية
الارثوذكسية الهندية المستقلة، ودرس هذه الوثائق وتحليلها،
وحينها ربما نحصل على أجوبة شافية عن الموضوع وصورة صحيحة لما
حصل.
الجزء
الثاني والعشرون
|