عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم

تعقيب على مشكلة المطارنة الستة ومشاكل الكنيسة السريانية الارثوذكسية

ستوكهولم / السويد


الجزء العشرون

 تعقيب على مشكلة المطارنة الستة

البطريرك "المظلوم" عبدالمسيح الثاني

(1895-1905)

16- موقف الكنسية من عزل البطريرك عبدالمسيح:

 في نهاية شهر آب من عام 1915 مات البطريرك المظلوم عبدالمسيح الثاني في دير الزعفران، وبعده بثلاثة أشهر مات ايضاً منافسه البطريرك عبدالله الثاني في القدس، وبموت البطريركين زال سبب تحزب الناس لهذا وذاك، وبدأت نار المشكلة الكنسية تخمد تدريجياً.

ومع مجيء البطريرك الجديد الياس الثالث شاكر (رسم عام 1917)، توحدت قلوب الجميع، والتفَّت حوله كل بقايا الطائفة الجريحة والمنكوبة بعد ان خسرت تقريبا نصف رعاياها بسبب مجازر سيفو. واستطاعت تجاوز الأزمة الحادة التي نشأت بسبب عزل البطريرك عبدالمسيح، لأن كارثة "سيفو" التي حلت بالسريان كانت عظيمة للغاية ولا تعادلها كل الازمات ومشاكل الاكليروس والكنيسة مجتمعة. فقام البطريرك الياس وشمر عن ساعد الجد والعمل. وعمل على لم شمل بقايا طائفته، والدفاع عن حقوق السريان في المحافل الدولية عندما أرسل أحد مطارنته (المطران افرام برصوم، البطريرك أفرام الأول بعدئذ) الى مؤتمر السلام في باريس، فقام هذا المطران بزيارات مكوكية الى بعض العواصم الأوروبية مطالبا حقوق السريان والتعويض عن الخسائر البشرية والمادية والمعنوية التي اصابتهم.

وكان البطريرك السرياني الكاثوليكي أفرام الثاني رحماني (1898-1929) قد قدم أيضاً عريضة تتضمن بعض المطالب السريانية المشابهة. لكن من السميع ومن المجيب. لأن العالم الغربي منذ حينها غارق في انانيته، وغير مهتم إلا بمصالحه المادية.

لكن كيف كانت الطائفة السريانية الارثوذكسية تنظر الى موضوع عزل البطريرك عبدالمسيح وكيف كانت تتذكره بعد موته، وماذا كان موقف البطاركة والمطارنة الذين خلفوه من هذا الموضوع؟

ان موقف الكنيسة الرسمي من إقالة البطريرك عبدالمسيح واتهامه بالخلل العقلي فيه الكثير من الشكوك والتجني عليه.

ان معظم المطارنة الذين جاؤوا بعد البطريرك عبد الله كانوا من رسامته وبينهم الياس شاكر الذي سيم بطريركا بعدئذ، ولم يكن أمامهم إلا ان يدعموا الرواية التي وصلتهم من المطارنة "الإنقلابيين" بان عبدالمسيح كان مختلاً ومعزولاً، وان عبد الله كان البطريرك الرسمي والشرعي. لكن قبول الاكليروس بعزل البطريرك عبد المسيح واعتباره غير شرعي، فيه نوع من البراغماتية والمصلحة الذاتية. ولأنهم رُسموا مطارنة على يد البطريرك المنافس عبد الله، فيجب ان يتحزبوا له والدفاع عنه واعتباره البطريرك الشرعي وإلا لكانت رساماتهم كمطارنة غير شرعية طالما هو رسمهم، ولتأكيد هذا الاجراء يجب اعتبار خصمه البطريرك عبدالمسيح معزولا وغير شرعي ويجب شجبه وتناسيه. وهكذا تصرفوا.

لكن ومع ذلك هناك آراء متباينة حول الموضوع. فبينما يقول الرأي الكنسي السرياني الارثوذكسي التقليدي والرسمي بان البطريرك عبد المسيح عُزل وجرّد من صلاحياته، تفيدنا بعض المصادر الأخرى بمعلومات عكس لك.

17- ردة فعل البطريرك عبدالمسيح من خبر عزله:

 ذكرنا في الجزء الماضي ان البطريرك عبدالمسيح كان مقيماً في مديات اثناء تلقيه خبر عزله. وقد سكن هناك فترة طويلة يحل فيها المشاكل الصعبة التي وقعت بين سكانها وعائلاتها من جهة وبين الناس والكنيسة من جهة أخرى، وقيام المبشرين الكاثوليك والبروتستانت لاحتواء البعض منهم من جهة أخرى. وكان البطريرك قد اعطى أولوية لحل مشاكل أهل مديات لذلك سكن هناك فترة طويلة يعمل للمصالحة وللسلام في الطائفة. وكان يزور العائلات ويسهر معها بمودة وصداقة ويقنعها على المصالحة مع الاخرين. وزار كل العائلات، وقد نجح أسلوبه الاجتماعي هذا في حل المشاكل، لأن كل سكان مديات كانوا يكنّون له محبة كبيرة منذ أيام رهبنته عندما كان يخدم لديهم كراهب شاب. وقد ساعده في نجاح مساعيه اتقانه اللغة السريانية المحكية في مديات، إذ كان يتحدث معهم بذات اللغة واللهجة السريانية التي يتكلمون وكأنه واحداً منهم.

وبينما البطريرك مستغرق في عمل المصالحة، ورده خبر عزله المفاجئ الذي كان بعض المطارنة يعملون عليه بشكل سري جداً منذ أكثر من سنة. ويقال انه صُدم ولم يصدق الخبر الذي حل عليه كالصاعقة. لكن بعد تيقنه من جدية الموضوع وقف قليلاً واغرورقت الدموع في عينيه. وقال للحاضرين أهذا هو تقدير العمل وجزاء الاحسان؟ السلام إذاً على هذه الكنيسة. وردد بيتاً شهيراً من الشعر السرياني عن تناقضات الحياة معاتبا حظه بالقول:

ܒܝܫ ܗܘ ܙܒܢܐ ܕܡܣܬܥܪ̈ܢ ܒܗ ܗܦܟܝ̈ܬܐ

ܕܣܘܣܝܐ ܡܒܪܕܥ ܘܚܡܪܐ ܣܪܝܓ ܕܠܐ ܬܚܡܨܬܐ

ܠܐ ܕܟܝܪ ܙܒܢܐ ܕܥܘܕܐ ܡܡܠܟ ܥܠ ܦܪ̈ܚܬܐ

ܘܩܕܡ ܬܥܠܐ ܟܳܝ̈ܦܳܢ ܒܘܪ̈ܟܐ ܕܐܪ̈ܝܘܬܐ.

"الترجمة: ما أتعس الزمن الذي تُمارس فيه التناقضات،

فيسرجون الحصان ببردعة الحمار، ويشدون ظهر الحمار بسرج الحصان، دون خجل.

لحى الله ذلك الزمن الذي تُتَوَّج فيه البومة ملكة على الطيور،

وتركع فيه الأسود ساجدة أمام الثعلب".

(اعتقد ان هذه القصيدة هي للشاعر السرياني الكبير يوحنا ابن المعدني (توفي عام 1263) رغم عدم ورودها في ديوانه المطبوع).

(ملاحظة: كنت قد نقلتُ هذه القصيدة السريانية وتعلمتها عن المرحوم والدي داويد اسعد (1978-1909) حيث كان يلقيها عندما يروى للعائلة قصة عزل البطريرك عبدالمسيح، فتعلمتها منه منذ حينها. كان والدي يحب الشعر والادب ويتمتع بذاكرة قوية جداً فحفظ عشرات القصائد ومنها الطويلة جداً عن ظهر قلبه باللغات السريانية والعربية والتركية والفرنسية، وكانت متعة له ولنا عندما كان أحياناً يلقي علينا الاشعار في العائلة بهذه اللغات التي كان يتقنها. وقد أخذتُ منه هذه النزعة لأنني ايضاً حافظ لكثير من الاشعار السريانية وغيرها. وكانت عائلتنا اثناء اللقاءات العائلية الدائمة تمضي وقت السمر كله في الغناء السرياني القومي والتراثي والتراتيل الكنسية، وفي الحديث عن الشؤون السريانية).

وانتشر خبر عزل البطريرك عبدالمسيح كالبرق بين السريان. وتحمس أهل مديات وطور عابدين للدفاع عنه، لأنه صاحب الايادي البيضاء والفضل عليهم لأنه نجح في مصالحتهم مع البعض. فنصحه البعض منهم العودة لدير الزعفران حالاً لإثبات وجوده والقبض على زمام الأمور. لكن المشكلة كانت قد تفشّت وهو لا يدري بها. فطلب منه بعض الأصدقاء الآخرين بالتريث والبقاء في مديات، وهكذا فعل. واخذوا يتصلون مع المعارضين بهدف المصالحة، لكن بدون جدوى.

 هناك أسئلة تفرض نفسها عن تفاصيل الحدث، وكيفية تصرف البطريرك عبدالمسيح وماذا كان ينوي فعله أكثر مما دونته عنه أعلاه من الأخبار التي نقلتها عن والدي وزوج عمتي الشماس شليمون قس جرجو (1977-1885) الذي عاش في الهند عدة سنوات في بداية قرن العشرين، والتقى هناك بالبطريرك عبدالمسيح اثناء زيارته للهند عام 1912، ورافقه وخدم في صلاة القداس اثناء احتفال البطريرك بالقداس). لأننا لا نعرف بالضبط ماذا كان البطريرك ينوي فعله بعد صدور قرار إقالته وإذا كان قد فعل شيئاً في هذا الخصوص. فهل حاول مثلاً الاتصال مع أصدقائه ومعارفه من السياسيين العثمانيين في العاصمة للإستفسار وكي يدعموه في موضوعه في الجلوس على الكرسي البطريركي؟

ان استغراق رسامة البطريرك عبد الله أكثر من سنة ونصف بعد قرار الحكومة بعزل عبدالمسيح، يفسح المجال أمام التكهنات في هذا الموضوع.

18-  التهم المستعملة في قضية عزل البطريرك:

ان كتابات المطران يوحنا دولباني (1969-1885) السريانية المختلفة تعتبر أهم مصدر عن البطريرك وتمثل الموقف التقليدي للكنيسة من هذه القضية، لقد عاصر يوحنا دولباني ستة بطاركة وهم كل من البطريرك بطرس الثالث (1894-1872)، والبطريرك عبدالمسيح الثاني (1895-1905)، والبطريرك عبد الله الثاني (1915-1906)، والبطريرك الياس الثالث (1917-1933)، والبطريرك أفرام الأول (1933-1957) والبطريرك يعقوب الثالث (1957-1980). ويعتبر كتابه السرياني عنهم أهم مصدر.

ذكر المطران يوحنا دولباني ثلاثة أسباب لإقالة البطريرك عبدالمسيح وهي:

أولاً: ان البطريرك عبدالمسيح قدَّم لمرتبة مطران بعض الجهلاء وغير الجديرين، مثل منصور الامدي الحديث الايمان وسيء الأفعال.

ثانياً: ان البطريرك تعاطى بالمشروبات والسكر، واستعمل الشتائم والاهانات والضرب للاكليروس والمدنيين.

ثالثاً: ظهور اختلال عقلي على البطريرك.

لكن ماذا عن هذه التهم؟ لا شك ان التهمة الثالثة هي الاكبر والأخطر ان كانت صحيحة. لكننا نشك بذلك وان المعلومات التي في أيدينا لا تدل على ذلك، بل تنقض ذلك.

ان التهمة الأولى ضعيفة للغاية وسخيفة. فاذا رسم البطريرك مطرانا غير جدير بالمطرنة فهل هذه جريمة يجب عزل البطريرك عليها؟ ففي كل زمان نجد الكنيسة مليئة بالمطارنة غير الجديرين. ان البطريرك عبد الله مثلا رسم أيضا مطارنة غير جدرين فلو تتبعنا اخبار أحدهم وهو المطران أفرام الصددي الذي يقول عنه الاديب السرياني الكبير الملفونو عبدالمسيح قرباشي المعاصر له في مذكراته السريانية "بان البطريرك عبد الله سلمه رئاسة دير الزعفران لأنه لم يكن يصلح لإدارة اية ابرشية، بل للتخريب. حيث اغلق المدرسة الاكليركية في دير الزعفران بعد تأسيسها بثلاث سنوات، هذه المدرسة الهامة التي كانت الطائفة تعقد عليها الآمال لتخريج اكليروس مثقف حينها. فأحس الشعب بالجريمة التي اقترفها هذا المطران، فقاموا ضده وطردوه من دير الزعفران، وندموا كثيراً لأنهم أساؤوا للبطريرك عبدالمسيح واقاموا البطريرك عبد الله الصددي مكانه. واضطر البطريرك عبد الله أن ينقل هذا المطران الى دير مار مرقس في القدس لإبعاده عن الزعفران مسايرة للشعب. ولما توفي المطران افرام الصددي عام 1922، أمر العلامة افرام برصوم مطران سوريا أنذاك (البطريرك بعدئذ) بان لا يدفنوه داخل الكنيسة كعادة السريان لأنه لا يستحق ذلك، لكونه خرب المدرسة والطائفة. لكن الشعب البسيط قام بدفنه داخل الكنيسة".  إذاً هذا مثال عن مطران غير جدير ومع ذلك لم يطلب أحد بعزل البطريرك عبد الله بسبب رسمه هذا المطران.

ويعلل المطران يوحنا دولباني (1969-1885) المعاصر للحدث حول قضية الشرب التي كانت التهمة الثانية ضد البطريرك عبدالمسيح بقوله: "ان الظروف الصعبة التي صادفها البطريرك عبدالمسيح، والسهر الكثير في الليالي، اضطروه ليتناول القليل من المشروب كي يتمكن من النوم. لكن المشروب القليل ازداد مع الوقت، واخرجه من اللطف الى القساوة، ومن الهدوء الى الفظاظة والغضب، ومن النظام والترتيب الى الفوضى. لذلك كنت تراه أحيانا في حالة سكر وبمزاج ضيق مع تقلبات في فكره، كما صدرت عنه بعض الأمور غير المهذبة".

وكتب مؤخراً المرحوم أفرام بولس (مطران بيروت سابقاً) نقلا عن رواية دولباني حرفياً مترجماً أياها من السريانية بقوله: "بعد عودة البطريرك من دياربكر إثر مشاكل عام 1895 بدأ يتناول الكحول يومياً حتى أدمن عليه. وقد بدا الامر عندما نصحه البعض بتناول القليل منه حتى يساعده على النوم، وانتهى به الامر الى الإدمان مع الأسف الشديد، وانعكس ذلك سلبا على صحته وتفكيره وتصرفاته".

شخصياً أعتقد ان تهمة الشرب والضرب ربما ذُكرت هنا لتكون تهمة قانونية متطابقة مع ما جاء في الكتاب المقدس حول صفات الاسقف "بان لا يكون مدمناً على الشرب، ولا يلجأ الى الضرب" (رسالة طيمثاوس الأولى 2-7) كي لا يعترض الناس على عزله.

واليوم حسبما نسمع ان بعض المطارنة يشربون الخمر باستمرار. لذلك على البطريرك ان يقوم بعزلهم تطبيقاً لنفس المبدأ.

أما التهمة الثالثة التي تقول انه أصيب باختلال عقلي وان الأطباء أكدوا ذلك، فهي أخطر التهم وأكبرها. وهذه التهمة باطلة.  فإذا كان مختلاً فكيف يستطيع وينجح ان يصالح الناس مع بعضهم ويحل مشاكلهم. إننا لم نسمع عنه شيئاً من هذا القبيل في الاقاويل والأحاديث الشفهية التي سمعناها عنه. ان اعماله الكهنوتية وخدمته الرعوية كلها قبل سفره الى الهند تنقض هذا التهمة وهذا الادعاء بحقه. وسنأتي على هذه القضية في بعض جوانبها بشكل غير مباشر في سياق الموضع في الحلقة القادمة.

واستعملت القيادات الكنسية المتتالية هذه التهم ضد البطريرك المعزول والمظلوم لشرعنة عزله.

وبعد ان يسرد يوحنا دولباني هذه التهم الثلاث يقول: "لذلك اجتمع رؤساء الكهنة لوحدهم وبشكل سري وتشاوروا وفكروا عزله من البطريركية".

(في الفقرة رقم 19 من الجزء القادم سنجد ان البطريرك الياس الثالث رغم تأييده لعملية عزل عبدالمسيح، إلا انه ينص صراحة على ان المطارنة لم يجتمعوا في سنودس رسمي ليقرروا عزله).

 الواحد والعشرون

ولمن يرغب في قراءة الاجزاء السابقة يمكنه متابعتها على هذا الرابط:

http://nesrosuryoyo.com/forums/viewforum.php?f=300

او على هذا الرابط:

http://www.aramaic-dem.org/Arabic/Tarikh_Skafe/Assad_Sauma_Assad/Syriac_Orthodox_Church/0.htm 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها