الجزء الثامن عشر
البطريرك "المعزول" عبدالمسيح الثاني
(1895-1905)
عام 1905 أصدرت السلطات العثمانية قراراً بسحب فرمان بطريرك
السريان الارثوذكس عبدالمسيح الثاني بناء على طلب بعض مطارنة
الطائفة. وبموجب هذا الاجراء خسر البطريرك الحق ان يكون ممثل
طائفته لدى السلطات. وقد تعامل هؤلاء المطارنة ومن معهم على ان
هذا القرار الحكومي هو عزل للبطريرك من الكرسي البطريركي.
ان عملية عزل البطريرك السرياني الأرثوذكسي عبد المسيح الثاني
القلعتمراوي كانت جريمة بحقه وبحق الطائفة قام بها نفر من
المطارنة والعلمانيين في وقت كانت الطائفة بأمس الحاجة للتكاتف
ومواجهة التحديات الكثيرة حينها.
8-
البطريرك عبدالمسيح الثاني في بضعة سطور:
ولد عبدالمسيح عام 1854 في قرية "قلعتمرا" المجاورة لدير
الزعفران مقر الكرسي البطريركي حينها ("قلعتمرا" أو "قلعة
مارا" تسمية سريانية مركبة تعني "قلعة السيد"، وليس كما يعتقد
البعض بمعنى "قلعة امرأة" أو "قلعة الأمراء").
تيتَّم عبدالمسيح وهو طفل، لذلك اهتم بتربيته خاله عبد الأحد
الذي كان اشبيناً للبطريرك يعقوب الثاني القلعتمراوي
(1871-1847). وكانت وظيفة الاشبين حينها مهمة للغاية على
المستوى العائلي والاجتماعي لأنها كانت تخلق علاقة قرابة جديدة
ومتميزة بين العائلات وتربطها معاً. لذلك كان الاشبينان عبد
الاحد والبطريرك يعقوب الثاني على علاقة جيدة، وبين الحين
والاخر يتبادلان الزيارات العائلية. وقد تأثر الطفل عبدالمسيح
اثناء طفولته بالبطريرك يعقوب المذكور وأحاديثه الدينية عندما
كان يقوم بزيارات عائلية الى منزل اشبينه عبد الاحد (خال الطفل
عبدالمسيح) ويتحدث بالمواضيع الكنسية والسريانية، فتولد لديه
ميل للأمور الروحية بسبب محبة البطريرك له، ورغب بالانتساب الى
مدرسة دير الزعفران.
عام 1866 دخل مدرسة دير مار حنانيا (الزعفران). وكان البطريرك
يعقوب الثاني قد أوصى رئيس الدير للإهتمام شخصياً بتنشئة الطفل
عبدالمسيح وتعليمه. وأمضى في مدرسة الدير حوالي ست سنوات يدرس
فيها العلوم الدينية والكنسية والسريانية، فظهرت محبته للكهنوت
وميوله للرهبنة.
عام 1872 قام المطران عبدالمسيح المارديني برسامته شماسا
انجيليا.
وفي عام 1873 قام قوريلوس كيوركيس مطران ماردين برسامته
راهباً،
عام 1875 قام قوريلوس كيوركيس المذكور برسامته كاهناً.
(والملفت للنظر ان هذا المطران قوريلوس كيوركيس الذي رسم
الطالب عبدالمسيح راهبا وكاهنا، وشارك بعدها في رسامته
بطريركاً، هو الذي سيقوم بعد ثلاثين سنة ويعمل على عزله من
البطريركية).
خدم عبدالمسيح كراهب وكاهن في بعض المدن السريانية مثل اديمان
ومديات وغيرها.
عام 1886 رسمه البطريرك بطرس الثالث مطرانا على ابرشية سوريا
وسُمي يوليوس.
عام 1895 انتُخب ورسم بطريركا.
بين أعوام 1903-1905 قام بعض المطارنة بعزله، ثم صدر قرار
السلطات بسحب فرمانه.
عاش البطريرك عبدالمسيح السنوات الأخيرة من عمره شريداً
طريداً، ومريضاً وحزيناً لغاية وفاته في دير الزعفران في نهاية
شهر آب عام
1915.
وقد ضاعف حزنه العميق على ما حل بالسريان من نكبات بسبب مجازر
سيفو التي كان شاهداً لها ويعيش في قلب الحدث.
9- قضية البطريرك عبدالمسيح:
ان قضية هذا البطريرك المظلوم لم تأخذ حقها في تاريخ الطائفة
في قرن العشرين. ورغم ان أسباب عزله الحقيقية يلفّها
الكثير من الغموض فانها لم تأخذ حقها من البحث والتقصي لتظهر
الحقيقة الى الوجود. ولأنها كانت شوكة في خاصرة الكنيسة، لذلك
لم يكتب عنها الاكليروس السرياني المثقف إلا ما ندر، مختصرين
الموضوع بجملتين او ثلاث فقط تتضمن حكمهم عليه بالإدانة وكأن
البطريرك نكرة لا يستحق الذكر، ومحاولين تجنب موضوعه فمروا
عليه مرور الكرام.
كما ان معظم الاكليروس اضطر مع الزمن ان يتعامل مع هذه المشكلة
بطريقة غير صحيحة وغير لائقة، فاتهموا البطريرك عبدالمسيح بعض
التهم الباطلة لتبرير عملية عزله من جهة، ولتبرير موقفهم
السلبي من القضية من جهة اخرى. فحان الوقت لرد الاعتبار لهذا
البطريرك السرياني المظلوم الذي أفنى حياته في خدمة أبناء ملته
التي كافأته بالشر بدل اكليل الورد. ولا عجب في ذلك لان
الطائفة السريانية مشهورة في تجنيها على المتعلمين والعاملين
فيها، والامثلة كثيرة على ذلك.
تقول "الرواية الكنسية الرسمية" عن عزله: ان بعض مطارنة
السريان الارثوذكس اجتمعوا بشكل سري، واتخذوا في العاشر من
تشرين الأول عام 1903 قراراً بإقالة البطريرك عبدالمسيح الثاني
من الكرسي البطريركي بتهمة انه "كان مدمناً على شرب الخمر لذلك
اختلَت تصرفاته ومقدرته على التمييز بين الصح والخطأ" (شخصياً
لا اعتقد بهذه الأسباب الواهية، بل ان أسباب عزله كانت اخرى).
ورفع هؤلاء المطارنة قرارهم الى السلطات العثمانية لتصديقه
لكنها لم ترضخ لطلبهم بسهوله بل طلبت تقديم اثباتات على
اقوالهم، وقد تداولت السلطات في الموضوع فترة طويلة استغرقت
حوالي نصف سنة قبل ان تصدر قرارها، وفي النهاية صدّقته بقرار
صدر في بداية كانون الثاني عام 1905
لسحب فرمانه.
ووقع خبر عزله كالصاعقة في الكنيسة، وأحدث بلبلة في الطائفة،
وانقسم الناس على بعضهم، وأصبح موضوعه حديث الساعة في كل مكان.
وفي السنة التالية انتُخب المطران عبد الله سطوف الصَدّي
(الصَددي) بطريركاً جديداً وبديلاً عنه (1915-1906).
10-
عبدالمسيح الثاني يُرسم بطريركاً:
انتخب عبدالمسيح بطريركاً باسم "عبدالمسيح الثاني" ورسم في دير
الزعفران في 14 حزيران عام 1895. وأرسل اعضاء السنودس الخبر
للقسطنطينية يعلمون السلطات عن انتخاب بطريرك جديد للطائفة،
وورد عليهم جواب العاصمة بالقبول والتثبيت. وأعلنوا الخبر بين
الجميع وانتشرت الفرحة. وفي صباح اليوم التالي توجه البطريرك
الجديد الى مدينة ماردين المجاورة لدير الزعفران، وخرج
لاستقباله جمع غفير من السريان وغيرهم من أبناء المدينة. ودخل
الصالون واخذ يتقبل التهاني من المهنئين من مختلف الملل
والنحل.
يقال ان المطران عبد الله الصدّي (من بلدة صَدَد بقرب حمص في
سوريا) كان المرشح الأول للبطريركية بعد وفاة البطريرك بطرس
الثالث الموصلي (1894-1872). لكن المعادلة تغيّرت والتوازنات
اختلطت في آخر المطاف، فقام المطارنة بانتخاب عبدالمسيح
القلعتمَراوي مطران سوريا أنذاك بطريركاً جديداً. وقد شارك في
انتخابه ورسامته للبطريركية في دير الزعفران في 14 حزيران 1895
تسعة مطارنة من الابرشيات المنتشرة حول الكرسي البطريركي في
دير الزعفران، وهم كل من المطارنة:
1.
قوريلوس كيوَركيس مطران ماردين (وكان حينها رئيس السنودس)،
2.
قوريلوس شمعون مطران مديات،
3.
اثناسيوس دنحو مطران مار دير ابحاي في سيويرك،
4.
يوليوس بهنام مطران جزيرة ابن عمر،
5.
قوريلوس يوحانون مطران نصيبين،
6.
اثناسيوس افريم مطران دير مار كبرئيل،
7.
يوليوس أبلحد مطران أبرشية دير الصليب وكربوران،
8.
طيمثاوس برصومو مطران ابرشية دير مار ملكي،
9.
ايوانيس الياس هلوله مطران الديوان البطريركي ورئيس دير
الزعفران.
ولم يشارك مطارنة الابرشيات الأخرى ومنها الابرشيات الهامة
أورشليم والموصل وآمد (دياربكر) في الانتخاب والرسامة والتنصيب
لأسباب مختلفة. فمطران الموصل ديونيسيوس بهنام سمرجي لم يكن
يحق له المشاركة في الانتخاب لأنه كان موقوفاً على يد البطريرك
الاسبق بطرس الثالث الموصلي، أما مطران القدس غريغوريوس
كيوَركيس الصددي، ومطران القسطنطينية (إسطنبول) طيموثاوس بولس،
ومطران دير مار متى قوريلوس الياس قدسو فقد أرسلوا أصواتهم
مانحين ثقتهم وتأييدهم للذي يختاره السنودس. وأما غريغوريوس
عبد الله الصددي مطران آمد (دياربكر) فقد قاطع الانتخابات
عمداً.
11- المطران عبد الله الصددي يزعل وينضم الى الكنيسة السريانية
الكاثوليكية:
بعد ان شاعت الاخبار بان المطارنة سينتخبون المطران عبدالمسيح
بطريركاً، غضب مطران آمد عبد الله الصددي لأنه كان المرشح
الأول والاقوى طوال المدة ولم ينتخبوه، فقاطع الانتخابات وحفلة
الرسامة والتنصيب رغم تواجده حينئذ في مدينة ماردين التي تفصل
بينها وبين مقر البطريركية في دير الزعفران رمية حجر فقط. ثم
بدأ المطران عبد الله بحملة معارضة ضد البطريرك الجديد
عبدالمسيح بهدف ابطال رسامته، وأصبح أحد قادة المعارضة التي
شارك فيها بعدئذ مطران الموصل بهنام سمرجي، وثم استلم زمامها
قوريلوس كيوركيس مطران ماردين وطيمثاوس بولس مطران اسطنبول.
بعد رسامة عبدالمسيح بطريركاً المطران عاد عبد الله حالاً الى
دياربكر مركز ابرشيته واقنع مسؤولي مجالس الكنيسة فدخلوا على
الخط لإبطال الرسامة. ورفعوا عريضة الى السلطات العثمانية
المحلية لإلغاء الرسامة. لكن السنودس اتصل بالسلطات الحكومية
المسؤولة عن الأديان والملل في العاصمة فجاء الفرمان السلطاني
بعد حوالي شهرين بتعيين وتثبيت البطريرك عبدالمسيح في التاسع
من أيلول 1895. وعلى أثرها غضب المطران عبد الله جداً وزعل من
الكنيسة والمطارنة، وبتشجيع من الوضع السياسي المسيطر في
دياربكر أثناء وقوفه الى جانب الأرمن في المحاولة الفاشلة لعزل
والي دياربكر، التجأ الى القنصلية الفرنسية في دياربكر التي
حاولت إقناعه للدخول في الكثلكة، وبواسطتها رحل الى لبنان.
وفي بيروت التقى مع صديقه وابن ابرشيته الملفونو نعوم فائق
(1868-1930) الذي قدم الى بيروت لتوه، وحلَّ الاثنان ضيوفاً
لدى المؤرخ السرياني الشهير العلامة فيليب دي طرازي (من طائفة
السريان الكاثوليك، ومؤلف كتاب عصر السريان الذهبي). وقد مكثا
ضيوفاً موقرين في منزله لعدة أشهر. ثم رحلا معاً الى دير
الشرفة للسريان الكاثوليك. وبعد فترة قصيرة أمضاها في دراسة
المخطوطات السريانية الغنية التي يملكها هذا الدير السرياني
الشهير في لبنان، رحل نعوم فائق الى القدس. أما المطران
عبدالله فمكث في دير الشرفة وانضم الى طائفة السريان الكاثوليك
وأصبح أحد اساقفتها. لكن بعد حوالي عشر سنوات تغيرت الأمور
فعاد الى الكنيسة السريانية الارثوذكسية ثانية وانتُخِب
بطريركا عليها.
ذكر الاب العلامة اسحق أرملة (1954-1879) انه اثناء انتساب
المطران عبد الله سطوف الصددي الى الكنيسة السريانية
الكاثوليكية، كان قد شارك في اجتماع السنودس الذي عقد لانتخاب
ورسامة البطريرك العلامة "أفرام رحماني" للسريان الكاثوليك عام
1898 في ماردين.
12- بعض مآثر البطريرك عبدالمسيح الثاني:
كان البطريرك "المُقال" عبدالمسيح الثاني يتمتع بالشجاعة
والشهامة والكرم والإخلاص والعنفوان السرياني (هذه الصفات
يشتهر بها كل أبناء قريته قلعتمرا السريانية).
ومن مواقف شجاعته يقال ان البطريرك تصدى لأعضاء هيئة الحكومة
العثماني في دياربكر، صارخاً في وجههم عالياً لأنهم قصّروا في
واجبهم بحماية السريان اثناء مذبحة دياربكر عام 1895 التي
انجزتها العشائر الكردية والتجمعات الإسلامية المتطرفة.
كان البطريرك ايضاً رجل الدبلوماسية الناعمة وله صداقات مع
علية القوم من السريان وبقية الطوائف، وعلاقات مع مختلف الناس
وزعماء الاكراد وحكام الأقاليم القريبة وسياسيين في العاصمة.
وكان قد سكن في إسطنبول أكثر من سنة للدفاع عن مصالح الطائفة
فتعرف فيها على بعض الأشخاص المهمين والسياسيين بينهم
سعيد باشا (الصدر الأعظم للسلطنة العثمانية لعدة فترات)
الذي أثناه عن رغبته لزيارة بريطانيا والهند حينها لأن
البطريرك كان يرغب في زيارة الكنيسة السريانية في الهند كما
فعل سلفه بطرس الثالث. كما زار السلطان العثماني عبد الحميد
مرتين في إسطنبول عام 1899.
ومن مآثره الهامة نذكر خمسة أمور:
أولاً: استطاع البطريرك عبدالمسيح انقاذ الكثيرين من السريان
والأرمن من خطر القتل اثناء فتنة ومذبحة دياربكر عام 1895 التي
حصلت بعد تسنمه سدة البطريركية مباشرة. حيث حضر الى دياربكر
قبل ظهور الاضطرابات بساعتين بدعوة من واليها "أنيس باشا"،
وبدأ يعمل جهده ليلا نهارا على انقاذ السريان والارمن، حامياً
إياهم في كنيسة السيدة مريم وصالاتها وباحتها وفي بيوت السريان
المجاورة طوال مدة الفتنة، ومواسياً المصابين، ومعالجاً
المجروحين، وجامعاً شتات الذين تشتتوا في القرى والمختبئين بين
الخرائب والانقاض. وقد نجح في استصدار عدة قرارات هامة من
الدولة، منها الحفاظ على اتباع كنيسته، ومنها بخصوص طرد
العشائر الكردية التي فرضت سيطرتها على دير الزعفران.
ثانياً: اهتمامه الكبير بالأيتام السريان الذين استشهد آباؤهم
اثناء الفتنة والمجزرة المذكورة، حيث جمع أكثر من مائة طفل
يتيم ونقلهم الى دير الزعفران مقره البطريركي وأخذ يهتم شخصياً
بهم وبتنشئتهم مكلفاً رئيس دير الزعفران الراهب السرياني الياس
شاكر المارديني (البطريرك الياس الثالث بعدئذ) بتربيتهم. وكان
يشعر بوضع الايتام وآلامهم النفسية لأنه نفسه تيتّم اثناء
طفولته فنشأ لدى خاله عبد الاحد وبمحبة ورعاية البطريرك يعقوب
الثاني القلعتمراوي اشبين خاله كما شرحنا أعلاه.
ثالثاً: أسس مجلساً سريانياً عالياً لبلدة مديات في إقليم
طورعابدين عام 1898 وفرض لبس "القبعة العثمانية" الجديدة على
اعضائه كرمز للمسؤولية. (وفي جلسة افتتاح المجلس وزع البطريرك
على الأعضاء قبعات عثمانية خاصة كهدية منه ليرتدوها. كان جدي
اسعد مقدسي صومي (توفي عام 1936) أحد أعضاء المجلس المذكور
وأصغرهم سناً، ولم يشاء ان يلبس هذه القبعة لأنه كان شاباً
والقبعة المذكورة كانت من مظاهر لباس الشيوخ المتقدين في
العمر، فاجبره البطريرك عبدالمسيح على ارتدائها، فرضخ ولبسها
اثناء الاجتماعات).
رابعاً: نجاحه في حل المشاكل التي نشأت في مدينة مديات بين
الكثير من سكانها مع بعضهم ومع مطرانهم، الذي بسببه وبفضل
مساعي المرسلين، حاولوا الانضمام الى الكنيسة السريانية
الكاثوليكية. وكانوا قد قطعوا شوطاً كبيراً في محاولتهم لترك
الكنيسة. فتدخل البطريرك عبدالمسيح وصالح الناس مع بعضهم ومع
الكنيسة وحل المشاكل، فبطل الانقسام وبقي سريان بلدة مديات
كتلة واحدة موحدة في تلك الفترة الصعبة.
خامساً: الحافظ على وحدة الطائفة والكنيسة في تلك الفترة التي
كانت من أحلك الفترات في تاريخ الطائفة أثناء محاولة عزله.
وكانت الكنيسة بسبب محاولة عزله على وشك ان تخسر أكثر من نصف
رعاياها لينتموا الى كنيسة أخرى. اذ انه سجل موقفاً شهماً
للغاية اثناء عزله لأنه لم يحاول ان يشق الكنيسة والطائفة
لمصلحته الشخصية ليبقى على الكرسي، رغم ان الكثير من السريان
ابناء الطائفة كانوا واقفين معه ومؤيدين له ولم يعترفوا بقرار
هؤلاء المطارنة الذين عزلوه. وكان انشقاق الكنيسة قاب قوسين،
لكنه حافظ عليها مفضّلاً وحدتها على مصلحته الشخصية.
ولقد أشاد الكتَّاب والشعراء السريان حينها بالدور الهام الذي
لعبه البطريرك اثناء فتنة دياربكر، وكيف نجح في انقاذ حياة
الكثيرين من سريان وغير سريان في دياربكر والقرى المجاورة.
فمثلاً كتبَ عنه معاصره الشاعر السرياني افريم سفر المدياتي في
قصيدة سريانية عن المجزرة المروعة بانه أصبح ملجأً للسريان،
وان كنيسة والدة الله في دياربكر أصبحت مركبة الانقاذ كسفينة
نوح (سقط هذا الشاعر السرياني شهيداً اثناء مجازر "سيفو" في
مديات 1915).
وقد أشاد بالبطريرك أيضاً الاديب السرياني الكبير الملفونو
عبدالمسيح قرباشي الذي عاش مع البطريرك عبدالمسيح في دير
الزعفران اثناء طفولته، حيث مدح دور البطريرك في حماية السريان
بقوله "لقد خمد الاضطهاد في مناطق دياربكر بواسطة شجاعة
البطريرك عبدالمسيح وحكمته الكبيرة وسخائه".
كما أشاد به رائد القومية السريانية الملفونو نعوم فائق، الذي
كان حينها يعمل معلماً في المدرسة السريانية في دياربكر فقال
"ان البطريرك أنقذ الكثيرين من مختلف الطوائف. وقد التجأ
الكثير منهم الى كنيسة مريم"، وكان الملفونو نعوم فائق صديقاً
للبطريرك وقد "التجأ نفسه واحتمى بالكنيسة تحت اجنحة البطريرك
وبضيافته الى ان هدأت الأوضاع". ثم أرسله البطريرك بعد انتهاء
الفتنة في نفس العام 1896 الى مدينة حمص التي كانت تابعة
لابرشية البطريرك قبل ارتقائه سدة البطريركية، ليعمل معلما في
مدرستها السريانية. لكنه لم يمكث فيها أكثر من أربعة أشهر
فغادرها الى لبنان وثم الى القدس.
الجزء التاسع عشر
|