عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم

تعقيب على مشكلة المطارنة الستة ومشاكل الكنيسة السريانية الارثوذكسية

ستوكهولم / السويد


الجزء العاشر

الجزء العاشر

عودة الى موضوع الإصلاحات

المطارنة

 

نتناول في هذ المقال وضع المطران في الكنيسة السريانية الارثوذكسية، وكيف يجب أن تكون صفات المطران الجيد والناجح، وهل سلطته مطلقة في أبرشيته أم هناك سلطة أعلى منه؟ وإذا كان دوره هاماً فمتى وكيف كبر دوره في الكنيسة؟ وهل يوجد في الكنيسة مطران ما تنطبق عليه صفات المطران الجيد؟ وفي الجزء القادم سننتقد بعض الأمور السلبية في حياة المطارنة مقدمين بعض الاقتراحات.

 

المطران هو المدبر الروحي لأبرشيته ومهندس العمل الكنسي فيها، كما انه رئيس كهنتها وأعلى مرجع ديني فيها. لذلك فان المطارنة بحكم دورهم هذا بإمكانهم ان يكونوا أهم عامل لإنجاح كنيستهم وتقدمها، لكن ايضاً أكبر عامل مُسَبِّبٍ لفشلها وتخلفها، كما انهم للأسف سبب معظم المشاكل الموجودة في الكنيسة اليوم كما كانوا في البارحة.

لكن دور المطران السرياني في الكنيسة في الشرق الأوسط هو شيء، ودوره في الكنيسة في أوروبا شيء آخر تماماً. والاختلاف بين هذا وذاك يعود بالدرجة الأولى الى مفهوم الديمقراطية وأنظمة الحكم في البلدان وقوانينها، وطبيعة العلاقات والتقاليد السائدة في المجتمعات.

ان المطران في الشرق الأوسط هو رئيس الطائفة في منطقته، وهو كل شيء في الكنيسة السريانية، وذلك بسبب طائفية المجتمعات. اي ان دوره هناك غير محدد، وسلطته مطلقة في كل مجالات الكنيسة، يستمدها من أجهزة الدولة التي تدعمه في قراراته حتى وان كان على خطأ، لكونه أداة بأيدي الأنظمة الحاكمة. وهذا هو دوره التقليدي الموروث الذي مارسه في تلك الدول جيل بعد جيل. وسيستمر دوره هكذا طالما ان تلك المجتمعات طائفية قائمة على أسس دينية، وطالما ان السريان ينظرون الى أنفسهم على أنهم كنيسة وطائفة فحسب. فبينما نرى الشعوب الأخرى في المنطقة كالأكراد مثلاً تحكمها احزابها القومية والسياسية الخاصة، نرى السريان لا زالت تحكمهم الكنيسة ويتزعمهم المطران.

أما دور المطران في أوروبا فمختلف تماماً. فهو ليس رئيس الطائفة كما في الشرق، وليس لديه سلطة إلا في الأمور الروحية والكهنوتية فقط والتي يجب ان تقوم على الاحترام المتبادل. بينما كل السلطات الفعلية الأخرى في الكنيسة هي بيد المجالس الكنسية المُنتَخَبة. ان المطران في السويد مثلاً موظف لدى الكنيسة التي تحكمها المجالس الملية الكنسية حسب قوانين المؤسسات القائمة على أساس قوانين البلاد، كما ان رئيس المجلس الملي الأعلى هو "نظرياً" الرئيس الاداري للابرشية وحاكمها، والمجلس الكنسي حسب القانون هو رب العمل وهو الذي يحل ويربط، وهو المسؤول عن المطران ويعطيه راتبه ويستطيع تسريحه من وظيفته. (لكن المطارنة لا يتقيدون بهذا الدور لأنهم لا يكتفون به، انما يسعون دائما لممارسة دورهم التقليدي غير المحدود، ويعملون على وصول اصدقاؤهم الى المجالس الكنسية ليحصلوا من خلالهم على مبتغاهم، لذلك يصطدمون أحياناً مع المجالس الملية والعلمانيين وقوانين الكنيسة وقوانين البلاد، كما ان السرياني المهاجر يتخبط بين النظرتين الشرقية والغربية الى الكنيسة وسلطة المطران). كما لا يوجد للبطريرك اية سلطة على الكنيسة واملاكها والمجالس الملية الا سلطة الابوة المعنوية والمحبة المتبادلة والالتزام الأخلاقي.

لكن في كل الحالات فان دور المطران المعنوي هام جدا في ابرشيته، وعليه يتوقف الكثير من تقدم الكنيسة وتخلفها. 

دور المطران يتطور ويكبر ويخرج من إطاره الروحي:

ان الاحداث السياسية الكبرى التي مرت على منطقة الشرق الأوسط، غيّرت وجه الكنيسة وأثرت في عقائدها وتعاليمها ومسلك كهنتها حسب مجرى السياسة ورغبة الحكام وتحديات الاديان الأخرى ومسايرتهم. كما ان الاحداث السياسية كبَّرت دور المطران في الكنيسة. فبالإضافة الى كونه كاهناً ومدبراً روحياً جعلته "زعيماً" في كنيسته ايضاً، فظهرت بذور الفساد في الكنيسة عندما اخذ يغتر بنفسه وبوظيفته.

وقد بدأ دور المطارنة يكبر في الكنيسة والمجتمع منذ القرن الرابع الميلادي عندما انيطت بهم بعض المهام غير الروحية أنذاك. إذ بعد انتصار الملك قسطنطين الكبير (337-272) واعلانه الحرية الدينية في دولته، وثم تنصره، ورعايته مجمع "نيقية" الكنسي عام (325 م) وإقراره مقرراته وبينها الجزء الأول من قانون الايمان، "نؤمن باله واحد..."، أراد الاستفادة من خبرة المطارنة ومعرفتهم، فأعطاهم بعض المهام الاجتماعية، غير الكنسية، كالاهتمام بالأيتام والارامل والعجزة والمصحات. ثم سار على منواله معظم الملوك الذين تبعوه. فاخذ المطارنة يخصصون الكثير من وقتهم الى هذه المواضيع الاجتماعية الى جانب اهتمامهم بالكنيسة. فارتبطت الإدارة الروحية بالإدارة الاجتماعية. وقد اغتر بعض المطارنة بأنفسهم بهذه الوظائف الجديدة التي أعطيت لهم الى جانب إدارة كنائسهم، فاختلطت الأوراق ببعضها وانخرط بعضهم بالقضايا الاجتماعية أكثر من الكنسية، وبدأت عملية الابتعاد عن الحياة الروحية، وظهور الميول نحو الفساد الذي سيطر على بعضهم.

وخلال مسيرة التاريخ كبر دور البطاركة والمطارنة أكثر وأكثر في الدولة البيزنطية الارثوذكسية، وكبر دور البابا والمطارنة بشكل عظيم للغاية في أوروبا الكاثوليكية اثناء القرون الوسطى. وتدخلت السياسة في الكنيسة فأفسدتها وافسدت الكهنة، وتدخلت الكنيسة في السياسة فازداد فسادها وابتعادها عن الروحانية.

وفي العهود الاسلامية تكرس دور البطريرك والمطران كرئيس لملته (طائفته). فعندما ظهر الإسلام واحتل بلاد السريان التي تقتسمها اليوم بلدان سوريا ولبنان، فلسطين والأردن، وتركيا، والعراق، جلب معه نظام أهل الذمة الاجتماعي/السياسي/الإسلامي. وفي هذا النظام الذمي القبيح والمتمثل بالاحتلال العربي المسلم لبلاد السريان واعتبار أصحاب البلاد (السريان) ضيوفاً في بيوتهم ويجب ان يقبلوا بالوضع الجديد ويدفعوا الضرائب "وهم صاغرون"، تعاملت السلطات السياسية العربية المسلمة مع رجل الدين (البطريرك والمطران) على انه رئيس شعبه يجب عليه ان يسهِّل خضوع رعيته للسلطة ويؤمن استمرارية دفعهم الضرائب، وبالمقابل اعطي له شيء من حرية التعامل في بعض القضايا الخاصة بطائفته مثل أمور الزواج والطلاق وغيرها. ولأن الدولة العربية دولة دينية قائمة على النظام الإسلامي وشريعته والحاكم هو خليفة المسلمين ورئيسهم، لذلك تعاملت مع غير المسلمين على هذا الأساس الديني، فاعتبرت رجال الدين المسيحي رؤساء لطوائفهم.

وفي العهود الإسلامية العثمانية المختلفة والمتخلفة استمر هذا النوع من التعامل وتكرس وعرف بالنظام "الملي". وتحولت الطوائف المسيحية المشرقية الى "جماعات دينية" يرأسها رجل الدين ولا تقبل زعامة لغيره. وكانت المحصلة ان أصبح هذا تقليدا مستمرا في البلاد الإسلامية لغاية اليوم. ولا زال الكثير من المؤمنين البسطاء ينظرون الى البطريرك أو المطران على انه "رئيس" الشعب. ولا زال مجلس الكنيسة يُسَمَّى "المجلس الملي"، ولا زال الكاهن المنحدر من تركيا يستعمل كلمة "جماعة" في خطابه واثناء توجهه للمؤمنين.

المطران راهب وكاهن قبل كل شيء:

لكن المطران في الأساس هو راهب وكاهن في الكنيسة، وقد دخل سلك الرهبنة والكهنوت للعبادة والخدمة. لذلك يجب ان تتسم به كل صفات الراهب الورع والكاهن التقي والخادم الأمين.

ولأن المطران في الأساس راهب قطع نفسه عن ملذات العالم ليتفرغ للعبادة والنسك، لذلك يجب ان يستمر في ممارسة شروط الرهبنة كالفقر الاختياري وكبح جماح الاحاسيس والغرائز والشهوات كل أيام حياته، وان لا يعيقه عنها شيء، لا الكرسي المريح الذي يجلس عليه ولا السرير الناعم الذي ينام عليه. بل يجب ان يكون قدوة لجميع الاكليروس والعلمانيين في الايمان والصلاة والصوم وممارسة طقوس العبادة بأوقاتها المنتظمة

ولأن المطران كاهن، فينبغي عليه ان يزاول فلسفة الكهنوت العميقة التي تركز على حسن الاخلاق والسيطرة على الإرادة والتمسك بالحشمة والدفاع عن قيمة الانسان. وان يعمل دائماً على تهذيب نفسه وترويض جسده والسيطرة على رغباته ومتطلباته، من خلال الاعتدال في الحياة والقناعة بالحد الأدنى من الأمور المعيشية والمادية، بعيدا عن طلب الملذات الحسية والجسدية. كما يجب ان يعمل دائماً على تصفية نفسه من الشوائب والعيوب التي تعلق بالنفس البشرية فتدنس جمالها وتعيق حركتها. وعند اقتناء هذه الصفات وتطبيقها الدائم يصبح المطران الكاهن أداة صالحة للاهتمام بالناس الآخرين وتهذيب نفوسهم، ويكون قد حقق الشروط الأساسية الأولى للنجاح في رسالته.

ولأن المطران في الأساس راهب وكاهن، لذلك يجب عليه أن لا يغضب ولا يبغض، ولا يتكبر ولا يتعجرف، ولا يحسد ولا يحقد، ولا يكره ولا ينتقم. بل على العكس، يجب ان يحب البشر كلهم، وهو صبور وغفور ومتواضع ومتسامح وعادل وغير اناني، ويوصي على ممارسة الصالحات وينهي عن الطالحات، لا يتوقف عن الوعظ بالانجيل. ويعمل بإخلاص لرسالته المبنية على تعاليم الكتاب المقدس وشروح الآباء، بهمة عالية لا تعرف الكلل أو الملل، ويعامل الناس بالمحبة الصادقة والتواضع والمساواة.

كما ينبغي على المطران ان يكون انموذجاً حياً للأخلاق الحميدة وللأعمال المجيدة والضمير الحي، يكرز دائما بالحق والتقوى على رجاء الحياة الابدية، ويقول كلمة الحق دائماً دون اية اعتبارات حتى وإن كلفته كرسيه.

وينبغي عليه ايضاً ان يكون دائم الصوم والصلاة ومواظباً على ممارسة أعمال الصلاح وخدمة الانسان بمنتهى المحبة والتواضع والإخلاص. فهو بوق جهوري الصوت ينبّه الشارد ليعود الى طريق الصواب، ويوقظ الضمير النائم ليعود الى رشده وانسانيته، يحث جميع الناس على فعل الخير، ويشجع أبناء الكنيسة واكليروسها على تبني الاخلاق الحميدة واتباع الاستقامة في الحياة فكراً وقولاً وفعلاً والسير في الطرق المستقيمة.

وينبغي ان يكون الكتاب المقدس والصلاة والصوم والأخلاق الحسنة، أعز أصدقاء هذا المطران ولا يفارقوه أبداً، بل يرافقوه طوال حياته لأنهم مصدر قوته ونجاحه في رسالته. فالكتاب المقدس يجب ان يكون معه في كل لحظة من حياته، ويقوم بتطبيق تعاليمه بالتمام على نفسه أولا، وثم يعلِّمها للناس ويشجعهم لاتباعها.

هذه هي صفات المطران الناجح. وهي مستمدة من الكتاب المقدس وتعاليم الآباء ومقررات الكنيسة والمجامع العامة والمحلية عبر العصور.

فإذا وجدتَم أيها الاخوات والاخوة ان هذ الصفات لا تنطبق على مطران كنيستكم فهناك حتماً شيء خطأ، فإما هذه الصفات هي مخطئة، وإما المطران هو على خطأ. وإذا اقتنعتم بان المطران هو على خطأ وليست الصفات، فكيف قررتم ان تتصرفوا؟ ألا يجب حينها تنظيم حركة إصلاحية في كنيستكم وإخبار البطريرك وإعلامه عن الموضوع، ليحقق في القضية ويجبر المطران المتقاعس ليكون مطراناً حقيقياً تتجسد فيه كل الصفات الجميلة المذكورة فيكون "قدوة للمؤمنين" على حد قول بولس الرسول الى طيمثاوس؟

إصلاح الكنيسة يبدأ من إصلاح المطارنة:

وفي كل الحالات ان دور المطران المعنوي هام جدا في الكنيسة وخاصة في ابرشيته. ولما كان للمطران هذا الدور الهام في الكنيسة وعليه يتوقف تقدمها وتأخرها، لذلك يجب ان تبدأ عملية إصلاح الكنيسة بإصلاح شامل للمطران أولاً. ولأجل تحقيق ذلك يجب اصلاح المطران بابتعاده الطوعي أو إبعاده القسري عن كل ما عساه ان يساهم في فشله وفساده وسقوطه، لأنه بفشله تفشل الكنيسة وبسقوطه تسقط الكنيسة ايضاً. وقبل كل شيء يجب تحريره من مفاهيم القرون الوسطى المتخلفة.

ان إصلاح المطران ينبغي أن يشمل مجمل حياته ونختصرها بثلاثة محاور: روحية وشخصية وإدارية. والهدف من إصلاح المطران هو تقدم الكنيسة طالما هو محرك الكنيسة. فعندما يتغير المطران نحو الافضل ويصبح انساناً مسيحيا حقيقياً، خالياً من العيوب والنواقص والخطايا، عاشقاً للكتاب المقدس والكنيسة، وفي قلبه محبة ابوية صادقة لكل المؤمنين، ورغبة عظيمة للخدمة، وإمكانية جيدة للنجاح في الإدارة، فان كل هذا سينعكس إيجابا على الكنيسة ومجمل حياتها، فستنجح وتتقدم.

وأول خطوة في الإصلاح تبدأ بالإبتعاد عن الماديات والتعلق بالروحانيات. ونظرياً، ان تطبيق هذه الخطوة سهل للغاية، لأن المطران في الأساس راهب هجر العالم وانقطع الى الصلاة والصوم والعبادة، مكرساً نفسه لخدمة الرب والكنيسة والمؤمنين. وبما انه راهب فقد اختار بمحض ارادته طريقين متوازيين: الأول هو الفقر المادي والمعيشي، والثاني هو الغنى الايماني والروحي. فإن طبّق هذا المبدأ الذي اختاره بمحض إرادته اثناء انخراطه في هذا السلك فسينجح حتماً في رسالته المسيحية ومهامه الكنسية، وستنجح معه الكنيسة أيضاً. لكن إن تنصّل من تطبيق هذا المبدأ في حياته فسيفشل وتفشل معه الكنيسة.

انتهى الجزء العاشر من المقال

يتبع الجزء الحادي عشر قريبا عن اصلاح المطارنة

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها