عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم

ستوكهولم / السويد


لمحات من تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية

(الجزء الخامس) 

عمل الكنيسة التبشيري في الشرق الاوسط وتوزيع كراسيها المطرانية

وصف أحد المؤرخين الكنسيين نشاط الكنسية السريانية الشرقية التبشيري بقوله: "كانت الكنيسة السريانية الشرقية الكنيسة الأكثر تبشيراً من كل الكنائس الاخرى".

وقال مؤرخ كنسي آخر:

"ان التاريخ الكنسي يمنح لقب "الكنيسة التبشيرية" الفخري للكنيسة السريانية الشرقية لأنها كانت الكنيسة الاكثر نجاحاً في القرون الوسطى".

 ان المنطقة الرئيسية الواسعة التي كانت حقلاً للنشاطات التبشيرية السريانية في آسيا كانت تقع بين نهر أوكسوس  Oxus river (يسمى اليوم نهر أمودارياAmu Darya ) وبحر أورال في الغرب، وساحل الصين شرقاً، وجبال هيمالايا جنوباً، وسيبريا الجنوبية وبحيرة بلخاش في كازخستان وبحيرة بايكال (في سيبريا الوسطى) شمالاً.

ان هذه المنطقة الشاسعة الارجاء من آسيا، بجبالها وهضابها وسهولها وصحاريها وأوديتها الخصبة وواحاتها تتطابق اليوم مع الصين (ضمنها التبت وسينكيانغ) وجمهورية منغوليا والجمهوريات الجنوبية للاتحاد السوفيتي سابقاً، وخاصة كازخستان وأوزبكستان.

 ان المسيحية بلونها السرياني بدأت تقتحم تلك المناطق منذ القرون المسيحية الاولى. يذكر الفيلسوف"برديصان الآرامي"   الرهاوي    (222- 154 ميلادي) في كتابه "شرائع البلدان ܢܡܘ̈ܣܐ ܕܐܬܪ̈ܘܬܐ" (طبعة هان دريفرس، صفحة 60) بعض المجتمعات المسيحية في صفوف الشعب الكوشي عند نهر أوكسوس الاعلى في الشرق الاقصى. 

 (ان القديس الشاعر مار أفرام يطلق على برديصان لقب  "الفيلسوف الآرامي ܦܝܠܣܘܦܐ ܐܪܡܝܐ" وكذلك يسميه "فيلسوف الآراميين ܦܝܠܣܘܦܐ ܕܐܪ̈ܡܝܐ" لأن السريان لغاية أيام مار أفرام في القرن الرابع  الميلادي لم يكن يسمّون أنفسهم سرياناً ܣܘܪ̈ܝܝܐ بل آراميين ܐܪ̈ܡܝܐ لكن اليونان كانوا يسمونهم سرياناً، (للاطلاع على رأي مار أفرام عن برديصان راجع كتابي الذي صدر لي باللغة السويدية في ستوكهولم عام 2005 بعنوان "مار افرام: حياته ومؤلفاته").

 ويعطينا التقليد السرياني فكرة عن انتشار المسيحية المبكّر بين القبائل الجيلانية جنوب غربي بحر قزوين بين قبائل الحاجوج والماجوج. وأنه كان في بلاد الديلم والجيلان كرسيان أسقفيان. ويذكر الكاتب السرياني توما المرجي (القرن التاسع) أسماء اساقفة هذين الكرسيّين.

 كانت مدينة مرو منذ العصور المسيحية الاولى أهم مركز تجاري وثقافي ومسيحي للكنيسة  السريانية في جنوب نهر أموداريا، حيث كانت هذه المدينة تعدّ المحطة الاساسية التي انطلق منها المبشرون السريان مجتازين هذا النهر حتى وصولهم الى المواقع الهامة بخارى وسمرقند.

 وقد بشّروا بين الشعب الصوغدي الايراني الاصل وبين الشعوب التركية القديمة التي استوطنت هذه المنطقة.

وكان ان تنصر البعض من هذه القبائل التركية والايرانية. وفي القرن الخامس وصل المبشرون السريان الى جزيرة سيلان (سريلانكا) وبلغوا اليابان وجزيرة جاوا الإندونيسية. ومن تأثير المبشرين السريان ان استعملت بعض الشعوب التركية والايرانية والمغولية الابجدية السريانة لكتابة لغاتها حينها.

 تُحدِثنا أعمال المجمع الكنسي المعقود عام 424 عن وجود اسقفيات في مناطق أصفهان، الري، سجستان، نيشابور، هرات، مرو، أربشار، شوشتار، أصطخر، الخ.

 وان الكنسية السريانية الشرقية كانت تضم أثناء عقد أعمال المجمع ستاً وثلاثين أبرشية بادارة خمس مطرانيات تأتمر برئاسة الجاثليق.

 وفي اعمال مجمع عام 554 كان توزيع الكراسي المطرانية ܡܛܪܦܘܠܝܛܘܬܐ التي تدير الاسقفيات العديدة على النحو التالي:

 1. بيث هوزايى (خوزستان)

 2. نصيبين

 3. فرات ميشان

 4. حدياب

 5. بيث غرمايى

 6. ريوأردشير

 7. مرو (أنظر كتاب المجامع الشرقية المذكور سابقاً، صفحة 367).

 ويبدو ان المطران ܡܛܪܦܘܠܝܛܐ المقيم في مرو (في تركمنستان الحالية) كان مسؤولاً عن كل اسقفيات الشرق الاقصى.

 وفي عام 498، لما خُلع الملك الفارسي المتسامح دينياً قواذ الاول (488-531) عن عرشه، فرّ الى تركستان مع حاشية تتضمن مطراناً وأربعة رهبان وشخصين علمانيين.

 وعى اثرها قامت الحاشية المذكورة بالتبشير بين الشعوب التركية حينها وحققت نجاحاً كبيراً بعد ان انضم اليها فريق سرياني نسطوري يضم بعض الكتاب والمعلمين والاطباء، مقدماً الدعم اللازم لهذا المشروع التبشيري. 

وتحققت بعض النجاحات في اعتناق الكثير من الشعب الاويغوري التركي الاصل المسيحية (هناك نقش سرياني ضخم في سيانفو في الصين يتحدث عى وصول الرهبان السريان الى هناك وعملهم التبشيري "لقد زرتُ تلك المنطقة منذ حوالي  15 سنة وبحثتُ عن النقش السرياني المذكور وصورته واجريت عنه دراسة نشرتها حينها).

ومن أعمال المجمع الكنسي عام 605 نعلم عن كيفية توزيع كراسي كنيسة المشرق السريانية ونعلم ان هنالك مطرانية في أذربيجان. لكن لا تتضمن اعمال هذا المجمع ذكراً لمطرانيات أو اسقفيات في آسيا الوسطى. ولعلّ مطران أذربيجان كان المسؤول عن آسيا الوسطى.

 عندما تسلم الجاثليق السرياني يشوعياب الثاني (628-644) رئاسة كنيسة المشرق خطّط، ولأول مرة لتنفيذ برنامج تبشيري منظّم في الصين.

 وفي عام 781 كتب احد ملوك الاتراك الى البطريرك طيمثاوس (778-820) طالباُ منه ان يعيّن لهم مطراناً ليدير شؤون شعبه التركي الروحية بعد تنصرهم معه.

وكان هذا البطريرك مهتماّ جداّ بمشروع التبشير، إذ ارسل مطارنته ورهبانه بشكل منظّم جداً لم يسبقه اليه أحد للتبشير في مناطق مختلفة من الشرق الاقصى.

يحدثنا الكاتب السرياني توما المرجي (النصف الاول من القرن التاسع) عن قيام الجاثليق طيمثاوس باختيار ثمانين راهباً ورسامة مطارنة وارسالهم بمهمة التبشير الى الشرق.

 وكان احد مبعوثي الجاثليق الى هناك ويدعى شوبحاليشوع (المجد ليسوع بالسريانية) يتقن اللغات التي يتكلمها الترك والتتر وغيرهم.

 وقد عيّنه طيمثاوس المذكور مطراناً على تركستان ليتمركز في سمرقند مع أسقفين يخضعان له في كل من بخارى (في اوزبكستان الحالية) وطاشقند (في تركستان الروسية اليوم).

 كانت الارساليات السريانية تسلك الطريق التجاري القديم المعروف بطريق الحرير الشهير في عالم التجارة الشرقية القديمة، من بلاد فارس الى مرو، ومن هناك الى الصين برفقة التجار السريان الذين ساعدوهم في تحقيق رسالة التبشير.

 ويحدّثنا توما المرجي عن الاساقفة السريان الذين سافروا برفقة التجار سالكين طريق تجارة الحرير حيث كان للسريان عليه حركة تجارية ناشطة مستمرة.

 إذ أفلح الآراميون المسيحيون، المشهورون بالتجارة يومذاك، في تأسيس محطات تجارية ومراكز هامة على طول هذه الطريق.

وكان هؤلاء التجار السريان يقومون بتقديم كل المساعدة والعون لاخوتهم السريان المبشرين في تحقيق رسالتهم.

وكان المبشرون الذين يتوجهون نحو الشرق الاقصى يلتحقون عادة بقوافل التجار السريان المتّجهة نحو الصين مستخدمين في نفس الوقت تلك المحطات التجارية السريانية، كمراكز لنشاطهم الديني والثقافي ومنها ينطلقون الى اماكن أخرى.

 ومن خلال هذه الطريق عبرت الارساليات السريانية وقطعت نهر تاريم ووصلت الى واحة طورفان في منطقة "أويغور" التركية شمال طريق الحرير حتى وصلت الى منطقة التبت حيث اعتنق الكثير الدين المسيحي.

وفي القرن الثامن والتاسع كان هنالك مسيحيون عند الحوض الاعلى لنهر الهندوس ازاء المنطقة الحدودية الحالية ما بية الصين والهند.

وقد تمّ العثور على شذرات أدبية مسيحية قرب بلاييق (Bulayiq)  بين الجدران المهدمة، والتي يعتقد انها آثار دير مسيحي قديم.

وكان لمسيحيي طورفان مركز ديني آخر على الاقل خارج السور الشرقي لمدينة خوتجو (Idiqulshahri) Khotcho.

وكان هنالك كنيسة صغيرة مزخرفة برسوم جدارية تعود الى عام 900 ميلادي.

 ان الآثار المكتشفة باللغة الصوغدية (من اللغات الايرانية) والاويغورية (لغة تركية قديمة) تجعلنا نستنتج ان اعداداً من السكان المنحدرين من اصول ايرانية وتبتية كانوا قد اعتنقوا المسيحية وانهم استعملوا لغتهم المحلية الى جانب السريانية لغة الطقوس؛ واكتشفت بالسريانية بعض الكتابات في منطقة القبائل المنحدرة من الاصل التركي والمغولي، من القرن الحادي عشر لغاية القرن الرابع عشر. وكان المركز الرئيسي للمسيحيين في اقليم طورفان Turfan شمالي المدينة القديمة عند سفوح جبال تينسهان  Tienshan. غير ان طورفان كانت تخضع كنسياً لمطرانية هامي Hami أو ربما لمطرانية مدينة "المليق" Almaliq.

ومن الكتابات الادبية والدينية المكتشفة في طورفان كتاباً طبياً باللغة المحلية لكن بحروف سريانية اسطرنجيلية.

 ومن موقع المراكز الدينية والتجارية السريانية الهامة في مرو، وبخارى، وسمرقند، تقدم المبشرون السريان النساطرة شرقاً وبشروا بين قبائل التتر التي اعتنق بعضها المسحية السريانية في القرن العاشر والحادي عشر امثال قبائل كرايت، وأويغور، ونايمان، وماركيت، فكتب عبديشوع مطران مرو الى جاثليقه في حدود عام 1077 يبشّره بنبأ تنصير ملك قبائل كرايت المغولية واعتناقه المسيحية مع مائتي الف من شعبه.

(يتبع الجزء السادس) 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها