عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم

ستوكهولم / السويد


لمحات من تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية

(الجزء الرابع)

(ملاحظة: لأجل فهم الموضوع بشكل كامل ننصحك ايها القارىء اللبيب بمراجعة الاجزاء الثلاثة الاولى من هذا المقال. كما انني استعملت تسمية "الكنيسة السريانية الشرقية" لأنها التسمية التي نستعملها في الاوساط الاكاديمية)

 توسع الكنيسة السريانية الشرقية وامتدادها:

التطور الهيكلي لكنيسة المشرق واستقلالها:

 كانت المسيحية في بلاد المشرق حتى النصف الاول من القرن الخامس قد تأصلت وتوسعت دون تنظيم هيراركي يدير شؤونها مستقلاً عن انطاكية

. لكن منذ نهاية القرن الخامس بدأت تنظم أمورها في كنيسة خاصة ضمن رقعة الحدود السياسية للدولة الفارسية.

اذ كان هناك ما يقارب الثمانين أبرشية منظمة يتولاها أساقفة يخضعون إدارياً لستة مراكز متربوليتية، يديرها المتروبوليت "المطران الحاكم" في المدائن عاصمة الدولة الفارسية.

 ونظراً لموقع كرسيه في العاصمة وأهميته فانه ترأس جميع المراكز المتروبوليتية والاسقفية المذكورة ونال لقب "جاثليق".

ويبدو ان هذه التنظيم الاداري في كنائس المشرق السريانية قد جاء نتيجة المجمع الكنسي المحلي الاول الذي عقدته هذه الكنائس عام 410 في المدائن برعاية اسحاق جاثليق المشرق وماروثا مطران ميفرقط، حيث سنّت فيه النظم والقوانين الكنسية، ودرست وظائف الكهنة وسيامتهم وتحديد مهام الاسقفية، وسلطة الجاثليق، واعتماد الاعياد المتداولة في كنيسة انطاكية (كتاب المجامع الشرقية طبعة جان باتيست شابو Synodicon Orientale, p. 262).

 وهناك بالاضافة الى النظم الادارية التي أقرّها المجمع الكنسي المذكور، فانه حدد موضوع الايمان ايضاً، إذ وافق على قبول عقيدة الايمان المسيحي التي نُظّمت خلال المجمعين الكنسيّين المسكونيّين النيقاوي عام 325 والقسطنطيني عام 381.

وهكذا اخذت كنيسة المشرق تدريجياً تنتظم إدارياَ لوحدها بمعزل عن سلطة كنيسة انطاكية.

لكن هذه الاستقلال المعنوي عن انطاكية لم يمنع اساقفة هذه الكنيسة في خلافاتهم مع جاثليقهم من طلب المساعدة من بطريرك انطاكية، لأنه بنظرهم سلطة عليا نزيهة ومحايدة.

 لكن بسبب ضغوطات وممارسات الدولة الفارسية ومنفذيها فان المجمع الكنسي الذي عقد عام 424 حال دون طلب هذه المساعدات من البطريرك الانطاكي، اذ نصّ المجمع بعدم الاتصال بأية سلطة خارج حدود كنيسة المشرق تجنباً لغضب السلطة الفارسية السياسية التي أرادت أن تفهم المسيحيين السريان أنه لا ينبغي ان يكونوا أصدقاء بيزنطة عدوّة الفرس. 

وبهذا القرار الذي اتخذ لاسباب سياسية فقد اصبحت كنيسة المشرق ذات استقلال ناجز تماماً بأمورها، يديرها رئيسها الجاثليق الذي اتخذ لنفسه بعدئذ اللقب المزدوج "جاثليق/بطريرك" (Synodicon Orientale, pp. 43-53).

 ان تبنّي هذا اللقب ايضاً مؤشر واضح في رغبة هذه الكنيسة باستقلالها التام.

 ولإعلان المزيد من الولاء لحكّامهم الفرس كان السريان المشارقة قد اتخذوا في مجمع كنسي عقد عام 486 موقفاً واضحاً وصريحاً ضد لاهوت الغرب (انطاكية) يدعم  رأي "البطريرك نسطور" الذي قطعت انطاكية شركته من الكنيسة وحرمته في مجمع افسس عام 431.

 لكن رجال اللاهوت في كنيسة المشرق كانوا في الاساس وقبل ظهور قضية نسطور، على موقف لاهوتي يتّفق مع موقف نسطور.

وهكذا فان قطع العلاقات مع انطاكية كان اسلوباً لنيل رضى الملوك والحكّام الفرس لإثبات الولاء واخلاصهم لهم من جهة، ولإزالة شبهات السلطة حولهم باتهامها لهم بانهم يتعاطفون مع بيزنطة المسيحية عدوة الفرس، فاضطروا للاثبات بانهم يختلفون في ايمانهم المسيحي عن اعداء فارس، فهذه انطاكية قد حرمت نسطور وهم الان يقبلوه.

وأنهم بذلك أوجدوا عامل تفرقة وانفصال عن اخوانهم في سوريا. فكان ان استقلت الكنيسة السريانية الشرقية نتيجة لمبدأ الفعل ورد الفعل.

 ونظراً لاضطهاد الفكر النسطوري في سوريا فقد لاذَ بالفرار البعض من معلمي اللاهوت المؤيدين للفكر النسطوري الى بلاد فارس، حيث تجمع فيها كوكبة من رجال اللاهوت النسطوري الذين أغنوا كنيسة المشرق.

 فعلى سبيل المثال كان هيبا الشهير الذي خلف رابولا كمطران على ابرشية الرها عام 435 والمتورط في المجالات اللاهوتية، يعلّم في كلية الرها داعماً العقيدة النسطورية حتى بعد أن حُرمَ نسطور ايضاً، لانه (اي هيبا) كان من اتباع ثيودوروس المصيصي الذي اصبحت مؤلفاته اساساً لتطوّر النسطورية. وقد ساهم "هيبا" في الترجمة الى السريانية كتب اساطين الفكر النسطوري ثيودوروس المصيصي وديودوروس الطرسوسي وثيودوريطس القورشي ونسطور، واعتمدت مؤلفاتهم كمواد للتدريس في الاكاديمية السريانية في الرها. كل هذه الحوادث المقصودة وغير المقصودة أدت في النهاية الى تطور محلي في الكنيسة الشرقية وعملت على تقوية طابعها وشخصيتها المستقلة حديثاً. حتى أصبحت هذه الكنيسة مؤسسة تامة بلاهوتها وطقسها وكهنوتها وادارتها.

 أسباب توسع كنيسة المشرق:

بعد ان انتظم التسلسل الكهنوتي الهرمي بمختلف درجاته بشكل ثابت في كنيسة المشرق السريانية مع رسوخ العقيدة النسطورية، بدأت الكنيسة تفكر بتقوية نفوذها العلمي والمعنوي وتوسيع مجال عملها ونشاطها وحدود كرسيها وابرشياتها. كان هناك جملة عوامل داخلية وخارجية أدّت الى هذا التوسع والانتشار وأهمها:

1- تجمُّع الكثير من السريان المشارقة الذين اعتنقوا الفكر النسطوري في الدولة الفارسية (وضمنها العراق الحالي) واستقرارهم بعيداً عن الدولة البيزنطية، وبعيداً عن انطاكية والقسطنطينية، وبعيداً عن التأثير اللاهوتي والجدلي اليعقوبي والخلقيدوني، والنزاع الدائر ما بين الخلقيدوني واللاخلقيدوني، اي أنهم كانوا الى حد ما، في مأمن من الصراعات الفكرية التي ضربت كنيسة أنطاكية. وخاصة بعدما اغلق الامبراطور زينون كلية الرها السريانية عام 489 بسبب التعاليم النسطورية وأنشأ مكانها كنيسة سُميّت "كنيسة والدة الله" لان النساطرة كانوا يرفضون هذا اللقب للعذراء مريم وكانوا يفضلون بدلا عنه لقب "والدة المسيح"،  وعلى أثر ذلك هاجر الكثير من المعلمين الى داخل حدود الدولة الفارسية.

2- كانت الرقعة الجغرافية الكبيرة للدولة الفارسية مفتوحة أمامهم للتبشير والتوسع الكنسي دون عائق أو مانع يحول دون ذلك.

3- كانت "المدائن" (أي سلوقية وقطسيفون) عاصمة الدولة الفارسية، نقطة التقاء هامة لمختلف شعوب الدولة الفارسية، ومحطة عبور للقوافل التجارية العديدة القادمة من وسط آسيا والهند والصين، الخ. حيث تعرّف رجال الكنيسة السريانية الشرقية على تجّار وأغنياء من مختلف بلدان الشرقين الأدنى والأقصى، ونجحوا في عقد صداقات وعلاقات مودّة مع الكثيرين منهم أفادتهم أثناء حملات التبشير وخاصة على طريق الحرير التجاري الشهير.

4- السريان سكان المدن في الدولة الفارسية كانوا من شريحة التجّار والحرفيين الذين يتمتعون بوضع اقتصادي جيّد قياساً بفئات الشعب الاخرى. وقد احتلوا مكانة هامة في حياة المدن الايرانية، إذ شكلوا "تعاونيات" جماعية موحّدة كنوع من التنظيم الصناعي (تشبه نقابات العمال والتجار والموظفين اليوم)، حيث ترأس كل جمعية تعاونية شيخ أو معلّم يرعى هذه الحرفة أو تلك.

وكانت جمعيات الحرفيين السريان هذه تقدم الدعم المالي للكنيسة لقاء الرعاية الأدبية والدينية والاجتماعية التي تقدّمها الكنيسة بدورها لهم.

 وكان رؤوساء الحرف والورشات الصناعية الكبيرة وتجّار المدن المنضوية في تلك الجمعيات التعاونية يضعون تواقيعهم وأختامهم في نهاية محاضر جلسات اجتماعات الكنسية.

وبهذا الدعم المالي كان يسمح بتنفيذ المشاريع التبشيرية والتوسع.

5- الحماس الشديد لدى السريان المشارقة للإنتظام في سلك الرهبنة والاخلاص لنظامه المحكم حسب الدرجات الكهنوتية وطاعة الاصغر درجة للاكبر، والاستعداد النفسي العالي للعمل التبشيري لدرجة التضحية.

 كل هذا كان له دوره الهام في توجّه هذه الكنيسة لتوسع نشاط عملها متجاوزة حدود الدولة، وخاصة ان مجتمعات مسيحية مبعثرة في مناطق نائية بعيدة كانت موجودة منذ قرون المسيحية الاولى.

6- بعد سيطرة العرب المسلمين على المنطقة، وجد السريان المسيحيون المشارقة أنفسهم في وضع جديد حرج عليهم التأقلم معه وتطبيع عاداتهم تبعاً لذلك. فالاسلام تعامل مع السريان المسيحيين على انهم أهل ذمّة، اي انهم مواطنون من الدرجة الثالثة في المجتمع بعد العرب المسلمين وبعد الموالي المسلمين.

 وسنّت قوانين اسلامية، تدريجياً، تمنع التبشير والعمل على نشر الرسالة المسيحية. لذلك وجدت الكنيسة السريانية أنها بدأت تخسر مواقعها رويداً رويداً، وتنتقل من كونها أغلبية ساحقة في العراق لتتحوّل في النهاية الى اقلية.

 إزاء هذا الطوق الضارب حول الكنيسة الشرقية، فقد ارادت ان تحوّل البعض من نشاطها ذاك الى خارج حدود الدولة العربية المسلمة الجديدة، وأن تشرع في فتح مناطق جيدة تكون مصدر قوة لها.

7- كان اشتغال السريان بالثقافة السريانية خاصة والثقافات العالمية الاخرى كالفارسية واليونانية وغيرها، قد حمل اكليروسهم ومثقفيهم على التفكير بالوصول الى مناطق مجهولة بعيدة عن مصادر الثقافات وذلك لتعليم شعوبها مبادىء الدين الجديد كتابة وقراءة.

 إذ كان هذا بمثابة التحدّي بين الثقافة والجهل، حين قبل السريان نداء التحدي النفسي هذا، في نشر ثقافتهم بين الامم المعدومة الثقافة كبلاد منغوليا.

(يتبع الجزء الخامس) 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها