عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم

ستوكهولم / السويد


لمحات من تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية

(الجزء الثالث)

مقدمة:

 تحدثنا في الجزء الاول من هذه المقالات عن الوضع السياسي العام في الشرق الاوسط عندما ظهرت تعاليم الديانة المسيحية وانطلاقتها الاولى، وتحدثنا عى الصراع بين الفرس والرومان واثره السلبي على السريان وعن الاضطهادات العنيفة التي واجهها المسيحيون في فارس. وفي الجزء الثاني تحدثنا عن الكنيسة بين القرن الخامس والسابع وعن بعض الاشخاص السريان الذين ساهموا في احلال السلم بين الفرس والرومان؛ وتحدثنا عن مجامع الكنيسة التي ساهمت في تنظيم الكنيسة وتحديد سلطة كراسيها المطرانية والاسقفية)

 الكنيسة السريانية الشرقية تحت حكم العرب المسلمين

المسيحية السريانية بين القبائل العربية قبل الاسلام:

كانت المسيحية السريانية منتشرة بين مختلف القبائل العربية في الجزيرة العربية وأطرافها.

 وكانت الدول العربية المتمدنة قبل الاسلام كدولة الغساسنة في جنوب سوريا ودولة المناذرة في جنوب العراق تدين بالمسيحية المرتبطة بالكنائس السريانية.

وكانت هنالك  مجتمعات مسيحية عدة في  الجزيرة العربية بين مختلف القبائل، وذلك قبل قيام المذهب النسطوري.

فمنذ بداية القرن الثالث كان هنالك اسقفية في بيث قطرايى ܒܝܬ ܩܛܪ̈ܝܐ إزاء البحرين. وقد انتشرت المسيحية بين قبائل حِمْيَر وغسان وتغلب وبني عقيل وبني شيبان (ثعلبة) وبني بكر بن وائل وتنوخ وطي وقضاعة وغيرها بفترة طويلة قبل الاسلام، ويذكر المؤرخ سوزمن (Sozomen, VI, 38) أن ملكة عربية مسيحية تدعى ماوية (ربما مارية) استقدمت اسقفاً كي يرعى شؤونها وعشائرها المسيحية.

يُعتقد ان المسيحية السريانية النسطورية وصلت الى الجزيرة العربية على يد المسيحيين السريان النساطرة الهاربين من اضطهاد شابور الثاني الفارسي (310-379) عند لجوئهم الى الاقاليم المجاورة لجنوب العراق.

وفي القرن الرابع استحدثت عدة كنائس واسقفيات في سائر انحاء الجزيرة العربية. يحدثنا كتاب الحميريين عن المجازر الفظيعة التي تعرض لها العرب المسيحيون من نجران وحِمْيَر على يد الملك العربي اليهودي مسروق عام 523، ما حملهم على طلب النجدة من الحبشة.

 فيهب الاحباش المسيحيون لنجدتهم عام 525 ويُهزم مسروق. وفي القرن الخامس كان هنالك، على ما يُعتقد، ستة مطارنة في الجزيرة العربية والعديد من الكنائس في اليمن في صنعاء وعدن وظفار. وكان الملك اليمني العربي المسيحي أبرها الأشرم في النصف الثاني من القرن السادس قد بنى كاتدرائية في صنعاء وعمل على دعم المسيحية وتنشيطها كثيراً. 

الكنيسة تحت الحكم الاسلامي:

أثناء ولاية الجاثليق السرياني الشرقي يشوعياب الثاني (628-644) خرج العرب المسلمون من جزيرتهم واحتلوا مدينة الحيرة عام 635. وعلى اثر معركة القادسية عام 636 واندحار الفرس سيطر العرب على المدائن عاصمة ملوك الفرس ومركز كرسي الجاثليق السرياني الشرقي.

وقد اعتقد الجاثليق يشوعياب بان سيطرة العرب ليست الا مجرد غزوة، ولم يعلم ان معركة القادسية كانت مفصلاً تاريخياً في تاريخ العراق لأن العرب جاؤوا ليبقوا في المنطقة ويصلوا بعدها حتى الى الهند عام 642.

لكنه بعد مرور عدة أشهر أيقن أن كنيسته قد دخلت فعلاً مرحلة جديدة بعدما أصبحت تحت حكم العرب المسلمين. وسرعان ما وردته الاخبار عن وقوع كنيسة انطاكية ايضاً في قبضة العرب المسلمين. كان الجاثليق يشوعياب حذراً من التغييرات السياسية في حدود كنيسته ويتوقع أن يسترد الفرس العراق.

 غير ان معركة نهاوند عام 641 كانت المعركة المصيرية والاخيرة مع الفرس حيث قررت نهائياً مصير دولتهم وتحولها بالتالي الى جزء من الامبراطورية العربية الاسلامية الجديدة.

لم يكن العرب المسلمون مختلفين كثيراً عن السريان المسيحيين. إذ قبل ظهور الاسلام كان المسيحيون من العرب تحت ادارة الكنائس السريانية، وبعد ظهور الاسلام أصبح جميع السريان اتباعاً في دولة العرب المسلمين.

ولغة العرب في الاساس قريبة جداً من اللغة السريانية الآرامية.

ودين العرب الجديد قائم على تعاليم الايمان بالله كدين السريان المسيحيين. وكانت المسيحية موجودة في مكّة والمدينة، وحتى أن رسول العرب محمد كان على علاقة طيبة مع المسيحيين.

بعد حكم الخلفاء الراشيدين الذي استغرق حوالي الثلاثين سنة  من 633 لغاية 661، والحكم الاموي في دمشق ما يقارب التسعين سنة من 661-750، سيطر العباسيون على الخلافة واسسوا عاصمة جديدة لهم في بغداد، وقد دام حكمهم خمسة قرون تقريباً من 750 لغاية 1258.

أثناء الاحتلال العربي الاسلامي كانت الغالبية المطلقة من سكان سوريا والعراق من الآراميين المسيحيين (السريان):

 اليعاقبة والملكيين في سوريا، والنساطرة في العراق. وقد اعتمد عليهم العرب في تسيير دفة حكمهم وخاصة في مجالات الادارة والشؤون المالية وجباية الضرائب والتجارة ومهام القضايا العلمية والطبية نظراً لافتقار العرب الى شتى هذه المجالات.

وقد حدد القرآن علاقة الاسلام مع غير المسلمين وخاصة أهل الذمة وأهل الكتاب من المسيحيين واليهود وغيرهم. وقد فضّل القرآن المسيحيين على باقي الاديان اذ اعتبرهم أقرب الناس الى الاسلام.

كان سكان البلاد الاصليين من السريان والفرس الذين، على حد قول المؤرخين قد "حُملوا عن طريق القوة أو الضغط آو الاضطهاد على اعتناق الاسلام وتمتعوا اسمياً بحقوق الرعوية الاسلامية.

وكان دأبهم ان يلتحقوا ببعض القبائل العربية عن طريق الولاء ليعتبروا من أفرادها ويحسبوا من مواليها، فعرفوا بالموالي. وشكلوا الطبقة الاجتماعية الدنيا في المجتمع الاسلامي.

 ولهذا امتعضوا من وضعهم وانحازوا الى الشيعة في العراق والخوارج في فارس. وكان منهم من أصبح من أقوى دعاة دينه الجديد وأشدهم اضطهاداً لأبناء دينه السابق.

وعن طريق هؤلاء الموالي انتقلت ايضاً علوم وفنون وآداب قومهم الى ابناء دينهم الجديد|" (فيليب حتي، تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين، ج2، ص 97-98).

وقد اعتبر القرآن المسيحيين "أهل الذمة" أي أهل الكتاب وشملهم بالامان في عدة سور قرآنية (مثل سورة التوبة 29، وسورة البقرة 99، وآل عمران، الخ)، لكن فرضت عليهم ضريبتا الجزية والخراج المشابهة لتلك التي كان قد فرضها ملوك الفرس على المسيحيين لقاء منحهم قسطاً من الحرية الدينية.

كان الاسلام بشكل عام دين العرب، لذا أُجبرت القبائل العربية المسيحية مع مرور الزمن على اعتناقه، فمثلاً ان الوليد بن عبدالملك قتل أمير قبيلة تغلب المسيحية لامتناعه عن اعتناق الاسلام (كتاب الاغاني للاصفهاني، ج1، ص 99).

وكان المهدي العباسي (775-785) قد تعجب عندما علم بانه لا زالت هناك قبائل عربية تدين بالمسيحية وتقيم بجوار حلب، فخيّرهم بين الاسلام والموت، فاعتنقوا الاسلام وهدم كنائسهم وأحرق كتبهم.

ان وضع المسيحيين كان بشكل سلبي منتظماً الى حد ما في الدولة الاسلامية الى أن جاء الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز الذي فرض عليهم قوانين التمييز العنصري المهينة للانسان والمعروفة لدى الجميع "بالشروط العمرية" الجائرة.

 كما ان بعض التقاليد السريانية النسطورية تفيد بأن الجاثليق السرياني النسطوري يشوعياب الثاني كان قد قابل نبي العرب محمداً فنال منه وثيقة تمنح السريان النساطرة جملة من الامتيازات، وان الخليفة عمر بن الخطاب قد جدد هذه الوثيقة.

 إلا اننا لا نستطيع الاخد بهذا التقليد الضعيف الذي لا يستند الى وقائع ثابتة.

لكن يمكن القول اجمالاً ان معاملة الخلفاء المسلمين للمسيحيين كانت تقريباً معتدلة الى حد ما وتتسم باحترام رجال الدين، لكن معاملة الحكام والولاة كانت متقلبة تخضع لأهوائهم ونزواتهم.

 لذلك كان التعدي على المسيحيين واضطهادهم والتنكيل بهم يتكرر بين الحين والآخر خلال مسيرة التاريخ الاسلامي.

ولما كانت القوانين الاسلامية قوانين دينية فحسب فلم تشمل بالتالي في خصوصياتها غير المسلمين، لذلك بقيت قوانين ونظم غير المسلمين سارية المفعول بين أهل الذمة.

 وبموجب هذه القوانين الاسلامية أصبح المسلمون يمثلون الطبقة العليا في المجتمع بينما غير المسلمين كانوا يمثلون الطبقة الدنيا.

وقد زوّد الخلفاء رؤساء الكنائس والاديان بوثائق تؤكد سلطتهم الرعوية على رعاياهم وكنائسهم، وبالمقابل كان هؤلاء يضمّنون وعظاتهم مدح الحكام والاشادة بسياستهم.

لقد اعترف العرب بفوقية الثقافة السريانية العالية وحاولوا الاستفادة منها في معاهدها العلمية وجامعاتها في جنديسابور ومرو والرها ونصيبين وقنشرين وغيرها.

وليس غريباً ان تكون حاشية أكثر الخلفاء العلمية والطبية على الاغلب من السريان.

 ان كتب التاريخ العربية والسريانية زاخرة باخبار العلماء والادباء السريان (نساطرة ويعاقبة) الذين ساهموا فعلاً في بناء الحضارة العربية الاسلامية.

يتبع الجزء الرابع 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها