عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم

ستوكهولم / السويد


تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية (الجزء الاخير)

(الجزء الحادي عشر والاخير)

عندما جلس أرغون على عرش الدولة الإيلخانية المغولية عام 1281 فكر في استعادة القدس من يد مماليك مصر المسلمين والقضاء عليهم.

وكان المماليك قبل حولي الربع قرن قد وقفوا في وجه عساكر جده هولاكو وكسروها في فلسطين عام 1260 وقتلوا قائدها المسيحي النسطوري.

 وفكر أرغون في التحالف مع الفرنجة (الصليبيين) للحصول على مساعدة عسكرية لتحقيق هدفه، لكن وضع الفرنجة في الشرق كان ضعيفاً للغاية في مواقعهم على الشاطىء السوري الفلسطيني، وكانت نهايتهم في المنطقة تقترب.

 لذلك فكر بواسطة البطريرك ياهبالاها ܝܗܒܐܠܗܐ ان يرسل وفداً برئاسة صديقه ومعلمه الربّان صَوما ܪܒܢ ܨܘܡܐ الى اوروبا لطلب المساعدة من امرائها المسيحيين ومن بابا روما.

وانطلق الوفد المذكور عام 1287 محملاً بالرسائل والهدايا من أرغون الملك الى ملوك اوروبا ومن البطريرك ياهبالاها الى البابا، واستغرقت الرحلة حوالي السنة.

 وقد زار الربان صوما ووفده مدينة القسطنطينية وروما وباريس، الخ. وقام امبراطور القسطنطينية وملوك فرنسا وانكلترا والبابا نيقولا الرابع باستقبال الربان صوما خير استقبال.

 إلاً ان رحلته هذه لم تسفر عن اية مساعدة عسكرية أوروبية للمغول لأن أوروبا لم تستجب لفكرة المغول في القضاء على المماليك وانتزاع القدس من المسلمين، وبذلك فشل المشروع الهام الذي خطط له كل من القائدين المغوليين:

 الملك أرغون والبطريرك ياهبالاها.

وبحلول الوفد في اوروبا كان قد جرى نقاش لاهوتي بين الربان صوما ورجال الكنيسة الكاثوليكية، حيث ورد في قصة الربان صوما والبطريرك ياهبالاها عبارة "عقيدته الانطاكية". والحقيقة ان عقيدته كانت "نسطورية" حيث كانت في نظر الكنيسة الكاثوليكية عقيدة "هرطوقية" مرفوضة. ولأن البابا نيقولا الرابع كان يأمل في حمل الربان صوما على اعتناق الكثلكة، ومن ثم ان تعتنقها كنيسته السريانية الشرقية النسطورية برمتها، فانه لم يعامل الربان صوما على انه "هرطوقي"، بل جامله وشاركه في خدمة القداس وتناول صوما القربان من يد البابا نفسه.

وأخيراً ولأجل تشجيعهم على الانضمام الى الكنسية الرومانية، أرسل البابا الى البطريرك ياهبالاها هدايا ثمينة وفرماناً يمنح فيه ياهبالاها البراءة في ممارسة سلطته البطريركية على كل ابناء المشرق وكأنه تابع له.

 بينما لم تكن للبابا بالواقع اية علاقة أو سلطة على المسيحيين المشرقيين. يقول أحد كبار المؤرخين الكنسيين المعاصرين "ان هدف البابا الوحيد آنذاك كان ربط مختلف الكنائس الشرقية بالكنيسة الكاثوليكية وتحت سلطته، لذلك لم يهتم لمشروع التحالف العسكري الذي طرحة الخان أرغون، إنما انصبّ اهتمامه فقط على تحويل الكنيسة السريانية النسطورية الى المذهب الكاثوليكي. ولما كان البطريرك ياهبالاها على درجة من الذكاء فانه استجاب الى طلب البابا، لكن بعد ست عشرة سنة، إذ ارسل وثيقة ايمانه الى روما وتجنّب فيها ذكر الصيغ المخالفة للعقيدة الكاثوليكية مع اعترافه بسيادة البابا على جميع الشعب المسيحي قاطبة في كل مكان.

غير ان هذا لم يؤدِ الى اي نوع من الاتحاد مع الكنيسة الكاثوليكية، رغم ان ياهبالاها كان على أتم الاستعداد لربط كنيسته بالكنيسة الكاثوليكية وتمتين الروابط بينهما عساه أن ينال الدعم والحماية من أوروبا المسيحية.

كان مركز البطريركية الرسمي في بغداد، لكن ياهبالاها نقله الى مراغة حيث مركز الدولة الإيلخانية المغولية ليكون قريباً من ملوك المغول وبحمايتهم. وبنى هنالك كنيستين ومقراً بطريركياً فخماً لاستقبال ملوك المغول عند قدومهم لزيارته.

لكن الاوضاع بدأت تتدهور بالنسبة للبطريرك بعد فشل وفده الى اوروبا، إذ توفي والده الروحي وصديقه الربان صوما عام 1294، وكانت تلك ضربة قاصمة لياهبالاها عانى منها الكثير.

وفي السنة التالية تبدأ حركات تمرد بين المغول والمسلمين تهزّ الدولة الايلخانية المغولية التي اصبح المسلمون يشكلون فيها قوة كبيرة حيث أخذ الاسلام بالانتشار السريع بين الشعب المغولي واعتنقه الكثير منهم، فأصبح هناك هوّة دينية كبيرة تُبعد بين الشعب المغولي وملوكه.

وُقتل الايلخان "غياختو" صديق المسيحيين، ولم يستمر خليفته على العرش أكثر من عدة أشهر ليخلفه أخيراً غازان ابن أرغون الذي أضطر الى الاعترف بالاسلام رسمياً كدين للدولة.

فانتهز حينها مسلمو فارس الفرصة مستغلين الوضع الجديد الناشىء عن اسلمة ملكهم وبدأوا بمهاجمة المسيحيين وقتلهم عشوائيا دون اي سبب، ودمّروا الكثير من كنائسهم وحولوا بعضها الى جوامع، واقتحموا دار البطريركية في مراغة ونهبوها، واشبعوا البطريرك تعذيباً بعد نهب كل محتويات كنسيته.

 لكن رغم ذلك كله وبعد عودة الهدوء استطاع ياهبالاها من اتمام بناء دير كبير في مراغة وآخر في أربيل، لكن بعد انتهاء البناء مباشرة قام المسلمون بهدم الدير في اربيل.

وأصبحت الكنيسة في الشرق الاوسط منذ عام  1300، على حد قول المؤرخين الكنسيين، "كنيسة شعب لاحقته الاضطهادات والهجمات والنهب بشكل مستمر".

واصبح بطريرك الكنيسة السريانية الشرقية مضطهداً، هارباً، غير مرغوب فيه من قبل المغول كما كان سابقاً. إلا ان خيبة الامل الكبرى التي تلقاها ياهبالاها كانت عندما اعتنق الملك المغولي "أوليجيتو" الاسلام وبدأ بمعاداة المسيحيين (وهو المسيحي في طفولته حيث عمّده ياهبالاها نفسه، وحين كان في مقتبل العمر كان يتردد لزيارة البطريرك باستمرار).

 وقام ياهبالاها مرة بزيارة أوليجيتو فاستقبله ببرودة وبمنتهى اللامبالاة، فندم البطريرك على زيارته تلك وقرر بانه لن يزور قصر الملك ثانية، وكشف حقيقة مُرة بانه في وضع لا يُحسد عليه. وفي السنوات الخمس الاخيرة من حياة البطريرك، انزوى من مصاعب الحياة وسكن في ديره في مراغة وهو يعاني من وضع المسيحيين القاهر، الى ان وافته المنية في 15 تشرين الثاني عام 1317، حيث دفن في ديره المذكور. وكان قد رسم خمسة وسبعين مطراناً لابرشياته الممتدة من طرسوس والقدس في الغرب الى جنوب الهند والصين في الشرق. وقد عاصر حكم ثمانية من ملوك الدولة الايلخانية المغولية.

ويمكن القول في النهاية ان عهد ياهبالاها شهد فترة التحوّل في تاريخ هذه الكنسية العظيمة من القوّة والعظمة الى الانحدار والافول.

اندحار الكنسية السريانية الشرقية في الشرق الاقصى والاوسط:

ان الوضع الجيّد الذي كان المغول قد قدموه للمسيحيين لم يستمر كثيراً، إذ انتهى بدخول المغول في الاسلام، وخاصة منذ الخان المغولي غازان 1295-1304 الذي أسلم واتخذ الاسلام ديناً لدولته، وبدأ في معاملة المسيحيين بشدّة، فقد انتزع من البطريرك ياهبالاها القصر الذي يقيم فيه في بغداد حيث كان هولاكو قد منحه هدية للبطاركة اثناء اقتحامه بغداد.

فاغتنم عندئذ المسلمون العرب والاكراد الفرصة وقاموا على الفور يقتلون جيرانهم المسيحيين النساطرة المسالمين في 1295-1296. وأثناء حكم الخانات الذين أسلموا وخاصة أوليجيتو (1304-1316) وأبو زيد (او سعيد؟) (1316-1325)، حصلت مجازو مروعة بحق المسيحيين.

وشهد القرن الرابع عشر اضطهدات عنيفة ومجازر مروعة بحق المسيحيين في اماكن عدة: ففي مراغة دمرت الكنائس والاديرة، وكذلك في أربيل، وفي آمد (دياربكر) هجم المسلمون على المسيحيين بغتة وقتلوا اثني عشر ألفاً منهم وعذبوا المطران غريغوريوس الى ان مات، وأحرقوا كنيسة العذراء الرائعة عام 1317.

 ازاء هذه الاضطهادات والمجازر اخذت الكنيسة تضعف يومياً. وفي النهاية يقوم تيمورلنك (1396-1405) وهو المسلم المتعصب (وهو شبه مغولي من قبيلة برلاس التركية)، وينتزع العرش من اسياده المغول ويركز وضعه في سمرقند.

ويعمل على سحق المسيحية كلياً، فيوجه ضربة قاضية حاسمة إلى المسيحيين في الشرق الاقصى والاوسط ويقتلهم بضراوة في كل من خراسان وجرجان ومزندران وسجستان وافغانستان والهند وفارس وأذربيجان وأرمينيا وجورجيا وسوريا والرافدين.

وقد سببت اعماله البربرية الوحشية تلك موجة من الرعب والهلع في الشرق وفي آسيا الغربية بأجمعها، ومن هذه الاعمال بناء اهرامات من جماجم القتلى وجثثهم من خصومه بعد كل معركة، كما فعل حينما فتح بغداد عام 1394، إذ اقام هرماً من تسعين الف جمجمة وآخر في اصفهان من سبعة آلاف جمجمة  (لو صدقت هذه الارقام).

نهاية الكنيسة النسطورية في الشرق الاقصى وآسيا:

كان الطاغية تيمورلنك قد ادّعى بانه من واجبه كمسلم مؤمن ومخلص لاسلامه أن يقوم باضطهاد المسيحيين.

لذلك وجه ضربة قاضية للمسيحية، فأباد المجتمعات المسيحية ودمّر الكنائس وقتل الرهبان (قبل حوالي خمس سنوات كنتُ قد ذهبتُ مع طلابي الذين يدرسون السريانية برحلة الى منطقة طورعابدين في جنوب شرق تركيا لزيارة الاديرة وآثار المنطقة بحثاً عن النقوش السريانية فيها.

 ففي قرية "حاح" السريانية شاهدنا بأم أعيننا آثار الكنائس الضخمة المدمرة والتي دمرتها منجنيقات تيمورلنغ اثناء زحفه على طور عابدين، حيث لا زالت اكوام حجارة الكنائس الخربة تشهد على بربرية هذا الوحش البشري، تيمورلنغ).

فكان ان اندثرت الكنيسة السريانية الشرقية في معظم مراكزها في الشرق الاقصى نتيجة لتلك الاعمال الوحشية الفظيعة التي قام بها تيمورلنغ، والتي لم يسمع بمثلها من قبل، حتى ان الكنائس في سوريا والعراق ذاقت الامرين على يديه ايضاً.

ويوجه حفيده "أولوغ بك" الضربة القاضية الاخيرة للمسيحية في آسيا ويسحقها تماماً. فتختفي المسيحية السريانية كلياً من آسيا الوسطى حيث تموت الكنيسة السريانية هنالك بعد ان سجلت في التاريخ حركة تبشيرية عظيمة لا تضاهيها أية حركة مشابهة أخرى في القرون الوسطى.

 ولم تنجُ من الابادة إلاّ الكنيسة السريانية في الهند التي استطاعت أن تبقى على قيد الحياة لغاية اليوم.

ويبدو ان العامل الذي سهّل في زوال الكنيسة السريانية من آسيا الوسطى، كان الانتشار الجغرافي الواسع لرقعة امتداد الكنيسة الهائل حيث عمل على اضعاف الاتصال بين الابرشيات الموزعة في أنحاء الشرق الاقصى وبين مركز البطريركية، فانعدم الاتصال بالبعض وانقطعت الاخبار وانحلت هذه الابرشيات بفعل الضربات الثقيلة المتتالية عليها، واعتنق المسيحيون هناك الاسلام ليخلصوا.

فعلى سبيل المثال ان الشعب الايغوري في الصين هو شعب مسلم اليوم،  لكنه كان مسيحياً سابقاً.

 ويلحق بهذا عامل آخر ساهم بدوره في اضعاف الكنيسة وهو المصاعب الجمة التي عانت منها قيادة الكنيسة في ادارة الشعوب المسيحية المتعددة المنضوية تحت قيادتها على اختلاف لغاتها وثقافاتها وعاداتها.

 كل هذا عمل على اضعاف الكنيسة كمؤسسة في دفاعها عن نفسها، بعد ان تخلى عنها حماتها المغول وانقلبوا عليها بعدئذ الى مضطهِدين؛ واصبحت هذه الكنيسة العريقة من ثم لقمة سائغة للاضطهادات والمجازر المتتالية على مدى العصور.

حتى ان الكنيسة في العراق ايضاً عانت جداً من الشدائد فتحولت بعدها الى كنيسة قائمة على رعاياها السريان فقط بعد التجائهم الى الجبال هرباً من المجازر المتلاحقة، وهم يشكلون اقلية مسيحية بين اغلبية مسلمة، بعد ان سجلت صفحة ناصعة في تاريخ المسيحية المشرقية.

انتهى المقال     تعليق على مقالتي حول تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية          

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها