عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

اقرأ المزيد...

الدكتور أسعد صوما أسعد
باحث متخصص في تاريخ السريان ولغتهم وحضارتهم

ستوكهولم / السويد


لمحات من تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية

(الجزء العاشر) 

تحالف سرياني مغولي لأجل حماية السريان:

عندما توفي دنحا الاول بطريرك السريان النساطرة في شباط 1281، التأم مجمع اساقفة الكنيسة السريانية الشرقية لاختيار خلف له يرئس الطائفة والكنيسة معاً، فتباينت الاراء حول المرشحين.

كانت الكنيسة السريانية الشرقية كأخواتها الكنائس السريانية الثلاث الاخرى، أي السريان الارثوذكس والسريان الملكيين (الروم) والسريان الموارنة، تمر في أوضاع أمنية وسياسية صعبة في المنطقة.

 والسريان بشكل عام في الشرق الاوسط تصيبهم من وقت لاخر جملة شدائد واضطهادات اجتماعية وثقافية ودينية وقومية عنيفة فيعانون منها الكثير ويضطر البعض الى دخول الاسلام تخلصاً من الوضع المزدري أو حتى من القتل.

 فاين هو الخلاص؟ ومن هو ذلك القائد السرياني الفذ الذي يستطيع أن يحمل على كتفيه مطالب رعيته ليعمل على تحقيقها ويصون كنيسته وجماعته وتراثه الآرامي في ذلك الزمن الحالك؟

ويومذاك كانت منطقة الشرق الاوسط تحت وطأة قوى سياسية مختلفة وتعاني من حكم قبائل السلاجقة الاتراك، والايوبيين الاكراد، والمماليك التركمان، اما الساحل الشرقي من البحر المتوسط فكان بيد الفرنجة (الصليبيين؛ ملاحظة: ان المصادر العربية القديمة لم تستعمل تسمية "صليبيين" بل كانت تسميهم "الفرنجة") ان المنفذ الذى سعى لتحقيقه قادة الكنيسة السريانية الشرقية كان مشروع تحالفهم مع المغول كقوة جديدة ضاربة بامكانها حماية المسيحيين وسط البحر الاسلامي المضطرب.

 ويبدو ان مشروع التقارب من المغول (وكثيرون منهم مسيحيون) كان يراود ايضاً مخيّلة إغناطيوس الرابع يشوع بطريرك السريان الارثوذكس (1264-1282) ومفريانه العلامة غريغوريوس ابن العبري (1226-1286) المقيم في شمال العراق يومئذ.

الا ان الطرفين السريانيين، النسطوري واليعقوبي، لم يعملا معاً لانجاز هذا المشروع المصيري بالشكل المطلوب، رغم ان كل فريق منهما كان يفكر به ويرى فيه طريق الخلاص.

 ان الخلافات المذهبية الحادة انذاك بين السريان، والقهر التاريخي الذي كان يعمل مخالبه بهم، حال دون التعاون السرياني الهام بينهم، وخاصة قد مضى على انفصال الفريقين المذكورين وابتعادهما عن بعض ما يقارب الثمانية قرون.

يبدو ان البطريرك السرياني النسطوري دنحا الاول الذي رسم بطريركاً في خريف 1265 كان ثاقب البصيرة وقد ادرك اهمية الاكليروس المغولي لكنيسته في الصين والشرق الاقصى.

 ان دنحا الاول استوعب تماما الاهمية المزدوجة لهؤلاء الرهبان المغول من اعضاء كنيسته، الذين بامكانهم ان يلعبوا دورين في آن معاً، فالدور الاول سيكون بتأمين تبعية الشعب المغولي التركي لكنيسته من خلالهم، ومن جهة ثانية سيضمن بواسطتهم علاقته الجيدة مع الطبقة الحاكمة المغولية، التي ترعرعت المسيحية السريانية بين أفرادها.

 وكان لهؤلاء الرهبان اعتبار خاص لدى ملوك المغول، وخاصة الملك المغولي اباقا. لذلك كان دنحا الاول يأمل للإفادة من المغول المسيحيين بشكل خاص، ومن الشعب المغولي بشكل عام، كقوة تؤمن الحماية للسريان المسيحيين في بحر العالم الاسلامي المضطرب في الشرق الاوسط الذي كانت تتحكم فيه يومذاك الشوب التركية والايرانية (حيث يعيش السريان معاناة يومية).

وكان دنحا الاول قد رسم الراهب المغولي الشاب مرقص مطراناً للصين وعين الراهب المغولي صوما سفير الكنيسة الى مختلف الاماكن في الصين والشرق الاقصى.

 (وقد اضطلعنا في أجزاء ماضية من هذا المقال على بعض الامتيازات التي نالها السريان اثناء احتلال هولاكو لبغداد وسوريا).

 لذلك بعد وفاة دنحا الاول استمر اساقفة الكنيسة في العمل على دعم مشروع ربط وتقوية علاقة الكنسية مع المغول؛ ولتحقيق الهدف انتخبوا شخصاً مغولياً صينياً لمنصب البطريركية ليرئس هذه الكنيسة التي امتد انتشارها أكثر من اية كنيسة أخرى يومها.

 أما الشخص المنتخب فهو ياهبالاها الثالث المغولي الصيني، وكان شاباً لم يبلغ السادسة والثلاثين من عمره بعد ولم يمضي على رسامته مطرانا سنة واحدة. فهل عساه انقاذ الكنيسة وتأمين حمايتها؟

البطريرك النسطوري المغولي ياهبألاها الثالث وصديقه الربان صوما:

ولد ياهبالاها في مدينة كاوشانغ الصينية عام 1245، والمدينة يومذاك عاصمة الشعب الأونغي المغولي المسيحي الذي ينتمي اليه ياهبالاها. كان اسمه الاول مرقص.

 ونظراً للبيئة المسيحية التي نشأ فيها، حيث كان والده رئيساً للشمامسة، فان مرقص هذا احب الانضمام الى سلك الرهبنة.

ولأجل تحقيق أمنيته هذه انطلق في رحلة طويلة نحو الشرق الى مدينة خانبليق (بكين "بيجينغ") استغرقت نحو خمسة عشر يوماً.

وفي احدى المغاور الجبلية القريبة من خانبليق، كان يعيش الراهب المغولي النسطوري الشهير الربان صوما، صديق عائلة الفتى مرقص من ذات القبيلة والمدينة.

 فالتقاه الفتى مرقص وانضم اليه في صومعته ليترهب، واضعاً نفسه تحت رعايته الروحية ليلقنه مبادىء المسيحية ولاهوت كنيسته وسيرة آبائها وطقوسها السريانية.

وبعد سنوات عدة من الدرس والتلمذة قرر الراهبان صوما ومرقص القيام برحلة طويلة الى العراق وسوريا وفلسطين.

 ففي العراق مقر كنيستهم السريانية الام، وان زيارتها ضرورية للتعارف ومن ثم التوجه نحو القدس لزيارة الاماكن المسيحية المقدسة في فلسطين.

لقد تمت هذه الرحلة المهمة اثناء حكم ملك الملوك المغولي قوبلاي خان الذي عمل منذ تسلمه السلطة في عام 1260 على نشر الامن والاستقرار في جميع أرجاء دولته الواسعة الاطراف وعلى جميع طرقاتها التجارية. 

لذا وصل الراهبان الى بغداد بسلام دون اية مصاعب وشاهدا في العراق بام أعينهما الوضع الصعب الذي تعيشه كنيستهم، فتباحثا مع الاساقفة السريان في وضع الكنيسة وكيفية حمايتها.

غير أنهما، بسبب فقدان الامن في الشرق الاوسط وعلى الطرق المؤدية الى القدس (اورشليم)، فقد اضطرا الى تعديل مخطط رحلتها الى فلسطين والمكوث في بغداد لدى بطريركهم الحكيم دنحا الاول لمزيد من التشاور والدرس والتخطيط. هذان الراهبان المغوليان صوما ومرقص سيلعبان مستقبلاً دوراً عالمياً خطيراً في كنيستهم وفي المنطقة.

 إذ لما شاهد الجاثليق/البطريرك دنحا الاول ذكاء الراهبين المغوليين وحنكتهما واخلاصهما للكنيسة السريانية، توسم فيهما كلّ الخير لذلك قرر الاستعانة بهما.

وأخذت تدغدغه أحلام تقوية علاقة كنيسته المسيحية مع الامبراطورية المغولية عسى أن يتمكن من تحسين وضعها، مع علمه بوجود الكثيرين من المسيحيين التابعين لكنيسته في صفوف المغول، وأنه شخصياً كان قد اختير برغبة المغول لسدة بطريركية كنيسته.

في عام 1280 قام البطريرك دنحا بتنصيب الراهب صوما "سفيراً عاماً" الى جميع المسيحيين من اتباع كنيسته في الشرق الاقصى.

وهذه وظيفة رفيعة جداً، كما رسم الراهب الشاب مرقص مطراناً لأبرشية كاثاي ويونغ (اي ابرشية الصين) ومنحه لقباً سريانياً اثناء الرسامة وهو "ياهبالاها" يعني "عطاالله".

وقد مكث كل من صوما وياهبالاها في بغداد ردحاً من الزمن وذلك لحدوث اضطرابات في منطقة اكسوس من جهة ولمزيد من التداول في أمور الكنيسة من جهة أخرى.

عند وفاة البطريرك دنحا الاول التأم مجمع مطارنة الكنيسة السريانية الشرقية لانتخاب بطريرك جديد خلفاً له، وقد وضع هذا المجمع نصب عينيه تنفيذ مشروع تقوية العلاقة مع المغول الذي كان قد تبناه البطريرك الراحل، فاتخذوا الخطوات الحكيمة الآيلة لتحقيقه.

 واختار المجمع المذكور "ياهبالاها" الرجل الصيني المغولي التركي المرتسم لتوه مطراناً ليكون بطريركاً جاثليقاً على الكنيسة السريانية الشرقية ورئيساً عاماً للسريان المشارقة، ليستعين بأهله المغول على حماية السريان.

لقد انتخب المجمع ياهبالاها ليرئس الكنيسة رغم النقص الكبير في علومه الدينية والسريانية إلا انه بالمقابل كان متفوقاً وبارعاً في الامور الادارية والعلاقات، وسيكون مفتاحاً للوصول الى قادة المغول لتلبية مطاليب السريان.

 ورُسم بطريركاً في تشرين الاول عام 1281، وجلس على سدة البطريركية مدة 36 سنة باسم "ياهبالاها الثالث". أما ملك المغول الشهير أباقا ابن هولاكو فقد تلقى خبر رسامة صديقه ياهبالاها بطريركاً ورئيساً للكنيسة السريانية الشرقية ببالغ الفرح والسرور.

 وقد شاء اباقا بدوره، الاستعانة بصديقه ياهبالاها ووظيفته السامية لاستعادة نفوذ المغول وسلطتهم السياسية المباشرة في العالم الاسلامي بالشرق الاوسط.

 وربما كان هناك ثمة تفاهم بين مجمع اساقفة السريان المشارقة والملك اباقا، وربما يكون أباقا نفسه من اقترح رسامة صديقة ياهبالاها، لأنه قام بتسديد كافة نفقات حفلة التنصيب الرائعة في كنيسة المدائن.

وبعد الرسامة منح اباقا البطريرك الجديد الكثير من الامتيازات التي لم تمنح غيره من البطاركة، فمثلاً منحه حق تجميع الضرائب في العراق لصالح كنيسته لتظل قوية مادياً.

 وتجدر الاشارة هنا، ان السريان الارثوذكس ايضاً لم يكونوا بعيدين عن المغول، فالعلاقات كانت مستمرة بواسطة الرهبان السريان، كما ان بطريرك السريان الارثوذكس اغناطيوس الرابع يشوع (1264-1282) ومفريانه ابن العبري (1226-1286) كانا على علاقة طيبة مع ملوك المغول.

فالبطريرك المذكور زار هولاكو في عاصمته ومن ثم قام بزيارة ابنه الملك اباقا. كما ان طبيب هولاكو الخاص كان راهباً سريانياً ارثوذكسياً يدعى الربّان شمعون يشوع، حيث كان يتمتع بنفوذ عظيم بسبب مكانته العالية بين المغول. وان هولاكو أثناء احتلاله الشرق الاوسط أمّن الحماية لجميع السريان دون تمييز بين مشارقة ومغاربة.

ان التعاون بين المغول والسريان لم يتحقق بسبب وفاة الملك اباقا وذلك بعد بضعة أشهر فقط من اعتلاء ياهبالاها الكرسي البطريركي.

 وبموت اباقا تلاشت كل تلك الاحلام وخاصة عند جلوس أخي اباقا، المدعو "نيقولاس" على العرش المغولي، وهو المسيحي في طفولته، الا انه أسلم وتسمى "أحمد" وأخذ يعادي المسيحيين ويعاملهم بقسوة حيث سجن البطريرك ياهبالاها لمدة شهر.

وكان ذلك صدمة جرحت كرامة المسيحيين من المغول وخاصة أولائك الأمراء المتحمسين للمسيحية.

ويبدو ان الحظ حالف المسيحيين ثانية إذ بعد مقتل الخان أحمد عام 1284، خلفه على العرش المغولي الخان أرغون وهو ابن أباقا صديق المسيحيين.

لقد اتصف الملك أرغون بحبه الكبير للمسيحيين، وقد زاره اغناطيوس الرابع بطريرك الارثوذكس وقدم له التهاني وشرح وضع السريان.

وكان أرغون كأبيه محبّاً وصديقاً حميماً لسريان والمسيحيين. وفي عهده يظهر التعاون المتبادل ثانية.

 كان وضع السريان الأمني سيئاً للغاية يومذاك، إن غزوات المتمردين من الاتراك والاكراد المتكررة على نواحي الموصل وأربيل وطورعابدين لم تنقطع، وان بعض المتمردين المغول بتحالفهم مع بعض أمراء المسلمين يصبون جام غضبهم على المسيحيين عام 1288، حيث عذبوا الوجيه المسيحي تاج الدين بن مختار حاكم اربيل، والزعيم المسيحي المغولي مسعود برقوطي حاكم الموصل الى ان استشهدا. يقول المؤرخ السرياني المعاصر لتلك الاحداث، بان الاضطهادات والمصائب التي احتملها سريان الموصل يعجز اللسان عن وصفها.

ويتابع المؤرخ حديثه عن مدينة طرابلس المسيحية قائلاً:

 "هجم مسلمو سوريا على طرابلس وحاصروها ثلاثة اشهر ثم فتحوها وأعملوا السيف في رقاب المسيحيين، وهدموا الكنائس والهياكل، وأسروا الشباب والصبايا باعداد هائلة، وقتلوا من الكهنة والرهبان والشمامسة والراهبات أعداداً لا حصر لها، وتركوا المدينة مهجورة".

وفي السنه ذاتها، اي 1288، اجتمع مسلمون من سوريا وتوجهوا وعبروا حدود سنجار وهم يسبون وينهبون حتى وصلوا على مقربة من فشخابور على ضفة دجلة، وفي الليل عبروا النهر الى بلدة واسطو السريانية حيث هاجموها بغتة في الغسق، وهاجموا ثم سبع قرى سريانية مجاورة أخرى وقتلوا خلقاً كثيراً وسبوا النساء والصبايا والاطفال.

(يتبع الجزء الحادي عشر)

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها