تأليف الأب البير أبونا
أستاذ اللغة الآرامية وآدابها
في معهد مار يوحنا الحبيب.
الموصل
الطبعة الأولى – بيروت-1970
الفصل الثاني
أدبُ اللغة الآرامية
(29)
الرها مهد الادب الآرامي:
لا بد لنا من ان نقول عن الرها التي كانت مهد اللغة والادب الآراميين، ثم
نتطرق الى نشأة الادب الآرامي ومختلف الاطوار التي اجتازها.
شيد سلوقوس نيقاطور مدينة الرها سنة 304 ق.م. وفي سنة 132ق.م. انتهزت قبيلة
آرامية او نبطية (؟) فرصة ضعف الحكم السلوقي فاسست مملكة مستقلة في مقاطعة
اسروينا الواقعة في الشمال الغربي من اقليم ما بين النهرين. واتخذ رؤساء
هذه القبيلة لأنفسهم لقب الملوك واتخذوا مدينة الرها عاصمة لهم
(30).
"اما اديسا" فكان لقب عاصمة مقدونية اليونانية، وقد اطلق السلوقيون هذا
اللقب على الرها، كما يظن نظراً الى موقعها ومناخها المماثلين لمناخ اديسا
الاصلية وموقعها وسميت احياناً "كاليرهوي" وتأويله الينبوع الحسن، لكثرة
المياه والينابيع التي فيها. فاختصر الآراميون هذا اللقب وقالوا "اورهاي"
واخذه عنهم العرب وقالوا " الرها"
(31).
وكانت المياه فعلاً غزيرة في هذه المدينة. فهناك نهر ديصان ومعناه
بالآرامية "الرقص" يمر في المدينة. ونحو من عشرين ساقية او جدولاً تتجمع
وتصب في هذا النهر الذي يدعوه الاتراك الان "قره قوبون"، فيعظم شأنه ويمر
بالمدينة من شمالها الغربي الى جنوبها الشرقي، حيث يلتقي بنهر "كولاب" الذي
يمر بحرّان فينصبان كلاهما في نهر البليخ احد روافد الفرات. وفي وسط الرها
بركتان مشهورتان، احداهما تسمي بركة ابراهيم او "عين الخليل" والاخرى "عين
زليخة"، وتخرج منها ساقيتان متوازيتان تؤديان الى نهر ديصان.
كان نهر ديصان الهادئ، الصغير في الصيف يصبح صاخباً و عارم الامواج في
الشتاء، فيهدد سلامة المدينة. وقد طغى عليها مرات عديدة واحدث فيها اضراراً
بالغة. لذا اضطر يوستنيانس الثاني (565- 578) الى تغيير مجرى هذا النهر لكي
يمر بجانب المدينة في سفح الجبل الواقع غربيها. وكان في هذا الجبل مغاور
عديدة لدفن الموتى ولسكنى النساك. و قد قضى القديس افرام مدة في احد هذه
الكهوف منصرفاً الى الصوم والصلاة والامانة. اما السهل الواقع شرقي المدينة
وجنوبيها فكان خصباً تتخله القرى الكثيرة.
كانت الرها مدينة مسورّة محصنة لا يمكن الولوج اليها الا بستة ابواب. لم
يكن للمسيحيين فيها حتى سنة 201م – و هي سنة الفيضان الكبير الشهير الذي
فيه دمر نهر ديصان مباني كثير من جملتها كنيسة للمسيحيين- الا كنيسة واحدة
اصابها الفيضان مرتين في السنتين 201 و303، ثم جددت سنة 313 في عهد "قونا"
مطران المدينة ثم في عهد خلفه "سعد" سنة 324. وقيل انها حصلت على ذخائر
القديس توما الرسول سنة 394. وبعد ان دمرها فيضان سنة 525 من جديد، عاد
يوستنيانس الثاني فأقامها وجعل منها تحفة رائعة. غير ان الزلازل عادت
ودمرتها سنة 679 و 718.
و قد تسرب التأثير الفرثي الى العادات الرهاوية منذ الازمنة الاولى، فنسي
الرهاويون اصلهم الآرامي او النبطي، وكانوا كثيراً ما يطلقون على مدينتهم
اسم "مدينة الفرثيين او ابنة الفرثيين". كما امتزجوا بالأقوام الارمنية
المتاخمة لهم في الشمال. وقيل ان ملوكهم الاولين كانوا من اصل ارمني ( ؟).
تاريخ الرها السياسي:
لم تنعم هذه المدينة باستقلالها مدة طويلة. لان جيرانها فرصوا سيطرتهم
عليها. فقبل انتصارات لوقولوس وبومبيوس كانت الرها خاضعة تارة لحكم
الفرثيين وطوراً متحالفة معهم. وكانت يميل اليهم في حروبهم المستمرة ضد
الامبراطورية الرومانية. لكن النصر كان حليف روما في النهاية، فدخلت
الكتائب الرومانية الرها سنة 116 واعملت فيها السيف والدمار. وخلع
الامبراطور ترايانس ملكها (98 – 117م). واعاد اليها الامبراطور ادربانس
(117 -138) عرشها وجعله خاضعاً لسلطة الامبراطورية الرومانية. فحافظت عليه
وعلى نوع من الاستقلال الذاتي مدة قرن تقريباً، الى ان الغى الامبراطور
كراكلا الملوكية من الرها سنة 216 واحل فيها جالية رومانية. وهكذا اضحت هذه
المقاطعة مدة اربعة قرون جزءاً من الامبراطورية الكبرى. ثم استولى عليها
كسرى الثاني ابرويز سنة 608، واستعادها هرقل سنة 625 ولم تبق في حوزنه اكثر
من 12 سنة. واخيراً فتحها المسلمون مع بلاد ما بين النهرين سنة 637 ولم
يتخلوا عنها الا مدة قصيرة (1097 – 1146)، حينما جعلها الصليبيون عاصمة
لملكتهم في الشرق.
نشأة الادب الآرامي-
نشأة الادب الآرامي وازدهر في ما بين النهرين تحت تأثير المسيحية ومن هنا
طابعه المسيحي ونسبته إلى علماء و أدباء مسيحيين لا غير. وقد اشتهر علماء
الآراميين الذين عكفوا على درس الفلسفة اليونانية، كأساتذة مدرسة الرها في
القرن الخامس، أو على العلوم الطبيعية أو الطبية أمثال سرجيوس الراسعَيني
في القرن السادس والاطباء المسيحين الذين اشتهروا في بغداد على عهد الخلفاء
العباسيين. كان كل هؤلاء لاهوتيين، وكانت كلمة الفلسفة تحوي جميع العلوم،
وفي مقدمتها علم معرفة الله والوقوف على الحياة الروحية ومعتقدات الديانة
المسيحية. والساميون يميلون طبعاً التدين.
قلنا إن الأدب الآرامي مرتبط بالديانة المسيحية، وبما إن هذه الديانة بدأت
تتغلغل في ما بين النهرين انطلاقاً من الرها
(32)
كان من الطبيعي ان تزدهر هذه المدينة وتفوق على غيرها بالآداب
والعلوم، وقد نشأت من جراء ذلك روبط قوية بيها وبين أورشليم منطلق
المسيحية.
ولما ظهر الاسلام جاءت معه لغته العربية فزاحمت اللغة الآرامية، وحلت حيثما
حل، فاعتصمت الآرامية بالأرياف والجبل. وكانت الحقبة السابقة للفتح
الاسلامي (637) العصر الذهبي للأدب الآرامي. وما أن دخلت اللغة العربية
المناطق الآرامية حتى بدأت اللغة المذكورة بالتقلص. وبالرغم من انها قاومت
مدة طويلة في الرها، فقد فقدت كثيراً من نفوذها في المناطق الأخرى. ولم
يتردد "نولدكه" من الكتابة: "كانت اللغة الآرامية في حوالى سنة 800م تعد
لغة مائتة، رغم ان الطبقة المثقفة ظلت تتكلم بها مدة طويلة بعد هذا
التاريخ". ثم انحدر الأدب الآرامي إلى أحط درجة في القرنين العاشر والحادي
عشر، بينما بدأت الآداب العربية تزدهر تحت رعاية الخلفاء العباسيين في
بعداد. وربما كان هذا الازدهار حافزاً لنهضة اللغة الآرامية ايضاً،
فصحت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر على يد عدد من الكتاب المشهورين
كابن الصليبي وميخائيل الكبير وابن العبري وعبد يشوع الصوباوي وغيرهم من
الذين لم يكتفوا بالتأليف بل اخذوا ينقلون الى الآرامية مؤلفات الفلاسفة
العرب من امثال ابن سينا وفخر الدين الرازي وغيرهما.
عاد الشرقيون والمستشرقون الى دراسة الادب الآرامي دراسة منظمة منذ القرن
الثامن عشر، حين بدأ يوسف سمعان السمعاني (1768) يكشف اهمية هذا الادب بما
نشره في كتابه النفيس "المكتبة الشرقية" واستقاه من مخطوطات حازها من دير
السريان بوادي النطرون في مصر.
الادب الآرامي الوثني
ان المؤلفات الأولى وصلتنا باللغة الآرامية هي من الجودة اللغوية بحيث
نلاحظ فيها تطوراً كبيراً لم تصل اليه خلال سنين طويلة، ان لم نقل قرونا.
وقد عثر على بعض بقايا من اللغة الآرامية في دورها الانتقالي، وهي آثار
وثنية أفلتت من يد الدمار الذي أتى على كل ما لم يكن مسيحياً. وبقي لنا من
هذه الآثار كتابات قليلة متفرقة، منها كتابات المدافن وبعض كتابات مطولة
اشتملت عليها دار المحفوظات الملكية في الرها، وخطاب مارا بن سرابيون الى
ابنه سرابيون وقصة احيقار وغيرها بالإضافة الى الكتابات الآرامية الكثيرة
التي اكتشفت في هذه السنين الأخيرة في مدينة الحضر الأثرية حيث كانت هذه
اللغة مزدهرة وسائدة.
1 – كتابات المدافن:
لقد عثر على هذه الكتابات في اقليم الرها، وهي تعود الى اعهد السابق لدخول
المسيحية اليها وابان دخولها. وغير انها لا تشتمل عادة إلا على نصوص نذرية
قصيرة لا تضيف كثيراً الى تاريخ الأدب الآرامي.
2 – كتابات ملوك الرها:
تأثرت الرها عاصمة القسم الشمالي من ما بين النهرين بالحضارة والعادات
الآرامية لأن سلالة آرامية حكمتها سنة 132 ق.م. الى سنة 216م. ودونت
أعمالها بهذه اللغة. ومن جملة هذه الأعمال المحفوظة في الخزانة الملكية في
الرها تسجيل كارثة فيضان نهر ديصان الذي اجتاح مدينة الرها في شهر تشرين
الثاني سنة 201م في عهد أبجر التاسع ملكها، وتصدع من جرائه كثير من المباني
في المدينة، ومن بينها "كنيسة للمسيحيين". وقد سُجلت هذه الكارثة سنة 206م
ونقُلت فيما بعد الى سجلات اساقفة مدينة الرها التي أنشئت حوالى 313م.
3 – خطاب مارا بن سرابيون:
ܡܐܪܐ ܒܪ ܣܪܐܦܝܘܢ
أثرت الثقافة اليونانية على الآرامية في سوريا الغربية، لا سيما الطبقة
المثقفة فيها، فاستعمل الآراميون من جراء ذلك في كتاباتهم المصطلحات
اليونانية. ان هذا التأثير يبدو واضحاً في الخطاب الذي أرسله مارا بن
سرابيون من سجنه الى ابنه سرابيون. ويظهر من هذه الرسالة ان مارا كان من
مدينة شميشاط وانه كان وثنياً من أصحاب الفلسفة الرواقية ومن اتباع زينون،
وقد زج به الرومان في السجن بتهمة اشتراكه في حركة مناوئة لحكمهم. ويرى
العالم الانكليزي كيورتون "Cureton"
ان مارا كتب هذه الرسالة بالآرامية في فترة تتراوح ما بين نهاية القرن
الأول ونهاية القرن الثاني الميلادي. وقد قدر لهذه الرسالة البقاء، لأن
فيها اشارة الى المسيح الذي يسميه الكاتب "الملك الحكيم" ويذكره الى جانب
سقراط وفيثاغورس ويقول في سياق حديثه: "... ماذا جنى اليهود من قتل مليكهم
الحكيم؟ لقد ضاع ملكهم منذ ذلك الزمان نفسه، وحل الخراب بهم وطردوا من
مملكتهم وشتتوا في كل مكان.. لم يمت الملك الحكيم من أجل الشرائع الجديدة
التي وضعها..."
من اقواله المأثورة:
حياة الناس زائلة من العالم، أما مجدهم وفضائلهم فباقية الى الأبد.
همّ الناس تكبير بطونهم، وهي الرذيلة التي بها يتم الفساد
اني أضحك على الزمن الذي يرد اليّ سوءاً لم يستعره مني من قبل.
ولد الناس لكي يتقبلوا صروف الزمن، وكل الأرض عند الحكماء سواء، لأن
للصالحين في كل مدينة كثيراً من الآباء والأمهات
(33).
قصة احيقار
ܐܚܝܩܪ:انها
قصة جميلة كتبت باللغة الآرامية قبل القرن الخامس قبل الميلاد البلاد
الآشوري. وقد جاءت اشارة الى هذه القصة في ما كتبه اقليميس الاسكندري
وسترابون، واستخدمت في الترجمة اليونانية لسفر طوبيا كما استعملها ديمقريطس
(34)
وميناندر(35).
أما عن أصلها الآرامي فيقول رينان (Renan):
"لا يمكننا أن نشك في أن السواد الأعظم من الشعب الآشوري كان يتكلم اللغة
الآرامية بنوع اعتيادي.. فالآرامية كانت مستعملة من قبل الموظفين الكبار في
البلاد الآشورية الذين أرسلهم سنحاريب للتفاوض مع حزقيا الملك
(36)
... ولما اعقب الحكم الفارسي الحكم الآري، حافظت اللغة الآرامية على
مكانتها الرفيعة وأهميتها الكبرى..."
(37).
اننا نرى نماذج من هذه اللغة- وقد تأثرت قليلاً باللغة العبرية- في بعض
فقرات من سفر عزرا المعاصر لاحيقار (38).
وربما نقل هذا النص الآرامي الى لغة آرامية متطورة في مطلع التاريخ
الميلادي، أي بعد مرور 600 سنة أو 700 سنة على تأليف الكتاب، حينما كانت
الآرامية في مرحلتها الانتقالية. والاعتقاد السائد الان هو ان هذه الآرامية
هي أصل جميع الترجمات التي ظهرت للقصة بعد ذلك. فالنص العربي مثلاً قد ترجم
رأساً من النص الآرامي وكذلك النص السلافي القديم أتى من الآرامية بواسطة
اليونانية.
أما المخطوطات الآرامية المعروفة فهي متأخرة وتتضمن اختلافات عديدة. فقد
جاء النص الآرامي في مخطوطات كثيرة، بعضها في خزانة كمبردج ( عدد 2020)
وغيرها في برلين (ساخو 336 و 134) وقد كتبت في تلكيف سنة 1883 أو 1884،
وهنا صحيفة في المتحف البريطاني (رقم 7200) وفقرة أخرى في برلين (ساخو 162)
ومخطوطة مخرومة في بدايتها ونهايتها في المتحف البريطاني (2313) وأخرى في
دير السيدة بالقرب من القوش (رقم 100)، وهناك أيضاً ثلاث مخطوطات لقصة
احيقار محفوظة في أورميا. وقد قام العلم فرنسيس نو (
F.Nau)
بدراسة وافية لهذه القصة (39).
(يتبع)
29-
لقد اطلق لقب السريان على الاقوام الناطقة باللغة
الآرامية التي اعتنقت الديانة المسيحية، وظل لقب "الآراميين" يطلق على
الفئات غير المتنصرة منها. ويجمع العلماء
على ان لقب "السريان" جاء نسبة الى سوريا. ولما كانت اللغة الآرامية تشمل
اقواماً عديدة يعيش بعضها خارج سورية ولا يمت الى هذه البقعة بصلة، فقد
رأينا من الافضل ان
نطلق على هذا الكتاب اسم "ادب اللغة الآرامية"، متجاوزين بذلك الحدود
الجغرافية والعرقية والمذهبية.
30–
سماها الاتراك "أورفا" في القرن الخامس عشر وهي تقع الان ضمن الحدود
التركية.
31–
تاريخ مختصر الدول لابن العبري، طبعة صالحاني، بيروت 1890
ص 7، حاشية
32
– وهناك من يقول ان الديانة المسيحية دخلت ما بين النهرين
من حدياب، مستنداً الى ما جاء في تاريخ "مشيحا زخا" المنحول الذي سيأتي
الكلام عنه.
33–
تاريخ الادب السرياني لمراد كامل ومحمد البكري، القاهرة
1949، ص 29 -33
34
– ولد ديمقريطس سنة 460 او سنة 496 ق.م.
35–
ولد ميناندر في نحو سنة 3421 وتوفي سنة 290 ق.م
36
– راجع 2 ملوك 18: 26 ، اشعيا 36: 11.
37–
Ernest Renan.Hist.Cénérale
des Langues Sémétiques.1863.P.215-216
38
– راجع عزرا 4: 8 ,6 :28 و 7: 12- 26.
39
F. Nau, Histoire d, Ahikar I, assyrian et sa sagesse, Paris 1909.-
|