عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
الأب المؤرخ ألبير أبونا  

تأليف الأب البير أبونا

أستاذ اللغة الآرامية وآدابها في معهد مار يوحنا الحبيب.

الموصل الطبعة الأولى – بيروت-1970


- الآرامية

الآرامية لفظة تشمل مجموعة لغوية غنية ومعقدة تتفرع الى لهجات سامية نطقت بها القبائل الآرامية المنتشرة في مختلف انحاء الشرق الاوسط. وقد تعلم الآراميون من الكنعانيين فن الكتابة الابجدية وحاولوا استعمال اللغة الكنعانية في كتاباتهم، غير أنهم كشفوا عن ذواتهم باستعمالهم تعابير آرامية مثل مقطع "بو" و "بيث". وسرعان ما تخلوا عن اللغة الكنعانية وأخذوا في استعمال لغتهم الخاصة. ان أقدم النصوص التي وصلتنا باللغة الآرامية ترقى إلى القرنين العاشر والتاسع قبل الميلاد، وفيها يبدو التطور واضحاً من اللغة الكنعانية إلى اللغة الآرامية.

لقد دأب العلماء على تقسيم اللغة أو اللهجات الآرامية إلى فئتين كبريين: شرقية وغربية، إلا أنه يبدو لنا من الأفضل تقسيمها إلى أربع فئات:

1-   الآرامية القديمة

2-   الآرامية الرسمية

3-   الآرامية الغربية

4-   الآرامية الشرقية

الآرامية القديمة: هي لغة الكتابات التي عثر علها في شمالي سورية والتي ترقى الى الفترة التي ما بين القرنين العاشر والثامن قبل الميلاد، حينما تخلى الاراميون عن اللغة الكنعانية وشرعوا يستعملون لهجتهم المحلية. ثم اخذت هذه اللهجة في التطور والاكتمال. ولا يسعنا القول ان هذه اللهجة كانت سائدة لدى جماعات اخرى من الاراميين، لعدم توفر نصوص تعود الى تلك الحقبة ما خلا تلك التي اكتشفت في شمالي سورية.

الآرامية الرسمية: ظهرت لهجة جديدة في الكتابات التي وردتنا من شمالي سورية بعد هذه الحقبة، وفي الكتابات الواردة في شريعة "بر ركوب" التي دونت اقدم اجزائها بالآرامية القديمة. وهذه اللهجة الجديد هي التي تداولتها الوثائق الرسمية في مختلف المناطق الاشورية، ثم تبنتها الامبراطورية الفارسية بدورها كلغة الرسمية في الدوائر الحكومية. ففي العهد الاشوري (1100- 612 ق.م) تبنت الدولة الآرامية واصبح المشرفون على الشؤون الادارية يتقنونها اكثر من الاكدية، لا سيما في المناطق النائية حيث استعملوا للمراسلات نموذجاً من الآرامية المبسطة. كما ان عادة إرفاق جداول آرامية بالواح المسمارية اخذت تزداد منذ ذلك التاريخ حتى في قلب الامبراطورية. وكانت هذه الجداول ترجمة آرامية موجزة لما تحتويه الالواح المسمارية، لاستعمال التجار بنوع اخص. ان الآرامية التجارية صارت اساساً للآرامية الرسمية، اذ تبناها الشعب في مختلف ارجاء الامبراطورية، مفضلاً اياها في الاغراض الادبية على لغته الخاصة. كما نلاحظ في الالواح الاكدية ان بعض الكتبة يسمون بـ "كتبة الآرامية". ونشاهد على تمثال "برر كوب" في زنجرلى كاتباً واقفاً امامه وبيده ريشة وحبر ولوح مهيأ للكتابة بهذه الآرامية الرسمية. ومن الجدير بالذكر ان بر ركوب هذا كان عميلاً مخلصاً للملك الأشوري. كما نرى هذه الآرامية منحوتة في كثير من الاثقال المعدنية والاختام والآنية، او منقوشة على الخزفيات.

وقد انتشرت الآرامية الرسمية انتشاراً واسعناً في العهد الاشوري، وليس في الامبراطورية الاشورية فحسب (2 ملوك 18/13- 37) بل في الاقطار الأخرى ايضاً. فقد عثر على اناء من البرونز بالقرب من اولمبيا اليونانية يحمل اسماً محفوراً بالحروف الآرامية. من المحتمل ان تكون الابجدية التي اخذها اليونان عن الساميين في آسيا الصغرى من النموذج الآرامي اكثر مما هي من النموذج الفينيقي. أما في مصر فإننا نجد كتابات بالآرامية منذ عهد اسر حدون (680- 669 ق.م)، وقد اشتهرت المخطوطات التي عثر عليها في اسوان او بالأحرى في الفنتين المصرية (جزيرة الفيلة) "24". واكتشفت في طرسوس قيليقية كتابات قد تكون اقدم من كتابات مصر، كما شقت اللغة طريقها الى قلب الجزيرة العربية نفسها.

واستمرت الآرامية تشغل مكانتها المرموقة في العهد البابلي الحديث (626- 538 ق.م) وفي العهد الفارسي (538-330). وقد مرت هذه اللغة بفترة عصيبة في العهد اليوناني (312-64 ق.م) حيث اخذت اللغة اليونانية تفرض نفوذها على المناطق الهلنستية، غير انها قاومت هذا النفوذ، وظلت سائدة في "الحضر" مثلاً رغم مظاهر الحضارة اليونانية الرومانية البادية في اطلالها. وعوضت الآرامية عما فقدته في العهد اليوناني، اذ بسطت نفوذها في البلاد العربية حيث تداوها الانباط والتدمريون حتى العهد المسيحي، وفي فلسطين حيث تمسكت بها الجماعات التي ناهضت الثقافة اليونانية.

الآرامية الغربية: بينما كانت جماعات آرامية تتغلغل في منطقتي دجلة والفرات، اتجهت غيرها نحو سورية وفلسطين واستقرت هناك واخذت تتكلم لغتها بالإضافة الى الكنعانية. وبعد سقوط السامرة (721 ق.م)، انتشرت الآرامية فيها بواسطة الجاليات التي احلها الاشوريون فيها. ولما عاد المسبيون من بابل الى فلسطين، كانت الآرامية وليس العبرية هي اللغة التي يفهمها الجميع. فقد كتب خصوم المنفيين العائدين الى ملك الفرس بالآرامية (عزرا 4/7). واستلموا جوابه بالآرامية ايضاً. غير انه من المحتمل ان تكون تلك اللغة هي الآرامية الرسمية. أما عندما قرأ عزرا كتاب الشريعة على العائدين، فان مترجمية "قرأوا في سفر توراة الله جهرا مبلغين المعنى حتى فهموا القراءة" (نحيما 8:8)، وقد استعملوا دون شك  اللهجة المحلية. وقد يكون سفر دانيال بكامله كتب بالآرامية ثما نقلت بدايته ونهايته الى العبرانية لتيسير تنسيقه في مجموعة الكتب المقدسة. اما كتب العهد القديم التي جاءت بالآرامية فهي عزرا 4: 8- 6: 18، 7: 12-22، دانيال 2: 4-7: 36، ارميا 10: 11، وكلمتان من سفر التكوين 31: 47.

وبالرغم من سعة انتشار اليونانية، كانت الآرامية لاتزال لغة الشعب ابان العهد الجديد، ولم تطردها الا اللغة العربية بعد الفتح الاسلامي. ولكنها لم تنطفئ تماماً لانها لا تزال محكية في بعض قرى سوريا، ولو بصيغة متغيرة كثيراً.

إن شهرة الآرامية الرسمية كلغة الثقافة والشؤون الدولية اخّرت استعمالها للأغراض الادبية، مثلما اخّرت اللاتينية استعمال اللهجات المحلية في ايطاليا للشؤون الادبية مثلاً. إلا ان فرقاً اخذت تستعمل لهجاتها المحلية للكتابة بدلاً من الآرامية الرسمية. ويمكننا ان نميز اربع لهجات سادت الآرامية الغربية.

أ - الآرامية اليهودية – الفلسطينية: ظهرت هذه اللهجة بالكلمات الآرامية والتعابير في يونانية العهد الجديد "25" وكانت آرامية الجليل هي اللهجة التي نطق بها المسيح ورسله وهي تختلف اختلافاً واضحاً عن لهجة الجنوب السائدة آنذاك في اورشليم وما حولها (متى 26: 73). وقد كتب التلمود الفلسطيني وأقدم المداريش بهذه اللهجة الجليلية نفسها. وبهذه اللهجة ايضاً جاء ترجوم "يوناثان" المنحول والترجومات الاورشليمية ونتف من الترجوم الفلسطيني بنوع خاص. اما طريقة النطق بهذه اللهجة فليست أكيدة رغم ما تقوله القراءات الرابينية.

ب- الآرامية السامرية: ان السامريين ترجيحاً للتوراة بلهجتهم الخاصة التي تقرب كثيراً من اللهجة الجليلية. وقد كتبوا بها ايضاً قطعاً طقسية واناشيد وقصائد. أما الابجدية الغربية التي كتب بها السامويون آراميتهم فهي تطور محلي للخط الكنعاني القديم. وقد زالت هذه اللهجة بعد الفتح الاسلامي وحلت العربية محلها.

جـ - آرامية فلسطين المسيحية: استمر المسيحيون الاولون في فلسطين دون شك يستعملون اللهجة المحلية فيما بينهم، واصبحت اليونانية اللغة الرسمية للديانة الجديدة وبها كتب العهد الجديد ما خلا انجيل متى الآرامي الذي فقد نصه الاصلي وبقيت ترجمته اليونانية. وشعرت في سوريا وفلسطين الجماعات المسيحية التي انتحت جانب البيزنطيين بحاجة الى نصوص دينية بلهجتهم الخاصة، فقامت بترجمات معظمها من اليونانية لكلا العهدين ولعدة رتب طقسية، وتدعى هذه اللهجة بالأجماع "آرامية فلسطين المسيحية" التي كانت مستعملة كذلك لدى مسيحيي مصر الناطقين بالآرامية.

د- الآرامية الغربية الحديثة: لا زالت هذه الآرامية مستعملة في ثلاث قرى واقعة في الشمال الشرقي من دمشق وهي: معلولا وبخعا وجبعدين "26"، وقد عانت تغييراً كبيراً وتأثرت الى حد بعيد في نحوها والفاظها باللغات التي سادت تلك المنطقة، ولكنها تعتبر بقية حية للآرامية الغربية.

الآرامية الشرقية: كان للآراميين الذين غزوا منطقة دجلة والفرات لهجاتهم المحلية الخاصة المختلفة عن الآرامية الرسمية. وقد أصبح بعض هذه اللهجات مكتوباً ومستعملاً للأغراض الادبية ايضاً. وانتشرت هذه اللهجات المحلية حتى في جبال أرمينيا وكردستان. ويمكننا ان نميز في هذه الآرامية الشرقية اربع فئات ايضاً:

أ - الآرامية اليهودية- البابلية: وهي ظاهرة في التلمود البابلي وفي وثائق ترفى إلى ما بين القرنين الثاني والسابع للميلاد. ولم تكن هذة اللهجة موحدة، ويبدو اختلاف صيغها حتى في التلمود نفسه. أما كيفية التلفظ بها، فشأنها شأن الآرامية اليهودية- الفلسطينية، وهي تتبع الطريقة المصطلحة لدى السلطات الرابينية التي كانت تتداولها.

ب - الماندية: كتب المانديون في العراق أدبهم الديني بهذه الآرامية الشرقية. فهناك وثائق لهذه الديانة المستقلة كتبت بلغة تطورت محلياً من الآرامية القديمة، قد تكون صيغة صافية من الآرامية الشرقية غير المتأثرة بالعبرانية، كاللهجة اليهودية، أو باليونانية، كما هي الحال مع السريانية. ولكن الوثائق التي وصلتنا بهذه اللهجة ترقى جميعها إلى حقبة متأخرة، وقد طرأ عليها تغيير لفظي كبير وتأثرت كثيراً باللغة العربية.

جـ - السريانية: لا بد ان هذه اللهجة التي اصبحت اللهجة المسيحية للآرامية الشرقية، كانت مستعملة كلغة ادبية قبل العد المسيحي. الا ان النصوص القليلة الباقية والعائدة الى القرن الاول الميلادي لا تتيح لنا البت في هذا الامر. اما في منطقة الرها الآرامية، فقد حلت فيها مدرسة مسيحية محل المركز الوثني وتطورت الآرامية الشرقية فيها الى لغة ادبية مزدهرة ارتفع شأنها عالياً لا سيما بعد ان اتخذتها المسيحية لغة الدين والآدب لها. وفي القرن الخامس عندما ثارت الجدالات العقائدية في الشرق، استفادت اللغة من ذلك فائدة عظمى، اذ راحت كل فئة تعمل على صقلها واغناء مفرداتها وضبطها لتكون قادرة على التعبير عن حاجات الناس كلها، اللاهوتية والفلسفية والعلمية والطبية والفلكية واليومية. وكان للانعزال الذي سببته هذه  الجدالات اثره العميق ايضاً في كلتا الفئتين الشرقية والغربية وفي تطور اللغة فيها، اذ اخذت الاختلافات اللفظية والكتابية تبرز واضحة منذ نهاية القرن السادس الميلادي. وهكذا انقسمت اللغة الآرامية من حيث اللفظ والخط الى: آرامية شرقية وآرامية غربية.

وقد جاهد المسيحيون للذود عن لغتهم ضد التأثير البيزنطي المتصاعد ولكنهم لم يفلحوا في منع تسرب اللغة اليونانية الى اللغة السريانية، بيد انهم افلحوا في نشرها في البلاد الفارسية ومنها الى البلدان الشرقية، ثم الى الشرق الاقصى، الى الصين والهند. وما زالت متداولة في الهند لدى السريان الملباريين والملنكاريين كلغة طقسية. اما في المنطقة الغربية فقد امتدت الى آسيا الصغرى وسورية وفلسطين، ودخلت البلاد العربية ومصر. وكان تأثيرها كبيراً على لغات كثيرة كالعربية والارمنية والايرانية، حتى استعملها الوثنيون والمانويون انفسهم لأغراض دينية. ثم تقلص نفوذها بعد الفتح الاسلامي امام اللغة العربية فظلت لغة ادبية حية حتى القرن الربع عشر ولم تزل لغة طقسية لدى الكنائس السريانية الشرقية والغربية  

د- السريانية الحديثة (السوادية): ما زالت لهجات الآرامية الشرقية (السورث) محكية لدى الجماعات المسيحية القاطنة في جبال كردستان والقرى المسيحية الواقعة في شمال العراق وعلى الضفاف الشرقية من بحيرة اورمية وجبال طور عبدين. ولم يتخل عنها اصحابها الذين نزحوا الى امريكا او اوربا او غيرهما من الاقطار البعيدة. الا انه قد طرأ عليها (السورث) على غرار الآرامية الغربية الباقية الى الآن، تغيير كبير في اللفظ وتأثرت بالظروف وباللغات المجاورة كالعربية والتركية والفارسية والكردية وأخذ المتحدثون بها يستعملونها للأغراض الادبية ايضاً منذ القرن السابع عشر، تحت تأثير المرسلين الغربيين، فينشرون بها صحفهم ومجلاتهم وكتبهم، فسادت في هذا المضمار اللهجة الاورمية.

خلاصة القول، ان الخط الذي اقتبسه الاراميون الاولون من جيرانهم الكنعانيين اصبح مصدراً لمعظم الكتابات الحالية. فانتشرت احدى صيغه في آسيا الصغرى ومنها انتقلت الى بلاد اليونان حيث اعطت الابجدية اليونانية التي اصبحت بدورها مصدر اللاتينية الغوطية والابجدية القورلية المستعملة في اوربا والكتابات القبطية في مصر. وهناك صيغة اخرى انبثقت منا البهلوية في ايران الوسطى ومن خلالها الافستية والسغدية والابجدية المانوية التي منها اتت الكتابات الويغورية والمغولية والمانشؤية والكالموكية واليورياتية. واعطت صيغة اخرى منها الكتابات الخروشتية والبرهمانية ومن خلاها الكتابات التيبتية وكتابات مستعملة في الهند والجنوب الشرقي من آسيا واندونيسيا. واحدى صيغها الاخرى كانت مصدراً للكتابة الأرمنية  التي منها جاءت الكتابات الجيورجية والقفقاسية. وعن احدى صيغها نتجت ايضاً الكتابة العبرية المربعة والخطين التدمري والنبطي، ومن هذا الاخير جاء الخط العربي"27" بأشكاله العديدة في الفارسية والتركية والاوردية والمالوية. وقد تفرعت الكتابة الماندية الغربية ايضاً من احدى صيغ الكتابة الآرامية "28".

 

(انظر الجدول).

 

   (يتبع)


 

24 هي عشر مخطوطات بيعت في اسوان سنة 1904. وقد اشترت المكتبة البودلية واحدة منها. اما التسع الاخرى فأهديت الى متحف القاهرة. ولكن الاب لاغرانج يظن، استناداً الى رواية الذين باعوها، ان الكتابات آتية من الفنتين التي كانت مركزاً هاماً للمعاملات التجارية ( (RB.1907, P:258, n:2:

25- قد بقيت هذه العبارات بصيغتها الآرامية في العهد الجديد ( متى 27: 46، مرقس 3: 17، 5: 41، 7: 34، 15: 34، اعمال الرسل 9: 36، 1: 19. كور 16: 22، روم 8: 15، غلاطية 4:6 اللمعة الشهية للمطران اقليميس يوسف داود، الموصل 1896، ص 196-197

26- المجلة البطريركية للسريان الارثوذكس السنة الاولى، ص 115- 119

S.Reich, Etudes sur les villages Araméen de 1, Anti Liban, Institut Francais Damas, 7, 1936 P. 5.

27- يرى الاب ستاركي (J. Starky  ( ان الكتابة العربية مشتقة من الكتابة الآرامية، لان كلتيهما تكتبان فوق السطر بينما تكتب النبطية معلقة تحت السطر( Dictionnaire Biblique, Paris Col. 886- 1017, Revue des Etudes islamiques, n.34, 1966,p.154. supplément du

28-                           .  The Interpreters Dictionary of the Bible, I, New York 1962 pp.190

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها