عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

الفصل الخامس

القبائل الآرامية المتواجدة في بابل

(بين القرنين التاسع والسابع قبل الميلاد)

تأليف

أ. دوبون سومر

  على الرغم من انهيار الحكومات الآرامية في بلاد ما بين النهرين وسورية، فان تاريخ الآراميين لم ينته على الصعيد السياسي. كما ان تواجدهم في مملكة بابل قد اكتد لفترة لا بأس بها بدءا من القرن الحادي عشر قبل الميلاد (انظر الصفحة: 33). وفي القرن التاسع ظهروا من جديد في بابل كقوة يحسب لها حسابها، مما حدا بملوك أشّور الى الترقب والحذر تجاههم، والى السعي الى مكافحتهم تحت أي شكل، بدءا" من عهد الملك ((أشّور)) ضدهم، كانت سببا في انحسار غزواتهم، التي كانوا يشنونها باستمرار على البلدان المجاورة وادت على الارجح الى اجلاء قسم كبير منهم، ممن يقطنون في بلاد ما بين النهرين. والجدير بالذكر، فان المناطق السهبية، الممتدة من الشمال حتى نهر دجلة، على تخوم بلاد عيلام ومملكة بابل، التي استوطنها الآراميون، كان يطلق عليها ((بلاد آرام)). وفي عام 823 ق.م. عندما باشر الملك شمشي ـ حدد الخامس في غزو مملكة ((بابل))، فوجئ ان ملكها عضو في حلف يضم كلا من الكلدان وعيلام ونارمي وآرام 1.

   وهكذا فانه في هذه الفترة، كانت القبائل الآرامية المتواجدة في بابل، تمثل قوة فعالة وذات شأن ملفت للنظر.

   واما في القرن اللاحق، وتحديدا في ظل حكم الملك ((زلما ـ نصّار)) الرابع (782 ـ 772 ق.م.) فان ((شمشي ـ ايلو)) المكلف بممارسة السلطة مكان الملك، كان يفتخر ويتباهى، انه تمكن من تطهير البلاد من قبائل: ال((اوتو)) وال((روبو)) و ((خاريلّو)) و((لابديدو)) وقذف بها الى المناطق المنخفضة جنوبا 2. وهذه القبائل المشار اليها، ان هي الاّ قبائل آرامية استقرت فيما مضى في مملكة بابل.

   وفي تاريخ لاحق، أي في عام 729 ق.م. باشر ((تيغلات ـ بيلزر)) الثالث، قبل اعتلائه عرش بابل، بملاحقة وتصفية القبائل الآرامية وحلفائها، عن طريق التشريد والنفي. ولقد كانت منتشرة في حوض بلاد ما بين النهرين، يصل عددها الى خمسة وثلاثين قبيلة، بينها عدد قليل من القبائل الكلدانية منها: ال((اوتو)) وال((روبو)) وال((خاريلّو)). وعن العمليات الحربية، التي مارسها ضدهم صرح بما يلي:

لقد اخضعت لسطاني كل ابناء الشعب الآرامي، المتواجدين على ضفاف الانهر من دجلة والفرات وسيرابو حتى نهر اوكنو 3 جنوبا في بلاد البحر، وبعد ان سحقتهم، نقلت معي الى أشّور غنائم كثيرة احتفظت بها، طردت كل الآراميين الى بلاد أشّور، وجعلت قسما من ضباطي حكاما عليهم4.

وفي بعض الوثائق الخاصة بقبائل ال((بوكودو)) وال((لابدودو)) 5، نجد شرحا يفيد ان قبيلة ال((بيكوبو)) هي من اهم القبائل الآرامية، ويرد ذكر هذه القبائل ايضا، بنفس المعنى في التوراة 6 .

وفي اعادة سريعة لحوليات ((تيغلات ت بيلزر)) الثالث المتعلقة بغزواته التي شنها على قبائل ال((أحلامو)) المتواجدة فيما وراء نهر الزاب 7 ، نرى ان هذه القبائل هي آرامية الاصل، بدوية الطابع، غير متحضرة، كانت منتشرة بعيدا عن الضفة اليسرى لنهر دجلة مثلما مر معنا.

ان ((سرجون)) (722 ـ 705 ق.م.)، بعد نجاحه في تثبيت الاوضاع في غرب الامبراطورية، شرع في اخماد كل الفتن والحركات المناوئة له. ومثلما رأينا في الفصل السابق، فانه بعد ان سحق اعداءه في الشمال، توجه بقواته صوب مملكة بابل للقضاء عليها. وفي عام 722 ق.م. اغتصب عرش بابل ((مردوك بلدان)) احد زعماء احدى القبائل الكلدانية القوية المتنفذة في أمارة ((بيت ياكين)) مستفيدا" من دعم ملك عيلام له.

    وفي عام 710 ق.م. شن هجوما على القبائل الكلدانية والآرامية بسبب مساندتها لمغتصب عرش بابل، وحول ذلك يقول لقد نجحت في الحاق الهزيمة بالكلدانيين والآراميين معا، المتواجدين على شواطئ البحر عند مطلع الشمس وحكّمت سلاحي في رقاب العيلاميين . . . 8 ويذكر اخيرا اسماء القبائل التي سحقها مثل ايتؤ وريبو ـ أو، وخاريلو ولابدودو وخمرانو واوبولو وروأ وليأتاو، المنتشرة على ضفاف نهر السيرابو والـ اوكنو و جمبولو و خندارو وبوقودو بالإضافة الى قبائل السوتو المنتشرة في بلاد يادبارو 9.

اما الجمبوليون فقد حلت بهم الهزيمة وتحولت بلادهم، التي تشمل اربع مدن محصنة الى مقاطعة أشّورية. وبالنسبة للقبائل الاخرى، التي كانت متمركزة على امتداد نهر الكرخ، فأنها اصبحت عرضة لهجمات ((سرجون)) المتكررة عليها. وتخوفا منه، اعلن شيوخهم الخضوع اليه بعد تدميره المناطق الملحقة بأمارة ((جمبولو)) وحين وصل الى مشارف بلاد عيلام، لاذ ملكها بالفرار. واما ((مردوك أباك ادّينا)) ملك بابل، فقد التجأ الى بلاد ((يادبورو)) طلبا للنجاة. وفي نفس الوقت تمكن ((سرجون)) من سحق الجيوش البابلية المناوئة له، ودخل الى بابل العاصمة باحتفال مهيب. وفي السنة اللاحقة قام بمطاردة الملك المخلوع عن عرشه في المناطق الجبلية المحيطة بالخليج العربي ونجح في نشر السلام من بلاد الكلدان حتى تخوم بلاد عيلام.

 ***           

 وفي عام 705 ق.م. توفي ((سرجون)) بعد اصابته بمرض عضال، وبعد وفاته تشجع ((مردوك أبال ادّينا)) وخرج من السبخات التي كان مختفيا فيها، ودخل الى بابل دخول الملوك. ولكن بعد تسعة اشهر من استرجاعه عرشه، أي في عام 703 ق.م. سير اليه ((سنحريب)) (705 ـ 681 ق.م.) ـ اين سرجون وخليفته ـ جيشا في اول هجوم، مبتدئا بمحاربة الكلدانيين حلفاء ملك عيلام، المتمركزين حول مصب النهر جنوبا، كما غزا الآراميين العصاة وبعض القبائل العربية المتحالفة معهم قبل الاعلان عن انباء وفاة (سرجون)). واستطاع سحق كل القوى المناوئة أو المتحالفة ضده واسر ونفى/208000/ مائتين وثمانية آلاف آراميا 10، نقلهم الى أشّور، جلهم من قبيلتي الـ ((بوقودو)) وال ((جمبولو)). ان هذا التهجير الهائل مع ما رافقه من دمار، حيث كانوا يتحينون الفرص لاستعادة سلطانهم. لذلك فانهم في عام 691 ق.م. ظهروا في منطقة ((شوازابو)) الكلدانية، التي كانت تستعر فيها الثورات ضد الأشّوريين، بدعم من ملك عيلام وبمساندة جميع البابليين: ان الآراميين رغم ما حل بهم من تهجير ونفي . . . اصبحوا اشبه بالجنود الفارين على غير هدى، تواقين لامتصاص الدماء مثل قطاع الطرق، وتحت هذه الصفات تجمعوا في مستنقعات ((شوزابو)) واعلنوا الثورة على الأشوريين 11. وفي عام 689 ق.م.، أي بعد مرور سنتين على ثورتهم، جرد ((سنحريب)) جيشا قويا للقضاء عليهم، وتمكن من احكام سيطرته على بابل، بعد معركة فاصلة بينه وبين الآراميين والكلدانيين المتحالفين . . . حقق بها انتصارا كبيرا، واستأصل شأفة آخر من تبقى من قبائل ال ((أحلامو)) وال ((سوتو)). وعاد الى بلاده مزهواً، ناقلا" معه الكثير من اسراره الكلدانيين والآراميين.

   ومنذ ان تولّى ((اسار ـ حدّون)) العرش (681 ـ 669 ق.م.)، رأى ان من اولى واجباته التصدي بعنف لحركات العصيان، التي كان يقودها بن ((مردوك أباك ادّينا)) المشهور في شرقي بابل. الاّ ان هذا هزم بسهولة. اما شقيقه وخليفته فقد عدل عن المقاومة واعلن خضوعه الى ((اسار ـ حدّون))، الذي قبل منه عرضه، تاركا له عرش مملكة البحر.

   ولم يمض وقت طويل على هذا الوضع، حتى وقع هجوم مباغت على العيلاميين والكلدانيين، مصدره أمارة ((بيت داكوري)). فما كان من ((اسار ـ حدّون)) أن بادر الى التصدي له، بعد تلقيه الدعم الكامل من القبائل الآرامية في ((جمبولو)). غير ان هؤلاء ما لبثوا ان تخلوا عن مساندة الأشّوريين في عهد خلفه ((أشّور ـ بانيبال)) (688 ـ 626 ق.م.) وانحازوا الى ملك عيلام، الذي كان منهمكا في غزو بلاد الكلدان، وسمحوا لقواته باستخدام قلعتهم الحصينة في مدينة ((شابي ـ بل)) لتكون منطلقا لغزواتهم. عندئذ جرد الملك الأشّوري حملة عسكرية قوية ضدهم، وبعد ان احتل مدينة ((شابي ـ بل)) دمرها ومحققها من الوجود. اما ابن ملك ((جمبولو)) فقد اقتاده الى ((نينوى)) وقدمه قربانا الى معبدها كالخروف. واما الامراء الآخرون وغيرهم من القادة، فانه الى مدينة ((اربيل)) وامر بسلخهم وهم احياء بعد قطع السنتهم 12.

   وفي عام 652 ق.م.، أي بعد تلك الحملة بقليل، قام ملك بابل ((شمش ـ شوم ـ اوكين)) بانتفاضته المشهورة ضد شقيقه، أشّور ـ بانيبال ، بقصد الاطاحة به، بعد ان مهد لذلك بالتحالف مع الممالك والامارات التالية: الأكّاد والكلدان والآرام ومملكة البحر 13 وعيلام وجوتيوم (الواقعتان شرق بلاد أشّور) والعمورّيون وبلاد العرب 14.

   ولقد ثبت الكلدانيون وحلفاؤهم الآراميون في هذه المعركة رغم الضربات المفجعة التي حلّت بهم، واستطاعوا تجنيب مملكة بابل كل الاخطار المتوقعة يفضل ايمانهم بحقهم . . . متحينين الفرص الملائمة لتحرير بلادهم نهائيا من نفوذ الامبراطورية الأشّورية.

***

وبعد وفاة ((أشّور ـ بانيبال)) في عام 626 ق.م, اعلن ((نيبو ـ بولاصّر)) احد القادة الكلدان سيادته على مملكة بابل، بتنصيب نفسه ملكا عليها، وبالتدريج تمكن من سلخ مملكة بابل عن الامبراطورية الأشّورية وتحريرها بالكامل. ولم يأت عام 612 ق.م. حتى تمكن ايضاً من احتلال مدينة ((نينوى)) بمساعدة المديين. وبزغت شمس دولة الكلدان وحلت الامبراطورية الكلدانية، أو كما نطلق عليها بابل الحديثة، مكان الامبراطورية الأشّورية في المنطقة 15.

وأما الآراميون في مملكة بابل، فقد انصهروا تدريجيا في بوتقة الامبراطورية الجديدة. ومثلما رأينا في السابق، فانهم فقدوا استقلالهم السياسي بين القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد. ولكنهم لم يختفوا تماما عن المسرح السياسي، حيث كانوا يظهرون من فترة لأخرى في بلاد ما بين النهرين وفي الكثير من المناطق السورية.

   زمهما يكن، فاذا كان تاريخهم السياسي، الذي امتد الى اربعة أو خمسة قرون، قد انتهى، فانه على صعيد آخر، بقي منهم الغزاة الاشداء، يقدون من الصحراء لينتشروا في كل صقع، اثباتا لكيانهم واظهارا لشخصيتهم المميزة. ولا يخفى فانه تبعا لكل ما جرى في تاريخهم الطويل، تركوا بصمات هاوة في حضارة المنطقة وفي كل بلدان المشرق، منها تفوّق لغتهم على غيرها من اللغات المعاصرة لهم، وهيمنتها على امتداد الف عام من الزمن، الى ان حلت محلها، مؤخرا، اللغة انقراض اللغة الآرامية، فأنها لاتزال تستخدم في لغة التخاطب، مما يجعلنا نقر بالدور الهام، الذي لعبته هذه اللغة التاريخ القديم للمنطقة.

 الفصل السادس


1- Luck,l,§726.

2- نقش محفور على تماثيل بعض الاسود اكتشف في " تل برسيب" في شمال سوريا.

3- اليوم يطلق عليه نهر الكرخ في الخليج العربي.

4- Luck,l,§788.

5- المرجع الاخير798 §

6- ارميا، الاصحاح الخمسون: 21- حزقيال، الاصحاح الثالث والعشرون: 23، ويذكر التلمود مدينة اسمها : بهار بيكود.

7- Luck,l,§77.

8- Luck,ll,§42.

9- نفس المرجع الاخير:55§

10- نفس المرجع الاخير:274§

11- نفس المرجع الاخير:225، 234§

12- نفس المرجع الاخير:866§

13- نفس المرجع الاخير:789§

14- (راجع حول الحرب الاهلية بين " أشور -بانيبل" و " شمش- شوم- روكين" في كتاب: تاريخ الشرق الأدنى القديم للاستاذ الدكتور انطون مورتكات، تعريب الدكتور توفيق سليمان والدكتور على ابو عساف، 1967، يطلب من دار أماني- المراجع المدقق).

15- ورد لدى المؤلف في ص 76 خطاً " وبعد قرن من الزمن بزغت شمس..."، والصحيح حذف عبارة " وبعد قرن من الزمن" فنقول كما هو وارد النص اعلاه (المدقق).

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها