عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

الفصل الثالث

انبعاث الامبراطورية الأشّورية وتقهقهر نفوذ الآراميين السياسي

(القرن التاسع قبل الميلاد)

تأليف

أ. دوبون سومر

وصلت قوة الآراميين الى اوجها في نهاية القرن العاشر قبل الميلاد، ويستدل ذلك من بسط نفوذهم على كل اعلي بلاد ما بين النهرين تقريبا"، مما جعل بلاد أشّور تحت رحمتهم. الاّ ان تفوقهم السياسي والعسكري لم يدم طويلا"، لوجود عداء مستحكم بينهم وبين مملكة إسرائيل الفتية، نجمت عنه اشتباكات وحروب طاحنة نشبت بينهما.

     ولكن رغم ما حل بهم، تمكنوا من المحافظة على قواهم الاساسية، التي اخذت تتنامى، خاصة بعد انحسار نفوذ إسرائيل، مما اهلهم فيما بعد ليصبحوا السلطة المهيمنة في المنطقة بلا منازع. وقد ساعدهم على ذلك حدوث تطورات هامة سياسية في مملكة إسرائيل، بعد موت الملك ((سليمان))، وادت الى انقسامها الى مملكتين:

مملكة يهودا في الجنوب وعاصمتها القدس، وقد اعتلى على عرشها الملك ((رحبعام)) ابن الملك ((سليمان)).

  مملكة إسرائيل في الشمال، اسسها ((يربعام)) مغتصب السلطة فيها.

    وقد استغل الآراميون هذا التطور، واستفادوا من حدة الخلاف القائم بين المملكتين، بان ارغموا الاسرائيليين على الجلاء عن بلادهم وتحقيق لهم الاستقلال التام. وطبعا كانت دمشق تشكل مركز الثقل فيما وصلوا اليه وحصلوا عليه. الاّ انه في تلك الفترة تكونت دولة أشّور القوية، وانتشر صيتها في المنطقة. بسبب قدرتها على تنظيم قواتها وسلطاتها. وبعد ان استكمات تجهيزاتها العسكرية والمادية، حشدت قواتها صوب بلاد آرام، مبيتة النية على غزو الآراميين، الذين سبق لهم ان اغتصبوا بلاد أشّور في تاريخ سابق. وقد اشرف على تنظيم الجيش الأشّوري الملك ((أشّور ـ دان)) الثاني (932 ـ912 ق.م.). واول ما قام به مطاردة القبائل المنتشرة في الشرق، التي لا هم لها سوى السلب وانهب، ومن ثم قام بغزو الآراميين المتواجدين في الشمال الشرقي، وبعد وفاته تابع خافه ابنه ((حدد ـ نيراني)) الثاني (911 ـ 890 ق.م.)،مواصلة سياسته، حيث ان يشن حروبا" ضارية ضد الآراميين المتواجدين في منطقة ((طور عابدين)) في الاعوام ما بين 901 ـ 896 ق.م.

  ونتج عن هذه الحروب احتلاله الكامل للأمارات الثلاث ((خوريزانا)) و ((جيدارا)) (او الرقمة) و((نصيبين))، جاعلا" من كل منها مقاطعة أشّورية (1).

 وفي عام 948 ق.م. سار على رأس جيشه القوي، واحتل وادي نهر الخابور، من منبعه الى مصبه على نهر الفرات، دون ان يلقى أية مقاومة تذكر، واخضع احكمه كلا" من:(جوزانا)) و ((سيكاني)) و ((كانتي)) و ((سورو))، وخضعت له ايضا قبائل ال ((حاديبي)) بعد ان استسلم له رئيسها ((بار آتار)).

وفي عام 885 ق.م. تابع ابنه ((تيكوليتي ـ نينورتا)) الثاني (889 ـ 884 ق.م.) منهجه في حروبه وغزاوته، واستطاع ان يفرض الجزية على مملكة ((بيت زماني))، التي كانت تتخذ من مدينة ((ديار بكر)) او ((آميدي)) الواقعة على نهر دجلة الاعلى( 2 ) عاصمة. وفي السنة اللاحقة تمكن من السيطرة على البلاد الممتدة من سفوح جبال ما بين النهرين حتى مدينة ((دور كوريجالزو)) القريبة من مدينة بابل، بما فيها مدينة ((سيبار))، وبذلك يكون قد اكمل اجتياح المنطقة الواقعة على امتداد نهري الفرات والخابور حتى مدينة ((نصيبين)).

    واما خلفه ((أشّور ناصر بال)) الثاني (883 ـ 859 ق.م.)، الموصوف انه كان اكثر قسوة واقوى شكيمة من كل ملوك أشّور، فانه كان في كل عام من الاعوام الواقعة ما بين 883 ـ 878 ق.م. يقوم بغزو كل المناطق الجبلية في بلاد ما بين النهرين، الممتدة من الشمال الى الشرق منها المسماة ((طور عابدين))، ملحقا فيها الدمار عن طريق حرق العديد من مدنها وتشريد الآلاف من السكان. والملفت للنظر انه في عام 883 ق.م. سحق بقسوة لا مثيل لها عصيانا في ((سورو)) وفي عام 882 ق.م. اقتحم أمارة ((بيت زماني)) واسر نحو من 1500 انسانا من الاحلامو- الآراميين( 3 )، وبسقوط هذه الأمارة اصبحت بلاد ما بين النهرين، حتى حدود مملكة بابل، خاضعة لحكمه، وبعدئذ باشر في تنظيم شؤون الامبراطورية الأشّورية، فقسمها الى ولايات ومناطق، وقد نجح في وضع اصول تنظيمية متقدمة تتعلق بجبي الضرائب والسخرة والخدمة العسكرية.

    وفي تلك الفترة، كانت مملكة ((بيت آديني)) المستقلة تتمتع بموقع هام وبمركز قيادي في المنطقة التي تشمل المنعطف الكبير لنهر الفرات، الاّ ان الملك ((أشّور ـ ناصربال)، الذي كان يطمع في احتلالها وضمها الى مملكته، لم يشأ تركها هكذا، لذلك سير قواته باتجاهها وارغم ملكها ((آخوني)) على دفع الجزية اليه، بعد ان نفى منها الى مدينة (كاخ)) ما يقرب من 2400 آراميا. وبعد اخضاعه هذه المملكة الى دائرة نفوذه، اصبح طريق البحر غربا مفتوحا امام جيشه الظافر، بدليل ان قواته، بعد اجتيازها نهر الفرات، لم تلق أية مقاومة تذكر من قبل كل من ((كركميش)) و ((سينجار))، حيث أذعن ملكها الى دفع جزية باهظة اليه... وهكذا تحقيق حلمه ببسط سيطرته على كل البلاد السورية، بعد ان سارع كل من ملك امارة ((حطين) الواقعة على وادي نهر العاصي الأدنى، وملك أمارة ((بيت أجوش)) الى الاعتراف بنفوذه والقبول بتأدية الجزية المطلوبة منهما اليه. وما ان اقتربت قواته من شاطئ البحر المتوسط حتى دب الذعر في سائر المدن والأمارات الفينيقية، فسارعت الى تقديم الهدايا الثمينة اليه لتتجنب أي احتكاك معه، يلحق بها اضرارا" جسيمة... ولكن الحق يقال، فان مختلف تلك البلدان، رغم كل ما تعرضت اليه، لا يمكن اعتبارها محتلة، لأن الهدف الاساسي من الغزو الأشّوري كان يقتصر فقط، على نشر الرعب والهلع فيها، تمهيداً للحصول على الغنائم والجزية منها. ماما بالنسبة لبلاد الآراميين، فيما وراء النهرين، فكان الهدف من احتلالها ضمها الى الامبراطورية الأشّورية.

 *             *         *

   واما ما يتعلق بمملكة دمشق الآرامية، فان امكانيتها وقواتها، حتى ذلك الوقت كانت آخذة في النمو بسرعة، والسبب في ذلك يعود الى انها كانت دوما عرضة لخطر الاجتياح الأشّوري، مثلما رأينا. كما استفادت هذه المملكة الفتية من التوتر الحاصل بين المملكتين العبريتين في فلسطين المجاورة، مما مكنها من التفرغ الى تعزيز مركزها وتنفيذ مشاريعها الانمائية والتعبوية، وبخاصة عندما تطور هذا التوتر الى صراع حاد بين المملكتين العبريتين، في بداية القرن التاسع قبل الميلاد، والذي انتهى الى ان يطلب ملك مملكة ((يهودا)) المدعو ((آسا)) العون والدعم من الملك الآرامي ((بن حدد بن طاب ريمّون بن حزيون)) هدايا ثمينة من ((آسا)) ملك ((يهودا)) مرفقة برسالة هذا نصها:

ان بيني وبيتك وبين اني وابيك عهداً. هو ذا قد ارسلت لك هدية من وذهب فتعال انقض عهدك مع بعشا ملك إسرائيل فيصعد عني "4"

   وبإلقاء نظرة سريعة على مضمون هذه الرسالة، نستنتج بالبداهة، ان ملك دمشق، استغل الخلاف القائم بينهما، وقام بدون تردد، الى غزو مملكة ((إسرائيل)) المجاورة. ويشير احد نصوص التوراة الى هذه الغزوة بما يلي: فسمع بن هدد للملك آسا وارسل رؤساء الجيوش، التي له على مدن اسرائيل وضرب عيون ودان وآبل بين معكة وكل كنروت مع كل أرض نفتالي( 5 ). ومنه يفهم ايضا ان التخريب والدمار شملا شمال مملكة ((إسرائيل))، مما ارغم الملك ((بعشا)) على رفع ضغوطه، التي مارسها طويلا على مملكة ((يهوذا)). وبذلك انقذ ملك ((يهودا)) المدعو ((آسا)) من السقوط المحتم. الاّ انه لابد من الاعتراف ان الآراميين هم المستفيدون الوحيدون من صراع الاخوة، حيث كسبوا منه الكثير( 6 ).

   لقد وجد اسم ملك دمشق هذا منقوشا على مسلة اكتشفت في مكان قريب من مدينة حلب( 7) نقشت عليها صورة لأله الفينيقيين ((ميلقارت)) ونقش الى جانبها التالي:

. . . مسلة نصبها بار حدد (8) بن طاب ريمّون بن خزيون من آرام ، تقدمة للسيد الرب ميلقارت ووفقا له، وذلك تقديرا لعنايته الفائقة به (9) .

واذا كان من الصعب التصديق بوجود مثل هذه المسلة في بيئة بعيدة عن دمشق مما يجعلها بنظرنا مدعاة للشك، الاّ انه من خلال معرفتنا لمسار تاريخ المنطقة، الذي يؤكد امتداد نفوذ ملك دمشق الى شمال سورية، وتحديدا الى حلب، وانه كان يتدخل في الصراعات، التي كانت تنشب من خين لآخر بين الأمارات الآرامية، اما على شكل حليف لاحداها، او بمثابة خصم اساسي لا حداها ايضا مثل أمارة ((بيت آجوشي)) نرى الموضوع عاديا، ولكن لماذا لم يتحرك ملك ((صوبا)) نحو منطقة الفرات لتحريرها من قبضة ملك دمشق؟ ربما يعود ذلك الى ضعفه وعجزه بسبب خلافه مع الملك ((داود)).

   وفي عهد ((عمري)) ملك إسرائيل (886 ـ 875 ق.م.) تعرضت إسرائيل الى ضغط شديد من طرف دمشق، يؤكد ذلك نص توراتي، يرد فيه: ان والد بن هدد الثاني  (يمكن ان يكون بن هدد الأول بن طاب ريمّون، وهذا التعليل مقبول)  احتل كل المدن الخاضعة لسيطرة والد الملك ((آحاب))، الذي لا يمكن ان يكون سوى عمري، وحصل منه فيما بعد على حق ملكية الاسواق التجارية في مدينة الناصرة العاصمة(10).

    وهكذا فقد كان على الملك ((عمري)) بالرغم من قوة مملكته المتنامية، ان يتخلى عن الصراعات والخصومات، التي كانت قائمة بين الدولتين العبريتين، ليتفرغ الى مقاومة دمشق، وليكون على الدوام، قادرا على الاحتفاظ بالجليل وشرقي الاردن، على الاقل، لأغراض سياسية واقتصادية، ويحول بين دمشق وبين تحقيق اغراضها، التي منها ايجاد منافذ تجارية ثابتة عبر اسرائيل.

    وفي عهد الملك ((آحاب)) (875 ـ 853 ق.م.)، تفاقم الخلاف فيما بين دمشق واسرائيل، الذي استغله ملك دمشق بن هدد الثاني (تسميه بعض الوثائق الأشّورية آداد ايدرى أو حدد ايزر). ففي عام 857 ق.م. اخترق بجيشه القوي فلسطين مصطحبا" معه اثنين وثلاثين ملكا آراميا، مما يجعلنا ندرك بوقوع اكبر حلف حينذاك بين الملوك الآراميين، بمعنى ان كل الأمارات الآرامية في سورية، الكبيرة والصغيرة منها، تشكل منها هذا الحلف الكبير واحتل البلاد حتى العاصمة ((الناصرة))، التي احكم عليها الحصار، بعد ان تحصن بها الملك ((آحاب)) مع قواته الضعيفة المندحرة، دون ان تكون لديه اية وسيلة تنقذه مما هو فيه. ولذلك اذعن الى قبول عرض ملك دمشق دون مناقشة فك الحصار عنه، القاضي بتأدية جزية تشمل كمية من الذهب والفضة، لكن بن هدد (=بن حدد) عاد وقدم له شروطا اخرى قاسية لتنفيذها، كتسليمه الكثير من النساء والاطفال، مما جعله يرفض العرض بعنف، ويقرر المقاومة حتى النهاية مهما كلفت من تضحيات. والغريب في هذا الوضع اليائس، هو انه بينما كانت القوات الآرامية المحاصرة ترتع ظهرا بعد تعاطيها الخمر داخل خيامها انقضت عليها القوات الاسرائيلية فجأة مباغتة اياها، مما مكنها من سحقها وارغامها على الفرار مخافة وراءها عددا" من العربات والخيول، وقد انقذ الملك ((بن حدد)) بأعجوبة مع عدد من فرسانه (11).

    ورغم كل ما حدث، فان ملك دمشق لم يستسلم ولم يعترف بهزيمته، وبيت نية الانتقام. وبعد ان اكمل استعداده، قرر في السنة التالية مهاجمة إسرائيل، وحشد من أجل ذلك قوات جديدة معبأة واتجه بها صوب فلسطين. ولكن في هذه المرة تصدر له الملك الاسرائيلي ((آحاب))، الذي كان على رأس قواته والتقى الجيشان في موقع يسمى ((آفيق)) (12)، وبقيا وجها لوجه مدة سبعة أيام، وفي نهايتها نشبت بينهما معركة طاحنة، انتهت بتشتيت قوات الآراميين وتحويلها الى مجموعات ضعيفة تدب فيها الفوضى، وتمكين الاسرائيليين من محاصرة مدينة ((آفيق)) واحتلالها بسهولة، وفيما كان الملك الآرامي ((بن حجج)) يحاول الفرار، تخلصا من مذبحة محيقة به وبقواته، وذلك بالانتقال سرا" من بيت الى آخر، دون جدوى، امسك به بعض من رجاله ووضعوه في كفن (كيس الحداد) وقدموه الى الملك ((آحاب)) قائلين له: . . .هاك عبدك ، بن هدد، هو الآن تحت رحمتك ، ويلتمس منك ان تعتق له حياته! فأجابهم آحاب:

وهل  لايزال على قيد الحياة؟ لشك انه اخي، آتوني به!، ثم وضع الملك الآرامي امامه، وتوكيدا لمصداقيته، امر بنقله الى عربته الخاصة، ووقعا فيما بعد معاهدة، وقد ورد فيها النص التالي: أنا بن هدد ملزم بإعادة كل المدن التي اغتصبها والدي عنوة من والدك . . . كل ذلك لقاء اطلاق سراحي واعطائي الحرية( 13).

 *          *      *

   والسؤال الآن: ما هو السبب الذي جعل الملك ((آحاب)) يرأف بالد خصومه؟ ربما يعود ذلك الى توقع حدوث تطورات كبيرة وخطيرة في الشمال، بعد اعتلاء الملك ((زلما ـ نصّار)) الثالث (859 ـ 824 ق.م.) عرش اشّور، بعد سلفه ((أشّور ـ ناصر ـ بال)) الثاني. و ((زلما ـ نصّار)) هذا معروف بشدته وقسوته، اكثر بكثير من والده. اذ منذ توليه العرش عام 858 ق.م, بدأ، بما ينم عن ذكاء، استغلال العداء المستحكم، الذي كان قائما بين أمارة ((بيت آديني)) وبين ((أشّور))، وكان يعتلي العرش فيها الملك ((آخوني))، بهدف اخضاع هذه الدولة نهائيا لسيادته، لأنها ينظره تشكل مفتاحا للولوج الى شمال سورية.

     وهكذا فان كل الدول المجاورة بدأت تحس بالخطر الأشّوري في عهد ((زلما ـ نصّار))، لذلك تداعت الى عقد حلف قوي مع أمارة ((بيت آديني)) والأمارات التالية: ((جورجيوم) و ((سمأل)) و ((كركميش)) و ((خطّان)) و ((كي)) و ((خيلاكّو)) و ((بيت آجوشي)). أما الملك الأشّوري ((زلما ـ نصّار)) الثالث، فقد اجتاز بقواته نهر الفرات، متجها بها نحو الشمال لاحتلال منطقة ((كومّوخ)). وبعد ان احتلها، اتجه جنوبا صوب مناطق نهر العاصي وابحر، ونجم عن ذلك انهيار الحلف المعقود بين الممالك والأمارات الآرامية، التي قبلت مرغمة بدفع الجزية اليه وفي عام 857 ق.م. شن هجوما قويا على خصومه الآراميين، استطاع به محاصرة مدينة ((تل برسيب)) عاصمة ((بيت آديني))، التي قاومت بعنف. ولكن مقاومتها انهيارات في السنة الثانية للصار. وبعد ان احتلها ((زلما ـ نصّار))، بدّل اسمها السابق باسم ((قار ـ شول مانا شاريد))، الذي يعني: ((ثغر زلما ـ نصّار)). وبعدئذ نقل اليها من الأشّوريين لاستيطانها، وشيد بها قصرا" مشهورا". ولم يمض وقت على ذلك، حتى اصبحت ((بيت آديني)) مقاطعة أشّورية.

    وأمام هذه التطورات العسكرية المذهلة، انتشر القلق والرعب في كل ربوع سورية، لأن خطر الأشّوريين يقترب شيئا" فشيئا"، وما كان محتملا" وقوعه، وما كان محتملا" وقوعه، حدث بالفعل. اذ في عام 853 ق.م. اجتاز ((زلما ـ نصّار)) بجيوشه نهر الفرات متجها" بها نحو ((تل برسيب))، وهاكم قصة انتصاراته على لسانه بالذات:

     لقذ فرضت الجزية على ملوك الأمارات الواقعة فيما وراء نهر الفرات، منهم: سينجارا ملك كركميش وكونداشبي ملك كومّوخ وآرامي ملك بيت آجوشي ولالي ملك ميليد(14) ، وخاني ملك بيت جباري (15) وكالبارودا ملك جورجوم، وكانت حصيلة الجزية، التي حصلت عليها، كميات كبيرة من الذهب والفضة والرصاص والنحاس. كما حصلت على آنية نحاسية من مدينة أشّوراوتي رسبات، الواقعة على الضفة الاخرى النهر الفرات، والتي كان يطلق الحثيون عليها اسم بيترو. ثم تابعت الزحف منها الى مدينة حلب. ولما كان حكامها يتوقعون سلفا"، الخسارة في أية حرب يخوضونها ضدي، لذلك بادروا الى مهادنتي بما يشبه الاستسلام، واستقبلوني منحنين على قدمّي ومكرهين على دفع جزية تتضمن كميات كبيرة من الذهب والفضة، وبعد ان قمت بواجبي بتقديم قربان الى حدد حلب (16) رحلت عنها جنوبا حتى وصلت الى مشارف بلاد حماه، مقتربا" من مدينتي أدونّو وبارجا، ونجحت باحتلال قلعة ((آرجانا) مقر ملكها أرخولني وغنمت اموالا" كثيرة واعتدة عثرت عليها فيها، وقبيل مغادرتي اياها اضرمت فيها النار. . . وتابعت زحفي نحو مدينة قرقر ودخلتها بعد معركة طاحنة، واحرقتها بعد تدميري قلعتها المشهورة.

وهنا يشير ((زلما ـ نصّار)) بالتفصيل الى مجموع القوات والاعتدة، التي اشتبك معها في هذه المعركة الفاصلة، ذاكرا" اسماء الملوك ولأمارات التي شاركت فيها، كما يلي:

-        تتألف قوات دمشق ((جدد ـ ايدري)) من 1200 عربة عسكرية و 1200 حصانا" و 2000 جنديا".

-        وقوات ((ارخلوني)) ملك حماه من 700 عربة عسكرية و 700 حصانا" و 10000 جنديا".

-        وقوات ((كي)) تتألف من 500 جندي.

-        وقوات ((موسرو)) من الف جندي.

-        وقوات ((آراكا)) (17) تتألف من عشر عربات وعشرة آلاف جندي.

-        وشارك ((ماتينو بعلي)) ملك ((آرباد)) بمائتي جندي.

-        وقوات ((أدونو بعلي)) ملك ((شيانو)) بلغت ثلاثين عربة عسكرية وعشرة آلاف جندي.

-        وقدمت أمارة ((جنديبو العربي)) ( . . . . ) والف جمل.

-        وأما الملك ((بعزا)) بن روحوبي فقد زج في المعركة، من جبل عمّان ) (18 ) بألف جندي.

     ويضيف ((زلما ـ نصّار)) قائلا": ان القوات التي زجت في معركة قرقر المشهورة، تشكل مجموع الجيوش، التي حشدها الملوك الاثنا عشر المتحالفون ضدي. لكن بفضل عناية الرب أشّور والى التنظيم الجيد، التي كانت تتمتع به قواتي المهاجمة، بأشراف قائدي (0نيرجال)) الحقت بهم الهزيمة، ثم لحقت بهم الى مدينة ((جيلزو))، وبعد معركة فاصلة سحقت قواتهم، واجهزت على اربعة عشر الف جندي من بينهم الملك ((حدد)) نفسه.

ويتابع قائلا": لقد انقضضت عليهم كالا عصار، وفتكت بهم، ونثرت جثثهم هنا وهناك، فامتلأ السهل بها وبدمائهم المراقة، وكذلك بالسلاح والعتاد المشتت (19).

ونشير هنا ان قوة ((اسرائيل)) بدأت تتكشف للجميع، اثر حروبها مع كل من دمشق وحماه، على انها عدو خطير. واذا كانت معركة قرقر، من المعارك، التي يفخر بها الأشّوريون، لأن النصر، الذي احرزوه فيها يعود الى العقل المدبر ((زلما ـ نصّار))، فلن ما يلفت النظر، هو ان ((زلما ـ نصّار)) لم يقدم على احتلال كل من حماه ودمشق والناصرة، رغم تفوقه، بل قفل راجعا"، بسرعة الى بلاده، دون ان ينتظر حتى الشكر من خصومه، حكام البلدان التي جلا عنها.

    ولم يكد يزول الخطر الأشّوري، الذي ارعب المنطقة لبعض الوقت، حتى استعرت حرب أخرى ضاربة بين مملكتي دمشق واسرائيل، رغم وجود هدنة موقعة من الجانبين منذ ثلاث سنوات( 20).

لقد كان الملك ((أحاب)) يدرك في قرارة نفسه تفوقه العسكري، لأنه كان يملك جيشا" يفوق بكثير عدة وعددا جيشي دمشق وحماه معا"، لذلك فان أول ما فعله ، هو انذاره لابن هدد (حدد) كي يتنازل له عن مدينة ((راموت جلعاد)) (21)احدى المدن الهامة، التي نصت عليها معاهدة ((آفيق)) (= فيق) السابقة الذكر، بوجوب ضمها الى ((اسرائيل)).

   وفي هذه المرة، تحقق ما كان متوقعا، حيث عقد ((آحاب)) حافا" عسكريا" مع ((جوزافات)) الفائتة الذكر. وخلال المعركة التي نشبت مع القوات المدافعة عنها، سقط الملك ((آحاب)) صريعا بفعل سهم اصابه في مقتل منه وهو في عربته الخاصة. ولم يأت المساء حتى شاع نبأ مقتله بين وحدات الجيش، فكان له وقع عظيم عليها، لأنه ساهم في تمزقها وتشتتها، عندئذ وعلى الفور انسحبت قوات الحليفين من مدينة ((راموت))، الى داخل الناصرة العاصمة، حاملة معها جثة الملك ((آحاب)) (22 ).

    ومهما يكن فان الحروب التي خاضها ((زلما ـ نصّار)) في سورية ضد الأمارات والممالك الآرامية في الاعوام: (849و 848 و845 ق.م.) ، الحقت الكثير من الدمار المروع من حراء الحرائق والمجازر التي نفذها، اضافة الى اعمال السلب وانهب التي قام بها. لكن على الرغم من كل ذلك ، استطاع الآراميون الصمود بفعالية تجاه خطر أشّور.

    وتذكر النصوص الأشّورية، المتوفرة لدينا، بوضوح، تفاصيل كل الحروب والحملات العسكرية المتلاحقة (23) ، وعلى الاخص، التي جرت عام 853 ق.م. في اعقاب الحلف المشهور، الذي تعاقد عليه الملوك الاثنا عشر، بقيادة كل من ملك دمشق ((هدد ايدري)) وملك حماه ((ارخلوني)). واذا لم يعلن عن اسم الملك الاسرائيلي خليفة ((آحاب)) المقتول بجلاء، كواحد من موقعي الحلف، فان ذلك لا يمنع من أن يكون اسمه واردا مع اسماء الملوك الاثني عشر، اطراف الحلف . . . لكن بما ان الملك ((يهورام)) الاسرائيلي، ثاني خليفة ل ((آحاب)) كان في تلك الفترة على رأس الحكم، لأن عهده امتد من 852 ـ 842 ق.م.، لا يستبعد أن يكون من بين موقعي الحلف، ومع ذلك فقد كانت العلاقات الثنائية، بينه وبين ملك دمشق، تفتر أحيانا" وتهدأ، واحيانا أخرى تتوتر فتصل الى درجة العنف والصدام. وثمة نصوص توراتية كثيرة تتعلق بتلك الفترة عينها. لكن والحق يقال، فأنها لا تشكل الاّ جزءا" من مجموعة نصوص تتضمن الكثير من الاقاويل والشعائر الدينية التقليدية، بل والطقوسية. وهي بذلك تبدو اقرب الى الاساطير لا تصلح لتكون وقائع لازمة لتأريخ هذه الفترة، التي نحن بصدد الكلام عنها. وهي في مجملها تحكي أخبارا" عن النبي ((اليشع))، ويرد فيها ايضا استعراض لقصة قائد ملك دمشق الآرامي، المدعو ((نعمان))، الذي قصد مدينة الناصرة العبرية، على اثر اصابته بمرض الجذام، بقصد تلقي العلاج غلى يد الحكيم ((سوما ـ تورب)) المشهور 24 .

واذا ما افترضنا، ان تلك القصة، تشهد على وجود ((حالة من السلم)) بين المملكتين في تلك الفترة، فأننا بالرغم من ((حالة السلم)) هذه نستنتج بداهة، ان ملك اسرائيل يبقى تابعا" ضعيفا" املك دمشق.

    وعلى العكس، فثمة رواية اخرى تحكي لنا، كيف تمكن ((اليشع)) التخلص بأعجوبة من قبضة الجيش الآرامي، الذي كان يطوق مدينة ((دوتان)) 25 وهو بداخلها. ومن الممكن ان تكون حوادثها قد وقعت ابّان الفترة، التي بلغ فيها التوتر اوجه بين المملكتين. والسؤال الآن: ((هل تدلنا هذه الرواية استنتاجا"، على وجود حالة من الحرب بين دمشق واسرائيل آنئذ؟)) 26.

    والحقيقة هي ان وقائع هذه الرواية، جرت في الفترة، التي كادت فيها الخرب على اشدها فيما بين دمشق واسرائيل، التي استطاع فيها ملك دمشق ((بن حدد)) احكام الحصار على مدينة الناصرة، الى ان فتك الجوع باهلها المحاصرين. وتقول الرواية أيضا": انه بقدرة قادر تم انقاذها من واقعها المؤلم 27. ومهما كانت طبيعة هذه الرواية، فان الملك ((يهورام)) استطاع في نهاية المطاف استرجاع ((راموت جلعاد)) السابقة الذكر. كذلك ثمة رواية اخرى يعود تاريخ وقائعها الى وقت لاحق للتاريخ السابق وبين التاريخين جرت استعدادات لازمة لمجابهة ملك دمشق اثناء حصاره مدينة الناصرة 28 . ومما يرد فيها: ان حزائيل، خليفة الملك بن حدد الثاني هو الذي يذكره زلما ـ نصّار الثالث 29 في بعض نقوشه المكتشفة، واصفا" اياه انه يعتبر مغتصبا" للسلطة من سلفه. كما ان التوراة نفسها تروي نفسها تروي بالتفصيل قصة تسلمه العرش 30، وما ترويه عنه فيها مستمد من الافكار والعقائد لـ ((اليشعية)) (= نسبة الى اليشع)، وهي في مجموعها لا تخرج عن كونها اسطورة لا تخلو من الطرافة، لأنها تضع لمسات اقرب الى الواقع عن مصرع بن حدد. وهي على العموم اوفر حظا" للدلالة على هذه الشخصية التاريخية، حيث يرد فيها: . . . وفي الغد (حزائيل) اللبدة وغمسها بالماء ونشرها على وجهه ومات وملك حزائيل عوضا" عنه 31.

ويتصف ((حزائيل)) بالقسوة وبالقسوة، والقصة السابقة تروى نقلا" عن لسان ((اليشع)، وفيه يخاطبه بقوله: علمت ما ستفعله ببني اسرائيل من الشر فانك تطلق النار في حصونهم وتقتل شبابهم بالسيف وتحطم اطفالهم وتشق حواملهم 32 .

ومنذ ان اعتلى ((حزائيل)) العرش، لم تهدأ الحروب فيما بينه وبين الاسرائيليين بسبب هدفه استرجاع مدينة ((يهورا))، وارغم بسبب ذلك على العودة الى مدينة ((يزرعيل)) تاركا" لقادته العسكريين امر الاهتمام بمشاغلة العدو وتحمل مسؤولية مجابهته. وقد استفاد ((اليشع)) من هذه الحادثة واستغلها للتخلص من الملك ((يهورام)) فاستدعى احد قادته المدعو ((ياهو)) ودهن جسمه بالزيت تمهيدا" لتسميته ملكا" على اسرائيل. ولقد استحسن الجيش هذا التصرف، فاعلن تأييده للملك مغتصب العرش بأطلاق الشعار ياهو هو الملك، والقي القبض على الملك السابق ((يهورام)) واجهز عليه حتى الموت، ثم دخل الى مدينة الناصرة، العاصمة، في موكب جليل 33. ان هذه القصة التوراتية لا تمدنا بأية معلومات مفيدة، حول احتلال هذا الملك لمدينة ((راموت))، الاّ انه من المرجح، ان يكون قد احتلها في تاريخ لاحق.

 ***

وكان ((زلما ـ نصّار)) يراقب عن كتب كل هذه التطورات . . . وكانت قوة ملك دمشق المتنامية تسبب له القلق، ولتفادي خطره قرر ان يوجه له ضربة قاضية ... وتنفيذا" لقراره خاض معركة ضده في عام 841 ق.م. وصفها بما يلي 34: حتى السنة الثانية عشرة من اعتلائي عرش أشّور اجتزت للمرة السادسة عشرة نهر الفرات. اما حزائيل، ملك دمشق، فانه في هذه المعركة اعتمد على قواته الضاربة، التي دفع بها نحو المعركة بأعداد ضخمة، وتمركز في معتقل محصن غلى قمة جبل الصنير 35 في سلسلة لبنان الشرقية، ولقد هاجمته في معقله هذا، وكبدته خسائر فادحة منها: مقتل ستة آلاف جندي، وتدمير الف ومائة واحدى وعشرين عربة، واهلاك 470 رأسا" من خيوله، وفي نهاية المعركة سقط معقله في قبضتي، لكنه تمكن من الفرار، فلحقت به حتى مدينة دمشق، التي حاصرتها بعد دخولي اليها، واتلفت كل البساتين والحقول المحيطة بها، وتم لي احتلال البلدان المجاورة لها، وتابعت زحفي، محتلا" بلدا" بعد الآخر حتى وصلت الى قمة جبل ((بعليزازي)) 36 وبينما كنت احلم في ضم هذه البلاد الى مملكتي، فاوضني حكام مدينتي صيدا وصور ووافقوا على دفع الجزية لي، وفعل مثلهم ((ياهو)) ملك بيت عمري 37.

   وفي عام 838 ق.م. قام زلما ـ نصّار بمهاجمة ((حزائيل))، وها هو يصف حربه معه بقوله: في اسنة والعشرين لاعتلائي العرش، اجتزت للمرة الحادية والعشرين نهر الفرات، اثر اعلاني الحرب على حزائيل ملك دمشق وما يتبعها من مدن. ولقد تمكنت بسهولة احتلال اربعا" من مدنه، وخشية من بطشي تداعى حكام صيدا وصور وجبيل (بيبلوس) الى تقديم الجزية لي 38 .

   وفي هاتين الغزوتين المار ذكرها، تلقى حزائيل، ضربات قاصمة، لكن على الرغم منها، لم يستطع ((زلما ـ نصّار))، احتلال العاصمة دمشق، بالرغم من انه كان على الدوام ينوي احتلالها ومهاجمتها، كلما سنحت حكمه. وبالمقابل فان ((حزائيل))، الذي كان يدرك نوايا زلما ـ نصّار، لم يترك اية فرصة أو هدنة سلام بينهما، مهما كانت قصيرة، الاّ واستغلها لاعادة بناء المدن والمنشآت المدمرة، وفي تجهيز قواته وتنظيمها، مظهرا في نفس الوقت، ان قوته لا تنضب، وانه سيد المنطقة بلا منازع. وهكذا فقد هاجم إسرائيل وسلخ منها عنوة كل بلاد ((الجلعاد)) حتى مدينة ((اوبرا)) الواقعة على نهر ((الآرانوم)) 39، وبذلك شمل نفوذه كل فلسطين. لذلك سعى الى توكيد اطماعه، بأقدامه على احتلال مدينة ال((غات)) الواقعة في وسط البلاد ويعيش فيها الرعاة من البدو، وبذلك اضحت القدس مهددة بالسقوط.

  وامام هذا الخطر، اضطر ((يهواش)) ملك يهودا الى التماس مهادنته والسعي لمفاوضته بأمل وقف زحفه على بلاده وانسحانه منها، متعهدا" لقاء ذلك تسديد اموال ثمينة له، قوامها الذهب 40. وما ذلك الاّ لأن مملكة اسرائيل المجاورة، كانت تعاني الكثير من خطر جارتها دمشق، لهذا تبقى عاجزة تماما" عن تقديم أي دعم له. والظريف ان التوراة لا تشير البتة، الى تلك الفترة، التي عانى فيها العبريون والاسرائيليون الذل المهين 41 . لكننا هنا نشير الى مسألة هامة، ربما تكون مفيدة، وهي انه: خلال حكم الملك ((يهواحاز) خليفة الملك ((ياهو)) في عام 814 ق.م.، كانت اسرائيل تفتقر الى جيش يحميها، اذ لم يكن لديها سوى خمسين فارسا" خيالا"، وعشر عربات مع عشرة آلاف من المشاة، ومردّ ذلك يعود الى تلك الغارات المتلاحقة، التي كان يشنها ملك دمشق عليها، التي اردت في نهاية المطاف الى تحطيم الإسرائيليين والى تمريغ جباههم ذلا" وتحقيرا" 42 . . .

    وبالرغم من توتر العلاقات بين الأشّوريين والآراميين، التي نجمت عن حروب دامية كما رأينا، كادت تطيح بسلطة ((حزائيل)) ، الاّ ان هذا لم يقطع الأمل من اعادة بناع قوته العسكرية  . . .

واذا كان قد تمكن من الوصول الى اعلى درجة من القوة والسلطان 43 ، فما ذلك الاّ بانشغال ((زلما ـ نصّار)) في حروبه مع بعض الاقطار لضمها الى إمبراطورتيه، التي استغلها ((حزائيل)) ايّما استغلال، ليتفرغ الى تقوية مملكته سياسيا" وعسكريا" . . .

   وفي الاعوام 839 و 834 و 832 ق.م. ، خاض زلما ـ نصّار حروبا" طاحنة ضد بعض الاقطار والبلدان الواقعة الى الشرق والشمال منها: (( زاغروس)) و ((نايري)) و (أورا)) (اورارتو أو أرارات). وفي الغرب غزا اكثر من مرة منطقة ((كيليكيا))، كما خاض معارك ضارية ضد امراء بلاد ((الطابال)) في شمال جبال طوروس وضد ((لالاّ)) ملم أمارة ميليد (مالاطيا)، وذلك في العامين 836 و 835 ق.م.

    وفي عام 830 ق.م. انفجرت ثورة في بلاد ((خطّان)) ضد ملكها ((لوبارنا))، الذي كان فيما سبق تابعا" وفيا" لأشّور، ونتيجتها اطيح بالملك ((لوبارنا)) واستبدل بآخر اسمه ((شورّي))، عندئذ تدخل الجيش الأشّوري، وحكم بالموت على مغتصب السلطة، اما اولاده وأعوانه واتباعه فقد جرى اعدامهم، (عن طريق الخازوق)، وبعدئذ نصّب زلما ـ نصّار على العرش ملكا" آراميا" آخر موال اسمه ((شاشي)). ومنذئذ صار يرد اسم هذه الدولة في الوثائق تحت الاسم السامي ((آمك)) أو ((آسكي)).

    وفي نهاية عهد الملك ((زلما ـ نصّار)) عام 827 ق.م. انفجر عصيان عنيف، اتخذ طابع الثورة في بلاد أشّور بالذات. تحت قيادة أشّور ـ دانين ـ بال احد ابناء الملك المقربين، وانتهى هذا العصيان بإجبار زلما ـ نصّار على مغادرة البلاد واللجوء الى مدينة ((كلخ)) (=نمرود ـ المراجع المدقق ـ)، وسقطت في قبضة المتمردين المدن التالية: (نينوى)) و ((أشور)) و((أربيل)).

وفي عام 821 ق.م. قام ((شمشي ـ حدد)) احد ابناء زلما ـ نصاّر ـ بعصيان انتقاما" لوالده الطاعن بالسن، وذلك بعد ثلاث سنوات من وفاة ((زلما ـ نصّار)) ونجح باستلام السلطة وفي السيطرة على كل بلاد ما بين النهرين.

وأما الملك ((شمشي ـ حدد)) الخامس، الذي امتد عهده من 824 ـ 810 ق.م.، فقد انهمك طيلة عهده في حروب وصراعات ضد كل من ((النايري)) و ((الميديين)) و ((بابل)).

  وبعد وفاته خلفه على العرش ابنه ((حدد نيراني)) الثالث، ولعدة سنوات خلت، مارست ام هذا الملك الوصاية على العرش، واسمها: ((شمّور أمات)) (او سميراميس ـ حسب هيرودوت ـ)، التي كان غليها ان تتصدى لغزوات الميديين ( من الهضبة الايرانية ـ المراجع المدقق ـ) والمانيين (من الشمال الشرقي ـ المراجع المدقق) طيلة الاعوام 809 و 807 و 806 ق.م، كما كان عليها في نفس الوقت ان تقوم بقمع ثورة انفجرت في عام 808 ق.م. في ((جوزانا)) الواقعة على نهر الخابور.

 وطيلة هذه السنوات وخاصة من عام 827 الى عام 826 ق.م.، استكانت الامبراطورية الأشّورية الى الضعف، بشكل لم تعد معه تقلق سكان سورية كالسابق. لكن ماذا يتوقع ان يحدث من تطورات في الدول الآرامية، في تلك الفترة؟.

***

  ومن حسن الحظ ، ان ما توصلنا الى معرفته عن مملكة ((سمأل))، مكننا من الحصول على معلومات هامة منها: ان الملك ((زلما ـ نصّار))، الثالث، تلقى الجزية من ملكها ((خاياني)) 44 ، المنحدر بدون شك من اصل آرامي، وان هذا الملك الآرامي، اعتلى عرش ((سمأل)) بعد سلفه ((باماخ))، الذي ورثه عن سلفه ((جبّار)) ، مؤسس هذه السلالة المالكة، التي يرجح انها تسلمت السلطة منذ القرن العاشر قبل الميلاد.

  وفي النقوش المتكشفة، التي سنتعرض لها، عثر على كل من الاسمين ((خايا)) و ((خاي)) وربما كانا اختصارا" لاسم ((خاياني)) المشهور. ومن بين الذين تعاقبوا على الحكم من هذه السلالة الملك ((شائيل)) وخلفه ((كيلاموا)، وكلاهما من ابناء ((خاياني)).

  وقد ترك لنا ((كيلاموا)) هذا اثرين، احدهما عبارة عن مشد من ذهب 45 نقشت عليه كتابة موجزة باللغة الآرامية، واهميته تكمن في كونه ديني الطابع. أما الآخر فهو عبارة عن نصب تذكاري وجد في القصر الملكي 46، حفرت عليه كتابة باللغة الفينيقية، وهذا النقش يعتبر من الوثائق الهامة والمعتمدة، وفيه يعتز الملك بملكه ويفخر به بأسلوب ايقاعي النغمة . . . فهو والملك صنوان، وهاكم ما ورد فيها:

 

1

أنا كيلاموا بن ((خايا)).

و((جبّار)) المؤسس، عندما تسلم عرش يؤودي لم يغير شيئا" من واقع المملكة وبعده ((ماباخ)) لم يكن أكثر عطاء وكذا الأمر بالنسبة لوالدي ((خايا)).

 واخي ((شائيل)) شأنه في ذلك شأن من سبقه. أما أنا ((كيلاموا)) بن ((تامّاتيّ)) 47

 فان ما انجزته وفعلته عجز عنه الملوك السابقون.

حتى انه عندما اقدم بعض الملوك الاقوياء  الطغاة ممن يطمعون بالمملكة، وطوقوا القصر الملكي، اكتووا بناري واحترقوا جزاء.

لأنه: كل من يلعب بالنار سيكوى بها ويحترق.

وحين تفوّق علي ملك ((الدانونيان)) طلبت النجدة من ملك ((أشّور)) وارغمته على ان يفدي، الخروف المغتصب بامرأة شابة واكساء المسلوب برجل شاب 48

2

 أنا ((كيلاموا)) بن ((خايا))

 لقد تربعت على عرش والدي في حفل حضره الملوك السابقون، حيث كان ((الموشكاب))    يتسكعون كالكلاب 49 .  

أما أنا، فكنت بمثابة الأب بالنسبة لذا، والأم بالنسبة لذاك، والأخ بالنسبة للآخر!

ومن لم يكن يملك رأس بقر، اورثته قطيعا" من كبار الماشية، مع كمية من الفضة والذهب. ومن كان محروما" من لبس الجلباب في شبابه، البسته في عهدي، البزّ!، لقد جعلت ((الموشكاب)) تحت رحمتي، منصاعين، شأنهم شأن اليتيم بالنسبة لامه !

 واذا ما خلفني على العرش، احد ابنائي، وحاول الخروج على هذه المبادئ، كأن يتلف النقوش التي تحتويها سوف تدب الفوضى الاجتماعية، ويخرج الموشكاب على طاعة البعير وهؤلاء سيحقدون على ((الموشكاب))!

 مع هذه الفوضى، اذا ما اقدم احد على تحطيم هذا النصب، فان بعمله هذا، يكون قد اساء الى كل من: بعل سيميد 50، اله ((جبّار)) وبعل خامان اله ((باماخ)) ومن ركيب ايل 51 اله الاسرة المالكة 52

  والآن فاذا ما قمنا بدراسة هاتين المقطوعتين المنقوشتين على النصب المار ذكره وتحليلهما، نجد ان الاولى تبين باقتضاب سياسة الملك الخارجية، والثانية تشرح سياسته الداخلية ، وما يتعلق بالسياسة الخارجية ومنهجها. وأن الملك ((كيلاموا))، حين يتعرض لذكر الملوك الاقوياء أو الطغاة الذين يحاصرون عاصمته، انما يقصد بهم جيرانه المباشرين مهم: ملك مملكة ((بيت آجوشي)) الواقعة على الحدود الشرقية، وملك مملكة ((خطّان)) (أو آمق) الى الجنوب منها وملك مملكة ((كيليكيا)) الى الغرب منها.

  ولاشك في ان اطماع ملك مملكة ((يؤودي)) الجديد، كانت تثير قلق هؤلاء الملوك، وتدفعهم بالتالي الى شن الحروب عليه. لكن ((كيلاموا))، كان يتصدى اليهم بقوة مهددا" بقوله:

 ((كل من يلعب بالنار سيكوى بها ويحترق)) 53

  ومهما يكن من امر، فان احد هؤلاء الملوك الجوار، الموصوف بقسوته وقدرته، هو بلا شك ملك ((الدانونيين)). وهناك نقش آخر تم اكتشافه حديثا" في ((قراتبة)) من اعمال كيليكيا الشرقية، ويظهر بوضوح، ان هذا النقش يعود تاريخه الى القرن الثامن قبل الميلاد، وقد امر بوضعه الملك ((آزينا وادّا)) ملك ((الدانونيين)) 54 ، وتشير الكتابة المنقوشة عليه، ان سلطته كانت تشمل كل سهول اضنة 54 ، في حين ان ملك الدانونيين المشار اليه بالتأكيد ملك ((كيليكيا)) ، الذي عاصر الملك ((كيلاموا)) . وحين باشر في نشر قواته نحو الشرق اهتز عرش مملكة ((سمأل)) خوفا" من اجتياحها. لذلك وامام هذا الخطر، سارع ((كيلاموا)) الى طلب النجدة من ملم أشّور، حسبما ورد في النص المنقوش. وبهذا الموقف فانه يجعل من نفسه، ضمنا"، احد اتباع ملك ((أِشور))، وهو نفس الموقف السابق، الذي اتصف به والده الملك ((خايا)).

لقد مر معنا سابقا"، ان ((زلما ـ نصّار)) الثالث، قام بغزو ((كيليكيا)) في الاعوام 839 و 834 و 832 ق.م. ويبدو واضحا" ان النقوش التي تركها لنا ((كيلاموا)) تلمح الى تلك الغزوات، دونما تفصيل، ومما يرد فيها: عندما حاصرت الجيوش الأشّورية قوات الدانونيين، توجب على هذه ان تخفف من ضغوطها المتواصلة على مملكة ((سمأل))، ورغم ان الملك ((كيلاموا))، كان كما رأينا تابعا" ل ((أشّور))، فانه استطاع الحصول على غنائم ثمينة من اعدائه الدانونيين مع كثير من الرقيق والسبايا من النسوة الشابات تعويضا" له عما خسره.

  ان هذا التلميح لحربه مع الدانونيين، يسمح لنا بتأريخ المرحلة التي حكم فيها ((كيلاموا))، ويؤكد انها تعود الى النصف الثاني من القرن التاسع قبل الميلاد. ومما لا شك فيه ان حكمه قد امتد الى ما بعد موت ((زلما ـ نصّار)) الثالث.

  وعلى كل فأننا لم نجد في نقوش ((كيلاموا)) أي ذكر لتبعيته للملك الأشّوري، الاّ تلميحا"، وفي ذلك يختلف كثيرا" عن تبعيته من خلفه من الملوك الى أشّور. وهكذا وعلى سبيل المثال لا الحصر، للدلالة على ذلك، فان الملك ((بار ركيب (ريكوب) ))، الذي يتزامن عهده مع عهد الملك الأشّوري ((تيغلات بيلزر)) الثالث، رغم اعترافه بتبعيته تلك، الاّ انه كان يستخدم في معرض حديثه عن الملك الأشّوري، عبارات خفيفة، يوحي بها بوجود نوع من المساوة فيما بينهما، أو يقصد منها الكشف عن وجود استقلالية ما له عن ملك أشور، وما ذلك الاّ بسبب الضغط، الذي بدأ يحل بهذه الامبراطورية الكبيرة بدءا" من عام 827 ق.م.

   وتحت هذه الظروف تمتعت مملكة سمأل بالرخاء ونالت شهرة واسعة. . . وفي هذا الصدد يقول ((كيلاموا)) مفتخرا: ما انجزته عجز عنه من سبقني من الملوك. واذا كان ما قاله ((كيلاموا)) يشتم منه الاعتداد والتبجح، واذا كان عهده يتميز بالازدهار والتقدم . . . فان ثمة اسئلة تطرح نفسها، هي:

  هل انقضى البؤس مع الفقر في عهده؟ وهل كان الفلاحون يمتلكون قطعان الماشية بالإضافة الى الذهب والفضة؟ وان حالة الرفاه والغنى هذه قد جعلت المواطنين قادرين على استبدال الالبسة الرثة بالألبسة الفاخرة، كالبزّ والمعاطف الجيدة الصنع؟ وهل كان عدل الملوك من المستوى، الذي جعله فغلا" يمثل الأب والأخ والأم لكل مواطن بنظر الشارع، فيتلهف اليه احتراما" وينحني أمامه كما يفعل الطفل اليتيم امام والدته؟.

   واذا كان المقصود من النص الملكي السابق اشعار الجميع، ان الرخاء والرفاه كانا يعمّان كل الفئات الاجتماعية، بما فيها طبقة ((الموشكاب)) الفقيرة، وهما من عوامل الاستقرار، فانه ايضا"  يوحي لنا، ان مملكة ((سمأل)) هي على العموم بلد زراعي 55 . ولكن كل ما عناه، لم يمكنه من اخفاء ذلك الصراع المرير القائم بين طبقتي المجتمع، طبقة ((الموشكاب)) الممثلة للفلاحين والفقراء، وطبقة ((البعرير)) ممثلة الفئات الغنية والمسيطرة. ولكن هذا الصراع لم يؤثر على الاستقرار الاجتماعي والسياسي في عهده، ومرد ذلك يعود الى وجود نوع من التحالف بين الطبقتين. فنجم عنه وقوع صدمات حادة بينهما، بتحريض من احد ورثته. وهذا ما تؤكده الشتائم، التي كان يكيلها ((كيلاموا)) على من سيخلفه، في حال اقدامه على اتلاف النقوش المذكورة. كل ذلك ادى الى ظهور انقسام بين الطبقتين، تبعه تحكم ((البعرير)) بمقاليد البلاد وقيادة الدولة غنوة، حتى سميت الطبقة الفظة والمتسلطة 56 . ولا غرو، فان كلمة ((بعرير)) تعني في اللغة السريانية مفترس وفظ. وبالحقيقة فان اصلهم من الغزاة الاراميين القساة، جاؤوا قديما" من الصحراء، وبعد احتلال المنطقة اصبحوا سيادا". ورغم قوة السلطة المركزية في عهد ((كيلاموا)) فان الصراع الخفي فيما بين الطبقتين ظهرا" واضحا. ويشبه الى حد كبير ذلك الصراع، الذي استمر لعدة قرون بين الاسرائيليين المغتصبين لفلسطين وبين اهلها الكنعانيين.

واذا كانت طبقة البعرير المتسلطة متميزة بقدرتها، مما جعلها مؤهلة لقيادة البلد، فان طبقة ((الموشكاب)) تعتبر ضمنا" سيدة البلد، وطالما تؤمن بهذا الحق، فأنها كانت دوما" تناضل ضد طبقة البعرير الدخيلة. وفي هذا الوضع المقلق، كانت سياسة ((كيلاموا)) ترمي على الصعيد الداخلي الى سد حاجات المواطنين ومنح التجاوزات والتخفيف من غطرسة طبقة النبلاء الآرامية (البعرير). . . وهكذا فان تحقيق العدالة برغم تلك الظروف أمر جدير بالملاحظة والاهتمام.

  لقد امدّتنا النقوش المكتشفة، التي نقلت لنا افكار ((كيلاموا)) وتصوراته، ببعض المعلومات عن التركيب الاجتماعي والسياسي في مملكة ((سمأل)) وعن اهم الشروط الاجتماعية، التي توفرت لدى بقية الدويلات الآرامية، وساهمت ايضا" في نموها واستقرارها.

  لقد تم اكتشاف نقش آخر 57 عائد ل ((زاكير))، ملك حماه و ((لعج))، يبين بوضوح العلاقات السياسية، التي كانت قائمة بين مختلف الممالك الآرامية الموزعة في سورية. ان النقش المذكور كانت الكتابة فيه محررة باللغة الآرامية، ومنحوتة على مسلة عثر عليها في ((آفيس))، التي تقع على بعد أربعين كيلومترا" من مدينة حلب الى الجنوب الغربي منها 58، وكان أعلى المسلة مزينا" ببعض النقيشات، التي امّحى معظمها بفعل العوامل الطبيعية وغيرها، غير ان الكتابات المنحوتة في قاعدة المسلة بقيت بارزة وواضحة، وتشمل الجزء الأكبر من مجمل الكتابة اياها، وفيما يلي ترجمتها شبه الحرفية:

     هذه المسلة، نصبها زاكير، ملك حماه ولعج، على شرف الب إيلو - وير 59. انا زاكير، ملك حماه واعج، لست الاّ رجلا" متواضعا" مؤمنا"، ان ما نفذته هو امتثال لطلب الاله بعل ـ شاميين 60، الذي وهبني القوة وآزرني في السيطرة على هازريك، أمّا بار ـ حدد بن حزائيل ملك آرام، فقد كتل ضدي ستة عشر (؟) ملكا" 61 وهم:

          ـ بار ـ حدد وجيشه.

          ـ بار ـ جوش وجيشه.

          ـ ملك الكي وجيشه.

          ـ ملك الآمك وجيشه.

          ـ ملك الجور وجو وجيشه.

         ـ ملك سمأل وجيشه.

          ـ ملك ميلبز وجيشه.

          ـ ملك ـ ؟ وجيشه.

          ـ ملك ـ ؟ وجيشه.

         و سبعة ملوك آخرين مع جيوشهم.

    كل هؤلاء الملوك، مع قواتهم المتحالفة . . . احكموا الحصار على مدينة ((حازريك)) وبنوا سورا" خارج المدينة يفوق السور القديم علوا"..

وحفروا خندقا محيطا بها، أكثر عمقا من الخندق القديم عندئذ رفعت يدي بالدعاء صوب الاله بعل شاميين، ملتمسا منه انقاذي فاستجاب على الفور. وابلغني عن طريق الكهنة وغيرهم من الرموز (؟) 62:  لا تخشى احدا!  لانك اعتليت العرش بارادتي   ومشيئتي قضت ايضا، بإنقاذك من كل هؤلاء الملوك الذين خاصموك طمعا في ملكك.

   انه يود ان يروي في هذا النص قصة التحرير او الخلاص العجيب، لكن مع الاشارة، ان تفاصيلها ما زالت ناقصة، لأن النص اقتصر على وصف التحصينات والقلاع وامدن في كل انحاء منطقة ((خازريك)) وفي الخاتمة ينصح بعدم القيام بأي عمل من شأنه يؤدي الى محو الكتابة ، ويوجه اشد اللعنات الى كل من سيقدم على محوها الكتابة ، ويوجه أو على ازالة المسلة أو نقلها.

والآن ما هو اصل الملك ((زاكير))؟ . لاشك في ان اسمه السامي، يكشف لنا عن اصله الآرامي 63 ، وهو كذلك من مغتصبي السلطة والحكم، شأنه كل من ((حزائيل)) ملك دمشق و((ياهو)) ملك اسرائيل. واذا كان يشر اليها بوضوح نسبه، عندما وصف نفسه بقوله: انه رجل متواضع . . . فانه لم يقصد من ذلك تعظيم الاله كي ينصره على اعدائه فحسب، انما يريد ان يلمح في نفس الوقت الى انه كريم المتحد، وسلطته تشمل مملكتي ((حماه))و((لعج)). و((لعج)) هذه، هي مقاطعة معروفة تقع بين ((حماه)) و((حلب)) 64. أما مدينة ((خازريك)) التي يرد ذكرها في النقش، التي وهبه اياها الرب ((شامايين))، على حد قوله، فهي بالتأكيد عاصمة مملكة ((لعج))، التي ورد اسمها اكثر من مرة في النصوص المسمارية تحت اسم ((خاطاريكا)) 65، لكن موقعها غير معين على وجه الدقة، ولابد ان تكون غير بعيدة عن مدينة ((آفيس))، التي اكتشفت فيها المسلة المشهورة، وتقع شمال ((حماه)) 66.

  وهكذا. . . فان ((زاكير)) بعد ان اغتصب عرش ((حماه))، احتل بلاد ((لعج)) المجاورة لها. وقي عاصمتها ((خازريك)) نصب نفسه ملكا على ((حماه)) و((معج)) معا. وهنا لابد من القول ان توسع نفوذه نحو الشمال، غيّر من موازين القوى فيما بين مجموعة الدول الآرامية السورية، التي انتابها القلق والخوف، من ان يجتاحها بعد تنامي قوته، ليضمها الى مملكته، مما دفعها للسعي الى عقد حلف دفاعي فيما بينها، لإيقاف مطامع ((زاكير)) عنج حدها. ونشير هنا الى الدولة الحثية الجديدة الناشئة، كانت عضوا" هاما" في ذلك الحلف.

    لقد افترضنا ان الملك ((زاكير)) مغتصب السلطة، كان صنيعة ملك أشّور، ومع ذلك فانه عندما تصدى له للتخلص من نفوذه، عارضته الدول الآرامية المتحالفة معه، لأنها لم تطمئن لسياسته هذه، بسبب اطماعه في التوسع على حسابها. لكن والحق يقال، فان موقفها المعادي ل((زاكير)) يهدف الى ضرب نفوذه في المنطقة، والى الابقاء على سياسة التوازن فيما بين دولها.

  ان ملك آرام (ملك دمشق)، كان زعيم التحالف المشار اليه، وهو بلا شك ((بار ـ حدد)) بن ((حزائيل))، الذي كان يرد اسمه في النصوص اختصارا" بن حدد بن حزائيل، وورد اسمه في العهد القديم: بن هدد الثالث. ومما تجدر ملاحظته اننا نجهل تاريخ وفاه ((حزائيل)، وكذلك تاريخ تسلّم ((بن حدد)) العرش. ولكننا من تتبع الاحداث نتوقع ان ((ابن حدد)) هذا اعتلى العرش في عهد ملك اسرائيل ((يهواحاز)) (814 ـ 798 ق.م.). وان عهد كان متزامنا" مع عهد ((يهواش)) 798ـ 783 ق.م. خليفة ((يهو اماز)9. وتبعا" لذلك فان مجمل الاحداث المدونة في نقوش ((زاكير)) يعود تاريخها الى ما قبل عام 805 ق.م. بقليل، وهو التاريخ، الذي جرت فيه الحرب ضد سورية، بقيادة ((حدد نيراني)) الثالث. وخلال فترة تقدر بعشرين سنة تقريبا"، بدأت الامبراطورية الاشورية بالانهيار، مما سمح للممالك والأمارات الآرامية فيما وراء نهر الفرات، بالتخلص تدريجيا" من نفوذ((أشّور))، كم شجعها ذلك على العصيان والثورة. وقد تم لها ما هدفت اليه مثل تحقيق استقلالها وتسييس شؤونها الداخلية وفق انظمتها وفق انظمتها الخاصة وأعرافها.

  ان النقوش المحفورة على مسلة ((زاكير)) لم يمكننا كما يجب من معرفة اسماء الدول المتحالفة بشكل جليّ، لأن العوامل اللاحقة من طبيعة وغيرها، كانت سببا" في طمس اسمين اثنين منها داخل فجوة في المسلة. أما الدول السبع الأخرى، المذكورة اسماؤها، فليست ذات شأن. ورغم صعوبة قراءة اسماءها، فان الوصول الى معرفتها، يساعد على اكتشاف الكثير من الحقائق التاريخية: ان ملك ((آرام))، كان يمثل قطعا" قوة الآراميين الضاربة في ذلك الوقت، وان الانتصارات، التي حققها ((زاكير)) ملك ((حماه)) و((لعج)) اقلقته والقوى القائمة في المنطقة، التي اعتبرته خطرا" عليها.

   ويمكن ان نذكر بهذا الصدد: ((بارجوشي)) ملك مملكة ((بيت آجوشي))، خاصة وان عاصمتها ((آرباد)) قريبة من حدود مملكة ((لعج))، لذلك لا ندهش من احساسها اكثر من غيرها، بالخطر المحدق بها، الناجم عن زحف قوات زاكير نحو الشمال، وفي نفس الوقت، فان الممالك المنتشرة في منطقة ((كيليكيا)) في الشمال، اصابها ايضا الذعر والخوف وهي ((آمق)) و((جورجوم)) و((سمأل)) و((ملاطيا)) (ميليز) 67. واخيرا" مملكة ((كومّاجين)) الواقعة في اقصى الشمال.

    ولكل ما سلف ذكره ، باشر الملوك المتحالفون في مهاجمة ((زاكير)) في عقر مملكته قبل ان يبدأ بهم، على حد زعمهم، ونجحوا في سلخ عاصمته الثانية ((خازريك))، وفي احتلال بلاد ((لعج)) الهامة فيما بعد.

     لقد كانت مدينة ((خازريك)) محصنة تحميها الاسوار المنيعة مع وجود خنادق حولها لمنع الاعداء من اقتحامها. ومع ذلك فان المهاجمين بعد ان عزلوها، اقاموا حولها تحصينات أخرى أكثر مناعة وتقنية منها: انهم اقاموا حولها اسوارا" أخرى أكثر ارتفاعا" من اسوارها القديمة، كما حفروا حولها خنادق أكثر احكاما"، كل ذلك بهدف دب الرعب في المدينة المحاصرة، وليشهل عليهم احتلالها.

    وامام هذا الموقف الصعب والمخيف، احس ((زاكير)) بالضعف والوهن، الاّ ان لبه استجاب لدعائه وانقذه من براثن اعدائه، وفق ما تذكره النصوص، وليتنا نعرف بالتأكيد وعلى وجه الدقة، تحت أي ظرف فك ((بار حدد)) وحلفاؤه الحصار عنها، ربما كان ذلك بمؤازرة الشّوريين، الأمر الذي يسمح لنا بتحديد تاريخ تلك الأحداث، بمعنى انها قد جرت قبل عام 805 ق.م.

الفصل الرابع


1- Luck, I, §, 355 SS.

2- نفس المرجع الاخير، فقرة: 405

3-  نفس المرجع الاخير، فقرة: 502

4- الملوك الأول، الاصحاح الخامس عشر:19

5- الملوك الأول، الاصحاح الخامس عشر:20

6- الملوك الأول، الاصحاح الخامس عشر:16- 22 .

7- اكتشفت في مكان اسمه "بريخ" يبعد سبعة كم عن حلب، وقد نشر (دونان) مذكوة عن هذه المسلة وقدمها إلى ادارة متحف بيروت عام 1941م.

8- بار-حدد يقابلها بالعربية " بن حدد"

9- في النفس المشار اليه وجدت العبارة: " طاب ريمّون بن حزيون" قليلاً، لكن القارئ يسهل عليه الكتشافها.

10- الملوك الأول، الاصحاح  العشرون:34.

11- الملوك الأول، الاصحاح  العشرون:1-21.

12- قد تكون "آفيك" أو "فيك" المسماة حالياً الافك الوامعة في شرق الاردن ألى الشمال من بحيرة طبريا. ( اعتقد انها مدينة فيق- المدقق).

13- الملوك الأول، الاصحاح  العشرون:22-34.

14- حالياً تسمى " ملاطيا" الواقعة في اعالي الفرات.

15- مملكة " بيت جبارى" هي "سمأل"، وسميت كذلك لانها منسوبة إلى مؤسسها "جبّار" جد الاسرة الحاكمة فيها، كل ذلك يفهم من نصب تذكاري خاص بالملك " كيلاموا "

16- المقصود هنا " حدد اله حلب " ( المراجع والمدقق).

17- حالياً تسمى " عرقا " وتقع إلى الشمال من مدينة طرابلس.

18- يقول المؤلف في الهامش رقم ( 11) من كتابه، ان المقصود هنا " سلسلة جبال لبنان الشرقية "، في حين اني ارى ان المقصود بها فعلاً كما هو وارد جبل عمّان (المراجع-المدقق).

19- Luck, I, §, 610 - 611.

20-  الملوك الأول، الاصحاح الثاني والعشرون: 1.

21- من المحتمل ان تكون مندمجة مع مدينة " الحصن "، التي تبعد 25 كم تقريباً عن مدينة درعا، إلى الجنوب الغربي منها.

22- الملوك الأول، الاصحاح  الثاني والعشرون:2-38.

23- تقريباً بين الاعوام 848- 845ق.م. وثمة تشير اليها بجلاء.

24- الملوك الأول، الاصحاح  الخامس.

25- حالياً تسمى " تل دوتان " الواقعشمال مدينة الناصرة على بعد 22 كم منها.

26- سفر الملوك الثاني، الاصحاح السادس: 8- 23.

27- سفر الملوك الثاني، الاصحاح السادس: 24 وما بعدها والسابع: 20 وما بعدها.

28- سفر الملوك الثاني، الاصحاح التاسع: 14.

29- من الصعب تأريخ الاحداث، التي وقعت في عهد " حزائيل " لكن بالاتنتاج نجدها تقع في الاعوم من 845- 843 ق.م.

30- سفر الملوك الثاني، الاصحاح الثامن: 7- 18.

31- سفر الملوك الثاني، الاصحاح الثامن: 15.

32- سفر الملوك الثاني، الاصحاحالثامن: 12.

33- سفر الملوك الثاني، الاصحاحان التاسع والعاشر:27 .

34- Luck, I, §, 672

35- قمة جبل حرمون، الواقع في الطرف الجنوبي لسلسلة لبنان الشرقية.

36- ويسمى " بعل رش " أو " بعل دوكاب " بالقرب من نهر الكلب بين بيروت وجبيل.

37- نشير هنا ان التسمية " بيت خمرى" عدلت لتصبح " بيت عمرى" وكلاهما يعني اسرئيل.

38- Luck, I, §, 578

39- سفر الملوك الثاني، الاصحاح الثاني عشر: 32- 33.

40- سفر الملوك الثاني، الاصحاح الثاني عشر: 17- 18.

41- طبيعي ألاّ كتاب التوراة إلى هذه الفترة، لتي كان فيها العبريون والاسرائيليون، ، في ادنى مستوى لهم من القوة والتنظيم، لان ذلك ليس في مصلحتهم. ولهذا أ}كد مرة اخرى، على ضرورة عدم الاخذ بما جاء في التوراة إلاّ اذا اكدته المصار الاخرى ( المراجع - المدقق).

42- سفر الملوك الثاني، الاصحاح الثالث عشر:7.

43- يمن التعرف بدقة على ثروته... وما كان يحوي قصره من نفائس، من القطع العاجية المنحوتة، التي عثر عليها مؤخلراً في " ارسلان طاش " التي كانت تسمى في القديم مدينة " خداتو" . وهي الآن قريبة من مدينة " تل برسيب" في شمال سوريا. ونجد ايضاً في احدى تلك القطع العاجية المكتشفة اسم " مولانا حزائيل "، الذي يرجع ان يكون ملك دمشق. ومما لا شك فيه، ان القطع العاجية المذكورة، قد نقلت من مدينة " ارسلان طاش" إلى قصر الملك الاشوري مع كثير من الغنائم التي نقلها معه من دمشق الملك الاشوري حدد نيراري الثالث.

44- في غزوة سابقة قام بها " زلما-نصّار" عام 858 ق.م.، وهو نفس الملك الذي ذكر بين الملوك من دافعي الجزية: Luck، الجزء الاول، نفس كتابه الانف الذكر، الفقرة : 599- 600.

45- هذه الوثيقة نشرت في Ausgrabungen in Sendschirli, V, Berlin, 1943, s. 102

مع تعلق عليها في  Reveu de I Histoire des Religions, t. CXXXIII (1947 -1948), P. 19-33.
46- نشرت هذه الوثيقة عام 1911، وافضل الدراسات حولها، قام بها .Lidz barski

47- تاماتي: اسم والدته، احدى زوجات الملك " خايا ".

48- اشارة إلى الخراف والاليسة التي اغتضبها منه الدانونيون.

49- انه يرمز هنا إلى وجود ازمة غذائية في عهده.

50- انظر في الكتاب ص: 179، رقم 17.

51- مايتعلق بهذا الاله، انظر ص: 177 وما بعدها، حيث اهداء " كيلاموا " مشداً من الذهب عليه كتابة آرامية.

52- ان بعل سيميد وبعل خامان: الهان لحماية اول ملكين من ملوك سمأل، ويظهر ان ريكيب ايل اصبح الاله الحامي للاسرة المالكة، بدءاً من عهد الملك " خايا "

53- وهو نفس المعنى في المثل الفرنسي «Q Qui sy trötte sy pique» ويقابله بالعربية : " ولابد دون الشهد من ابر النحل" (المعرب).

54-حول هذا النقش المكتشف من قبل الباحث  H. Bossert في:

Comptes rendus des séänces de LAcademiedes Inscriptions... 1948.

وانظر تعليقاتنا المنشورة في العددين 13 شباط و 3 كانون الاول، كما ظهرت دراسات حولها سابقاً.

55- ان الاسم " الموشكاب" يمكن ان يكون من اصل "عبري"، الذي يعني الكائن المتستر (المختفي)، وبذلك يصبح معنى " الموشكاب" المتسترون، وقد تكون التسمية من اصل " سامي".

56- يفابلها باللاتينية " فيروكس".

57-اكتشفه: هـ. بونيو،(H. Pegnon) ونشره مع مجموعه من الكتابات السامية المكتشفة في مجلد Inscriptions sémiti ques de la Syrie, de la Méso-potamie et de la region de Mossoul (Paris, 1908),P.. 156 -178. .M. Lidzbarski, P.1-11

وراجعها فيما بعد

58- هذه المسلة محفوظة الآن في متحف اللوفر في باريس، ومن المرجح ان تكون قد اكتشفت في مكانها الاصلي، الذي نصبت فيه.

59-"وير" أو "مير" من اسماء الرب حدد.

60- فيما يتعلق بهذا الرب انظر الصفحة 183 وما بعدها، انه بالتحديد "حدد" وبالنتيجة الرب "وير"

61- النص المتعلق بيسلسل الملوك، وجد فيه فجوات من المسلة، بحيث امحى معظمه، ولذلك فان الرقم / 16/ غير متأكد من صحته.

62- علامة استفهام تدل على وجود اسماء مكان النقاط ممحوة أو غير واضحة، لذلك جرى التنوبه، ( المعرب).

63- على العموم، يمكن ان يكون كنعانياً، رغم تحرير كتاباته بالآرامية، اذا وجدت الكنعانية فمرد ذلك إلى ان الذين كتوها او نسخوها هم من اصل فينيقي.

64- هذه هي " نوخاشّي" في احدى الرسائل التي عثر عليها في تل العمارنة.

65- سماها العهد القدية " حدراخ"، زكريا، الاصحاح التاسع: 1. (ورد في الاصل الفرنشي للكتاببدلاً من ذلك الاصحاح العاشر: 1 خطاً ( المدقق)

66- وضع هذه الملاحظة السيد    M. Noth   في Zeitschriftdes DeutschenPaläs-E. Ellinger

    وقد وافق على صحتها tina. Verein, t. Lll (1929). P. 121 141,

Festschrift Otto Eissteldt: (Halle, 1947), P. 87 s. في

67- في الاشورية تسمى "ميليد" اما حالياً فتسمى " ملاطيا"

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها