عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

الفصل الثاني

 نشوء الممالك الآرامية

 )بين القرنين الحادي عشر والعاشر قبل الميلاد)

تأليف

أ. دوبون سومر

ان التصدي المانع ، الذي جابه به ((تيغلات ـ بيلزر)) الأول غزوات الآراميين المتكررة، لم ينجح الاّ لبعض الوقت في احتواء الضغط الناجح عن هذه الغزوات. ومنذ ان تولى السلطة خلفه الثاني، ابنه ((أشوّر ـ بيل ـ كالي)) الأول (1087 ـ 1070 ق. م)، اخذ يتفاقم الخطر الناتج عن هذه الغزوات. التي شنها الآراميون على حدود بلاده في عهده. وهذا ما تؤكده الكتابات المحفورة على مسلة، منقوصة تم اكتشافها مؤخرا" ، تفيد ان هذا العاهل الأشّوري سجل الكثير من الحملات العسكرية ضد الآراميين{1} .

    لقد تمركز هؤلاء الآراميون بالقوة على ضفتي المنعطف الكبير لنهر الفرات، وانشأوا مملكة ((بيت آديني)) وعاصمتها ((تل برسيب)) ويتبعها عدد من المدن الهامة المنتشرة شرقا حتى نهر ((البليخ)) {2} .

وهناك نص وثائقي يعود اعهد ((زلما ـ نصّار)) الثالث يرد فيه ما يلي : ابّان عهد أشّور ـ رابي الثاني (1009 ـ 990 ق. م. تقريبا) استولى ملك الآراميين على مدينة ((بيترو)) الواقعة على مصب نهر ((الساجور)) الى الاسفل قليلا" من ((كركميش))، وعلى مدينة مولتكينو الواقعة على الضفة اليسرى لنهر الفرات  {3}.

 وفي القرن الحادي عشر قبل الميلاد، بلغ الغزو الآرامي اقصى شدته وحدته في اعالى بلاد ما بين النهرين، ومنذئذ سقطت معظم البلاد في قبضة الغزاة الاشداء. وقد استطاعوا تأسيس عدد من الممالك الآرامية ، اضافة الى مملكة ((بيت آديني)) السابقة، منها اثنتان في وادي البليخ ومعظم الباقي في وادي الخابور واهما: مملكة ((بيت باخياني)) التي اتخذت من مدينة ((جوزانا)) (تل حلف) {4} عاصمة لها ، واحيانا" مدينة ((سيكاني((.

 -  والى الشرق ثلاث منها تقع في اعالي نهر الخابور، هي: ((نصيبين)) و ((خوريزانا)) و ((جيدارا)) . اشرفت على تأسيسها قبائل ال((تومانيا)) الآرامية.

  -    والى اقصى الشرق كانت تتوطد قبائل ال((= عانة) حتى مدينة رابيكو، في حين كانت قبائل ال((لاكي)) الآرامية تستوطن في السهل الواقع الى الجنوب من جبل سنجار. أما قبائل ال ((اوتياني)) الآرامية الأخرى فقد كانت تستقر حول ضفاف نهر دجلة فيما بين اسفل نهر ((الزاب)) ونهر ((الأدهم((.

وهكذا، وبهذا الوضع، اصبحت امبراطورية أشّور مطوقة ومحرومة من أي منفذ للخارج، ومن تعاطي التجارة الخارجية ايضا"، الأمر الذي عرّضها للفقر وللبؤس. الاّ أنها رغم ذلك كانت تحتفظ بجيش قوي ومدرّب، اضافة الى توفر ارادة حازمة، مما جعلها ، عموما"، مستعدة لاقتناص أية فرصة سانحة تمكنها من الانقضاض على خصومها الآراميين الثأر منهم.

وقد سمحت الظروف المؤاتية لتحقيق هذا الحام في مطاع القرن العاشر قبل الميلاد، عندما توقف الغزاة الآراميون عن اقتحام مواقع الأشّوريين، وما ذلك الا بسبب انتقالهم البداوة الى حالة التحضر والاستقرار. وتبع ذلك الانتقال بالإنتاج من حالة الزراعة الى حالة التجارة ... وبعد ان غرقوا بالرفاه والرخاء، نسوا ما يحيط بهم من اخطار... كما تفككت العلاقات بين ممالكهم تدريجيا حتى بدت الواحدة مستقلة عن الأخرى تماما، مما اضعفهم واخلّ بتوازن القوى على الأقل . وبالرغم من ان بعض الممالك قد نجحت في تحقيق الاتحاد فيما بينها... فان جوّ التشاحن والتناحر، الذي كان مسيطرا على العلاقات السائدة فيما بين هذه الممالك، ادّى بها الى الانقسام واتمزق، تبعه ضعف متميز، كان موضع استغلال وكسب ظاهرين من جانب اعدائهم الأشوريين.

        *          *         *

     وامّا في مملكة ((بابل))، فكان الوضع مختلفا تماما ، لأن هذه البلاد ، ولاسيما أعالي ما بين النهريين، كانت تتمتع بهدوء نسبي، بسبب توقف سيل الغزاة الآراميين عنها بدءا" من القرن الحادي عشر قبل الميلاد. ويرجع ذلك على الارجح، الى وحدة النضال المشترك، التي كانت قائمة بين ((أشّور)) و((بابل)) بهدف صد الغزوات الآرامية. ولقد توطدت هذه الوحدة اثر الحلف، الذي تم عقده فيما بين ملك بابل ((مردوك ـ شابيك ـ زر ـ ماتي)) و ((أشّور ـ بيل ـ كالي)) ملك أشّو. ولكن في عام 1083 ق. م.، نحي ملك بابل المذكور عن عرشه، ونصب مكانه ((حدد ـ ابال ـ ادينا))، الذي قيل عنه انه اغتصب السلطة لصالح الآراميين {5} ، وبلفتة سياسية بارعة، بادر ملك أشّور الى الاعتراف بسلطة الملك الجديد، مغتصب السلطة، فورا" . ومن أجل الاعراب له عن حسن نبته، تزوج من ابنته، بعد ان قدم لها مهرا" ثمينا".

   ان ما يقصد به ملك أشّور من سياسته الجديدة، هو السعي قدر الامكان لجعل أراضي بابل امتدادا" حيويا" ل((أشّور))، تستفيد منه في الازمات السياسية، كاستقبال المهاجرين والفارين من وجه الغزاة الآراميين، وتخفيف الضغط عن بلاده.

      وخلال ولاية ملك بابل ((حدد ـ ادّينا)) (1083 ـ 1062 ق.م.)، تمكنت بعض القبائل الآرامية من احتلال مدينة ((دور كوريجالزوا)) الواقعة على نهر دجلة، الى الاسفل قليلا" من بغداد. وبالقرب من مصب نهر دجلة وعلى ضفافه الشرقية ، فان القبائل الآرامية المؤلفة من ((الليتو)) والـ ((خيندالرو)) والـ ((بوقودو)) و((جامبولو)) المعروفة بقسوتها وشدة بأسها، استطاعت احتلال تلك الضفاف بقيادة مشائخها الاشداء.

ونجم عن هذا الضغط تفكك مملكة بابل وانهيار سلطتها. ففي عام 986 ق.م.، أي في عهد الملك البابلي ((نابو ـ موكين ـ بال))، الذي يأتي ترتيبه الثامن في السلالة الحاكمة، نجح الآراميون في احتلال وادي الفرات، قرب مدينة ((كاربلماتاتي))، الذي ظل تحت سيطرتهم مدة تسع سنوات، وبذلك تمكنوا من قطع الاتصال، الذي كان قائما" بين مملكتي ((بابل)) و ((بورسيبا)).

    وأما الى الجنوب من مملكة بابل، حتى شواطئ الخليج العربي، فقد بدأت تتنامى وتقوى القبائل البدوية الكلدانية، انسباء الآراميين وحلفائهم. وهكذا فان حوالي منتصف القرن التاسع قبل الميلاد، اصبحت بلاد الكلدان تتألف من ست دويلات هي:

))لاراك)) و((بيت داحوري)) (أو بيت آديني) و((اموحاني)) و((بيت شيلاني)) و((بيت ياكيني)).

** *

    وأما المنطقة الشمالية من سورية، الواقعة الى الغرب من المنعطف الكبير لنهر الفرات، فأنها كانت مسرحا لعمليات عسكرية مستمرة، تبعتها غارات متفاوتة الشدة، تقوم بها القوات الآرامية على المواقع الحثية. واصطدم الآراميون بمقاولة فعالة من سكان المنطقة الحثيين، الذين بقوا اسيادا" على بعض اجزائها مثل: ((كركميش)). و((حلب)) و((حماه)، بالرغم من انهيار إمبراطورتيهم امام ضربات الآراميين المتواصلة. غير ان النصوص المتوفرة لم تشر الى أية معلومات تذكر عن مقاومتهم، وعن حصيلة المعارك. لكن يرجح سقوط منطقة((آرباد)) و((حلب)) في بداية المعارك، التي اطلق عليها فيما بعد ((بيت آجوشي)) القريبة من ((بيت آديني))، باستثناء ((كركميش))، التي ظلت خاضعة لسلطة الحثيين حتى عهد الملك ((سرجون)) الأشّوري. وفي اقصى الشمال، نجح الآراميون في التسلل الى وادي ((كارازو)) حيث اسسوا في سفوح جبال الامانوس مملكة ((يؤدي)) الصغيرة، التي سموها فيما بعد ((سمأل)) {6} ، وجعلوا مدينة ((زنجيرلي)) عاصمة لها.

   واما في الجنوب فقد خضعت مدينة ((حماه)) مع وادي نهر العاصي الاوسط لسلطة الآراميين وذلك في نهاية القرن الحادي عشر قبل الميلاد.

    والملفت للنظر ان الوثائق، التي في متناولنا، تؤكد تداخل الثقافتين الحثية والآرامية وتمازجهما في تلك الحقبة، مثلا": ورد في نص توراتي {7} ، انه في عهد الملك داؤد كان في حماه ملك اسمه ((توئي)) وله ولد اسمه ((يهورام)) {8} ... ولدى تحليل كل من اسميهما، نجد ان اسم الأب حثي الاصل في حين ان الاسم يهورام هو من اصل سامي {9}. كما ان احدث الحفريات في مدينة ((حماه)) كشفت لنا عن الوجودين الحثي والآرامي في تلك القترة (سندا لعدد لا بأس به من النقوش الآرامية). الاّ أن هذه النقوش، مع الأسف، لم تحدد تاريخ هذين الوجودين، لكن ذلك لا يمنعنا من الاعتقاد انهما يرقيان الى اواخر القرن الحادي عشر قبل الميلاد {10}.

    وبطبيعة الحال، لم يكن بوسع الآراميين، الذين سادوا تلك المنطقة مدة طويلة، ان يطمسوا معالم الحضارة السابقة لوجودهم. يؤكد ذلك بعض النقوش المكتشفة في مدينة حماه، المتضمنة كتابة هيروغليفية حثية، يرجع تاريخها على الاغلب للقرن التاسع قبل الميلاد. وبالرغم من ذلك، فانه يصعب قبول الفرضية القائلة بوجود ملوك حثيين في مدينة ((حماه)) في تلك الفترة، خاصة وان تلك النقوش والكتابات اياها، لم تمدنا البتة بأية معلومات هامة تفيد في دعم هذه الفرضية وتؤكدها، الاّ انها مكنتنا من الوصول الى معرفة نماذج الثقافتين الحثية والآرامية، بدليل استمرار التعامل باللغة الحثية الى جانب استعمال اللغة الآرامية، وفرض الثقافة الحثية على الآراميين المحتلين القساة.

***

   ومهما يكن من أمر، فان الآراميين كانوا منذ القرن الحادي عشر قبل الميلاد، يستوطنون الوادي الأعلى لنهر العاصي ووادي نهر الليطاني وكل جنوب سورية. وهذه حقيقة لا جدال فيها. يدعم صحتها ما يذكره كتاب ((العهد القديم)) عن وجود أمارات آرامية في هذه المناطق متزامن مع عهد كلّ من ((شاؤل)) (حوالي 1044 ـ 1029 ق.م.) و((داؤد)) (حوالي 1029 ـ 974 ق.م.)، وهي:

((آرام صوبا)) و ((آرام بيت ريحوب)) و ((آرام ماكاح)) و((جيشور)) واخيرا" أمارة ((دمشق)).

    وزيارة في الايضاح، فان أمارة ((صوبا)) تقع في سهل البقاع، وتقع أمارة ((بيت ريحوب)) الى الجنوب منها في المحيط الاوسط لنهر الليطاني، وأمارة ((ماكاج)) تشمل بالتأكيد منطقتي ((تل القاضي)) و ((الجولان)). واخيرا" تقع أمارة ((جيشور)) الى الشرق منها بين دمشق ونهر اليرموك.

    ولنتساءل الآن: من اين قدم هؤلاء الآراميون الى هذه المناطق التي استقروا فيها اثر تأسيسهم تلك الامارات؟ أو من شمال سورية؟ أو من بلاد ما بين النهرين؟.

    وفي الحقيقة، ان الوثائق التي في متناولنا، لا تمدنا بأية معلومات تكون بمثابة الجواب المقنع. غير انه يبدو من المؤكد، ان الآراميين حين غزوا جنوب سورية، لم يلقوا اية مقاومة تذكر، بسبب الخصومات الحادة التي كانت قائمة بين سكانه الاصليين (العمورّيون والكنعانيون)، والتي ادت فيما بعد الى تفكك عرى اللحمة، التي كانت تربط بين هذين الشعبين من عهد ((العمارنة)) (عصر اخناتون في مصر ـ المراجع ـ) والى تلاشي مقاومتها بسببها.

وعلى العكس، فان المدن الفينيقة الواقعة على البحر المتوسط غرباً وهي: بيبلوس (جبيل) وصيدا وصور، فكلنت اقوى تنظيماً وتحصيناً، مما مكنها من صد كل الغزوات الآرامية التي شنت عليها، وحال دون تحقيق الآراميين حلمهم بالوصول إلى البحر. وكذا الحال، فانهم فشلو في احتلال فلسطين، بسبب المقاومة الفعالة، التي جابهتهم بها مملكة {اسرائيل} الحديثة التأسيس، حين تمكن من صد غزواتهم المتلاحقة.

    ونشير في هذا الصدد، الى انه في منتصف القرن الحادي عشر قبل الميلاد، تنادت القبائل العبرية لتحقيق الوحدة فيما بينهما، الوحدة فيما بينها، بغية تلافي الاخطار الماثلة امانها، الداخلية منها كالجهل والتجزئة، والخارجية كخطر الغزو الآرامي المحتمل. ولاشك فانه بعد ان تحققت وحدتها، نجحت في تأسيس مملكة قوية، لاسيما بعد ان تربع على عرشها الملك ((شاؤول))، الذي بدأت في عهده الاستعدادات اللازمة، التي كانت تكفي للقضاء على مقاومة الفلسطينيين {11}، ولصد أي عدوان خارجي يحتمل ان يصدر عن كل من ((المؤابين)) و((العمورنيين)) ومملكة ((آدوم)). كما تكفي في نفس الوقت لسحق أي هجوم محتمل من جانب ملك((صوبا)) {12} الآرامي. ولعله من المفيد التوضيح، ان أية مجابهة ضد ملك ((صوبا)) تعني في نفس الوقت، المجابهة مع كل الأمارات الآرامية الأخرى، بسبب تابعيتها له، ورغم انن لا نملك أية معلومات موثقة عن الفرضية، فان استمرار النزاع بين الأمارات الآرامية مجتمعة مع مملكة اسرائيل في عهد الملك ((داؤد)) خليفة الملك ((شاؤول)) يؤكد صحتها.

  ان النزاع المشار اليه، تعود بدايته على ما يظن، الى عهد الملك ((داؤد)) في اعقاب اعلان الحرب على(( العموريين)). فاسرع هؤلاء الى طلب النجدة من الآراميين. وعلى الفور امدتهم أمارتا((بيت ريحوب)) و((صوبا)) بعشرين الفا" من المشاة المقاتلين. وامدهم ملك ((ماكاح)) بألف مقاتل، وامدتهم شعوب ((الطوب)) باثني عشر الف مقاتل.

    ولمجابهة هذا التحالف العموني ـ الآرامي ، حرّك الملك ((داؤد)) كل قوات إسرائيل ازاءهم، تحت قيادة المدعو ((يواب.((

   ودارت بين الجانبين معركة ضاربة حول اسوار مدينة ((ريّاح)) عاصمة العموريين (حاليا عمّان). وفيها اشتبكت القوات العمونية مع القوات الاسرائيلية بالقرب من ابواب المدينة، في حين شنت قوات الآراميين (قوات أمارات ((صوبا)) وريحوب والماكح مع شعوب الطوب) على القوات الاسرائيلية هجمات قوية في أرض مكشوفة، مما اجبر الإسرائيليين للقتال على جبهتين، والى لجوء الاسرائيلي ((يواب)) الى تنفيذ خطة عسكرية محكمة هي: انه قسم جيشه الى قسمين، القسم الاساسي جعله تحت امرته، أما الثاني فوضعه تحت قيادة شقيقه ((ابيشاي)). هو يتكفل بمقارعة الآراميين ومشاغلتهم، بينما يصد شقيقه العمونيين. واصدرت تعليماته التالية الى شقيقه: اذا ضغط الآراميون على قواتي، عليك المبادرة فورا" الى نجدتي، وبدوري سأسرع الى شد ازراك في حال تعرضك لأي ضغط من قبل القوات العمونية، وعلينا ان نقاتل بقوة فائقة ضد المهاجمين، لإنقاذ شعبنا ومدننا المقدسة، واهمها مدينة ((يافا((. 

وفي نهاية هذه المعركة الطاحنة، تمكن ((يواب)) من تحقيق النصر على الآراميين. أما القوات العمونية فقد اصابها الانهاك والوهن بعد هزيمة حلفائها، وتراجعت منكفئة امام قوات ((ابيشاي)) الى المدينة لتحتمي داخل اسوارها.

     غير ان الآراميين، الذين لم يفقدوا الأمل ولا القدرة على احراز النصر، رغم ما حل بهم، قرروا تحت قيادة ملك ((صوبا)) المدعو حدد عزر بن ليحوب معاودة الكرة لمحاربة الاسرائيليين. وبعد ان حصل الملك حدد عزر على كل اسباب العون والمدد من الآراميين المتواجدين حول ضفاف نهر الفرات وفي بلاد ما بين النهرين، اثر تحقيق الوحدة بين آراميي الشمال والجنوب، سير القوات الآرامية الموحدة، باتجاه مملكة ((إسرائيل)) بعد ان وضعها تحت قيادة المدعو ((شوبك)) قائد جيشه. وقام هذا بنشرها ايذانا" بالهجوم، وكانت تتألف بمعظمها من المشاو والعربات الحربية.

    وفي نفس الوقت حرّك ((داؤد)) قواته من جديد. وبعد ان اجتاز بها نهر الاردن، وصل الى موقع في ((حيلام)) {13} ، وفيه اشتبك في معركة كبيرة مع القوات الآرامية، التي خسرتها ايضا".

    ويرد في بعض النصوص التوراتية شرح مفصل لمعركة اخرى نشبت فيما بين قوات الملك ((داؤد)) {14}. وما نستخلصه من ذلك كله هو ان ((أمارة صوبا)) كانت تشكل على الدوام الخصم العنيد والعدو الرئيس، الذي يشكل خطرا" على كيان ((إسرائيل)). كما نستنتج، انه كلما اجأ الملك حدد عزر الى طلب العون والمدد من آراميي الشمال (بلاد ما بين النهرين) هب هؤلاء الى مساعدته وتجاوبوا معه كلما عرض عليهم عقد أي حلف دفاعي ... مما يدل على ان نفوذه كان مهيمنا" على كل الأمارات الآرامية. كما ان العلاقات والروابط الوشيجة، التي كانت قائمة فيما بينه وبينها  نكشفها دون عناء، عندما ندرس ما حصل في المعركة السابقة لنستنتج ايضا، ان الملك حدد عزر عندما كان يطلب العون من الأمارات الآرامية في الشمال، انما يعني انه كان يطمح الى تحقيق نوع من الوحدة أو من الاتحاد بين جميع الأمارات الآرامية، تمهيدا لتأسيس دولة منهم، قوية الجانب واسعة الارجاء، تمتد من الفرات الى نهر الاردن ... وبذلك يتحقق حلمه، الذي كان يراوده ويشغله على الدوام وهو: انشأ امبراطورية آرامية تكون ((صوبا)) القوة الفاعلة فيها وركيزتها الصامدة في وجه كل معتد دخيل.

    وفي الفترة الواقعة ما بين 973 ـ 963 ق.م. حافظ الملك سليمان بن داؤد على قوق مملكته وتفوقها وفرض على الأمارات الآرامية غرامات باهظة. وهكذا فقد استطاع تحقيق حلمه ببسط نفوذه على الآراميين من وراء نهر الفرات {15}، وتحديدا" من مدينة ((تيباح)) {16} شمالا" حتى مدينة غزة جنوبا".

    ولكن لابد لنا من ملاحظة هامة هنا هي : اذا كانت النصوص التوراتية تشكل مصدرا" الى حد ما بسبب ندرة الوثائق الاخرى، فان فيها الكثير من المغالاة، مما لا يمكن الاطمئنان اليها. وانص التوراتي يؤكد هذا الرأي : من المرجح ان يكون الماك سليمان قد بسط نفوذه على فلسطين وعلى كل البلدان المجاورة لها والبعيدة عنها ايضا"، واستطاع تأسيس امبراطورية اكثر اتساعا من تلك التي اسسها ملك صوبا، مما يثبت صحة الرأي القاتل بتفوق الاسرائيليين المطلق.

   غير ان مجمل ما روي عن المكاسب الحربية وما رافقها من غلّو ظاهر، لا يمكن ان يقنعنا او يقنع حتى الإسرائيليين انفسهم. لأن تفوقهم الملحوظ وبسط سيطرتهم على كل البلاد الآرامية، لا يزالان موضع شك، وربما كان كذلك.

 ان اسطورة التفوق الاسرائيلي المطلق، ورد عليها النص في التوراة مرارا"، ان جهرا" أو ايماء، مما نتلمسه في النص التالي: لقد سار الملك سليمان بجيشه حتى حماه وصوبا {17} واحتملها، كما بنى مدينة تدمر في قلب الصحراء السورية مع عدد من المدن الاخرى، ذات وظائف استراتيجية لازمة لكل المناطق السورية ولا سيما حماه، مثل التموين والامدادات العسكرية وغيرها ...

 )انها اسطورة، ويؤكد المؤلف على انها اسطورة. وبالفعل لا توجد وثيقة واحدة معاصرة لا حداث هذه الاسطورة او لاحقة لها تؤكد حتى ولو فكرة واحدة فيها. لقد كنا اشرنا في كتابنا ـ نقد النظرية السامية، الجزء الأول، ص : 181 وما بعدها، الى الاسباب التي دفعت اليهود الى نسج خيوط هذه الاساطير ، المراجع ـ المدقق)

    وعلى كل حال فان ((العهد القديم)) يمدنا ايضا بمعلومات هامة في تاريخ الآراميين في سورية، ابّان القرن العاشر قبل الميلاد، مثلما يرد في النص التالي منه:

واقام الّله له (أي سليمان) خصما آخر (هو) رزون بن اليداع الذي هرب من عند سيده حدد عزر ملك صوبا. فتجمع اليه رجالا" فصار رئيس غزاة عند قتل داؤد اياهم. فانطلقوا الى دمشق واقاموا بها وملكوا في دمشق. وكان خصما لا إسرائيل كل ايام سليمان مع شرّ هدد، فكره اسرائيل وملك على آرام.{18}  

والجدير بالذكر ان عوامل الضعف والانحلال، التي احاقت بقوات الملك صوبا عقب اخفاقه في حروبه السابقة مع الملك داؤد ساهمت كثيرا في انجاح حركة المنشق ((رزون))، وحتى في تحقيق حلمه في تأسيس مملكة له في دمشق.

   وهنا نعيد الى الاذهان ، ان الملك ((داؤد)) استطاع في حروبه مع مملكة ((صوبا)) تحطيم قواتها واسر العديد من افراد هذه القوات وتعطيل كل العربات الحربية وعربات الجر عن مهماتها ، وذلك بلجوئه الى بتر عراقيب خيول الجر. ويذكر كتّاب التوراة في هذا الصدد ، ان احد ضباط ملك ((صوبا)) واسمه ((رزون)) تمرد على ملكه وتحصن مع عدد من جنوده في احد الادغال، معلنا المقاومة ضد الإسرائيلي، واستطاع فيما بعد من اعلان نفسه ملكا على دمشق. ونشير هنا، ان بعد هذا التطور العام، اصبحت مملكة دمشق لا تمت بصلة الى مملكة ((صوبا))، التي كانت تهيمن على كل الأمارات الآرامية في سورية، وحات محلها في بسط نفوذها على هذه الأمارات، واتي في حينه خاضت معارك كثيرة ضد العبريين. كل ذلك تؤكده النقوش المكتشفة والنصوص التوراتية أيسا، التي يرد فيها اسم ملك ((آرام)) المدعو ((رزون)) يشكل العدو الدود للإسرائيليين. وهنا ينبغي الاعتراف، اننا لم نعثر على أية وثيقة قديمة تشير بالتفصيل، الى أية معركة بين قوات الملكين ((رزون)) و ((سليمان)). ولكن نظرا" لوجود عداء مستحكم فيما بينهما، خاصة وان ((رزون) كان قد صرح منذ تسلمه منصبه، عن رغبته في النص\ضال ضد ((اسرائيل)) ان معارك عسكرية قد نشبت بين الطرفين.

الفصل الثالث

---------------------------------------------------------

1 العمود الثالث، 1 : من (1-10). المسلة اليها، ترجع إلى عهد الملك الاشوري {أشور- بيل- كالا} الاول انظر ايضاُ

L. Delaporte Le Proche - Orient asiatique («Clio»), P. 234 s.

2 نقوش عثر عليها في حفريات تل الاحمر، تلقي  ضوءاً على مواطن الآراميين... راجع بهذا الخصوص ايضاً

F. Thureau Dangin, TilBarsib, (Paris, 1936)

3 Luck, I, § 603.

4- من حفريات {تل خلف} عرض لعدة الواح اثرية تشير إلى الاحتلال الآرامي ، خاصة تلك التي تخص قلعة { كابارا} انظر M. Fr. von Oppenheim, Tel! Halaf (Paris 1939)

 5- انظر Histoire Synchronique, II b, 1,30 ss.

6- تعني كلمة { الشمال } انما وردت مكان استيطان الآراميين من بيت { آجوشي إلى حماة فدمشق}.

7- صموئيل الثاني، الاصحاح الثامن : 9-10.

8 بدلاً من اسم { يورما }  ورد في سفر اخبار الايام الاول، الاصحاح الثامن عشر:10، الاسم { هدورا } المأخوذ عن الاسم { حدورا }، الذي يعني { حدد } اله الآراميين، بينما يعني اسم { يورما } يشعيا= يهوه ( اله الاسرائيليين} وكلا الاسمين من اصل سامي. اما الاسم: {توئي}  أو {تو أو}، كما ورد في بعض النصوص، فان اصل اشتقاقه غير معروف، رغم ان البعض يرجح انه من اصل سامي. ولكن حتى لو كان من اصل حثي، فان ذلك لا يمنع من ان يكون احد الملوك الآراميين قد سمي بهذا الاسم الحثي، بسبب تمازج الثقافتين الآرامية والحثية. ومثل ذلك فان اسم مدينة {زنجيرلي} الآرامية من اصل حثي، وان كلا الملكين الآراميين { كيلاموا } و  { باناموا} قد سميا باسمين حثيين لنفس السبب.

9- راجع الدكتور توفيق سليمان { نقد النطرية السامية}، الجزء الأول، دار دمشق للطباعة والنشر والتوزيع، 1982 م، الجزء الثاني، سيصدر قريباً عن دار أماني للطباعة والنشر والتوزيع، طرطوس ، سوريا.

10 - راجع

Raport Préliminaire sur ^ H. Ingholt :

sept campagnes de fouilles a Hamat en Syrie (Copenhague, 1940)

وفية ان المستويين    F-E يؤكد ان سلطة الآراميين الساميين يمكن ان تعود إلى حوالي 1000 ق.م.، وهذا قريب جداً من التاريخ الذي افترضناه لذلك.

11- الفلسطينيون هنا قبائل من شعوب البحر استقرت في الجزء الجنوبي من ساحل ارض كنعان، عرفت فيما بعد ارض كنعان باسمهم وهي فلسطين الحالية (  المراجع - المدقق).

12- ورد في النص العبري خطاً { ملوك صوباح}، والصحيح هو ملك { صوباح}، مثلما ورد في الترجمة اليونانية لكتاب العهد القديم (التوراة).

13 - لايزال الموقع الفعلي لهذه المدينة مجهولاً.

14- صموئيل الثاني، الاصحاح الثامن: 3 - 10.

15 - ان مصطلح ما وراء النهر، الذي استخدمه الاشوريون والبابليون، يعني من وجهة نظرهم سوريا وفلسطين، وهذا المعنى هو المقصود في كل مكان يرد النص عليه في التوراة، بعد مرحلة النفي والتهجير...

16- تقع هذه المدينة في منطقة الفرات الاوسط إلى الغرب قليلاً من مصب نهر البليغ. ( نلاحظ هنا التأكيد على الفكر التوسعي لكتاب التوراة، بادعائهم السيطرة على مناطق واسعة ولم يثبت أي مصدر آخر صدق هذا الادعاء، ( المراع - المدقق).

17 - الاشارة هنا إلى مدينة حماة الواقعة على نهر العاصي. واذا ما اطلق على هذه المدينة التعبير: حماة- صوبا، فانما يعني ذلك ان أمارة { صوبا} كانت ذات نفوذ قوي في شمال سوريا خلال بعض العهود... وفي هذا المجال نشير، انه عثر على عدة الواح من القرميد في حماة، نقش على كل منها اسم ( ص . ب . ا ) ( قارن lngholt ) نفس كتابه السابق الذكر، ص 115 وما بعدها منه) مما يجعلنا نعتقد جازمين، ان هذه الاحرف هي اختصار للاسم { صوبا}

18- سفر الملوك الأول، الاصحاح الحادي عشر: 23 - 25.

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها