عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

الفصل الأول

غزوات الآراميين الأولى

(( في ما بين القرنيين الرابع عشر والثاني عشر قبل الميلاد))

تأليف

أ. دوبون سومر

خارطة انتشار الممالك الآرامية

من الصعب تحديد اصل الآراميين و تاريخ بداية نشوئهم، بسبب الغموض ، الذى اكتنفت تاريخهم من جهة، ومن جهة اخرى لندرة الوثائق المتعلقة به. ويبقى السؤالان التاليان من دون جواب مرض:

- في أي عصر قدم هؤلاء الى بلاد الهلال الخصيب؟

- ومن أين؟

حتى الآن لم تتوفر أية وثيقة يمكن اعتمادها، للإجابة بدقة عليهما، ولو كانت حتى على شكل اسطورة: الاّ انه من المرجح، ان يكون موطنهم الاصلي في الصحراء السورية، مثلهم في ذلك مثل معظم الشعوب السامية، التي استوطنت، بفعل الاحتلال، بلاد ما بين النهرين أو اجزاء منها بما في ذلك سورية خلال القرون السابقة لظهورهم.

  غير ان التوراة، التي تعتبر مبدئيا المصدر الوحيد لهم، تشير انهم استقروا بادئ ذي بدء في اعالي بلاد ما بين النهرين منذ النصف الأول من الألف الثانية قبل الميلاد، و تحديدا في اقطار منها، هي (( بدّان آرام)). و كانوا على شكل جماعات يطلق عليها: ((بيتوئيل))، و(( لابان)) و في تاريخ لاحق عرفوا باسم: الآراميون.

     و مما يؤسف له، ان الاساطير التي تروي لنا بعض ما نحتاجه عن الآراميين، لم تدوّن تحت أي شكل، الاّ في عهود متأخرة تعود للقريين التاسع و الثامن قبل الميلاد و الثامن قبل الميلاد. لذلك يتعذر اعطاء اية معلومات عنهم، سليمة او قريبة من الواقع، سابقة لهذين التاريخين. الاّ انه في تاريخ لاحق لهما، اجريت سلسلة من التحقيقات، كشفت النقاب، الى حدّ ما، عن منشأ الآراميين و بداية تاريخهم، تستند في معظمها الى نصوص التوراة . غير اننا لو سلمنا جدلا" بصحة هذه النصوص، ذات السند الضعيف، فان الأخذ بمضمونها، عن طريق القياس و المقارنة، اصبح لا مفر منه بسبب وجه الشبه بين منشأ الشعبين الآرامي و العبري، و لكونهما ظهرا في عصر واحد تقريبا"، فضلا" عن توفر علاقات سياسية و اقتصادية كانت قائمة فيما بينهما . كما ان الشعبين: "آرام" و "عبر" كلاهما ينحدر من اصل سامي {1}، وان عددا" من الأنبياء العبريين تزوجوا من نساء آراميات. و نذكر منهم: يعقوب الملقب ب "اسرائيل"، الذي يعتبر بحق جد الاسرائيليين، و الذي كان يطلق عليه في كثير من الاحيان: "الآرامي التائه"{2} .

       ان صلة القربى، التي كانت قائمة بين الشعبين بسبب الجوار، لم تعد موضع جدل، وترقى بدون شك الى الماضي السحيق، عندما كانت حياة البداوة هي السائدة لديهما.

     و اذا راجعنا "اسفار موسى الخمسة"، نجد في احدها ما يشير الى ان النشأة الأولى للآراميين كانت في بلاد "ابناء الشرق"، و فيها حدث اللقاء المشهور بين "يعقوب" و "لابان"{3}. و من المفيد الاشارة الى ان المصطلح "بلاد ابناء الشرق" تفسره التوراة بدقة على انه الصحراء الواقعة شرقي فلسطين، و هي الصحراء السورية.

*              *              *

      و مهما  يكن ، فان نشأة الشعبيين القديمة ذات الطابع المشترك يعود تاريخها الى القرن الرابع عشر قبل الميلاد. و قد اكدت ذلك بعض النصوص الآرامية القديمة: غير التوراتية، التي القت الضوء على اصل القبائل الآرامية: مثلا" هناك رسالة من "تل العمارنة" (= تل اثري في مصر كان موقعه عاصمة مصرية قديمة في عهد فرعون اخناتون ـالمدقق ـ) تتعرض لذكر قبائل الـ "أحلامو" الغزاة، الذين هم بحق نفس الآراميين. و هذه النتيجة او الحقيقة تؤكدها كل النصوص اللاحقة ، التي تذكر ان قبائل ال "أحلامو" استوطنت ضفاف نهر الفرات ، لكن مع الاسف لم ترد فيها أية اشارة الى الملك المعاصر لها في أرض "كادونياش" (بابل){4}.

    وفي وقت لاحق تم العثور على نص فيه اشارة الى الملك الآشوري: اريك ـدين ـ ايلو (1325ـ 1311 ق.م.) ، الذي خاض معركة ضد قوات ال "احلامو" والـ "سوتو" {5} وانتصر عليهما. و كما هو معروف فقد كان الآشّوريون يسيطرون في تلك الفترة على منطقة اعالي نهر دجلة . ويبدو ان المهاجرين الآراميين، الذين كانوا متحالفين مع بعض من قوات البدو، قد نجحوا فيما بعد اثر غارات متتالية في الاندفاع نحو مناطق الآشّوريين فيما وراء نهر الفرات.

    و بعد قرن من الزمن، تمكن هؤلاء الغزاة (قطاع الطرق) من التطواف بحرية في كل انحاء بلاد ما بين النهريين . ثمة رسالة مرسلة من ملك الحثيين "خاتّوشيلي" الثالث الى ملك بابل "كاداشمان انليل" الثالث نحو 1275 ق.م. تفيد ان قوات الـ "أحلاموا" تمكنت من احكام سيطرتها على الطرق الممتدة بين مملكتيهما {6} والدولة الميتانية، التي سيطرت لعدة قرون على بلاد أعاي ما بين النهرين ، الواقعة الى الغرب من بلاد أشّور وانتهت اخيرا الى الضعف والانحلال. . .

ومن المفيد قوله: ان الأشّوريين كانوا دوما يطمحون الى احتلال تلك البلدان طمعا في ثرواتها ، وفي نفس الوقت كان كل من الحثيين والآراميين يتوقع انحلال الدولة الميتانبة، وطمع ايضا في احتلال البلاد التي تسيطر عليها. ولذتك فان احد ملوك أشّور وهو "زاما ـ نصّار" الاول (1280 ـ 1256 ق.م.)، عندما باشر في مهاجمة مملكة "خانيجلبات"، احدى المقاطعات الممتدة حول ضفاف نهر الخابور، كان عليه في نفس الوقت، ان يتصدى للغزو الموجه اليها من كل من الحثيين والأحلامو. وهذه المنافسة في الاطماع ادّت الى توتر العلاقات فيما بينهما{7}، وبالتالي كانت سببا في نشوب حروب ضروس بينهما، ظلت مستمرة حتى عهد خلفه "تيكولتي ـ نينورتا" الأول (1255 ـ 1218 ق. م.) ، الذي اعلن فيه هذه الحروب ، عن احتلاله المنطقة الواقعة على امتداد نهر الفرات مع مملكة "ماري" وبلاد "عانة" و بلاد الـ "رابيكو" بما فيها المرتفعات الجبلية التي يستوطنها ال "أحلامو"{8}.

     و في حوالي سنة 1200 ق.م. انهارت الإمبراطورية الحثية. و عقب ذلك بدلية هجوم "شعوب البحر" الكبير على المنطقة، الذي تمكنت به من استرجاع كل آسية الصغرى، ومن بسط نفوذها على كل من سورية وفلسطين ومصر، الاّ انها عجزت عن تحطيم قوة الأشّوريين، الذين استفادوا من بعد مواقعهم عن مناطق الهجوم.

       وبعد انهيار سلطان الحثيين تحت ضربات الأشّوريين... حاول ه}لاء بسط نفوذهم نحو الغرب واحتلال كل سهول بلاد ما بين النهرين، واهم ما كانوا يطمحون اليه، ايجاد منفذ لهم على البحر المتوسط، لكن الآراميين كانوا لهم بالمرصاد. ومن اجل تفشيل مخططهم، تحصنوا حول ضفاف نهر الفرات، مستفيدين بدون شك من فعالية الصحراء الاستراتيجية. الاّ أن الملك الأشّوري "أشّور ـ ريش ـ ايشي" (حوالي 1149 ـ 1117 ق . م.)، شن عليهم هجوما كاسحا تمكن به من سحق قواتهم الأساسية {9}، وكم تباهى بهذا الانتصار فيما بعد.

   ولكن رغم ما حل بهؤلاء البدو، فقد بقيت لهم قوات اخذت تتنامى بسرعة، وتمكنوا بعد جمع شتاتهم من شنّ هجمات موفقة على الاراضي الخصيبة المحتلة، التي كانت حلمهم الهازج للاستيطان بها.

    وفي عام 1116 ق. م. ، تربع على عرش الامبراطورية الأشّورية "تبغلات ـ بيلزر" الأول ابن الملك "أشوّر ـ ريش ـ ايشي". وقد قرر هذا الفاتح العظيم، فور تسلمه العرش، ان يجعل من بلاد أشّور امبراطورية واسعة الأرجاء ، كبيرة النفوذ ، و ما قرره كان ينويه قبل تسلمه العرش . اذ منذ عام 1112 ق . م . خاض حروبا ضاربة ضد ال "أحلاموا" ورد ذكرها في احد النقوش الأشّورية ، ومما جاء فيها على لسانه:

     بحماية سيدي الرب أشّور ورعايته ، زحفت بجنودي الابطال المدعيين بعربات الحرب ، الى الصحراء لمقارنة القوات المشتركة الأحلامية ـ الآرامية المناهضة لأشّور ، وخلال يوم واحد تمكنت من اكتساح المنطقة من سوكهي الى كركميش الواقعة في بلاد الحثيين ، ومن تدمير قواهم بسحق قواتهم ، وكسبت غنائم كثيرة واملاكا واموالا لا تحصى... اما من بقي منهم فقد فرّ باتجاه نهر الفرات وعبره طلبا" للنجاة . وبعد أن عبرت النهر بقواتي على قوارب من جلد، لاحقت فلولهم ، ونجحت في احتلال ستّ من مدنهم الهامة ، تقع في سفح جبل بشّري، حيث قمت بحرقها وتدميرها بالكامل . اما الغنائم والاسلاب والاموال التي وقعت في قبضتي فقد نقلتها الى عاصمتي أشّور {10} .

وفيما بعد... اندفع بجيشه العرموم باتجاه لبنان وبلاد العمّوريين، ونجح بالوصول الى البحر، كما تمكن من فرض الجزية على الممالك الفينيقية الثالث: بيبلوس (= جبيل) وصيدا وصور.

     غير ان تلك الانتصارات والنجاحات، التي احرزها كانت عابرة وآنية، لأن قوات الأحلامو الضاربة لم تتأثر بها كما ينبغي، وبالتالي لم تلق سلاحها رغم ما حدث لها. وفي نهاية عهده (اذ توفي عام 1090 ق . م .) نشر بيانا" حربيا" ورد فيه : لقد طاردت فلول الأحلامو والآراميين ثمانية وعشرين مرة، كما اجتزت نهر الفرات لتتبعهم بمعدل مرتين في العام الواحد...، كما ورد في نفس البيان: ... لقد نجحت في اجتياح المنطقة الواقعة ما بين مدينة تدمر من اعمال بلاد العمورّيين ومدينة عانا من اعمال بلاد السوكهي ومدينة رابيكو من اعمال بلاد كار دونياش (= بابل) ، وبعد ان سيطرة كاملة ، عجت الى العاصمة أشّور حاملا" معي كل الاموال والغنائم التي كسبتها {11}

     ان ثمان وعشرين غزوة كانت كفيلة بتطهير ضفاف الفرات منهم بدءا" من كركميش حتى حدود مملكة "بابل" ، نما كانت عاملا" مهما" في تحضير ابناء الصحراء واستقرارهم في ست مدن واقعة في منطقة جبل بشرّي.

       ومن أجل تشتيت شمل هؤلاء البدو وانهاكهم، كان لابد من ملاحقتهم حتى مدينة تدمر الواقعة في قلب الصحراء السورية، واحتلالها، لأنها كانت تشكل مصدرا" مهما" لإمداداتهم الاستراتيجية والتموينية.

     ان النصين المذكورين سابقاً "، العائدين لـ "تيغلات ـ بيلزر" الأول لم يرد فيهما ان الأحلامو كانوا يشكلون العدو الفعلي للأشّوريين، انما ورد بهما صراحة ان هذا العدو يشمل: الأحلامو الآراميين. وهذه التسمية الاخيرة في بعض النصوص اللاحقة المثبتة في نقش وجد على لوح يعود الى عهد الملك "أشّور ـ نيراى" الثاني (911 ـ 890 ق . م ) ، وفيه وصفوا بانهم "شعوب السهوب" {12} . وفي نقش يعود اعهد الملك ((أشّور- ناصر بال)) الثاني (884 ـ 859 ق. م.) وجد نص يشير ان هذا الملك صرح انه حكم بالنفي على الف وخمسمائة أحلامي ـ آرامي من "بيت زماني" في اعالي نهر دجلة الى بلاد أشّور{13} .

    ولكن يبدو ان تسميتهم، منذ ذلك التاريخ اقتصرت على اسم: الآراميون، وثمة نصوص اخرى يرد فيها اسم: الأحلامو، ولكن بشكل نادر. وبقي اسم الأحلامو مضافا" الى اسم الآراميين دون ان نعرف السبب، حتى حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد ، لكن بعد هذا التاريخ بدأت تنحسر تسمية "الأحلامو" لتحل محلها بالكامل تسمية: الآراميون.

   والملفت للنظر في هذا البحث، هو ان الآراميين، رغم انهم كانوا مندمجين مع الأحلامو وقبائل أخرى ... وانه في عهودهم الأولى كانت ترد تسميتهم جنبا" الى جنب مع الاقوام المندمجة معهم لاسيما الـ "أحلامو"، الاّ أن ما نلاحظه، هو ان اسمهم بدأ يطغى في النصوص العائدة لعهود احدث، ويختفي معه تدريجيا" أي ذكر للـ "أحلامو" وغيرهم، وهذا يدل على تفوقهم على غيرهم، تماما" كما حدث للـ "إسرائيليين" المندمجين مع العبريين، اذ مع تفوق هؤلاء وسيطرتهم، اقتصرت الوثائق اللاحقة على ذكر اسمهم دون التعرض لذكر الاسرائيليين.

الفصل الثاني

--------------------------------------------------------------

1-    سيصدر قريباً " نقد النظرية السامية" بجزئيه مجتمعين، الأول والثاني للدكتور توفيق سليمان عن "دار أماني للطباعة والنشر والتوزيع" (المعرب).

2-    سفر تثنية الاشتراع، الاصحاح السادس والعشرون:5

3-    سفر الاصحاح التاع والعشرون:1

4-     Kundtzon,N200,1.7-11.

5-    الوثائق الخطية لا بن حدد نيراري الأول انظر 73Luck,l, §

6 Keilschrlfttexte aus Boghazköi, l,N°10,1.36ss.

7 Luck,l,\116.

8 نفس المرجع الاخير، فقرة: 166.

9 نفس المرجع الاخير، فقرة: 209

10نفس المرجع الاخير، فقرة: 239

11 نفس المرجع الاخير، فقرة:308

12 نفس المرجع الاخير، فقرة:362

13 نفس المرجع الاخير، فقرة: 502

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها