عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

 الإسلام السياسي مسؤول عن تقهقر المسيحية في بلادها الأصلية

 

 

 

 

 الدكتور جوزيف ساووك

18 شباط / فبراير 2014

ماريا معلوف

 اعتبر الدكتور جوزيف ساووك الباحث في العلوم اللغوية الساميّة والحاصل على ماجستير علم آثار من الجامعة اللبنانية و الباحث في جامعة اوبسالا، في حوار مع "الرواد" ان هناك فرق في العمر والإنتشار بين الآرامية والسريانية، وان الآرامية تسمية تشمل أكثر بكثير مما تشمله التسمية السريانية، وذلك لغويا وتاريخيا وجغرافيا، واعرب عن أسفه ان السلطات المتعاقبة لم تستفد من فترات التنور كي تنشر المعرفة والحضارة بدل التعصب والتخلف، وكشف اناللغة المحكية في لبنان (وسوريا والعراق) والمسمّاة عامة بـ "عربية دارجة" هي لغة آرامية معرّبة.

*ماهي العلاقة بين اللغة العربية والارامية والسريانية؟

اللغات الساميّة، مثل اللغات العربية والآرامية، هي لغات أخوات وارثات للغة ساميّة أمّ غير محددة الاسم علميا، يعرّفها العلماء المتخصصون بالعلوم اللغوية السامية باللغة البروتو-سامية. واللغة السريانية هي إحدى التنوعات/اللهجات الآرامية، وهي الفصحى التي ازدهرت ابتداء من القرون الممتدة من القرن الميلادي الثالث وحتى سيطرة العرب في بلاد آرام، والتي ما زالت مستعملة في الليتورجيات الشرقية في كنائس بلاد آرام:

أي لبنان وسوريا وإسرائيل/فلسطين والعراق وأجزاء من تركيا، وحتى في كنائس الهند التابعة للكنائس السريانية، ويشمل مجموع هذه الكنائس ما يزيد على العشرين مليون منتسب.

*هل اصل اللغة المحكية في لبنان هي اللغة الآرامية ؟

المحكية في لبنان (وسوريا والعراق) والمسمّاة عامة بـ "عربية دارجة" هي لغة آرامية معرّبة. فهي ليست بأصلها فقط آرامية، بل حتى بحاضرها، فهي آرامية أكثر بكثير مما هي عربية. بمعنى أن البنية القواعدية الأساسية (النحوSyntax) للغة هي أقرب للآرامية مما هي للعربية، هذا بالاضافة الى قدر كبير جدا من الآرامية في الصرف (Morphology) والأصوات(Phonology).  وهذا ما يذكره العلماء باللهجات العربية المعاصرة إذ يؤكدون أن النموذج اللغوي(Typology)  للغات/اللهجات العربية المعاصرة (ليس فقط في لبنان) هي أقرب للآرامية منها الى العربية .

 فالعربية (الفصحى) نموذجها من النوع القديم جدا يشبه النموذج الأكادي، بينما نموذج اللهجات "العربية" المعاصرة يشبه النموذج اللغوي الآرامي، وفي لبنان فهذا النموذج مشتق من الآرامي ووارثه مباشرة. ولذلك، وبسبب تأثير الآرامية على الناطقين بالعربية (وليس العكس) فإنه يصعب على جميع الناطقين باللهجات "العربية المعاصرة" أن يتمكنوا من قواعد العربية الفصحى إلا إذا أمضوا عشرات السنين في تعلمها وركزوا تركيزا شديدا على القواعد ليتفادوا الأخطاء فيها. وهذا ليس من ميزات الناطقين باللغة الأم بل من مشقات الناطقين باللغة المكتسبة لاحقا من خلال الدراسة (Second language learners). فالناطق بلغته الأم لا يخطئ بقواعد لغته بل إنه في أسوأ الأحوال يرتكب هفوات (Mistakes) وليس أخطاء (Errors). وللمزيد من الإيضاح أقول أن الناطق مثلا بلغته "اللبنانية" لا يخطئ في قواعد لغته، فمن غير الممكن أن يقول "إجا الولاد"، فهذا خطأ و"مضحك" باللغة اللبنانية لأن قواعدها آرامية وتقتضي استعمال تصريف الجمع في الفعل مع الفاعل حتى اذا سبقه وعليه فيقول "إجو الولاد"، بينما العربية (الفصحى) تقتضي قولك "جاء الأولاد" وليس "جاؤوا الأولاد" وهذا عكس قواعد اللغة اللبنانية، لأن قواعد الفصحى عربية وهي من نموذج مختلف عن اللبنانية، ومخالفة هذه القاعدة هي خطأ. وهذا مثل واحد سهل المنال لتوضيح الفرق النحوي بين قواعد العربية واللبنانية، إنما كمتخصصين فإننا نعرف أكثر من هذه الفروق وأهم منها بكثير.

*هل هناك فرق بين الارامي والسرياني ؟

هناك فرق في العمر والإنتشار بين الآرامية والسريانية. الآرامية تسمية تشمل أكثر بكثير مما تشمله التسمية السريانية، وذلك لغويا وتاريخيا وجغرافيا. الآرامية لغة عمرها يزيد عن الثلاثة آلاف سنة متواصلة الى يومنا وانتشارها الحيوي اوسع. السريانية هي من الآرامية الفرع الذي تصدر سائر الفروع بانتشار المسيحية وتزعم الليتورجيات الكنسية وأصبح معروفا كممثل "رسمي" للآراميات المستمرة. التسمية الآرامية للغة (نفسها) اوسع بكثير تاريخيا وجغرافيا من التسمية السريانية. أما نشأة الفرق في التسمية فسببها الحضارة اليونانية التي استعملت اسم سوريا وسوري (او سرياني) بدلا من آرام وآرامي على المدلولات نفسها.

*تقول في احدى اطلالاتك الاعلامية ان أصلنا جميعا اراميين ماهو دليلك على ذلك ؟

استنادا الى ما سبق بأن الاسم "سوريا" هو تسمية يونانية، وإذا عدنا الى التسمية المحلية لهذه البلاد التي أسماها اليونانيون باسم "سوريا" لرأينا أن أهلنا وآباءنا أسموا بلادنا "آرام" وشعبنا "الآراميين". وهذا قبل مجيء العرب المسلمين واحتلالهم بلاد آرام (سوريا) وتحويلها الى ما هي عليه اليوم. لذلك فإن الشعب المسيحي الذي كان موجودا وما زال في هذه البلاد بلاده الأصلية قبل مجيء العرب كان آراميا بلغته وبهويته ولذلك فإن لغة المسيح كانت آرامية لأن الآرامية كانت لغة الجميع في آرام، بما فيهم اليهود. وما تمكن الشعب المسيحي من الاحتفاظ به من هويته الأصلية هو بعض الدلائل التي أتاحتها له السلطات الإسلامية المتعاقبة من عربية ومملوكية وعثمانية وعربية أو إسلامية معاصرة. فاحتفظ المسيحيون مثلا بأسماء مجموعاتهم الحضارية تحت التسميات الكنسية، لأنها كانت الوحيدة التي سمحت بها دولة الإسلام التي حرمتهم من البنية المجتمعية السياسية القومية خارج البنية (او المنظومة المجتمعية) الكنسية، وذلك بمقتضى نظام "أهل الذمة". فنرى مثلا الكنائس في تسمياتها الأصلية:

"السريان الموارنة"، والسريان الملكيون (التي تحولت فيما بعد الى تسمية الروم الملكيين الأورثوذكس أو الكاثوليك) وما زالت مخطوطات الكنيسة الملكية باللغة السريانية موجودة حتى اليوم، حتى أن هناك خطا سريانيا خاصا بالكنيسة الملكية، والكلدان (وهم أكثرية المسيحيين في العراق) والنساطرة (الأشوريون) ثم السريان الارثوذكس والسريان الكاثوليك، وحتى الطوائف المحدثة من اللاتين والانجيليين فإن شعبها سرياني وافد من الكنائس المذكورة السريانية المشرقية انضم تحت قيادة غربية لاتينية او بروتستانتية.

فمن سمع بكنيسة عربية مثلا؟

 ما هو موجود اليوم هو كنائس أهلها "ناطقون باللغة العربية" وليسوا عربا. وقد يحتج البعض (كالعادة) قائلين ولماذا "ننسى" العرب المسيحيين الذين كانوا يملؤون الجزيرة العربية قبل الإسلام؟

والجواب هو بسيط:

 صحيح أن العرب المسيحيين كانوا حوالي ثلث سكان الجزيرة العربية قبل الإسلام ولكن الاسلام محاهم عن بكرة أبيهم وهو لا يقبل تسمية فترة وجودهم إلا "جاهلية". وحتى اليوم، فإن أصحاب الحضارة الإسلامية يرفضون التنقيب عن الآثار المسيحية في بلاد العرب وإظهارها كجزء تاريخي شريف من تاريخهم. فلسنا نحن من يلغي وجودهم بل أصحاب الشأن، أي العرب المسلمون أنفسهم. أما ما حصل بالعرب المسيحيين الذين كانوا موجودين خلال توسع الاسلام فمن تبقى منهم لجأ الى الكنائس السريانية (السورية) كأفراد ضمن الملايين (آنذاك) من السريان الآراميين المسيحيين وانخرطوا في صفوفهم هذا ان لم يضطروا الى اعتناق الاسلام تباعا، حفاظا على رقابهم، كما حصل للغساسنة الذين أسلم من تبقى منهم جماعيا في القرن العاشر. وهنا أذكر الرومانسيين من المسيحيين الذين لا يجدون أثرا مسيحيا في العروبة ليحتويهم، فيضطرون الى اختلاق جذور "غسانية" لأنفسهم حتى يجدوا تفسيرا لاستعرابهم وهم مسيحيون. ذلك بدلا من أن يتصالحوا مع جذورهم الآرامية ويعترفوا بها وينعشوها ويفتخروا بها كما يفعل الواعون لهذه الجذور والهوية بكل فخر. وقد سمعنا بعض الآباء في الكنيسة الملكية (الروم) مؤخرا يذكر ذلك، مثل سيادة المطران جورج خضر في إحدى مقالاته حيث أكد أن هوية أبناء الكنيسة الملكية (الروم) ليست يونانية بل آرامية. وكما يؤكد ذلك الباحث في الليتورجيا اليونانية مطران الروم الكاثوليك الدكتور جوزيف عبسي. أما اليونانية فهي الهوية الطقسية الليتورجية لكنيسة "الروم". وكما سبقت وقلت فما زالت المخطوطات السريانية في الكنيسة الملكية موجودة (مثلا في دير البلمند) وبالخط السرياني المعروف بالخط السرياني الملكي. هذا بالاضافة الى عاصمة كنيسة الروم الآرامية الملكية المعاصرة "معلولا" الشاهدة الحية الأخيرة على آرامية الروم الملكيين إثنيا ويونانيتهم او بيزنطيتهم ليتورجيا.

*ماذا تقول عن اضافة التاء المربوطة على بعض الكلمات العربية مثل سوريا ؟

عايشنا دوما موجة من تمويه الهوية الآرامية السريانية تحت وطأة المدّ الاستعماري العروبي في أكثر مناطق آرام، مثلا بتأثير من الفكر القومي العربي والإسلامي، وتحت تأثير الجهل أو التجاهل للهوية الآرامية الأصلية في المنطقة بهدف طمسها والتخلص منها. وهذه من شيم المحتلين في كل البلدان. فالمحتل يحاول طمس حضارة الشعب الأصلي بهدف التمكن من السيطرة والتهرب من الاعتراف بحقوق هذا الشعب. ومن ظواهر هذه الموجة تحريف الأسماء (خاصة أسماء الأماكن) والألفاظ والكتابة بهدف تزوير هوية المنطقة. إن ظاهرة كتابة التاء المربوطة في خاتمة بعض الأسماء تندرج ضمن هذه الخطة التعريبية والتزويرية، وفي بعض الحالات النادرة هي نتيجة الجهل أو عدم القدرة على حل مشكلة لغوية (مثلا الدال السريانية الرابطة لدى الإضافة).

ولكن الأمثال الصارخة في محاولات التزوير هذه هي مثلا كتابة اسم سوريا مختوما بالتاء المربوطة (سورية)، وكأنها صفة مؤنثة باللغة العربية. المعروف أن اسم سوريا أطلقه اليونانيون على بلادنا بلاد آرام، وكتبه آباؤنا السريان الآراميون نقلا عن اليونانية، مختوما بالألف، لا لسبب إلا لأن الكلمة أصلا يونانية ولأن التاء المربوطة غير موجودة في الخط السرياني. فالأصل اليوناني للإسم مختوم بحرف ألفا اليوناني الذي يقابله حرف الألف السرياني. فمن أين جاء العروبيون بالتاء المربوطة؟ الصحيح هو كتابة اسم البلاد مختوما بالألف وكتابة النسبة المؤنثة مختومة بالتاء المربوطة (مثلا: إمرأة سورية).

ولكن العروبيين يتحسسون من الاعتراف بالأصل الآرامي السرياني للمنطقة، وهذا يجعلهم يلجؤون الى التزوير. وهذا النوع من التزوير ينطبق على تغيير اسماء المناطق، وأحد الأمثلة على التزوير في أسماء الأماكن في سوريا نراه في تغيير اسم "وادي النصارى" الى "وادي النضارة"، فبذلك، لم يقوموا بتعريب الاسم فقط بل أيضا بمحو هويته المسيحية، ومنطقة "جسر الشاغور" (التي يرد ذكرها مرارا) الى "جسر الشُغور" مع كل ما يؤذي ذلك من المعنى الغنيّ للإسم الأصلي ويجعله حقيرا. فالمعنى الأصلي للشاغور، وهي كلمة سريانية، هو "الصاخب"، وذلك لسابق المنطقة المعروف بصخب المجرى النهري الذي فيها.

 فتحويله الى اسم "الشُغور" الذي معناه "الفراغ"، فقط بهدف تعريبه، ليس مشرفا لا للمنطقة ولا لأهلها، فمن يفتخر بأن منطقته فارغة؟؟؟ ولكن العروبيين لا يعبؤون، فهم يفضلون تعريب الإسم ولو أصبح سخيفا، على إبقائه سريانيا. وهنا تجدر الإشارة الى أن في منطقة حمانا في لبنان يوجد "شاغور" أيضا (شاغور حمّانا)، وهذا لم يتم تعريبه (بعد)، بل ما زال محافظا على هوية اسمه الآرامية، وكما ذكرت فمعناها "الصاخب" وطبعا بالاشارة الى شلال المياه فيها.

*نفهم من كلامك ان اساس اللغة المحكية في كل من لبنان وسوريا والعراق وفلسطين والاردن هو اللغة الارامية وليس العربي؟ *ماحقيقة اسماء مدينة الرها القديمة؟

اسم مدينة الرها الآرامي القديم هو "أدما"، وهو يذكر باسم المنطقة القريبة من "طبرجا" في لبنان والمعنى الأقرب لكلمة "أدما" هو "الأرض" و"الأحمر" او "الارض الحمراء"، وكما يظهر من اللفظة فهي متقاربة من اسم "آدم" الذي معناه بالآرامية القديمة مشتق من معنى "التراب" و"التراب الأحمر" ومنها الكلمة السامية المشتركة "دم" وهو أيضا أحمر. من الغريب أن المعلومات منتشرة عن أسماء الأماكن في كل بلاد آرام عن المنشأ اللغوي الآرامي لهذه الأسماء ومع ذلك يتغافل أصحاب الشأن عن الهوية الآرامية لبلادنا. أليس هذا دلالة على تنكر السلطات للهوية الحقيقية للمنطقة؟ وما علّه يكون السبب إن لم يكن طمس الحقيقة التاريخية بهدف سلب حقوق الشعب الأصلي في المنطقة، الذي هو الشعب الآرامي المسيحي ؟

*ماذا تقول في كلمة حداد وهل تدل على صنعة الحدادة ؟

طبعا أنا لا أرى في كلمة "حداد" إلا صنعة الحدادة، وهي صنعة كانت قديما تشمل أكثر مما تشمله اليوم. وسمعت أن هناك طرحا يقول بعودة الاسم الى جذور آرامية وثنية باعتبار ان احد الآلهة عند الآراميين قبل اعتناقهم المسيحية هو الإله "حدد"، ولكني لا أتقبل هذا الطرح بل يلزمه الكثير لإثبات علميته. فمن غير المنطقي ومن غير العلمي ترك التفسير العاديّ (مهنة الحدادة) وترجيع الإسم الى ذلك المنشأ الذي يبعد مسافة ألفي سنة بدون أي تواصل ديني او لغوي مع تلك الألوهة.

 أضف الى ذلك عدم تاريخية وعدم حضارية الطرح، فالمعروف في التقاليد السامية أن الأسماء تتيمن بالآلهة وتتعبد لها ولكن لا تتخذ إسم الإله مباشرة، فنحن لم نر أحدا اسمه "الله" او "عشتروت" (إلا في حالات الملك المعبود)، ولكن المعقول بين الأسماء التقليدية الساميّة هو "عبد الله" او "عبد المسيح" و "عبد اللات" و"عبد العزيز" و"عبد الإله" وغير ذلك فإن الأسماء المعروفة من تلك الفترة الدينية الوثنية كانت أيضا تتيمن بالإله "حدد" باتخاذ أسماء مثل "حدد عدري" أي "حدد عوني" او "حدد- ياب" ويقابلها بالسريانية الأحدث "يابالاها" اي بالعربية "عطالله" وهو اسم معروف حتى باليونانية بصيغة "ثيوذوروس" بنفس المعنى .

 ثم إن هناك بعض المصطلحات المتواصلة من الديانات القديمة الى يومنا هذا ولكن التواصل حصل عن طريق التقليد وأحيانا الأعمى مثلا مصطلح "أرض بعل" بمعنى أن الأرض المعنية لا يسقيها أصحابها، وذلك مردّه الى أن التقليد ينسب ريّ هذه البقعة الى "الآلهة" او الإله "بعل". ولكن الناس الذين يستعملون هذا المصطلح لم يحافظوا على الأصل الديني له بل اكتفوا بالمحافظة على التعبير الثقافي منذ القدم، إنما تفسير هذا التعبير جاء على بد الباحثين المتخصصين في علم الآثار بالاستناد إلى معطيات مترافقة من زراعية وحضارية وثقافية وليس على فرضية مقتصرة على تشابه لغوي. التشابه اللغوي اذا كان منفردا ولا يرافقه تفسير حضاري موثق قد يؤدي الى استنتاجات غير صحيحة، كأن نقول مثلا ان هنود اميركا أصلهم من بلاد الهند وذلك لمجرد تسميتهم باسم الهنود.

*انطلاقاً من ان الشعوب في لبنان وسوريا والعراق يجهلون عن قصد او غير قصد ان اصلهم آراميين ، هل تخشى على الوجود المسيحي المشرقي في ظل تنامي المجموعات الاسلامية المتشددة والمتطرفة ؟

إن تنامي المجموعات الاسلامية المتشددة والمتطرفة هو إعادة لما حصل وكان يحصل في بدايات انتشار الاسلام في بلادنا. فللأسف لم تستفد السلطات المتعاقبة من فترات التنور كي تنشر المعرفة والحضارة بدل التعصب والتخلف. وطبعا هذا لا يمكن أن يؤدي إلا الى المزيد من محو الحضارة الأصلية للمنطقة، وخاصة الحضارة المسيحية المشرقية التي عانت طوال فترة السلطات الاسلامية المتعاقبة، وما زالت تعاني، من التقهقر في عقر دارها. إن الإسلام السياسي مسؤول عن تقهقر المسيحية في بلادها الأصلية. إن المسيحية لم تولد في أوروبا: ولا أدري من اخترع هذا المفهوم الذي يردده مرارا وتكرارا بعض الاسلاميين الحاقدين على المسيحية السريانية المشرقية ولأي هدف؟

 فإذا كانت فترات السلم التي دامت عقودا عديدة في المنطقة امعنت في الاجحاف بحق المسيحيين من ناحية نشر المعرفة عنهم وعن أصالتهم وحقوفهم في المنطقة فماذا نتوقع في فترات الفلتان الامني من نتائج لتلك الفترات الخيانية سوى المزيد من الخراب ضد كل ما هو حضاري لأهل البلد ولغيرهم من السكان؟ الوجود المسيحي المشرقي ما زال ينتظر استعادة الحقوق والتعويض على الجرائم الجماعية التاريخية التي ادت الى تدهور أرقى حضارة في العالم. نعم، إن الحضارة المسيحية المشرقية كانت من أرقى الحضارات في العالم قبل مجيء الاسلام واحتلال بلادنا. يكفي ان نعرف ان بلادنا كانت تجمع علوم العالم من الشرق ومن الغرب، والسؤال هنا: لماذا هجرت الحضارة بلادنا واستقرت في اوروبا؟ ومنذ متى؟

 ولأي سبب؟

 فقبل أن يلام الغرب على كونه استعماريا فلماذا لا نسأل ما الذي جلب الخراب الى بلادنا المشرقية؟

 ولماذا نغطي على الفترات الهمجية الاولى لاحتلال بلادنا على ايدي البدو؟

 نحن ندرس في المناهج الرسمية وفي كتب تواريخ ما يسمى "العلوم عند العرب" كيف أن السريان ترجموا العلوم من السريانية واليونانية والفارسية الى اللغة العربية، ولكن ألا يعني هذا أن هذه العلوم كانت مجتمعة عند السريان اي مسيحيي سوريا؟ ألا يعني هذا أن السريان كانوا يستعملون هذه العلوم؟

 او أنها كانت موجودة عندهم لتغذية الكتب فقط؟ فلماذا يحجّم دور السريان الى دور "المترجم" في خدمة العرب؟ هل يمكن مثلا لأي متكلم باللغة الفرنسية ان يترجم كتابا فرنسيا في الطب، او في اي اختصاص آخر دون أن يكون متمكنا من هذا الاختصاص؟

 ألم يكن السريان علماء في هذه العلوم، أم كانوا فقط مترجمين؟

 هنا من المهم الملاحظة كيف أن المناهج التربوية العربية تحوّلأ أهل البلاد الأصليين، الآراميين المسيحيين اي السريان، من أصحاب حضارة الى خدام في خدمة السلاطين العرب المسلمين، ثم تدّعي أن الاسلام جاء محررا الى بلادنا وطرد المحتل البيزنطي، وطبعا لا تذكر أية كلمة عن الاحتلال العربي الاسلامي الذي جاء والبشاعات التي ارتكبها إبان احتلال بلادنا وهو ما زال قابعا على رقاب السريان في بلادهم، محولا إياهم من أصحاب البلاد الاكثر تقدما في الحضارة في العالم، الى عبيد في خدمة السلاطين، لا ينعم منهم بالحياة الكريمة الا من يخدم السلطان في البلاط بشكل طبيب او فيلسوف او فلكي او عالم او معلم او مستشار او موسيقي او مترجم اوغير ذلك.

هذا بالاضافة الى فرض الجزية على أهله المسيحيين اي السريان بان يدفعوها "وهم صاغرون"... وكأنه لا يكفي أن يحرموا من خيرات بلادهم ومن حقوقهم العائلية (كأن يخطف أبناؤهم وبناتهم وزوجاتهم) بل كان عليهم أن يدفعوا الجزية "وهم صاغرون"، وبعد كل ذلك، يفرض على نخبتنا ان تداوم على شكر السلطة الاسلامية على تلك الممارسات البشعة وتغطيها بنعت الديانة "السمحاء" رغم ما تقوم به ضد شعبنا المسيحي السرياني!

*كمهتم في التاريخ الارامي السرياني هل تخشى مما يجري في صيدنايا ومعلولا؟

ما يجري في صيدنايا ومعلولا يثبت ما قلته أعلاه. ماذا تتوقع من عصابة تسطو على منزلك وتغتصب حقوقك وتسرق ممتلكاتك، ماذا تتوقع من عصابة كهذه عندما تعثر على صك ملكيتك؟ ألا تتوقع أن تمزق هذا الصك؟ هذا تماما ما يفعله المحتلون الاسلاميون في صيدنايا ومعلولا. إنهم لا يتحملون رؤية المسيحيين الناطقين باللغة الآرامية لأنهم صك ملكية المسيحيين الآراميين لهذه البلاد. فهم يثبتون آرامية البلاد وهويتها المسيحية وينقضون بذلك عروبتها ويثبتون عدم أصالة الإسلام فيها، وهذا تماما هو سبب تعديهم على القرى الناطقة بالآرامية ذات الايمان المسيحي، فهم لم يتعدوا (بعد) على القرى الناطقة بالآرامية التي اعتنقت الاسلام، فإن هؤلاء المسلمين سكان القرى الآرامية، رغم محافظتهم على لغتهم الآرامية، ينسبون أنفسهم الى ما يظنونه ويعلنونه هوية "عربية".

 تصوّر أنهم رغم محافظتهم على اللغة الآرامية الموجودة في المنطقة قبل الاحتلال العربي أنهم ينسبون أنفسهم الى العروبة. طبعا نحن علينا احترام خيارهم، ولكن هل يمكن لأحد أن يفسر لي كيف أن هؤلاء ورثوا اللغة الآرامية لو كانوا عربا في الأصل؟ نحن نعرف ان فرض اللغة العربية بعد الاحتلال الاسلامي أدى الى التعريب اللغوي عند الغالبية من السكان الآراميين، ولكن أن يكون الناطقون بالآرامية عربا؟ هذا عكس المنطق التاريخي، ولكن هذه أيضا إحدى نتائج القمع والتزوير الفكري العروبي.

*داعش اصدرت بيانا تدعو المسيحيين الى اشهار اسلامهم كيف ترد علماً انها دعت الدروز الى ذلك؟

نحن نعرف أن دعوة المسيحيين الى إشهار إسلامهم هي تكرار للاحتلال العربي الاسلامي في المنطقة، فهذا ليس جديدا، وهو أساس خراب المسيحيين في المنطقة والاقتراب من انتهاء وجودهم. وهنا أدعو الموجهين الفكريين والمثقفين من أي جهة كانت، الى عدم الاختباء وراء أصابعهم واتهام الجن والأرواح باختفاء المسيحيين من الشرق باختلاق الاوهام من نوع أن اسباب هجرة المسيحيين هي اقتصادية (يا للسخرية ولجريمة عدم الاعتراف بالقباحة) واتهام الاوروبيين تارة والصهاينة طورا، فها إن الإثبات واضح أمامهم عن حقيقة التهديد الأساسي للوجود المسيحي في الشرق. والمطلوب من القيادات المسيحية من دينية وسياسية قول الحق بلا خوف وبلا إخفاء أو تورية بسبب إصابة عقليتهم بالذمّيّة كما اعتادوا على تغطية الحقائق من خلال اتهام أي شيء ما عدا المتهم الحقيقي. أما عن الدروز فنحن الى الآن لا نرى من مخاطر ضد الدروز.

بل ما نراه هو وضع محصّن مستعد لمواجهة القليل والكثير من التهديد، فالتهديد القليل والسطحي يواجهه الدروز محليا (إن في لبنان او في سوريا)، والتهديد الكبير والمصيري استعدوا له من خلال تحضير قواهم الميليشياوية في بلدان تواجدهم تحت سلطات عربية وقوى نظامية في اسرائيل. فنحن لم نر تهديدات مصيرية ضد الدروز في سوريا او في لبنان.

على عكس ذلك، رأينا المسيحيين، وهم الفريق الأكثر تعرضا للإبادة في الشرق، يتخلون بدون أي ضمانة عن الميليشيا الوحيدة التي كانت عندهم في الشرق، اي ميليشيا القوات اللبنانية، بحيث حولها رئيسها الى حزب (بدون أسنان)، بعد أن كان الشعب المسيحي قد انتظر قرونا ليشكل قوة عسكرية تدافع عنه عند تخاذل القوى الرسمية عن هذا الدور البديهي والأساسي، وها إننا نرى ما يتعرض له مسيحيو سوريا من أبشع التهديدات الفردية والجمعية، بسبب غياب هذه القوى الدفاعية عند فشل الدول ذات البنية العشائرية في حماية المواطنين العزل.

*هل الوجود المسيحي مهدد خصوصاً بعد حملات التهجير التي وقعت على مسيحيي العراق؟

إن الوجود المسيحي مهدد لسببين أساسيين: أولا طموح أعدائهم بإنهاء سيادتهم وأخضاعهم، وثانيا إصرار زعمائهم على عدم الاعتراف بهذا التهديد. إن حملات التهجير التي وقعت على مسيحيي العراق ليست الا حلقة من مسلسل قديم. الفرق بين ما حدث سابقا وبين ما يحدث اليوم هو أننا نحن، معاصرو هذه الاحداث، نتأثر بها أكثر من سابقاتها التي لم نشهدها شخصيا، ولكن العقل يدعونا الى ان نتفهم أن أجدادنا قاسوا ما نقاسيه اليوم، مرارا وتكرارا والى أبشع منه، منذ الف واربعمئة سنة الى اليوم. من لم يقرأ تاريخ المسيحيين المشرقيين انطلاقا من منظورهم لا يمكنه أن يفهم ما حصل بالامس وما يحصل اليوم، بل يعتبره شاذا واستثنائيا، في حين أنه عادي ومتكرر.

 الدرس الأساسي الذي يجب استخلاصه هو الاعتراف بالحقيقة التاريخية والاقلاع عن التزييف والتجميل الكاذب. على السلطات العربية والاسلامية والمسلمة الاعتراف بحقوق الشعوب المسيحية الأصلية في المنطقة، الشعوب التي هي صاحبة الأرض الشرعية. يجب الاقلاع عن نظرية ان الشرق هو "دار الاسلام" وأن الشعب المسيحي فيه هو ذمّيّ خاضع ومن واجباته الخضوع او الرحيل. وهذا الاقلاع لن يحصل ما دام رؤساء المسيحيين يختارهم او يعينهم الولاة المسلمون.

*هل مسيحيي الشرق مقصرين في الدفاع عن مكانتهم علماً انهم اصحاب الارض وحماة الاصول والحضارة؟

طبعا، مسيحيو الشرق، وخاصة رؤساؤهم، مقصرون ليس فقط في الدفاع عن مكانتهم، بل في استرجاع وعيهم القومي والثقافي والسياسي. لن يتعلموا أنهم أصحاب الأرض ولن يعوا حقوقهم ما داموا يقبلون ضمنيا بأنهم أهل الذمة، وذلك عن عدم وعي وعن إرث تاريخي مستمر. إن المسيحيين قد توارثوا العقلية الذمية فحولتهم الى طبقة اجتماعية "مروّضة" على الاقتناع بحقوق الاقليات. من غير المقبول أن يستمر المسيحيون في نظام أهل الذمة غير المعلن. هذه العقلية الذمية كانت أخف تأثيرا بكثير منذ مئة سنة بين القياديين المسيحيين في لبنان مثلا، ولكن بعد حوالي مئة سنة من التعريب والتذويب، تحول المسيحيون من شعب الى "طائفة" على طريق التعريب، مما يسهل اعتبارها فئة "صغيرة" بين "العرب". إن المسيحيين الذين أسسوا الجمهورية اللبنانية كانوا أوعى لخصوصياتهم وحقوقهم كشعب مما هم عليه زعماؤهم اليوم.

*هل تعتقد ان داعش واخواتها من التنظيمات المتطرفة هي خطر على الثورة السورية؟

طبعا ان داعش وغيرها من التنظيمات المتطرفة والارهابية هي خطر على الثورة السورية، هذا اذا كانت الثورة السورية خرجت لاسقاط نظام دكتاتوري واستبداله بنظام اكثر ديمقراطية من الموجود حاليا. اما اذا كانت الثورة هدفها، او اذا كان هدف اقوى فريق فيها، المزيد من أسلمة البلاد والعباد فإن داعش هي الاداة المثلى للقيام بمشروع كهذا.

*لماذا يتم تغييب السريان عن المحافل الدولية علماً انهم اساس المسيحية ؟

طبعا بعد الشرح الوافي لوضع السريان في وطنهم الاصلي من السهل الاستنتاج ان تغييب السريان يدخل في النمط المعروف لدى السلطة العربية الاسلامية في التفرد في السلطة والغاء الفريق الآخر وحقوقه. وهذا يتم من خلال اسلوب اساسي يعتمد الحكمة المعروفة في حالات مماثلة: فرق تسد، و"اضرب الراعي تتبدد الخراف"...

*ماذا عن الاضطهاد الذي يمارس بحق المسيحية من نيجريا وجرائم باكو حرام وصولاً الى داعش في سوريا؟

من المعروف ان الاضطهاد الذي يتعرض له المسيحيون هو اضطهاد تاريخي مارسه التطرف الاسلامي على شعبنا طوال 1400 سنة الاخيرة. هدفه تفريغ اوطان المسيحيين منهم، واستعباد المتبقين منهم في أرضهم.

*لا نريد الدخول في نظرية المؤامرة الاتعتقد ان الصهيونية لعبت دور في طمس الدور السرياني اضافة الى التطرف الاسلامي ؟

كيف تقيّم الوجود المسيحي في العالم ؟

- الصراحة هناك حقيقة يجب أن تقال، ما دام السؤال يبتغي تجنب "نظرية المؤامرة". إن الدولة الاسرائيلية، بما تمثله من الحركة الصهيونية، كانت الدولة الاولى في الشرق، في إعطاء السريان (الموارنة) حق تعلم اللغة الآرامية السريانية ليس كلغة جامعية فقط، بل كلغة أمّ، وذلك قبل القرار العراقي الأخير الذي جاء أكثر من عشر سنوات بعد التدخل الاميركي في العراق. لا، الصهيونية لم تطمس الدور السرياني، او من الأصح ان أقول إني شخصيا لم ألحظ للصهيونية دورا طامساً ضد الشعب السرياني او الهوية السريانية. إن الدولة الإسرائيلية كان لها فضل السبق في إنشاء أول مؤسسات تعليمية ومراكز أبحاث في الشرق الأوسط، في الجامعات، للتعمق في التراث المشرقي من لغات قديمة، من كنعانية واكادية واوغاريتية (وحتى العربية) وغيرها على مستوى عالمي والميزانيات التي تصرفها على هذه المواضيع أكتر بكثير مما تصرفه دول النفط عليها. وبالاضافة الى ذلك، فإن الدولة الإسرائيلية في سياق قبول طلب الشعب المسيحي الآرامي بتسجيل الهوية الارامية على جنسيتهم الاسرائيلية، بدل الهوية العربية، وهذا ما لم يقدمه أي من الدول العربية للشعب المسيحي السرياني، علما ان السريان في العراق بينهم ناطقون باللغة السريانية فيما الشعب المسيحي المواطن في اسرائيل ليس بينهم اي ناطق بالسريانية، هذا قبل أن يبدأوا بالتعليم في المدرسة السريانية وعلى حساب الدولة الاسرائيلية. ولكن طبعا كما اعتاد العرب فهم يرغبون في ايجاد القذى في عين الغير والتعامي على السارية التي في أعينهم.

*كيف ترى المستقبل ؟

المستقبل رهن بالوعي المسيحي وبالارادة المسيحية بالتمسك بالهوية. فليس هناك أمل باستمرار المسيحية من خلال الكنائس فقط، الأمل يجب أن يبنى على الوعي القومي والثقافي والسياسي. ألم نر الكنائس تفرغ من أصحابها وتدمر والرعايا يتم ترويعها وقتل مسؤوليها وذبح مؤمنيها وتشريدهم من كنائس كانت كبيرة ومبنية بسخاء؟ الحل ليس بالصلاة، فالصلاة تنفع النفس ولا تنفع المجتمع في حل مشاكله الحياتية ولا تؤمن له الاستمرارية الوجودية والبقائية. على القياديين المسيحيين التخلي عن الطوباوية التي يتذرعون بها للتغطية على فشلهم، فلا أحد يصدقهم ولو أنهم يظنون ذلك. على القياديين السياسيين لدى المسيحيين استعادة الوعي القومي والثقافة السياسية القومية وإلا فليتركوا القيادة لمن يؤمنون بحقوق الشعب المسيحي في وطنه.

*هل لديك خوف على المسيحية في لبنان في ظل وجود السلاح ، وبدء تسرب التطرف اليه؟

ما يخيفني على المسيحية في لبنان ليس وجود السلاح بل غياب الوعي السياسي عند الزعماء المسيحيين. فالتطرف والسلاح كان موجودا منذ قرون عديدة وفي العصر الحديث عندما تأسست ميليشيا القوات اللبنانية في بداية الثمانينات، وكان سببا في تأسيس هذه الميليشيا. ولكن قلة الوعي السياسي عند القيادة المسيحية لاحقا أدت الى التخلي عن هذه الميليشيا التي كانت عنصرا اساسيا في ضمان مصلحة المسيحيين الوجودية.

*لماذا يتم التعاطي مع الكنيسة الارامية على انها اقلية علماً انها الاصل؟

الكنائس الآرامية او السريانية، او بالأحرى، التوجه السرياني في الكنائس المشرقية هو الذي يتم التعاطي معه على أنه أقلية. إن السريانية والآرامية هي الهوية القومية والثقافية لجميع المسيحيين في منطقة آرام (سوريا البيزنطية)، وليست هوية طائفة، كما يحلو لبعض المتشاطرين أن يروجوا. فكل من يروّج لهذه الفكرة هو يضرّ بالمصلحة المسيحية عن قصد او عن غير قصد. إن أعداء الشعب المسيحي السرياني يعمدون الى اعتبار السريانية هوية أقلية لتحجيم المطلب القومي وتحويله من قضية قومية الى قضية طائفية تقتصر على بضعة آلاف من المسيحيين. بينما إعلان السريانية والارامية هوية لكل أصحابها، أي المسيحيين في كامل بلاد آرام، فهو قضية تهز الأرض تحت العروبة. وهذا ما يحاربه العديد من العروبيين من مسلمين وغيرهم من المسيحيين مغسولي الأدمغة بمسحوق العروبة.

*ماهو المطلوب الى تعزيز وجودهم وتعريف العالم بلغتهم وحضارتهم ؟

المطلوب في سبيل تعزيز الوجود السرياني او المسيحي هو استعادة الهوية الآرامية السريانية على كافة الصعد القومية والثقافية والسياسية. إن المسؤولين السياسيين عند المسيحيين الذين تعاملوا بخفة قاتلة في موضوع الهوية لم يعرفوا حجم جرمهم ولن يعرفوه وذلك لشدة جهلهم في هذا الموضوع ولشدة خيانتهم لهويتهم. إن المسؤولين السياسيين عند المسيحيين بموافقتهم مثلا على الهوية العربية يقدمون باستخفاف رهيب رقبة الشعب المسيحي للذبح من حيث لا يعون. إنهم يحافظون على مراكزهم في حين يستغبيهم البدوي بأمواله النفطية ويضطرهم الى بيع مستقبلهم ومستقبل أولادهم وهم يظنون أنفسهم رابحين المال في حين أنهم يخسرون ملكيتهم لوطنهم. كما أن هناك بعض المسيحيين اللبنانيين من الذين اعتادوا على تحويل مفهوم الوطن الى موضوع شاعري فارغ من كل معانيه المستقبلية مكتفين ببعض صفحات التاريخ الشاعري بحيث أنهم يتخلون عن الارض مقابل سعر يرونه مناسبا. أقول مكررا أن المطلوب هو على الصعيد الفكري: استعادة الهوية، وعلى الصعيد السياسي: استعادة القرار وعلى الصعيد الثقافي: استعادة اللغة.

*هل هناك تقصير اعلامي في هذا المجال ؟

طبعا التقصير هو على كافة الاصعدة، والإعلامية منها. أنا أرى التقصير أصلا في التوجه العقائدي عند المسيحيين، لأن الإعلام هو جزء طبيعي من التوجه. فلو كان للمسيحيين وعي قومي لمشروع سياسي ولحقوق ثقافية لما كان الإعلام غائبا عن القيام بدوره في التنوير والتوجيه. أنا أرى التقصير أصلا في الفكر القومي الذي جرى (بإصرار) منعه من الوصول الى المركز السياسي في العقل المسيحي. إن المسيحيين تثقفوا في العروبة فنشأ بينهم سياسيون يخدمون العروبة بأكمل وجه بدل أن يعوا لحاجات شعبهم المسيحي الارامي السرياني ويخططوا له ولمستقبله. أرجو أن يقوم الإعلام، من خلال صفحاتكم، بتوعية الشعب المسيحي على خلع ثياب الذمية واستعادة شخصيته التاريخية السريانية ليعود الى القيام بدوره كشريك في هذا الشرق وينهي بقواه الذاتية ذاك الدور التاريخي غير اللائق والمشين الذي فرضه عليه الاحتلال البدوي في بلاد آرام. وبذلك يعيد إصلاح العلاقة بينه وبين الفريق العربي المسلم على أسس احترام متبادل وتأسيس مستقبل لائق لأبناء الحضارتين او الحضارات الثلاث وغيرها من الحضارات التي يفترض بها التعاون في المنطقة لما فيه الانسان الى أي فريق انتمى.

*لماذا تم التركيز على تهجيرهم من العراق والآن من سوريا؟

أما التركيز على تهجير المسيحيين من العراق فأقرب تفسير له هو أن يتخلص العروبيون من أهل البلاد الأصليين الذين ما زال قسم كبير منهم (حوالي النصف) يتكلم لغته الارامية السريانية وهي بمثابة صك ملكية للبلاد. تثبت حقوقهم التاريخية وتشكل اثباتا لحقوق سائر السريان (اي المسيحيين غير الناطقين بالسريانية) في بلادهم وتدحض ادعاءات تحويلهم الى "فلول" الغرباء المحتلين في المنطقة من "صليبيين" أحيانا الى "بيزنطيين" او "صهاينة" وغير ذلك من الهراء الذي لا ينم إلا عن حقد المدعين وخشيتهم من استعادة أصحاب الحق حقهم التاريخي.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها