عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

أصل الشبّيحة وفصلهم

أحمد أبي سمرا

 25 مارس 2012

الشبّيحة في "سوريا الأسد" جزء حميم لا يتجزأ من النظام السياسي – الأمني. الكاتب السوري ياسين الحاج صالح يؤرخ لألوان استعمال مصطلح "الشبيحة" ودلالاته (العدد الخامس من مجلة "كلمن" الفصلية، شتاء 2011 – 2012).

وهو يروي وقائع وحوادث متداولة ويستعيد ذكرياته ومعلوماته الخاصة عن الظاهرة، ويربطها بمنعطفات التاريخ السوري.
يرى الكاتب أن اصل الكلمة قد يكون مشتقاً من "الاشباح"، لوصف الخارجين على القانون والعاملين في الظلام، او من مستعملي سيارة المرسيدس "الشبح" المنزوعة اللوحة والمجهولة الهوية، التي يفضلها "كبار الشبّيحة" في عملياتهم. من المحتمل أنها دخلت التداول في سوريا بعد التدخل العسكري السوري في لبنان العام 1976، بالتزامن مع طفرة تهريب السلع من بلد مفرط الانفتاح الاقتصادي الى بلد مفرط في انغلاقه. آنذاك كان الشبّيحة شباناً علويين من بلدان الساحل السوري، تربط عائلاتهم علاقات نسب وقربى بآل الاسد، كآل ديب وآل مخلوف. الى جانب تهريبهم الادوات الكهربائية والتبغ والمخدرات والخمور والآثار، كانوا يفرضون الخوة، ويتصفون بالخشونة والتبعية العمياء لرؤسائهم الذين يلقّبون بـ"المعلم" او "الخال"، على ما ورد في كتاب "حَيْوَنة الانسان" للشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان.

 اجهزة الحكم السورية تغض النظر عنهم وتتواطأ معهم، وتضمن لهم الحصانة. في ثمانينات القرن العشرين كانت عصابات الشبّيحة الشبيهة بمنظمات المافيا، مطلقة الحرية في مدينة اللاذقية. من افعالهم تمتعهم بإجبار روّاد مقهى على الانبطاح تحت الطاولات. هذا ما تعرض له مرةً المفكر السوري الراحل الياس مرقص. زعماؤهم يخطفون فتيات جميلات ويغتصبونهن. فالشاب حسن الأعسر قتلته عصابة من الشبّيحة العام 1994، لأنه دافع عن فتاة احتمت به منهم في حافلة للنقل العام. "سرايا الدفاع" بقيادة رفعت الاسد ما بين 1975 – 1985، كانت ميليشيا شديدة الشبه بعصابات الشبّيحة في سلوكها.

 فالنظام أنفق عليها بسخاء تمييزي خاص، وكان قائدها شبّيحاً موصوفاً بخشونته وقسوته وعنفه وتهكمه وجشعه، ويتمتع بالشعبية، ويحتكر تجارة تهريب الآثار من سوريا. في مقابل أخيه حافظ الاسد الموصوف بأنه رجل "الحساب والأناة"، كان رفعت رجل الغريزة والاندفاع، و"بطل" مذبحة حماة العام 1982، وقبلها مذبحة سجن تدمر صيف 1980، وكان له ميناء خاص في اللاذقية. الشائع ان سيارات المرسيدس "الشبح" التي يفضّل الشبّيحة استعمالها، كانت تُهرَّب من لبنان الى سوريا. يشتبه كثيرون بأن عدم تنمية منطقة الساحل السوري باعثه إبقاء سكانها العلويين مصدراً لعضلات متدنية التأهيل للدفاع عن النظام، أي "قوة سلطة" (كما يقال قوة عمل) رخيصة الثمن. فالشبّيح النمطي متدني التعليم، بينما أبناء المشايخ العلويين لا ينخرطون في عصابات الشبّيحة التي تعاملت مع المعارضين العلويين تعاملاً لا يقلّ عن سلوك أجهزة الامن في حقده وثأريته. في مطلع التسعينات يروى ان الشابة هالة عاقل اختُطفت واغتُصبت وقُتلت ورُميت جثتها أمام منزل أهلها.

في الفترة نفسها قُتل الاستاذ الجامعي سمير غفر لرفضه إنجاح طالبة محسوبة على شبّيح كبير. من ملامح الظاهرة، ميوعة الحدود بينها وبين الأجهزة الأمنية، وقرابة الدم التي تجمع معلّمي الشبّيحة بالرئيس الذي كانت صفة "المعلّم" إحدى صفاته. في منعطفات محددة فقط، دخل النظام الأسدي في مواجهات محسوبة مع الشبّيحة. ففي مطلع التسعينات قاد باسل الاسد حملة على تشكيلاتهم، في سباق تأهيله لوراثة والده. لكن تلك الحملة سرعان ما توقفت، ومن تعرض للأذى منهم هم صغارهم، فيما بقي قادتهم متمتعين بالحصانة إلى حين تقتضي صراعات المراتب العليا التضحية ببعضهم. هكذا برز نمير الاسد وأتباعه، في عمليات تشبيح على السجناء والسجّانين في سجني عدرا وصيدنايا العام 2006. أما في الاماكن العامة فلسان حال الشبّيح – إذا طالبه احد المارة بالتزام قانون السير – "الطريق لك؟! ألا تعرف ان البلد كله لنا؟!"، على ما روى الشاعر ممدوح عدوان. نون الجماعة في "لنا" تحيل على مزيج السلطة والطائفة. حتى ان اللهجة العلوية تحولت سلاح ترويع عام في الثمانينات، واستعملها لهذه الغاية غير العلويين.

في حلب ينحدر الشبّيحة من أسر محلية موسعة، من أشهرها أسرة بري المعروفة بتهريب المخدرات والسلاح. فهي وثيقة الصلة بالنظام. مع مثيلاتها من العائلات النازلة في أحياء طرفية من المدينة، تتمتع باستقلال تام، وتشرك رجال النظام بأرباحها. ويقال منذ بدايات الثورة إن الشبّيح يتقاضى ما بين 7 – 10 آلاف ليرة سورية عن العمل أيام الجمعة، وألفين في الأيام الاخرى. وقيل إن عصابات من الشبّيحة قامت بإضراب في تموز 2011، بسبب انخفاض مواردها، فعاد بعض عناصرها الى بلداتهم في الساحل.

يستنتج ياسين الحاج صالح أن الشبّيحة مرآة للسلطة الأسدية. وهو يرى أن المصدر السياسي البعيد للظاهرة، هو واقع الحكم البعثي منذ بداياته. فضعف الشرعية الشعبية لحزب البعث، حمله على ما يمكن تسميته "التشبيح الايديولوجي"، أي المزايدة والتخوين في كل اتجاه. نجم عن ذلك حال بارانويا عامة زرعت في الناس شكاً عاماً بمؤامرات تحاك من حولهم، فصار كل منهم مشروع متهم في وطنيته، وتحوّل العالم كله مصدراً لشر ينبغي الحذر منه وعدم الوثوق به. ضعف الشرعية البعثية استعيض عنه بالعقيدة المعصومة والأفكار السامية المجردة. لذا رُفعت المزايدة الى مرتبة سياسة دولة في مواجهة كلامية ضد إسرائيل. بعد هزيمة 1967، وهي من ثمار المزايدة البعثية، استمرت المزايدة القومجية، وأوغلت وتغوّلت في تمزيق المجتمع السوري، وفي التشبيح على القضية الفلسطينية، وتمزيق الفلسطينيين والمجتمع اللبناني الذي تحوّل مصدراً لثراء شبّيحة النظام الأسدي من بلدٍ هو بين أكثر البلدان العربية تقدماً. وأفسد التشبيح الايديولوجي اللغة السياسية العربية، وجعل منسوب الكذب فيها فلكياً، وأفقد الناس المقدرة على التعبير المستقل. ولعل الافتقار الى لغة الكلام من بواعث التعبير بالأجساد الذي اعتمده السوريون لغة أساسية في ثورتهم وتظاهراتها.

 أما في أزمنة ما قبل الثورة، فكان الاحتجاج بالكلام الفصيح الممزوج بلغة النظام نفسها، لغة حصرية للمعارضة السورية التقليدية. فهذه أخرجت السجون والتعذيب أجساد معارضيها من المجابهة مع النظام. لذا لم يبق من أجيال هذه المعارضة سوى كلمات. فمعارضتنا – يعترف ياسين الحاج صالح – معارضة أرواح منفصلة عن أجسادها، وارتدّت الى معارضة أشباح ضئيلة الوزن حيال نظام هو جسد كثير العضلات والألسن، ولا يكف عن الكلام. وبسبب طابعها الشبحي، لم يقتل النظام شخصاً واحداً منحدراً من المعارضة التقليدية، لكنه سجن عدداً قليلاً منها.

أما المعارضة الجديدة المتمثلة بالثورة الراهنة، فزجّت بالجسد في الثورة. لذا يقوم النظام بتدمير أجساد الثوار الذين ابتعدوا بهتافاتهم وشعاراتهم عن لغة النظام وكليشيهاته. هذا الانفصال لا يدرك معناه مطالبو الثورة بمواقف وشعارات "قومية"، إذ يفوتهم أن هذه الشعارات كرّست الانفصال عن الواقع. واقع المجتمع والنظام الذي اعتمد الشبّيحة أداة حكم مهمة في الداخل السوري، وعمل كشبّيح يحكم بالقوة الخام والارهاب على الصعيد الاقليمي. فممثلو نظام الأسد في لبنان، لم يكونوا سوى شبّيحة حقيقيين، فاسدين وعنفيين. لذا أعادوا إنتاج نهجهم في لبنان كي يخلدوا في حكمه. آخرهم، رستم غزالة. بعد جلائه عن بيروت، كوفئ بتعيينه قائداً لقوات مكافحة الارهاب في سوريا بعد العام 2005، جرياً على التقليد الأرويلي الأصيل (نسبة الى الروائي جورج أرويل في روايته 1984).

أخيراً، ما الذي يجمع ما بين أشكال التشبيح وألوانه؟ التوسل بالقوة الخام في الحكم، محلياً وإقليمياً. جني الثروات باستخدام سلطة الدولة من دون قانون. انفصال العمل عن المؤهلات والكفاءات والثروة، بل تعطيل العمل والإنتاج والقوانين، وتعطيل اللغة، وفصل الكلمات عن المعاني.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها