عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

المارونية السياسية بين الطوباوية والشيطنة

20200302

 

شربل بـــو مـــارون باحث وأستاذ جامعي


يطل علينا عيد القديس مارون هذه السنة مختلفا عن الاعياد السابقة، فشعب مارون كما بقية سكان لبنان باتوا على شفير المجاعة.

يطل علينا العيد، والمدرسة السياسية التي تكونت باسم مارون تُشَيطن من جديد.

 المارونية السياسية التي غُيبت قسرًا بعد اتفاق الطائف، عادت لتتصدر المشهد العام مع انطلاق ثورة 17 تشرين، التي حاول اليسار السيطرة عليها وتحوير مسارها من خلال إغراقها بشعارات بائدة لعل أبرزها شيطنة المارونية السياسية والرأسمالية الجشعة، و”الجازويتية” المتسلطة، وتحميلها مسؤولية ما آلت إليه السياسية الاجتماعية الاقتصادية الأمنية…  وأنَّ الحل يكمن في توسيع القطاع العام وتأميم الممتلكات والخدمات … وقد تناسى هؤلاء الحاقدون على المارونية السياسية َّ أنه منذ العام 1990 وحتى اليوم، لم تكن المارونية السياسية تحكم البلاد بل تركيبة سياسية انتهجت الريعية والزبائنية وخنقت المبادرة الفردية، هدمت الزراعة والصناعة، وحوَّلت لبنان إلى مركز ترفيه للجاليات العربية، ومركز الخدمة والودائع المصرفية، وبالتالي اعتمدت إقتصادًا إفتراضيًا هشًا، قائمًا على المكرمات والرساميل الأجنبية المودعة في المصارف والتي تتأثر بالتقلبات السياسية والأمنية وما أكثرها.

 بات الفساد مستشريًا ومحميًا من زعماء المربعات الأمنية. ولكن قبل الدفاع عن المارونية السياسية أو الهجوم عليها، لا بدَّ من العودة إلى ماهية المارونية وارتباطها العضوي بجبل لبنان التاريخي. تعود بنا الذاكرة إلى محاضرة ألقاها أحد صقور الموارنة الاباتي بولس نعمان،…أولئكَ الآتونَ من البعيد، المستقرّون في الأعالي، الهادفون إلى الأبعد، مَن هم؟ ما شأنهم في تاريخ الشرق؟

في تاريخ لبنان؟

أيّة كلمة رسالة أعطُوا ليحملوا؟

أيّ دورٍ أُنيطَ بهم تحقيقه؟ ما المبدأ الهدف الذي يحرّكهم؟

محبّون مضحّون محبّة سامريّ الإنجيل وتضحيته.

وُدعاء مسالمون وداعةَ المساكين بالروح، أشدّ غيرة على مجد الله وكرامته منهم على مجدهم وكرامتهم.

 أجمل بيتٍ في قراهم ومُدنهم بيت الله، وأعلى تمثال على ذُراهم ومنعطفاتهم تمثال للعذراء… المارونية – هذه الروحيّة الباقية من نهج الموارنة القدامى– هيَ في الواقع:

تراثٌ روحيٌّ يشدُّ الموارنة إلى الإنجيل، إلى السيّد المسيح الإله المتجسّد، بالقديس مارون مثالهم في عيش الإنجيل ببساطة وإخلاص، بتفانٍ وبطولة؛ وهيَ أيضاً تراثٌ حضاريّ يربطهم بمسيحيّي بطريركية انطاكية ومدرستها الفكرية الكبرى، ونهجها الثنائيّ في فهم شخصيّة المسيح الإله الكامل والإنسان الكامل.

فبفضل هذه العقيدة وهذا المفهوم الثنائي لطبعَي السيّد المسيح، ارتبطت الكنيسة المارونية، منذُ القرن الخامس (451 في المجمع الخلقيدوني) بكنيسة روما، فكان هذا اللقاء مبدأ لعلاقات دهريّة طيّبة، سوف يشكّل – مع الزمن– صفةً من صفات المارونية، تقيها خطر الإنغلاق على الذات، وتسمح لها بالانفتاح على الشمولية العالميّة.

فالمارونية إذن، ليست مفهومًا مدنيًا صرفًا ولا مفهومًا دينيًا صرفًا، بل هيَ إحدى أنجح تجسّدات الفكر العملي والتركيب المسيحي في هذه المنطقة.

لقد استطاعت، بما لها من دفعٍ روحيّ، ولأبنائها من إخلاص العيش في صميمها، أن توحِّدَ معًا، في ذاتها، التقوى الشخصيّة والأمانة الكبرى للمسيح وللكنيسة الجامعة بما أنّها ديانة، والثقة المُطلقة بالإنسان المتجدّد والأمانة الكبرى لخطّها الحضاريّ بما أنّها أمّة.

 إستطاعت أن تكون، في الوقت نفسه، ديانة ودولة، من غير أن تدوّل الدين وتديّن الدولة.

وأذا حاولنا الايضاح أكثر، قلنا إنّ المارونية هيَ، من حيثُ النشأة، مذهبٌ فكريّ إنطاكيّ، دينيّ مدنيّ بذات الوقت، ذو صبغة مميّزة متّصلة مباشرةً بحضارة قديمة هي الحضارة الآرامية السريانية.

وقد ارتبطت بواسطة روما بالحضارة العالميّة، وطُبعت بطابع مسيحيّ خاصّ هو طابع روحانية القديس مارون، قبل أن تكون طائفة حسب المفهوم المتداول للكلمة، محصورة العدد، تدور في حلقة الصراع الطائفي في سبيل البقاء.

فالتمسّك بالخط الحضاريّ الأصيل والارتباط بالمسيحيّة العالميّة، مع الحفاظ على روحانية القديس مارون، كلّها متماسكة، كفَلَت هذا النوع من الوجود المسيحي والتاريخي للموارنة… ومع توالي الحملات المملوكية العنيفة والتدميرية على كسروان في أواخر القرن الثالث عشر ومطلع القرن الرابع عشر التي تسبّبت حتمًا بإنقباض الموارنة وإنحسارهم ونزوحهم عن جرود جبيل وكسروان إلى معاقلهم في جبّة بشري والزاوية وجرود المنيطرة المتبقية .

 لكن إندفاعهم إلى هذا التجمّع قد حثّهم على إستنباط صيغ تُلائم وضعهم المستجد من دون التخلّي عن أصالتهم، فإذا بهم يُطوِّرون صيغة تنظيمهم التقليدة ، وذلك بالحفاظ على السلطة البطريركية والإلتفاف حول محوريتها ومركزيتها والإنضواء في الوقت عينه تحت قيادة زعماء محليين عرفوا ب “المقدّمن “

وسمح لهم هذا التموضع بتطوير قدراتهم الزراعية والتنظيمية وتطوير نظام الشراكة بين الدير والشعب.

كما أتاح إتفاق الموارنة مع الأمير فخـــــــــــــــــر الدين ودعمهم الصريح للإمارة المعنية إلى فتح المجال أمامهم للإنتشار في كل المناطق اللبنانية حتى في الشوف  حيث أحسنوا إستثمار الأرض وتملكت الكنيسة قسمًا من قرى الجبل بعرق جبينها وتشاركتها مع أبناء الشعب الماروني، وأصبحت هذه القرى مزدهرة، وتعاطوا التجارة ونجحوا فيها، وعززوا قوة الأمير العسكرية بولائهم ومصداقيتهم، وقد ساهم خريجي المدرسة المارونية في تطوير الشرق وتصدير المعرفة.

من هنا نستنتح أنَّ المارونية ارتبطت ارتابطًا عضويًا بلبنان، وكان هدف الموارنة الرئيس إنشاء كيان مستقل في هذه الجبال الصعبة كي تسلم لهم الحرية التي إذا اعدموما اعدموا الحياة.

مع بداية الحرب العالمية الأولى ونتيجة السياسة التي انتهجها العثمانيون لابادة سكان جبل لبنان، اتت المجاعة الكبرى، وكان الياس الحويك بطريرك انطاكيا وسائر المشرق الرجل المُؤتمن على إرث الموارنة في المرصاد، فساهم هو وكنيسته المارونية بتخفيف وطأة المجاعة، وإنقاذ ما تبقى من سكان.

 أسس لبنان الكبير وضم إلى جبل لبنان سهلي البقاع وعكار.

 أراد كيانًا حرًّا يعيش فيه أبناؤه برخاء.

انطلاقًا من هذا التاريخ وهذا التراث، جاء عهد الجمهورية الأولى، التي حكمها نخبة من رجال السياسة العمالقة معظمهم من “الجازويتيين”، الذين اتقنوا فن السياسة.

في عهد المارونية السياسية كان هناك قيادات سنية كسامي الصلح وصائب سلام وعبدالله اليافي، وبداية نهضة شيعية، فكان محمود عمار “الجازويتي” ابن الضاحية الجنوبية، أحد المبشرين بالليبيرالية ووزيرًا شيعيًّا عن الوطنيين الأحرار، وكان حسين الحسيني وحسن الرفاعي… المارونية السياسية انجبت اميل اده والكتلة الوطنية.

 المارونية السياسية انتجت كميل نمر شمعون.

المارونية السياسية افرزت النهج الشهابي الذي أسس الدولة بكافة عناصرها وقوانينها العصرية.

وعندما اهتزت ثقة الناس بالـ”نهج”، نشأ “الحلف” الثلاثي بين الأحزاب الثلاث الكبرى- الكتلة الوطنية والوطنيين الأحرار والكتائب اللبنانية- علمًا أنَّ أحد مهندسي هذا الحلف كان كاظم الخليل الشيعي إبن جبل عامل وكان أيضًا من أركان المارونية السياسية.

هذا الحلف أوصل سليمان فرنجية الى الرئاسة من خارج النادي الشهابي.

وقد أثبتت الأرقام والإحصائيات أنَّ سنة 1974 شكلت السنة الذهبية اقتصاديًّا للبنان.

المارونية السياسية أعطت الكتائب اللبنانبة حارسة النظام والجمهورية.

صحيح أنَّ أركان المارونية السياسية اختلفوا في ما بينهم، ولكنهم تخاصموا بشرف وتحالفوا بصدق.

فحين دعت الحاجة، تحالف ضمير لبنان مع حارس النظام ليبقى لبنان.وهنا لا بد من التحدث قليلًا عن إنجازات المارونية السياسية وأسباب نجاحها.تألقت المارونية السياسية ووصلت إلى العصر الذهبي في الستينات وأوائل السبعينات من القرن المنصرم، حيث شهد لبنان:

قضاء نزيه ومستقل، جيش متطور، فن راقٍ، صحافة رائدة، قطاع مصرفي متماسك، حركة نقابية ناشطة، عملة محلية توازي العملات الصعبة ـ فائض مالي مقداره 13 مليار ليرة لبنانية، بيئة لبنان كانت نظيفة، وأصبح قطاعا التعليم والطبابة الأفضل في المنطقة .

كان هنالك أيضًا : الضمان الصحي والإجتماعي – مجلس الخدمة المدنية، ووزارة التخطيط والتصميم (التي كانت رائدة في مجالها وتعاقب عليها أصحاب خبرة من بينهم سامي الصلح، موريس الجميل وجورج سعادة، وقد وضعت في عهد هذه الوزارة دراسة ايرفد).

الترامواي والتران كانا من وسائل النقل الشائعة حينها، بحيرة القرعون و مشروع نهر الليطاني.

مؤسسة كهرباء لبنان ابصرت النور أيضًا في عهد المارونية السياسية، استجرار المياه إلى مختلف القرى والأرياف اللبنانية، تعميم المدارس الرسمية على كل لبنان، والجامعة اللبنانية كحاضنة للتعليم العالي للفقراء، وبمستوى كاد يوازي الجامعتين اليسوعية والأميركية .

 أما اسباب نجاح المارونية السياسية فقد كانت واضحة المعالم في خطابها وخطواتها، نظامها السياسي ديمقراطي برلماني، إقتصادها يميني رأسمالي حر، قائم على المبادرة الفردية وتوسع كبير للقطاع الخاص واستقطاب رؤوس الأموال. منفتحة على الشرق والغرب، وازدهرت في عهدها الطبقة المتوسطة وخفت نسبة الفقر.

إلى أنْ أتت الحرب الأهلية حيث حاول اليسار بمؤازرة الكوفية الفلسطينية، تقويض اليمين الليبيرالي المتمثل بالمارونية السياسية، وقد جرى بالفعل تسويق الفكر اليساري الداعي إلى توسع القطاع العام، وتحويل الاقتصاد إلى إقتصاد ريعي زبائني… بالعودة إلى الواقع اليوم، الناس ثارت على الفساد والجوع والهدر والوضع المهترئ.

 ونحن قد وصلنا إلى ذلك بسبب ال أو الزبائنية التي اعتُمدت بعد اتفاق الطائف، والفساد والسرقات الموصوفة وزيادة الضرائب وتوسع القطاع

Mercantilism

العام على حساب القطاع الخاص وتحويل الاقتصاد إلى إقتصاد هش. إذًا نستنتج أن لا ذنب للمارونية السياسية في الإنهيار الذي وصلنا إليه، وأنَّ الحل لا يكمن بالأفكار اليسارية والشعبوية التي اثبتت فشلها الذريع، بدليل أن روسيا الإتحادية هي بلد رأسمالي اليوم.

يكفي اذًا شيطنة المارونية السياسية، ومع العلَّامة شارل مالك نقول: ما أسهل التفلسف على الموارنة!

مَنْ لا يتفلسف عليهم اليوم؟

مَنْ مِنْ أعداء لبنان وحرياته وقيمه لا يعاديهم ولا يحاول تسويدَ اسمهم وتفكيكهم بعضهم من بعض؟

إن هذا لفخرٌ لهم. إنه دلالة دامغة على مركزهم وأهميتهم.

 ومع ذلك هم صامدون.

 “ يا جبل ما يهزّك ريح”.

 الحل اليوم للنهوض من الأزمة يكمن بالعودة إلى المارونية السياسية مع بعد التعديلات البسيطة. فالموارنة هم من أسسوا لبنان، وفي عهد الكنيسة المارونية أتت الإرساليات إلى الشرق الأدنى.

في عهد المارونية السياسية كان الإزدهار… وتبقى خارطة الطريق واضحة المعالم، العودة إلى المارونية السياسية، الإعتراف بالتعددية الحضارية، العودة الى الاقتصاد الليبيرالي اليميني الذي يكفل الحرية الإقتصادية الفردية التي لطالما تميز بها لبنان، العودة إلى الاقتصاد المنتج واعتماد إقتصاد جبل لبنان الذي كان سبَّاقًا بتطوير الإنتاج الزراعي وتصدير المعرفة، تطبيق القرارات الدولية الخاصة بلبنان بما يضمن عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بلادهم، وصولًا إلى عقد اجتماعي جديد وحقيقي يضمن حقوق المجموعات الحضارية الموجودة على أرض لبنان.

 https://www.maronite.news/general-new

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها