رَدًا على من يُريدون طَمس تراث الموارنة : أدَبنا أصيل وعريق وشفّاف (2)
روجيه عفيف
(دبلوم في التاريخ الوسيط ، بيروت)
لقد رَدّ الخوري فغالي على كمال الصليبي- وهو من أعظم المؤرّخين في القرن
العشرين - لكتابه الشهير "البحث عن يسوع" . فإذا كان كمال الصليبي قد
اتّهم بالتلاعب بالنصوص (من قبل الخوري بولس الفغالي) ،
فهنا
أعظم من تَلاعُب : فالخوري فغالي "المؤرّخ" يقدّم للموارنة تاريخًا
جديدًا ، و"علميًا" و"موثّق" من الانتلجانسيا "الموقّرة بهالات النظريّات
والفلسفات المعقّدة والمستوردة " ليقول لنا أن الموارنة مجرّد أميين
فقراء ، عندما اتّصلوا بروما وتكرّمت عليهم بإنشاء مدرسة لتثقيفهم
وتمدينهم ، أصبحوا من البشر بعد أن كانوا أشبه ببرابرة جهلاء في كهوف
وصوامع . فهو ينسف تاريخهم المدوّن والواضح ، وذلك بعد سنين عديدة من
صدور أبحاثٍ ونصوص تؤكّد الأدب الماروني العريق وتراثهم الجليل .
نفضّل
ألف مرة ، أن نكون فقراء وجهلاء ، ومفصولين عن روما ، على أن نكون :
ساعةً صليبيين وساعةً مردة ، ساعةً فينيقيين وساعةً عَربًا ، ساعةً لاتين
وساعةً منشقّين ، ساعة كثيرين وساعة قليلين ، ساعة أبطال وساعة ضعفاء !
وكأنّ الموارنة من غير كوكب ومن غير فصيلة بَشرية ؟! .
الموارنة لبنانيين ، لهم أصول آرامية عريقة ، حضارية وثقافية وبشرية ،
منتمين الى العالم السرياني الواسع وتراثه ، ومنطبعين بالروحانية
السريانية (الشرقية والغربية) ، والهويّة الأنطاكيّة ، ولبنان هو مقرّ
كيانهم وجوهر تاريخهم .
يقول الاباتي يوحنا تابت ، في بداية محاضرة له بعنوان "خصائص الليتورجيا
المارونية الانطاكية" (الكسليك ، 2004 ، ص 62) : "
ما زِلنا نُعاني ، بطريقة مباشرة وغير مباشرة ، من مجموعة أفكار ظالمة
وجائرة ، أُطلقَت باتجاه الطقس الماروني ، فجعلتهُ تارةً طقسًا يعقوبيًا
من درجة ثانية ، وتارةً طقسًا لاتينيًا ، ولا يَستحقّ بالتالي دراسة على
حدة " .
فلذلك ، قد كتبت هذا الرد ، لأنّ التجنّي لا يزال تجاه تراثنا الماروني
كبيرًا ، والمؤسف أنّه ليس نقدًا علميًا ، بل انتقادًا لما يبذله العلماء
الموارنة الحاليين ، وعلى رأسهم قدس الاباتي يوحنا تابت ، الذي يجهَد
لإبراز طقسنا الأنطاكي السرياني الماروني ، بكلّ صفاء وعراقة وأصالة .
إنّي أدعو الخوري فغالي ، بإعادة النظر في هذا الكلام وتصحيحه
. لا نريد من أحد أن يَمدَح الموارنة بما لم يَصنعوه ، لكن لا نريد من
أحد أن يهشّم تاريخهم بما لم يقترفوه .
ونحن
في وقت عظيم ، يُتحفّنا به ، قدس الاباتي يوحنا تابت ، أعظم علاّمة عصره
في الكون كلّه عن الطقس الماروني وليتورجيّته ، بنشر أعرق النصوص
الليتورجيّة الماروينة الأصيلة ،
التي سلمَت من المعتدي إيليانو الذي حرق تراثنا ، ليجعل الموارنة بلا
تاريخ ولا تراث ، فيكونوا بلا جذور ويؤصّلهم بلاتينيّتهم المستوردة من
الغرب .
إنّ المقدّرين لهذا التراث كثر ، من الأب بولس صفير ، الى الاب
البروفسور يوسف مونّس ، الى الاباتي الياس خليفة ، يعترفون بصحّة ما يقوم
به علاّمة الليتورجيّا المارونية قدس الاباتي يوحنا تابت . فكيف يسمح
لنفسه الخوري فغالي ، في مداخلةٍ محضّرة لها وكلامٍ مقصود ، أن يمرّر
أسطرًا ، ينسف من خلالها ، كل التراث الماروني العريق المدوّن قبل
الانضمام الى "روما العظيمة" .
من يحبّ روما ومدرستها المارونية ، هم أحرار .
لكن لا يحقّ ، تحت شعار الإتّصال بروما ، أن يمحى تاريخ الكنيسة
المارونية وأصالتها السريانية وطابعها الأنطاكي وعراقتها الآراميّة
المتجذّرة .
وللخوري فغالي ، وسواه من الموارنة وغير الموارنة ، أقول بالفم المَلآن
والصوت الصادح :
إن المَصادِر الليتورجيّة المارونيّة ، التي يقوم بنَشرها ، قُدس الأباتي
يوحنّا تابت الجَزيل الاحترام (في منشورات جامعة الروح القدس ، الكسليك ،
لبنان) :
هي أطهَر وأقدَس وأعظَم وأصفى وأشرَف وأبهى وأجمل وأزهى وأكمَل وأروَع
النصوص المارونية السريانية الطقسية على الإطلاق . هي الأدب الماروني
السرياني العريق ، الُمدوّن بأيادي النُسّاك الأطهار والنسّاخ والعُلماء
، والتي صُلِّيت بأنفاس مقدَّسة وأنغام عَذبة ، على مَرّ الازمان .
ولذلك ينبغي الإستفادة منها بشكل أقصى ونهائي في جميع الفروض الليتورجية
وأن تعلم في كلّيات اللاهوت والجامعات والمدارس ، وأن يروّج لها لنشرها
بين المؤمنين والمهتمين . هذه المخطوطات هي ليست هوية الكنيسة المارونية
بل هي هوية الشعب وتراثه وتاريخه وحضارته ، حضارة الإيمان والصلاة
والخشوع .
فكم حظّنا عظيم بذلك العمل الذي يقوم به قدس الأباتي تابت بنشر هذا
التراث العريق ، فهو الأباتي الجليل ، الضليع بالفرض الماروني ، قد وصل
الى قناعة راسخة ، لا مثيل لها ، وهي أن يقوم بنشر أعرق المصادر
الليتورجية المارونية وأقدمها . هذه المصادر هي تاج فخرنا وذخرنا لكل
الأجيال ، هي الوردة التي انتشلناها من شوك الدهور والإتهامات والطمس ،
لتطلّ بهية متألقة وزاهية ومننصرة .
ولقدس الأباتي تابت أقول :
تابع العمل والجهاد ، ولا تتوقّف عن ما تقوم به ، وتلهي وقتك
بالايديولوجيّات الجديدة سئمنا تكرارها لسنوات منهم . فسنتولّى الرد
عليهم ، وابقَ في قُدس ديرك ، تعمل وتجاهد لنشر تراثنا السرياني الآرامي
الى شعبنا المؤمن الذي يريد البعض أن يطمس تاريخه ، لِيُـلَيتِنُوه
ويجعلوه غَربيًا و"مودرن" ، بعد أن أعَدْت ، بجهودك العلمية الرصينة
والدؤوبة ، بهاء وجه هذا الطقس الانطاكي السرياني العريق .
ولقدس الاباتي الياس خليفة (الرئيس العام الحالي للرهبانية اللبنانية
المارونية) أقول : تابع جهادك من اجل علميّة تراثنا وقداسته .
وللاب بولس صفير (الذي اكتشف مخطوطات دير سيدة قنوبين سنة 1986
في الديمان ، المقر الصيفي للبطريكية المارونية) ، أقول : تابع جهادك من
اجل صون تراثنا وحفظه .
وللأبوان أيوب شهوان وهاني مطر : إجهدوا لطبع تراثنا ونشره بأسرع وقت ،
وترويجه بين الناس بسعر مقبول وإعلان مدروس .
(تنويه لا بدّ منه : كما إنّي أنوّه بحضرة الأب يوسف الأشقر لما قام به
من عزف الألحان السريانية المارونية الرائعة وترتيلها بصوته الرائع
الملائكي العذب ، على الإذاعات والشاشات طوال عشرات السنين ولا يزال ،
وقد عاونه حضرة الأستاذ جوزف مراد في عزف تلك الألحان بطريقة رائعة لا
مثيل لها . فهذه الألحان الخالدة ، تبيّن من خلال هذه المخطوطات ، أنّها
ترقى لمئات السنين السحيقة .
ولا ننسى فضل الأب لويس الحاج ، العالم الموسيقي الشهير ، الذي درس ودرّس
الألحان السريانية المارونية وضبطها ونسّقها بطريقة رائدة ، ووضع في
سبلها المؤلفّات القيّمة .
وكذلك حضرة الأب عبدو بدوي ، مؤسّس ومدير معهد الفنّ المقدّس في جامعة
الروح القدس الكسليك ، الذي درس الفنّ السرياني بكل أصوله وتشعّباته ،
وأطلق لأوّل مرّة في التاريخ "الفَن الماروني" ، فراح يرسم الإيقونات
ويرسمها بطريقة أصيلة واضحة ورائعة وصافية وشفّافة ، مبنية على التراث
العريق)
ونتابع بالقول :
لغبطة ابينا البطريرك ، الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير : تولّى هذا
التراث العظيم ، ووكّل السادة المطارنة ليقتنوه في أبرشيّاتهم ويعرفوا
عنه لشعبهم ، ويروّج له الكهنة في رعاياهم .
ولسيادة المطران بطرس الجميّل ، رئيس اللجنة البطريركية للشؤون الطقسية
: إجعل من هذه المصادر ، نصوصًا تتلألأ بالفرض الماروني الجديد وأعياده
ورتبه التي تعدّها لجنتكم لطبع الكتب الطقسية المارونية .
وللشعب الماروني ، المؤمن والصامد ، الوديع والمتواضع ، المثقّف والواعي
: إتنبهوا لتاريخكم ، ولا تسيروا نحو الليتنة الجديدة ،
فروما وحبرها الاعظم تخلّوا عن هذه النظرة
، ويريدون منكم ، كما من غيركم ، أصالة كل كنيسة على حدة ، وطابعها
المحلّي وهويّتها العريقة . ولكن هناك من يريد "تدجين" و"تحجيم" تاريخنا
وتراثنا ، ليكون مليتنًا خاضعًا للانعام الروماني ، بنظرهم . إفخروا
بتراثكم ، وبلغتكم السريانية العريقة ، وبلغتكم العربية التي تعلّمكم
تراثكم وتراث غيركم .
إنّ
عَبقريّة الاباتي يوحنا تابت ورصانته ، تجلّت بنشر النصوص المارونية
الأصيلة ، بطريقة إزائية في الكتاب الواحد والصفحة الواحدة . فلا النص
السرياني لوحده ، يكون غير مشروحٍ للجميع بالنص العربي المترجَم . ولا
النص العربي دون الاصل السرياني ، يعطينا قدسية التراث . ولا يكون أحد
النصَّين ماحِيًا للآخر ، بل النصين العربي والسرياني المتكاملَين معنًا
وشكلاً وتعبيرًا .
وللخوري فغالي نقول ، بكلّ محبة : إذا كنت تعتقد أنه لا يوجد أدب ماروني
قبل العلاقة بروما وقبل المدرسة المارونية ، فنحن نؤكّد بكل قوانا
العقلية والفكرية والتاريخية الرصينة :
إنّ الادب الماروني الصحيح هو الذي نَجا من العلاقة مع روما ، وهذا الأدب
موجود قبل المدرسة المارونية ، وقد حُوّرَ وتعدّل وتطوّر بعدها إلى حدِّ
السلبيّة والتشويه والتهشيم . وروما بعد المجمع الفاتيكاني ، تفخر وتقرّ
بهذا الشيء ، لأنها اعطت الحرية لكل كنائس بحسب ثقافتها المحلية وتاريخها
الاصيل .
ونحن نفتخر ، أشدّ الإفتخار ، بهذا الأدب العريق والأصيل السابق للمدرسة
المارونية سنة 1585م . أما حضرتك للأسف ، تريد أن تعيدنا الى أيام ، وفّت
قسطها ، وسئمناها لما قد وفّته ، وشبعنا منها ولن تعود ، وبقيت في بطون
التواريخ المُعيبة والغير مشرّفة .
أمّا للحركة الثقافية في أنطلياس ، فإنّنا نجلّها ونحترمها ، ونقدّر
أعضاءها لما يبذلون على إعلاء الشأن الثقافي والعلمي في لبنان ، فتحيّة
كبيرة لهم . ولكن كان من الضروري الرَد على الخوري بولس الفغالي ، بطريقة
علميّة متجرّدة واضحة على الرأي والموقف وليس على شخصه مطلقًا ، ولا على
الحركة مطلقًا .
ولجامعة الروح القدس في الكسليك : نشكر جهودكم الفرديّة والجماعيّة ،
على ما تبذلوه من طبع ونشر كتب التراث الماروني المتعلّقة بالمصادر خاصةً
، لأنّها أفضل تعبير عن هويّتنا وتراثنا ، وأصدق جواب على حضارتنا
وحضورنا .
فإلى
التجدّد يا أحباب ، أبناء التراث الآرامي السرياني عامةً ، والماروني
الكنسي السرياني خاصةً ، بالكنوز الجديدة التي أخرجها الى النور ،
ويَنشرها خلال أيّامنا ، قُدس الأباتي المُوقّر يوحنا تابت الجزيل
الاحترام ، لأنّها تاريخنا الشريف ، وحاضرنا الانيق ، ومستقبلنا الواعد .
ولنبتعد عن كل الكتابات المشوّشة على تاريخنا ، والمشِّوهة لتراثنا ،
لأنّها مَضيعةٌ للوقت ليس أكثر .
روجيه عفيف – بيروت
دبلوم في التاريخ الوسيط
15/12/2009
roger-afif@hotmail.com
-
تصويب : لقد ورد – سهوًا ودون قصد- في القسم الأول من الرد ، عن
اكتشاف المخطوطات السريانية المارونية سنة 1988 والصحيح هو سنة 1986
، وذلك في المقر الصيفي للبطريركية المارونية ، في الديمان شمال
لبنان .
|