عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية

فارس خشّان

 تعريف: فارس خشّان كاتب ومحلل سياسي لبناني

 


الإستقلال إن ...تكلّم

كتبها فارس خشّان الجمعة, 18 نوفمبر 2011

قبل أسبوعين، تلقيت كما كثير من اللبنانيين المقيمن في فرنسا، بطاقة دعوة من السفير الخلوق بطرس عساكر للمشاركة في حفلة تقليدية، تقام سنويا، بمناسبة ذكرى الإستقلال.
ومنذ ذاك اليوم، وأنا مستاء من نفسي.
مستاء، لأنني ، وبإدراك، رميتُ الدعوة جانبا، وأخرجت من فمي ، "دزينتين" من الكلمات البذيئة، بحق احتفالات مماثلة. كلمات تلاحقت ، بوتيرة سريعة، كدتُ معها أختنق!
أنا أدرك ، منذ نعومة أظافري، أن هذه الذكرى، ولو كانت وهما في واقعنا اللبناني، إلا أن قيمتها تكمن في أنها تُذكّر اللبنانيين بعبارة الإستقلال، على اعتبار أن الإستقلال، إن غاب عن الأدبيات كما عن الواقع، يختفي من سلّم الطموحات الوطنية، ولهذا فأنا كنتُ دائما مؤيدا، لاحتفالات ضخمة في 22 تشرين الثاني!
ولكن، يوم تلقيتُ الدعوة، كنتُ بالكاد أنهيتُ الإستماع الى الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله، في وقت كان يسوغ فيه المسؤولون اللبنانيون تبريرات تبعيتهم المستمرة للرئيس السوري بشار الأسد.
المشاهد المنبرية لنصرالله تزعجني. ليس لأنه يطل على جمهوره المجمّع من خلال شاشة، فهو الأدرى بما عليه فعله ليحمي نفسه ،من الداخل كما الخارج ومن الصديق كما العدو. سبب انزعاجي أن الرؤساء الثلاثة يرسلون ممثلين عنهم ، كما قادة المؤسسات الأمنية والعسكرية ، ليقوموا بمهمة واحدة، وهي النظر الى شاشة!
أما المواقف " الذكية " للمسؤولين اللبنانيين لإخفاء تبعيتهم لبشار الأسد، فلا يقل اشمئزازي منها عن ذاك الحضور المشين أمام الشاشة.
وأقر بأن الكثيرين من مواطنيّ اللبنانيين- وجزءا غير بسيط مني أيضا- أدمنوا التبعية. التبعية ليست دائما لدول أو لأنظمة- بل هي أيضا لزعماء. التأييد ليس تبعية، هو خيار، ولكن ليصح الخيار يجب أن يصح سلوك الزعيم وتصيب خياراته وتخضع لمحاسبة دقيقة، بحيث ننقله مع الزمن من مرتبة الزعامة التي يجب أن تنقرض، الى مرحلة المسؤول الخائف على نفسه من مؤيديه قبل خصومه.
هذه أسباب مسارعتي الى كيل الشتائم.
ولكن التنفيس عن الإحتقان، يسمح عادة، بإزالة الضبابية عن الجزء الآخر من الصورة. لسوء حظ الخُلقيين، يمكن أن نستولد الفضائل من الزوايا المظلمة في النفس الإنسانية.
إذن، بعد "ردة فعلي السيئة" هدأت. وعلى عادتي، كلما أردت أن أفكر بحدث، ألجأ الى أريكتي وأغمض عينيّ وأحاور الآخر.
إستدعيتُ " الإستقلال". ألبستُه ثوبا بشريا. أنّقتُه. أجلسته على كرسي مرتفع. وأوقفتُ نفسي في حضرته. وتركته يخاطبني.
قال لي: إهدأ وافهم! أنا مفهوم عالمي، ولستُ مفهوما لبنانيا. أنا مكرم ومصان في دول كثيرة. أنا مجرد تمثيلية في دول عدة. وأنا مهان عندكم وعند غيركم كما هي الحال ، مثلا، عند جيرانكم السوريين، ولكنني، في كل مكان أنا الهدف، وأنا الحلم، وأنا المثل الأعلى، وأنا العلَم، وأنا العِلم في الصغر، وأنا الثقافة في الكبر."
وتابع:" إحسبني عزيزا عليك قضى، فهل تشتمني أم تتذكرني ؟ هل تتذكرون موتاكم لأنكم قادرون على بعث الحياة بأجسادهم المستتربة، أم لتستلهموا العٍبر ولتمتلئوا بالحب الذي غرسوه في قلوبكم ولتتعلموا الجرأة في هذه الحياة لأن الخلود ليس على هذه الأرض؟ إحسبني شهيدا من شهدائكم، فهل تلعنهم أم تتقفى إثرهم؟ إحسبني علما تمزّق في الحرب، فهل تعيد حياكته لتنصبه في لحظة الإنتصار أم تختار على الطريق علم خصمك وتحمله؟ إحسبني شمسا إنكسفت فهل تفقأ عينيك أم تتلهف لإشراقتي مجددا؟ إحسبني قمرا إنخسف، فهل تمزّق دواوين الغزل أم تترقبني قرصا يكسر ظلمة الليل؟"
لم أفتح فمي. تركتُه يعلّمني أكثر فأكثر.
حدّثني قائلا: " في العام 1943، طلبتموني فجئتكم، على الرغم من أن تضحياتكم كانت بسيطة بالمقارنة مع تضحيات غيركم من الشعوب. فرحتم بي ، سنوات قليلة، بعد ذلك عدتم قبائل وعدتم طوائف وعدتم تبعيين، وأصبحتم أمميين. أوهمكم الساسة أنهم مناضلون. هذا يريد سلطة بالإستئثار وذاك باسم العدالة استقوى بالغرباء. هذا باسم المسيح أنساكم الوطن، على الرغم من أن ملكوت الله ليست هنا، وذاك سخّر عظمة الإسلام للوصول الى الكرسي. تناحرتم. تركتم طارديّ يدخلون في شقاقكم. قتلتم. هجّرتم وتهجّرتم. دمرتم وتدمرتم."
وتابع:" وجئتكم ثانية، في نيسان 2005، فخان بعضكم البعض الآخر، وتزاملتم مع قتلتكم، وسايرتم من احتلكم، ونسيتم من اغتيل لكم، وتنازعتم على المناصب، وتهافتم على المآدب. تركتم وطنكم يُسرق للمصالح الإقليمية واعتبرتم أن تسجيل المواقف يكفي. تريدون كل شيء على طبق من فضة."
وأضاف:" والآن، أتهيّأ للعودة إليكم، ولكنني متردد، لأن فرصتكم الثالثة هي فرصتكم الأخيرة. عدالة دولية أتتكم، وأنتم تتلهون عنها. ربيع عربي يُزهر في كل مكان وأنتم تلهثون الى شتاء قارص. غيركم يدفع دماءه لأحل عليه،وأنتم تحسبونني جارية لديكم. غيركم يعرف أن الديكتاتورية احتلال وأنتم تحسبون الإحتلال وطنيا. غيركم يعرف أن الإستبداد موت وأنتم تحسبون الإستبداد نزهة وتنتهي."
وبصوت عال صرخ بي:" ماذا قلتم لحسن نصرالله حين أبلغكم أنه صنع نظاما فريدا من نوعه في العالم في لبنان، من خلال ثالوث الشعب والجيش والمقاومة؟ لم أسمع أحدا يقول له أن يتوقف عند هذا الحد في تعميم الجهالة الدستورية، فالدول نشأت حين تخلّت عن هذه المفاهيم وتوحدت بالدساتير، وأنتم تفككون دولتكم بالعودة الى هذه المفاهيم. أنظروا ماذا يحصل عندكم. أنظروا الفلتان الأمني. أنظروا كيف ينتشر قبضايات الأحياء. أنظروا كيف يهان الناس على الطرق. أنظروا كيف تخطفون في وضح النهار. أنظروا السخرية على عقولكم. أنظروا استسهال تهديدكم. أنظروا القتلة كيف يحكمون. أنظروا السخفاء كيف ينظرون. أنظروا روحكم كيف تجف وتتشقق. أنظروا الكذبة كيف يتمسكنون. أنظروا الجبناء كيف يتسترون بالحكمة. أنظروا جيوبكم كيف تنضب. أنظروا رفاهيتكم كيف تسرق. أنظروا طعامكم كيف يلوّث. أنظروا كلماتكم كيف تُهدر. أنظروا... "
وهنا فتحتُ عينيّ.
أنهيتُ المقابلة لئلا يتكلم... أكثر.
ولكن ما قاله كان كاف لأستاء من نفسي.
شتائمي لم تتوجّه الى حيث ... يجب!

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها