عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

بقلم: نينوس صوما اسعد
سويد ستوكهولم


الموسيقا السريانية الكنسية (الجزء التاسع والثلاثون)

بدايات الموسيقا وعلاقتها

بنظامي الألحان الاثني عشري والثمان

 

بدايات الموسيقا عند الشعوب القديمة

قيل بأن الاصوات الصادرة من الطبيعة والحيوانات والطيور على انواعها كانت محفّزة للإنسان البدائي لكي يقلّدها ويتعرّف على بدايات الموسيقا وكانت السبب الحقيقي الاول الكامن وراء إختراعه للآلات الموسيقية.

إن الموسيقا بشكلها البدائي بدأت مع بدايات ظهور الانسان الى الوجود، والآلة الموسيقية الاولى التي رافقته باستمرار وخُلِقَت مع خَلقه وتطورت استعمالاتها مع تطوره هي حنجرته، وبتطورها اصدرت اصوات متعددة ومختلفة منها تقليد الاصوات الصادرة من الطبيعية والحيوانات والطيور. دخل الانسان بعدها مرحلة الغناء البدائي الذي لا نعلم عنه شيئاً وكان ذلك قبل عصر التدوين بأزمنة ساحقة. هذا يعني أن الغناء كان أول نوع موسيقا نغمية وجد في حياة الإنسان قبل اكتشافه واستعماله للآلة الموسيقية بكثير. وتدرَّجَ إنتقاله في التطور والتحضّر النوعي فاخترع وطوّر بعض الآلات الموسيقية ونظّم اموره ووصل الى مرحلة راقية نسبياً من الإنتاج الموسيقي، وهي غناء الشعر المرافق مع العزف على الآلات الموسيقية المختلفة الانواع والاصوات. هذا ما أكّدته المكتشفات الاثرية في عصر التدوين الاول المتمثل بالعصر السومري ثم الآكادي والاغاريتي والفرعوني في منطقة الشرق، وقد وصلنا من هذه الموسيقا القليل على الالواح الحجرية والطينية.

ورغم اختراع انسان امس واليوم عدد هائل من انواع الآلات الموسيقية ذات الاصوات المختلفة والجميلة، إلا أن حنجرته تبقى أقدم وأفضل واجمل آلة موسيقية نغمية ذات قدرات صوتية هائلة غير محدودة وجميلة ومعبرة. وكان ولا زال الانسان يستعملها في كل شؤون يوميات حياته ومناسباته.

وقد وجدت في التاريخ البعيد شعوب بدائية كثيرة وبسبب عدم تطورها لم تنتج حضارة ولم تستعمل الزراعة والعجلة ولم تكن تعلم شيئاً عن الكتابة والثقافة والعلوم المنتشرة في عصرها، حيث كانت تعيش حياة بدائية بسيطة جداً تعتمد فقط على الصيد. لكن رغم بساطة حياتها فشأنها كان كما شأن الشعوب المتطورة آنذاك ولم تُحرَم من أن يكون لها موسيقا، لأنها كانت تستعمل الآلات الموسيقية الطبيعية التي يملكها الإنسان وهي حنجرته للغناء وقدماه ويداه للإيقاع. ولم يذكر لنا التاريخ بوجود شعوب او حضارات بدون موسيقا خاصة بها مهما كانت بدائية وصغر شأنها وحجمها.

ولا يستطيع احد نكران أو تجاهل الحضارات التي سادت قديماً، لا موسيقاها ولا آلاتها الموسيقية التي تبرهن على مدى تحضّرها وتطوّر موسيقاها قياساً لموسيقا شعوب اخرى وجدت في ذات المرحلة الزمنية.

فوجود مدوَّنات ميثولوجية قديمة جداً على رُقًم طينية وصخرية تتضمن اساطير وملاحم لصراع الإنسان مع الآلهة، أو قصص تتكلم عن بطولة شخصيات تاريخية، واستطاع العلماء قراءة وتفسير كتابتها المسمارية ولغتها الميّتة السومرية والآكادية والحثية والحورية والاوغاريتية في سوريا والعراق، والكتابة الهيروغليفية والديموطيقية ولغتها الفرعونية في مصر، تبرهن على مدى تطور تلك الشعوب حضارياً.

لكن وجود نصوص شعرية بالمسمارية على رُقُم معدودة حاوية على رموز معينة اعتُبِرَت مدونات موسيقية وهي عبارة عن مادة كتابية فقط، ليست كافية لمعرفة كل حيثيات موسيقا الاقدمين، بسبب عدم استطاعة علماء الآثار والدراسات الموسيقية ترجمتها بدقة تامة الى مادة مسموعة. فكل محاولات ترجمتها الى مادة سمعية كانت فقط تجارب موسيقية تعتمد على اسقاطات النظريات والمفاهيم الموسيقية الحديثة عليها، وتنحصر جميعها في خانة التجارب وليس في خانة الحقيقة القطعية.

فلا احد يعلم لغاية اليوم بدقة مقدار الابعاد (المسافات) الصوتية عملياً بين الدرجات الموسيقية للسلم الموسيقي السباعي لتلك الشعوب القديمة، وهو الرأي الدارج بين الاوساط العلمية. لأنه تم تحديدها ايضاً تقديراً وبالاعتماد على معايير النظريات الموسيقية الحديثة. إذاً لا يستطيع احد أن يبت في قضية السلم الموسيقي القديم إن كان بهذا الشكل او بشكل آخر، لكنه معلوم للجميع بأنه خال من مسافات ثلاثة ارباع الصوت التي تتميّز بها الموسيقا الشرقية. وما كنّا قد كتبناه عن موسيقا اوغاريت في الجزء الثالث من مقالنا يؤكد قولنا هذا. وإن ما جاء به المستشرقون وعلماء الدراسات الموسيقية عن موسيقا الشعوب القديمة لا زال في مرحلة الدرس، وبانتظار مكتشفات موسيقية وابتكار طرق علمية جديدة لدرس وتحليل ما هو موجود اليوم، لتثبيت آرائهم او تعديلها أو نفيها لتكتمل الفصول المجهولة للموسيقات القديمة.

التأثير والتأثّر الموسيقي

يدعي بعض السريان بأن الفرس اخذوا موسيقاهم وحتى حضارتهم من الحضارات القديمة كالسومرية والاكادية والاشورية والبابلية.

إن القول بوجود نوع من التأثير المتبادل بين الحضارات وتداخلها ببعضها، لا يخوّلنا ان نجرّد شعب ما من حضارته وموسيقاه ونسبها الى شعب اخر تأثر به. فكل الشعوب مهما عظمت او تواضعت حضارياً او صغر او كبر حجمها لها موسيقاها الخاصة بها المنبثقة من فكرها وثقافتها وطريقة حياتها وهي بنكهة عاداتها وتقاليدها. فإن تأثر شعب ما بموسيقا شعب آخر لا يعني هذا ذوبان هويته الموسيقية بموسيقا ذلك الشعب، ولا يعني ايضاً تقليده الاعمى لموسيقا غيره وثم تبنّيه لها ورمي موسيقاه في المزبلة. لأن التأثير والتأثر الموسيقي بين شعبين هو شيء طبيعي في عملية التبادل والتقارض الموسيقي بينهما، خاصة في استقراض الآلات الموسيقية ثم تعديلها وتطويرها حسب احتياج موسيقا الشعب الذي استقرضها. وللعلم أن استقراض آلة موسيقية ما لا يعني ابداً استقراض الموسيقا، وعلينا ان نميّز بين الآلة الموسيقية وبين الموسيقا بحد ذاتها كإنتاج فكري لشعب ما. فليس من منطق الجزم القول بأن الشعب الفارسي صاحب الحضارة الراقية والامبراطورية الكبيرة التي حكمت جزء كبير من الشرق قرون مديدة قد اخذ موسيقاه من موسيقا شعوب العراق القديمة ورمى موسيقاه جانباً، خاصة أننا لا نملك الدليل القاطع على هذا القول. اما الحقيقة التاريخية هي معاكسة تماماً لهذا الامر لكونه: 1- قام بدمج موسيقات شعوب ايرانية صغيرة ضمن الإطار الكبير للموسيقا الفارسية واذابها واستفاد منها. 2- أثّرَ كثيراً في موسيقا شعوب اخرى سيطر عليها وحكمها طويلاً كشعوب العراق وافغانستان واذربيجان واجزاء من الهند الصين وغيرها، وأذاب نسب كبيرة من موسيقاها فاضطرت الى تعويضها بالموسيقا الفارسية واصبحت لاحقاً جزءاً من هويتها الموسيقية. ومن يقوم اليوم بمقارنة بسيطة بين موسيقا المقامات العراقية والاذرية (الاذربيجانية) مع الموسيقا الفارسية سيصل الى معرفة مقدار تأثير الاخيرة بهاتين الموسيقتين.

يقول البروفيسور الالماني Jürgen Elsner مواليد 1932 وهو باحث واستاذ جامعي متخصص في تاريخ وموسيقا الاثنيات   Ethnomusicologyفي موضوع التأثير الثقافي والتطور الموسيقي: "إنّ تطور الموسيقا لم يكن منعزلاً مستقلاً عما يحيط به، وهو لم يأت بدون استيعاب وذوبان أو دمج لموسيقا جماعات أو منطقة مختلفة". إن الحالة التي عالجها Elsner هي حالة الموسيقا العربية في كيفية دمجها لموسيقات شعوب صغيرة حكمتها واذابتها ضمن موسيقاها. وهي شبيهة بحالة الموسيقا الفارسية تاريخياً التي دمجت واذابت موسيقا شعوب، وأثرت بقوة وبنِسَب مختلفة بموسيقا شعوب اخرى.

ولكن باستطاعتنا القول أن الشعب الفارسي كان:

1- قد استفاد من الآلات الموسيقية التي كانت مستخدمة حينئذ، او ورثها من شعوب اقدم منه كانت متواجدة في المنطقة، خاصة بعد سيطرته على شعوب العراق وعلى عدد من الشعوب الاسيوية الاخرى، واستعملها الى جانب آلاته الموسيقية الايرانية، وعزف عليها موسيقاه الفارسية التي كانت من انتاجه الفكري. مثل استقراض شعوب الشرق في عصرنا هذا لآلة الكمان الغربية ويعزفوا عليها ألحانهم الشرقية، فلا يعني هذا أن موسيقاهم قد اصبحت غربية. فاستقراض الآلة لا يغيّر الاطار العام للهوية الموسيقية إنما جزء صغير منه فقط.

2- ربما قد تأثر بنوع سلّم موسيقي ما (مقام او اكثر) منتشر ومشهور آنذاك من موروثات شعب قريب منه جغرافياً وينتمي لذات نوع الموسيقا، فاستقرضه واستفاد منه وأنتج لنفسه ألحاناً من جوهر هويته الموسيقية. مثل استقراض الموسيقار محمد عبدالوهاب المصري في عصرنا لمقام اللامي العراقي وتلحينه اغنية "يللي زرعتوا البرتقال" من هذا المقام لا يجعل من لحنِ تلك الاغنية لحناً عراقياً.

فما ادّعى البعض بأن الفرس اخذوا موسيقاهم وحضارتهم من الحضارات السومرية والآكادية والآشورية والبابلية، هو غير صحيح وتجنّ سافر على الحضارة الايرانية القديمة يراد به خدمة أهداف سياسية. فلا يوجد وثيقة واحدة تؤكد على ما ذهبوا اليه من قول. إنما بنوا إدعاءاتهم على قاعدة أن الفرس استعملوا تاريخياً الكتابة المسمارية وثم الآرامية في مدوناتهم.

إن الحياة في تطور مستمر وكل شيء يتحرك ويتطور معها، وتطور الافكار والعلوم تُبنى على ما سبقها. ويجب الا ننكر فضل الحضارات الاخرى التي أثّرت في مسيرة التطور الإنساني وخاصة في مشرقنا الحبيب كالحضارة الفرعونية والفارسية واليونانية وثم الرومانية والبيزنطية وبعدها العربية. فإذا كان الدولاب من اختراع السومريين فهذا لا يجعل من سيارة المرسيدس الالمانية سومرية. واستعمالنا اليوم للنوته الموسيقية الغربية في تدوين موسيقانا الشرقية لا يجعل منها موسيقا غربية.

نظام النغمات الإثني عشري

كانت معظم العلوم سابقاً المتمثلة بالفلسفة والطب والفلك والرياضيات مرتبطة ببعضها، وتصنف تحت مادة الفلسفة. لهذا كانت الموسيقا جزءاً لا يتجزأ من الرياضيات والفلسفة لأنها قائمة على حساب الزمن والصوت ونوعية النغمة، فتطورها كان من تطور هذا الكل ومرتبط فيه.

ومن الامم العظيمة العتيقة التي لعبت دوراً مهماً في بناء الحضارة الانسانية هي الأمم الإيرانية القديمة. حيث ابتكر الفرس قبل او بعد المسيح بقليل "إثنتي عشرة نغمة موسيقية أساسية" كوّنوها من امتزاج عناصر الطبيعة الاربعة (التراب والنار والمياه والرطوبة) مع أخلاط الإنسان الثلاثة (الدم والبلغم والمرارة). وطوروا سلالمها الموسيقية بما يناسب طبيعتهم وحضارتهم وموروثاتهم الثقافية والموسيقية، وكونوا منها إثني عشر مقاماً موسيقياً متكاملاً، وكل مقام له سلمه الموسيقي الخاص به ونغمته المتميّزة عن بقية النغمات الاخرى ومتكوّن من جنسين موسيقيين. ولا يوجد وثيقة تاريخية تبيّن متى تم هذا الامر.  

وعلى هذه الفلسفة تكوّن النظام الإثني عشري الموسيقي الفارسي وهكذا ولد، وهذا ما وضحّه لنا العلامة السرياني الفيلسوف ابن العبري (1226-1286) في كتابه "الايثيقون ܐܝܬܝܩܘܢ". ونقله الفرس الى بعض الأمم التي أثّروا فيها ثقافياً أو حكموها وفرضوا عليها بعضاً من حضارتهم. ورغم أنهم لا يستعملوه اليوم كنظام موسيقي صارم للموسيقا الايرانية بسبب تخليهم عنه لاحقاً، فلأنهم اشتقوا منه ما احتاجوه من مقامات كثيرة خدمة وتطويراً لموسيقاهم.

ملاحظة: إن نظام الاثني عشري الموسيقي ليس الألحان المنبثقة من نغماته، إنما هو نغمات السلالم الموسيقية بعينها التي اشتقت منها الألحان، اي هو مجموعة محددة من المقامات الموسيقية.

نظام النغمات الثمانية

يخبرنا ابن العبري في بحثه عن الموسيقا الكنسية بكتابه "الايثيقون ܐܝܬܝܩܘܢ" أن الملحنين الكنسيين من السريان واليونان أهملوا النغمات الغير روحانية المتواجدة في النظام الإثني عشري الفارسي، واعتبروا الألحان المشتقة منها وقحة وصفيقة وغير مستقيمة أخلاقياّ، أي أنهم أهملوا نغمات السلالم الموسيقية التي تنتج ألحاناً جسدية مائعة تخاطب إحتياجات الجسد وتستعمل لإثارة غرائزه، وكذلك اهملوا النغمات التي كانت تستخدم حينئذ في موسيقا الحروب والدمار، وتم إستبعادها لأنها لا توافق فكر وطهارة الكنيسة ولا السلام والمحبة التي ترتكز عليهما. وأعتمدوا فقط على "ثمان نغمات" أساسية يمكن أن يُشتق منها ألحاناً لا تثير الغرائز الجسدية وبعيدة كلياً عن حماس الحروب والقتل والدمار، ومعبرة عن الفكر الديني الطاهر. وخلقوا من هذه النغمات نظاماً جديداً سماه السريان نظام "إكاديس" (وهي لفظة يونانية تعني نغمات ومفردها إيكوس ومعناه لحن او نغمة موسيقية)، وسماه اليونانيون "أوكتوإيكوس" أي نظام النغمات الثمانية. (ظن بعض الجهلاء من شعبنا ان اللفظة "إكاديس" تعني أكاد).

وكان نظام النغمات الثمانية الموسيقي هو الركيزة الأساسية:

1- في جمع وتنظيم وضبط الألحان القديمة في الكنيستين السريانية واليونانية البيزنطية الانطاكيتين.

2- في إنطلاق مرحلة جديدة من الالحان، بعد مرحلة مار افرام النصيبيني ورابولا الرهاوي وبالاي واخرين من الكنيسة السريانية، اكثر التزاماً بأسس النظام وقوانينه الصارمة، وتَقيُّد الملحنون السريان واليونان بنوعية وخواص نغمات نظام كل منهما وتوزيعها على كليندار السنة الكنسية وابدعوا في هذا.

3- ليستوحوا افكار جديدة  منه ويشتقوا من نغماته ألحاناً كثيرة تعكس للمؤمن معاني النصوص الدينية ومعبرة عن ثقافتهما ولغتهما وحضارتهما.

أما نغمات ألحان الكنيسة السريانية فمن خواصها أنها تتكوّن بمعظمها من أربع درجات موسيقية أكثر او أقلّ بقليل اي من جنس موسيقي واحد، وبذلك تكون سلالمها الموسيقية متكوّنة من أنصاف المقامات الموسيقية ذات الأبعاد الصوتية السباعية. وتتميز ألحانها بكليّتها بهذه الخاصية. وللتحقيق من صحة القول مراجعة ألحان كتاب الصلوات اليومية "ܫܚܝܡܐ الإشحيم" أو كتاب مخزن الألحان "ܒܶܝܬ ܓܰܙܐ ܕܩܝ̈ܢܳܬܐ بيث كازو دقينوثو". وبخاصيتها هذه تختلف عن سلالم نغمات النظام الاثني عشري الفارسي المتكوّنة من سلالم كاملة اي من جنسين موسيقيين كما ذكرنا سابقاً.

بين النظامين الاثني عشري والثمان

هناك ادعاء آخر بين بعض السريان يقول بأن "منشأ نظام النغمات الثمان الشرقي كان في سومر وآكاد واشور ثم انتقل الى السريان فاليونانيين".

ان قول العلامة ابن العبري ينفي هذا حينما يقول بأن النظام الموسيقي الفارسي مؤلف من إثني عشر سلماً نغمياً او مقاماً، لكن السريان اختاروا بدقة متناهية ثمان نغمات فقط وخلقوا نظاماً جديداً لهم وسموه إكاديس بالتزامن مع اليوناني الذي سموه اوكتوايكوس، هذا يعني أن النظام الاثني عشري هو اقدم زمناً من نظام الثمان النغمات. وهذا برهان لمن يقول بأن نظام النغمات الثمانية اقدم زمناً من نظام الاثني عشرة نغمة.

وبما أن النظام النغمي الاثني عشري هو اقدم من النظام النغمي الثمان بكثير، فعليه يجب أن يكون نظام النغمات عند السومريين والآكاديين والاشوريين هو النظام الاثني عشري وليس الثمان باعتباره الاقدم والاقرب زمناً إليهم، وليس العكس كما أدعى البعض. هذا إن كان لهذه الاقوام اساساً نظام موسيقي ما. لأنه ولغاية اليوم لا وجود لوثيقة تاريخية محددة وصحيحة تقول بوجود نظام نغمات موسيقي عند الشعوب القديمة كالذي لدى السريان واليونان والفرس. وحتى إن افترضنا جدلاً إذا كان هناك نظام موسيقي ما لدى الشعوب القديمة، فلماذا سيكون هذا النظام مكوّن من ثمان نغمات وليس من خمس نغمات مثلاً او من سبع او عشر نغمات؟.

كما أنه لم نجد أي عالم قال بارتباط النظام الموسيقي السرياني الكنسي "إكاديس" بموسيقا الشعوب القديمة، لأنه لا وجود اصلاً لهكذا علاقة بينهما. وايضاً لا يوجد اية وثيقة سريانية او يونانية او اقدم منهما تقول بأننا ورثنا نظام النغمات الثمانية من الشعوب العراقية القديمة التي اختفت من مسرح الحياة. وهنا لا اقصد مطلقاً الآلات الموسيقية.

 كل العلماء الذين اشتغلوا بالموسيقا القديمة ومنها الاوغاريتية بيّنوا على ان سلمها الموسيقي مكوّن من ابعاد صوتية سباعية، وانغامها متكوّنة من سلم مقام كامل اي من جنسين موسيقيين، وهذا مخالف تماماً وكما ذكرنا أعلاه لسلالم نغمات النظام السرياني إكاديس المتكونة من اربعة درجات اكثر او اقل بقليل. كما أن العلماء لم يذكروا بأن الموسيقا القديمة قائمة على مبدأ نظام نغمي ما مثل نظام الثمان نغمات الموسيقية او الاثني عشرة نغمة او غيرهما.

  وللعلم، لم يبرز من الشعب السرياني باحث واحد درس موسيقا الشعوب القديمة ليقارنها مع سلالم الألحان الكنسية ليثبت الادعاءات الباطلة التي تدعي ارتباط موسيقانا ونظامنا الموسيقي إكاديس بموسيقا الشعوب القديمة. لذلك ما يدعيه البعض بهذا الخصوص هو مجرد كلام عاطفي وآراء باطلة تحمل اجندات سياسية لا تستند الى دراسات ووثائق تاريخية. ونؤكد على عدم صحة الادعاء السابق بالتالي، وعلى عدم امتلاك الشعوب القديمة لنظام موسيقي ما:

اولاً: بسبب بدائيتها وبدائية موسيقاها وآلاتها الموسيقية، مقارنة بموسيقا وآلات شعوب عصر التدوين الالفبائي المتطور جداً، والذي فتح آفاق واسعة غير محدودة عند الانسان قياساً بعصر التدوين الاولي المسماري.

ثانياً: بسبب أن الكنيسة السريانية النسطورية لم تعتمد نظاماً نغمياً معيناً لألحانها الكنسية، لأن الإستقلال الكنسي النسطوري الذي حصل في بداية القرن الخامس في العراق ابعدها عن الفكر الانطاكي. ولأن النظام اللحني السرياني إكاديس خلق في انطاكيا في القرن السادس الميلادي، اي بعد تأسيس كنيسة المشرق النسطورية. لهذا نرى أن الكنائس الانطاكية هي فقط من تعمل بهذا النظام.

فإذا كان النظام إكاديس متحدراً من شعوب العراق القديمة، كان بالاولى على الكنيستين الكلدانية والاشورية العراقيتين الواقعتين في قلب اشور وبابل القديمة أن تعملا به وليس الكنائس الانطاكية البعيدة عن مركز سومر وأكاد واشور وبابل.

ويتبع في الجزء الاربعين

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها